حُبِّب للنّاس "ٱلتّكاثُر" بقدر ما حُبِّب إليهم "ٱلتّفاخُر"، فلا تَراهُم إلا مُتكاثرين مُتفاخرين، بل إنّهم ليتفاخرون بقدر ما يَستكثرون من أشياء هذا العالَم ؛ وإنّهم ليستكثرون من أيِّ شيء قد يكون فيه سَنَدٌ لفخر أو ٱمتياز لهم. فلا غَرْوَ، إذًا، أنْ صارتِ "ٱلكثرةُ" - حتى في الشّرِّ- مَطلوبةً باعتبارها تُؤخَذ عمومًا كدليل على "ٱلقُوّة"، بل على "ٱلحقّ" أيضًا. وبما أنَّ "ٱلكثرة" مُفضَّلَةٌ هكذا عند عامّة النّاس على "ٱلقِلَّة"، فإنَّ أوّلَ وجهٍ تُقابِلُنا به "ٱلأكثريّة" (أكثر النّاس) هو هذا الظنّ الغالِب بأنَّ "ٱلكثرةَ" تُساوِي "ٱلقوةَ" وتُعادِلُ "ٱلحقَّ". لكنَّ أيَّ تَأمُّلٍ في حقيقة "ٱلكثرة" كفيلٌ بأنْ يَقُودَ إلى تأكيد أنّها ليست من "ٱلقُوّة" ولا "ٱلحقّ" في شيء: إِذْ ما أكثر ما تَجتمعُ "ٱلكثرةُ" مع "ٱلضعف" و"ٱلباطل" إلى الحدِّ الذي يَجعلُها مُقترنةً بهما في الواقع أشدّ من ٱقترانها بنقيضيهما ("ٱلقوة" و"ٱلحق"). ولعل ما يَنبغي تبيُّنه، بهذا الصدد، أنَّ "ٱلكثرةَ" - بما هي "تَعدُّدٌ"- تُمثِّل بالأساس تَجليًّا لفِقْدان "ٱلوَحْدة"، من حيث إنَّ "ٱلوحدة" تَدُلُّ على "قُوّة ٱلتفرُّد" و"ثُبوت ٱلِاستقلال"، أيْ بما هي عَيْنُ "ٱلقُوّة" و"ٱلغِنَى" المطلوبين ؛ مِمَّا يُؤكِّد أنَّ "ٱلكثرةَ" في العمق دليلٌ على "ٱلنَّقص"، وأنّها بالتالي ليست مُطلقًا لَازِمةً ل"ٱلكمال". ألا ترى كيف أنَّ "ٱللّهَ" (وهو جِماع صفات الكمال) لا يَصِحّ وصفُه - جَلّ وعلا- ب"ٱلكثير"، وإنّما فقط بكونه "ٱلواحد ٱلأحد" و"ٱلواسع ٱلغنيّ" و"ٱلقويّ ٱلمتين"؟! ومن أجل ذلك، فقد غلب ٱستعمالُ "ٱلكثرة" في "ٱلقرآن ٱلكريم" بمعانيها السَّلْبيّة، خُصوصًا في وصف واقع ٱلنّاس: إِذْ هُمْ، في أكثرهم، "لا يَعلمون" و"لا يَعقلون" و"لا يَشكرون"، بل هم في أكثرهم "كافرون" و"فاسقون" و"ظالِمون" و"مُفسدون" («وما يَتَّبع أكثرُهم إلا ظنًّا، إنَّ الظنَّ لا يُغني من الحق شيئا. إنَّ الله عليمٌ بما يفعلون» [يونس: 36] ؛ «وما أكثرُ النّاس - ولو حَرَصْتَ- بمؤمنين!» [يوسف: 103] ؛ «لقد جِئناكُم بالحقّ. ولكنَّ أكثركم للحق كارهون!» [الزخرف: 78] ؛ «بل أكثرُهم لا يَعلمون الحقّ، فهم مُعرضون.» [الأنبياء: 24])! وبخلاف ذلك، فقد ٱمْتُدحتِ "ٱلقلّة" في "ٱلقرآن"، من حيث إنَّ كونَ "ٱلكثرة" سَلْبيّةً في الغالب، ومن أكثر من ناحية، يَقتضي أنْ تمتازَ "ٱلقِلّة" بالفضل والخير، لأنّها تُمثِّل ما بَقِي من ٱلنّاس وما يَبقى من "أهل ٱلحقّ": «والسّابقون، السّابقون! أولئك المُقرَّبُون، في جنّات النّعيم ؛ ثُلّةٌ من الأوّلين، وقليلٌ من الآخِرين.» [الواقعة: 11-14] ؛ «[...]، وإنَّ كثيرًا من الخُلَطاء ليَبْغِي بعضُهم على بعض ؛ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وقليلٌ ما هُم! [...]» [ص: 24] ؛ «[...] قال الذين يَظُنّون أنّهم مُلاقُو الله: "كَمْ من فئةٍ قليلةٍ غَلَبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله!". والله مع الصابرين.» [البقرة: 249]. ليس غريبًا، إذًا، ألّا تَأتيَ حُجّةُ "ٱلأكثريّة" في وجه مُخالِفيهم إلا بصيغة «إنَّ هؤلاء لَشرذِمةٌ قليلون!» (الشعراء: 54)، وهي الحُجّة التي لا يرى أصحابُها في "ٱلكثرة" شيئًا آخر غير "ٱلقوة" التي هي أساس "ٱلحق" في ظنّهم، على النّحو الذي يَجعلُهم يَستضعفون مُخالِفيهم ويَستخفّون بهم باعتبارهم مجرد "شرذمة قليلة". وإنّنا لا نَتبيَّن في مسعى "ٱلأكثريّة" هذا فقط نُزوعًا نحو "ٱلِاستكثار" و"ٱلِاستقواء" على "ٱلقِلّة"، وإنّما أيضا نُزوعًا نحو "ٱلِاستكبار" على المستضعفين وٱدِّعاء "ٱلِاستحقاق" من دونهم. لكنَّ الغريبَ حقًّا أنَّ "ٱلأكثريّةَ" - من حيث صارت تُحيلُ إلى "عامّة ٱلشّعب" أو ما يُسمّى "ٱلرأي ٱلعامّ" أو حتى "الجُمهور"- تُمثِّل مَطلبًا ورهانًا أساسيًّا لكل "أدعياء ٱلحقّ" من الذين يَتَّخذون "ٱلكثرة" مصدرا للاستقواء و، من ثَمّ، أساس "ٱلِاستحقاق". غير أنَّ مثل هذا الميل الذي لا يرى في "ٱلشّعب" إلا "ٱلكثرة" لا يَجعل أصحابه فقط يُغفِلُون "ٱلواقع ٱلعينيّ" للنّاس في تعدُّده ٱلمُنتثر وتغيُّره ٱلمُستمر، بل يَنزلق بهم كذلك نحو التّسوية بين "ٱلكثرة" و"ٱلوحدة" كأنَّ ٱتِّخاذ "ٱلشّعب في أكثريّته" يَستلزم إلغاءَ واقع "ٱلتّشعُّب" و"ٱلتّفرُّق" الذي تَعيشه "عامّةُ ٱلنّاس" في علاقتها بمُختلف شروط الوجود والفعل في هذا العالَم (بما هي شروط مُتعدِّدة ومُتغيِّرة إلى أبعد حدٍّ). ولهذا فإنَّ طلبَ "ٱلأكثريّة" - من وراء الإحالة إلى "ٱلشّعب" ككُتلةٍ واحدةٍ ومُنسجمةٍ حتّى في "ٱلآراء"- لا يَقُومُ إلا على أساس نوع من "ٱلتّضليل" الذي يُصرُّ أصحابُه على عدم رُؤية أنَّ "ٱلشّعب في أكثريّته" واقعٌ مُتشعِّبٌ ومُتفلِّتٌ يَمتنعُ على مثل ذلك "ٱلتّحديد/ٱلتوحيد" الذي يُرادُ منه الإمساكُ ب"ٱلوحدة" ضمن (بل رغم) واقع "ٱلكثرة" بما هو واقعٌ لا يُمكن ٱدِّعاء ٱلإمساك به إلا من جرّاء تَوهُّمٍ يُوحِّدُ "ٱلمُتكاثرات" ٱفتراضًا ويُجمِّع "ٱلمُتنافِرات" ٱختزالا! ومن ثَمّ، لا يَخفى أنَّ ٱلمُبطلين في ٱستقوائهم ب"ٱلأكثريّة" يَبدُون بصفتهم أُناسًا لا يَستطيعون مُقاوَمةَ إغراء "ٱلِاستكثار" و"ٱلمُكاثَرة" حتى بخصوص "ٱلباطل"، وهو الأمر الذي يَجعلُهم لا يَتورَّعُون عن "ٱلِاستكبار" على "ٱلحق" الذي قد لا يكون إلا مع "ٱلأقليّة"، بل لا يَتردَّدُون عن "ٱلِاستبداد" ب"ٱلباطل" الذي يَبقى باطلا حتّى مع إطباق "ٱلأكثريّة" عليه. ولذا، فإنَّ كونَ "ٱلحقّ" مَوضوعًا للنِّزاع وٱلتّنازُع بين أطرافٍ كثيرين ومُختلفين أمرٌ يَقُود إلى ٱلتّمييز بين "ٱلأكثريّة" في ٱستكبارها وٱستبدادها وبين "ٱلأقليّة" على ٱستضعافها وٱستخفافها، وهو التّمييز الذي يَجعلُ ٱدِّعاءَ "ٱلحقّ" مَنُوطًا بالتّمكُّن من أسباب "ٱلغَلَبة" ضمن واقع مُنظَّم قانونيًّا ومُؤسسيًّا على نحو لا تَعُود معه "ٱلأغلبيّة" مجرد ٱستكثار من الأفراد أو مُكاثَرة بالأعداد، وإنّما تَصيرُ قائمةً على "ٱلأحقيّة" بما هي مَشروعيّةٌ مَوضوعةٌ حتمًا بين أيدي ٱلتّداوُل ٱلمدنيّ في ٱلمجال ٱلعموميّ ومَشروطةً دائمًا بميزان ٱلقُوى في تَناسُبه وتأرجُحه تاريخيًّا وٱجتماعيًّا، مما يَجعلُها "مُغالَبةً في ٱلحقّ" (أيْ، بالتحديد، "مُحاقَّة") تَقُوم على ٱلِانتصار للحقّ وَفْق ما هو مُشتركٌ من معايير المعقوليّة ومُتعارَف من ضوابط المشروعيّة. ومن هنا، فإنَّ "ٱلدمقراطيّة" لا معنى لها إذا كانت مجرد حُكْمٍ وتَحكُّم من قِبَل "أكثريّة عمياء" (أو، أحسن، على أساس "عَمى ٱلأكثريّة")، بل إنّها لا تَتحقَّق عَدْلًا وصَلاحًا إلا حينما تكون حُكمًا مشروعًا ل"أغلبيّة مُتبصِّرة" (أو، أحسن، "تَبصُّر ٱلأغلبيّة")، وهو الحُكم الذي يَتحدَّد بأنّه لصالح "ٱلأقليّات" بقدر ما هو لصالح "ٱلأكثريّة". وبهذا ف"ٱلدمقراطيّة" تُعدُّ، في آنٍ واحد، حمايةً لمجموع المُواطنين من ٱستبداد "ٱلأفراد" وتعسُّفهم ومن طُغيان "ٱلأكثريّة" وٱستكبارها. هكذا يَتبيَّن أنَّ ٱلِاهتمام الغالِب ب"ٱلكثرة"، بما هي "وَفْرة في ٱلعدد"، لا يَملك إلا أنْ يَتحوَّل إلى "تنمية" تَستكثرُ من الأشياء وتَستزيدُ من المُمكنات و، من ثَمّ، إلى "تَوفير" يَستجمع المُتموِّلات ويَستَئْثِر بالخيرات، "تنمية" و"توفير" هما المَدار الأهمّ لكل "ٱستثمار" (بالمعنى الأوسع) في أشكال الإنتاج والتّبادُل الاجتماعيّين. ولأنَّ أكثر النّاس لا يرون معنًى للوُجود والفعل في هذا العالَم إلا من خلال "ٱلتّوفُّر على ٱلكثرة" (أيْ، بالتّحديد، «صَرْف ٱلهِمّة إلى تحصيل ٱلكثرة») من خلال ٱلِاشتغال ب"ٱلتّنمية" و"ٱلتّوفير"، فإنَّ "ٱلأكثريّة" تَصير مُرتبطةً بهذا النّمط من العيش الذي يَغْلِب على "عامّة ٱلنّاس" والذي يَجعلُها مجموعةً من "ٱلمُستكثِرين" و"ٱلمُستئثِرين" على نحو يَستلزمُ حتمًا قيامَ نظامٍ ٱجتماعيٍّ كامل قائم على التّنازُع ٱستكثارًا وٱستئثارًا، نظام يُمثِّل فيه أكبرُ المستفيدين "ٱلخاصةَ/ٱلنُّخبةَ" (ك"زُمَر من ٱلمُستكبِرين")، في حين يَكُون فيه مُعظم ٱلنّاس "مُستضعَفين" في صُورةِ "أكثريّة" من "ٱلخَدَم/ٱلعبيد" (العُمّال والكادحين) أو "ٱلأتباع" (ٱلنّساء والأطفال). لا سبيل، إذًا، إلى تحرُّر/تحرير "ٱلأكثريّة" ٱلمُستضعفة وٱلمَغلوبة (بأمرها) على أمرها إلا بالخُروج ٱبتداءً من منطق "ٱلكثرة" و"ٱلِاستكثار" الذي لا يَخدُم إلا الأقليّة المُستكبِرة التي تَستئْثِر، في الواقع، بثَمرات "ٱلتّكثير" و"ٱلمُكاثَرة"، وهو الخروج الذي يقتضي بالأساس إدراك أنَّ التّحوُّل من "ٱلأكثريّة العمياء" إلى "ٱلأغلبيّة ٱلمُتبصرة" لا يَتأتّى إلا في إطار "مجتمع راشد" يَشتغل تنظيميًّا ومُؤسسيًّا بالشكل الذي يَجعلُ طلب ٱلظُّهور ب"ٱلكثرة" (ٱستكثارًا وتكثيرًا ومُكاثَرةً) لا يُغني عن "ٱلحق" في ٱرتباطه ب"ٱلخير"، من حيث إنَّ ٱلِاهتمام بمجرد "ٱلكثرة" لا يَنْفكّ عن "ٱلشر" و"ٱلفساد"، ممّا يُوجب ترشيد آليات ووسائل السعي لكي يَكُونَ "كَوْثرةً/تَكوثُرًا"، أيْ ٱشتغالا قاصدًا يَقُوم على تَعظيم "ٱلخير" وتَعميمه على "ٱلمَكْثُورين" من الذين يَجِدُون أنفسهم "مَغْلُوبين عادةً في ٱلكثرة". إنَّ "ٱلحقّ"، في ثُبوته ٱلمُستقلّ ووُجوبه ٱلمُستديم، لَيَعْلُو على "ٱلباطل" حتّى مع وُجود "ٱلقلّة" و"ٱلضعف" في أهله، لأنّ "ٱلباطل" - في جَوازه ٱلجوهريّ وبُطْلانه ٱلمَحتوم- يَبقى مُتلجلِجًا زَهُوقًا حتّى مع توفُّر "ٱلكثرة" و"ٱلقُوة" لأصحابه. ف"ٱلحقّ" حَقٌّ حتّى لو قال به أو قام له فردٌ واحدٌ من أراذل النّاس، و"ٱلباطل" باطلٌ ولو ٱجتمع عليه أكثر ٱلعالَمين وجُمِع له كل ما في السموات والأرض. غير أنَّ "ٱلحقّ" لا يُمكنه أنْ يَغْلِبَ ويَتغلَّب من دُون "ٱلقُوّة" التي تُمكِّن لظُهوره الموعود على "ٱلباطل". ولهذا، كان الأمرُ الدّائم لأُمّة الإسلام بأنْ تَعملَ على إعداد كل ما يُستطاع من "ٱلقُوّة ٱلمُرهبة" للعدوِّ ومن أسباب "ٱلكَوْثَرة/ٱلتّكوثُر" ٱلمُقوِّمة للحياة الطيِّبة عاجلا وآجلا، وهو الأمر الذي يقتضي ألا يكون السعيُ طلبًا ل"ٱلكثرة" بأنواعها الشائعة، وإنّما أنْ يَكونَ مُغالَبةً في "ٱلحق" و"ٱلقسط" بمُقاومة "ٱلباطل" وٱلقيام على "ٱلظُّلم". وكونُ ٱلسعي في ٱلخير لا يَكُون إلا "مُغالَبةً" هو ما يَجعلُه لا يَسمُو ولا يَنفعُ إلا إذا صار "مُجاهَدةً/جهادًا"، بحيث يَتحدَّد ك"مُغالَبة في ٱلجُهد ٱلعُمرانيّ". وبالتالي، فإنَّ كونَ ٱلِاهتمام ب"ٱلأكثريّة" وتَغْليبَها يَقف بعامّة ٱلنّاس عند بَهْرج "ٱلكثرة"، ٱبتهاجًا له وٱستقواءً به، ويَمنعُها من "ٱلسعي المُقسِط إلى ٱلخير"، إحقاقًا للحقّ وإبطالا للباطل، ليُعدُّ تضليلا بَيِّنًا لا سبيل للانفكاك عنه من دون قيامٍ حقيقيٍّ طلبًا للأغلبيّة ك"مُغالَبة في ٱلجُهد ٱلمدنيّ وٱلعُمرانيّ" لإقامة ٱلحقّ، إنصافًا وإصلاحًا، على الرغم من كَيْد ٱلمُبطلين في حرصهم ٱلْمُقيم على ٱلتّضليل باسم "أكثريّة عمياء" في غياب "أغلبيّة مُتبصِّرة". [email protected]