الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فهذا بحث مختصر في بيان حكم عزف الموسيقى وسماعها. أولاً: هل الموسيقى من المعازف (آلات العزف التي يعزف بها)؟ لغة الشريعة الإسلامية التي جاء بها القرآن والسنة هي اللغة العربية؛ فلابد أن نرجع في بيان معنى العزف إليها؛ وعندما نرجع إلى القواميس العربية؛ فإننا نجد أن أصل العزف في اللغة العربية هو: صوت الرياح ودويها؛ ثم أطلق العرب العزف على صوت آلات الطرب؛ وسموا هذه الآلات: معازف؛ جمع معزفة، وسموا اللاعب بها والمغني: عازفاً؛ فالمعازف في اللغة العربية اسم يطلق على كل آلات الملاهي التي يعزف بها وتحدث أصواتاً مطربة، كالطبل والعود والطنبور والمزمار؛ قال الإمام الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء): " المعازف: اسم لكل آلات الملاهي التي يعزف بها، كالمزمار، والطنبور، والشبابة، والصنوج " (21/158)؛ وقال ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان): " وهي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك". وبناء على هذا؛ فيدخل في اسم (المعازف) ما يعرف اليوم بالموسيقى، فهي أصوات وألحان وأنغام مطربة، تصدر عن آلات لهو، مهما كان اسم هذه الآلات. والحق أنَّ المعازف (آلات الطرب) كثيرة، منها ما عرف قديماً، ومنها ما عرف حديثاً، وحتى تتضح المسألة أكثر؛ يمكن حصر هذه الآلات في أربعة أنواع: 1) آلات القرع أو النقر، وهي الآلات: التي تحدث الصوت عند هزها أو قرعها أو نقرها بمطرقة أو عصا أو بحك بعضها ببعض أو غير ذلك من الآلات التي تستخدم في القرع والنقر؛ وله أشكال كثيرة، مثل: الطبل، والدف، والكوبة - التي تشبه الساعة الرملية – والأوركسترا، والماريمبا، وغيرها. 2) آلات النفخ، وهي: الآلات التي تحدث الصوت بالنفخ فيها أو في بعض أجزائها، ويكون النفخ فيها في أنبوبة أو ريشة أو غيرها، وتتوزع نغماته يتمرير الأنامل على فتحاته، ومنها ما له صمامات تتحكم في إخراج النغم منه، وله أشكال كثيرة، مثل: القانون، والقيثار. 3) الآلات الوترية، وهي الآلات التي تحدث الصوت بوجود حركة احتكاك أو تذبذب، أو تمرير ذهابا وإيابا، أو غيره؛ وينتج ذلك عن شد الأوتار بالأنامل عند العزف عليها، أو بتمرير آلة على قوس من الخيوط الجلدية أو خيوط النايلون أو غيره، وتختلف نغماته على مقدار الشد والحركة سرعة وبطئاً أو غير ذلك من الطرق التي تؤدي إلى إحداث صوت مطرب، كالعود، والرباب. 4) آلات العزف الذاتي؛ وهي التي تعزف (تحدث الأصوات المطربة والإيقاع الموسيقي) بنفسها (أوتوماتيك)؛ سواء كانت تعزف مباشرة لأول مرَّة أو بحفظها وتخزينها على الاسطوانات والأشرطة والأقراص ثم إعادة تشغيلها لغرض إحداث العزف أو سماعه. فهذه الآلات على اختلاف أنواعها ومسمياتها تسمى في لغة العرب معازف، سواء سميت: طبل أو عود، أو ناي، أو قانون، أو كمنجة، أو سنطير، أو أبوا، أو ساكسوفون، أو جيتار، أو ترومبيت، أو ترومبون، أو يراع، أو نقرزان، أو أرغول، أو فاجوتو، أو موسيقى، أياً كانت شرقية أو غربية، كلاسيكية أو رومانسية، أو تصويرية، أو موسيقى راب، أو غير ذلك. ثانياً: ما حكم العزف على المعازف أو الاستماع إليها؟ الحق أنَّ النصوص الشرعية وردت بالنهي عن المعازف مهما كانت مسمياتها؛ وعلى هذا فتكون كل هذه الآلات - التي سبق ذكرها - وغيرها من آلات العزف، داخلة في النهي عن المعازف؛ لأنَّها داخلة في معنى المعازف في اللغة العربية التي هي لغة الشريعة الإسلامية؛ فتكون محرمة لا يجوز استعمالها ولا الاستماع إليها؛ ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاءت النصوص الشرعية باستثنائه، وهو: الدف في حالات معينة كالعرس والعيد والجهاد. والدف آلة تشبه الطبل إلا أنَّ بينهما فرقاً، فالطبل هو(الذي يغطى بالجلد من جهتيه أو من جهة واحدة)؛ وأما الدف فهو (الذي يصنع من إطار خشبي يغشى بالجلد من جهة واحدة، وقد يكون له جلاجل توضع في خروق في جوانبه)؛ فهذا مستثنى من النهي، بل هو مستحب في بعض الحالات، وقد اتفق الفقهاء على جواز ضرب الدف الذي ليس فيه جلاجل إذا كان لا يضرب على هيئة التطريب،من النساء والجواري في حفلات الأعراس؛ بل استحبه المالكية والإمام أحمد وبعض الشافعية في هذه الحال؛ وأما الذي فيه جلاجل ففيه خلاف بين العلماء؛ والأمر فيه أيسر ما دام دفاً؛ وكذلك ضرب الدف في المناسبات السابقة بالنسبة للرجال أجازه جمهور المالكية وأكثر أصحاب الشافعي، وهو ظاهر كلام أحمد وبعض أصحابه، ومنعه بعض المالكية وبعض الشافعية وجمهور الحنابلة، وهو الأحوط بالنسبة للعرس والعيد؛ لأن النصوص التي أخبرتنا عن ضرب الدف لم يرد فيها ذكر لضرب الرجال للدف، والدف مستثنى من التحريم فيكتفى فيه بالصورة التي استثنيت. ثالثاً: ما هي الأدلة على تحريم المعازف التي منها الموسيقى؟ الأدلة التي جاء فيها بيان تحريم آلات العزف التي تدخل فيها الموسيقى، كثيرة جداً من القرآن الكريم والسنة النبوية، وآثار الصحابة _رضي الله عنهم_، وقد ألف العلماء فيها كتباً خاصة؛ ومن هذه الأدلة ما يلي: أما الأدلة من القرآن الكريم، فمنها ما يلي: 1) قول الله _تعالى_: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (لقمان:6)، قال أهل العلم بالتفسير: ولهو الحديث عام يشمل الغناء والمزامير وكل كل باطل. ومن أجمع ما قيل في ذلك قول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي _رحمه الله_ في تفسيره لهذه الآية: "فدخل في هذا [يعني في لهو الحديث] كل كلام محرم، وكل لغو وباطل، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة ونميمة وكذب وشتم وسب، ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجريات الملهية التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا". قالوا: وقد تضمنت هذه الآية ذم استبدال لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا، وإذا يتلى عليه القرآن ولى مدبراً كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقراً، والوقر هو: الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئاً استهزأ به، فمجموع هذه الصفات لا يقع إلا من أعظم الناس كفراً، وإن وقع بعضها من مغن أو موسيقار أو من مستمع لهم من المسلمين، فله حصة ونصيب من هذا الذم العظيم. وعن أبي أمامة _رضي الله عنه_ عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت هذه الآية: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله" وهو حديث حسن: يحتج به. والقينات: جمع قينة، وهي المغنية من الإماء (النساء المستعبدات غير الحرائر). 2) قوله _تعالى_ في شأن إبليس _لعنه الله_: "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ" (الإسراء: من الآية64)؛ قال أهل العلم بالتفسير: المراد بصوته الغناء والباطل، قال ابن القيم _رحمه الله_: "فكل متكلم في غير طاعة الله، أو مصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام أو طبل فذلك صوت الشيطان، وكل ساع إلى معصية الله على قدميه فهو من رَجِله، وكل راكب في معصيته فهو من خيالته، كذلك قال السلف". وأما الأدلة من السنة فكثيرة جداً؛ جاء فيها تحريم آلات الطرب والمعازف، التي منها: الموسيقى كما سبق بيان ذلك؛ ومن هذه الأحاديث، ما يلي: 1) قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف..." الحديث، وهو حديث صحيح لا شك في صحته؛ فقد رواه البخاري موصولاً على شرطه، وصورته صورة التعليق المجزوم وهو فيه برقم 5590 (راجع كتاب: الاستقامة، لابن تيمية: 1/294؛ والسلسلة الصحيحة للألباني 91، وكتاب: تحريم آلات الطرب، للألباني:39 وما بعدها فقد ذكر كلام علماء الحديث المتخصصين فيه، في هذا الحديث وتصحيحهم له، ومناقشتهم لمن ظنوا أن فيه ضعفاً). وقال ابن القيم _رحمه الله_: "هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به وعلقه تعليقاً مجزوماً به، فقال: باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه". وفي هذا الحديث دليل على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين: أولهما: قوله _صلى الله عليه وسلم_: "يستحلون"، فإنه صريح بأن المذكورات في هذا الحديث، ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك الأقوام من أمته _صلى الله عليه وسلم_. ثانيا: ذكر المعازف مقرونة مع محرمات أخرى معروف أنها محرمة مقطوع بحرمتها لا يشك في حرمتها أي مسلم وهي: الزنا، والخمر، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها (السلسلة الصحيحة للألباني 1/140-141 بتصرف)، قال شيخ الإسلام _رحمه الله_: فدلَّ هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها. (المجموع 11/535). 2) قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة"؛ وهو حديث صحيح، وقال ابن تيمية: "هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء، كما في اللفظ المشهور عن جابر بن عبد الله: "صوت عند نعمة: لهو ولعب، ومزامير الشيطان" فنهى عن الصوت الذي يفعل عند النعمة، كما نهى عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة... " (كتاب الاستقامة:1/292). ورنة الشيطان هي: الصوت الحزين. 3) قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "إنَّ الله _عز وجل_ حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام". والكوبة من آلات العزف والطرب التي كانت معروفة عند العرب؛ وجاء في بعض روايات هذا الحديث أنها: الطبل. والأحاديث في هذا كثيرة جداً. ومن الآثار الواردة عن الصحابة _رضي الله عنهم_ في بيان تحريم ذلك: قصة نافع _رحمه الله_ مولى ابن عمر _رضي الله عنه_، قال: " سمع ابن عمر مزماراً، قال: فوضع إصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع إصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فسمع مثل هذا، فصنع مثل هذا " (صحيح أبي داود)؛ وقد ظن بعض الناس أن هذا الحديث ليس دليلاً على التحريم؛ لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يأمر ابن عمر _رضي الله عنهما_ أن يسد أذنيه، ولأن ابن عمر لم يأمر نافعاً بسد أذنيه كذلك! والجواب عن ذلك: أنه لم يكن يستمع، وإنما كان يسمع، وهناك فرق بين السامع والمستمع، قال شيخ الإسلام _رحمه الله_: (أما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع فلا يترتب عليه نهي ولا ذم باتفاق الأئمة، ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا السماع، فالمستمع للقرآن يثاب عليه، والسامع له من غير قصد ولا إرادة لا يثاب على ذلك، إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عنه من الملاهي، لو سمعه بدون قصد لم يضره ذلك" (المجموع 10 / 78). قال ابن قدامة المقدسي _رحمه الله_ صاحب الموسوعة الفقهية الضخمة (المغني): " والمستمع هو الذي يقصد السماع، ولم يوجد هذا من ابن عمر _رضي الله عنهما_، وإنما وجد منه السماع، ولأن بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ حاجة إلى معرفة انقطاع الصوت عنه؛ لأنه عدل عن الطريق، وسد أذنيه، فلم يكن ليرجع إلى الطريق، ولا يرفع إصبعيه عن أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه، فأبيح للحاجة. (المغني 10 / 173). وهنا أمر آخر ينبغي التنبه له، وهو الحق أنني عندما رجعت لبعض الموسوعات المعاصرة لأعرف تاريخ الموسيقى وجدت أنها بدأت مصاحبة لبعض الطقوس الدينية؛ فكانت تؤديها بعض الطوائف الدينية قديماً أثناء ممارستها لطقوسها الدينية، كجزء منها، ولعل هذا من أسباب تحريمها والله _تعالى_ أعلم، ويمكن اعتبار هذا دليلاً آخر على حرمة الموسيقى؛ فإن فيها تشبها بالكفار من هذا الجانب وهو جانب الاعتقاد، وهو أخطر أنواع التشبه إذا قصد _والعياذ بالله_. وأما كونها تشبهاً بالفساق، فهذا واضح لاشك فيه؛ والله _تعالى_ أعلم. وأما استثناء الضرب بالدف في الأعراس والعيد؛ فهو مباح بل قد يكون مستحب في العرس؛ وقد دلت عليه الأدلة الصحيحة، قال شيخ الإسلام _رحمه الله_: "ولكن رخص النبي _صلى الله عليه وسلم_ في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأمَّا الرجال على عهده فلم يكن أحد على عهده يضرب بدف ولا يصفق بكف، بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " التصفيق للنساء والتسبيح للرجال، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء "، ولما كان الغناء والضرب بالدف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثاً، ويسمون الرجال المغنين مخانيث، وهذا مشهور في كلامهم، ومن هذا الباب حديث عائشة _رضي الله عنها_ لما دخل عليها أبوها _رضي الله عنه_ في أيام العيد وعندها جاريتان تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر _رضي الله عنه_: " أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " وكان رسول الله معرضاً بوجهه عنهما مقبلاً بوجهه الكريم إلى الحائط - ولذلك قال بعض العلماء أن أبا بكر _رضي الله عنه_ ما كان ليزجر أحداً أو ينكر عليه بين يدي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، ولكنه ظن أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ غير منتبه لما يحصل، والله أعلم - فقال: " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا أهل الإسلام " ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ أقر هذه التسمية ولم يبطلها، حيث إنه قال: " دعهما فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا "، فأشار ذلك أن السبب في إباحته هو كون الوقت عيداً، فيفهم من ذلك أن التحريم باق في غير العيد إلا ما استثني من عرس في أحاديث أخرى، وقد فصل ذلك الشيخ الألباني _رحمه الله_ في كتابه النفيس (تحريم آلات الطرب) ، والنبي _صلى الله عليه وسلم_ أقر الجواري في الأعياد كما في الحديث: " ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة "، وليس في حديث الجاريتين أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ استمع إلى ذلك، والأمر والنهي، والله _تعالى_ أعلم. رابعاً: كيف نناقش الإخوة الذين يحتجون بفتوى بعض العلماء في إباحة الموسيقى؟ وأما فتوى بعض العلماء الأفاضل، المعروفين بالدعوة إلى الله _تعالى_ بإباحة الموسيقى؛ فهذا تنازع بينهم وبين غيرهم من العلماء الذين يفتون بحرمة الموسيقى، وهذا الإشكال – أعني اختلاف العلماء - يتكرر في كثير من المسائل؛ والله _سبحانه وتعالى_ العالم بكل شيء يعلم أنَّ الاختلاف في بعض الأحكام الشرعية سيكون، ولهذا بيَّن _سبحانه وتعالى_ الحل والمخرج من هذا الإشكال في قوله _سبحانه وتعالى_: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" ومعنى الرد إلى الله _تعالى_ وإلى رسوله _صلى الله عليه وسلم_هو: أن يبحث المختلفون - في شيء من المسائل - في كتاب الله _تعالى_ وفي سنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عن دليل يتضح به حكم المسألة التي اختلفوا فيها، إذا كانوا من أهل الذكر الذين يستطيعون استنباط الأحكام واستخراج حكمها من الأدلة الشرعية؛ أما الذين لا يستطيعون استنباط الأحكام واستخراجها من الأدلة، فالحل والمخرج بالنسبة لهم، هو قول الله _تعالى_: "فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (النحل: من الآية43)؛ فيجب عليهم أن يسألوا أهل الذكر المعروفين بالعلم بما يستفتون فيه؛ لأنَّ العلم يضمن عدم الفتوى بالجهل، والتقوى لله _عز وجل_؛ لأن التقوى تضمن عدم الفتوى بالهوى، وهنا ينبغي التنبيه إلى أنَّ أهل الذكر قد يختلفون باختلاف الذكر؛ فأهل الذكر في الفقه هم الفقهاء، وأهل الذكر في الحديث هم المحدثون، وأهل الذكر في قراءة القرآن هم القراء، وفي التفسير المفسرون وهكذا؛ ومن العلماء من يجمع هذه الصفات فيكون من أهل الذكر في هذه الأمور كلها، ومنهم من يجمع بعضها؛ وكلما كان العالم أكثر دراية بهذه الأمور كان هو الأولى بأن يسأله الناس فيها؛ كما أن أهل الذكر في الطب هم الأطباء. وأما الطريقة الإجرائية للرد إلى الكتاب والسنة؛ فهي: أن ينظر في الأدلة التي يعرضها كل فريق من المختلفين من العلماء؛ ثم يبحث عن سبب اختلافهم؛ فلا بد أن لاختلافهم سبباً، وهذا يمكن معرفته بالنظر في بيانهم لوجه الدلالة من كل دليل يستدلون به؛ وإذا عرفنا سبب اختلافهم؛ أمكننا الوصول _بإذن الله تعالى_ إلى القول الصحيح من أقوالهم؛ وحتى نصل إلى القول الصحيح في حكم الموسيقى؛ فإننا نطرح أسئلة ونجيب عليها باختصار شديد؛ فنقول: أولاً: ما سبب اختلاف العلماء في حكم الموسيقى؟ والجواب عن ذلك – من واقع بيان أدلة المجيزين للموسيقى والمانعين منها، يتضح: أن هناك سببين رئيسيين لاختلاف العلماء في حكم الموسيقى، وهما: السبب الأول: تضعيف ابن حزم – رحمه الله – لبعض الأحاديث التي جاء فيها النهي عن المعازف، ومنها حديث "ليستحلن أقوام منم أمتي الحر والحرير والخمر والمعازف" وتقليد بعض الفقهاء ممن أباحوا آلات الطرب - ومنها الموسيقى - لابن حزم في ذلك، وهذا من جهة العلم بمصطلح الحديث وعلم الرجال، وسببه تضعيف ابن حزم للحديث ما يلي: ظنه أن الحديث منقطع أي أن فيه راو ساقط من سند الحديث؛ وهذا غير صحيح فالحديث متصل السند والراوي الذي ظن ابن حزم أنه ساقط من السند موجود ومعروف، وكون ابن حزم _رحمه الله_ لا يعرفه، لا يعني أن هذا الراوي غير معروف عند علماء الحديث، ولا أن الحديث يصبح ضعيفاً؛ فلا يصح أن يضعف الحديث أحد لعدم معرفته بأحد رواته؛ فإن الراوي الذي لم يعرفه ابن حزم معروف عند العلماء الآخرين من أهل الحديث وغيرهم، بل هو أحد الرواة الموثوقين وأحد شيوخ الإمام البخاري _رحمه الله_ الذين يروي عنهم؛ ومن القواعد المعروفة في الجدل: أن من علم حجة على من لم يعلم؛ ولبيان هذه القاعدة من الواقع أقول: إن عدم معرفة بعض الناس لمدينة لندن – انتاريو، لا يعني أنها غير موجودة، أو أنه لا يوجد في الدنيا إلا لندن انقلند. شك راوي الحديث في اسم الصحابي الذي روى الحديث عن النبي _صلى الله عليه وسلم_؛ وهذا السبب غير صحيح، بل هو مخالف لقواعد التحديث المعروفة عند بقية العلماء؛ فالراوي الذي شك الراوي في اسمه صحابي، ويعترف ابن حزم أنه صحابي، فسواء كان هو أبو مالك الأشعري أو غيره لا يضر المهم أنه صحابي. ثم إن هذا الحديث ليس هو الحديث الوحيد؛ بل هناك أحاديث لم يطلع عليها ابن حزم _رحمه الله_؛ لأنه كان بعيداً عن بلاد المحدثين الكبار؛ ولم تصله بعض كتبهم في ذلك الوقت؛ وهي أحاديث صحيحة أيضاً وقد سبق ذكر بعضها. فإن الأحاديث التي وردت في ذم الغناء والمزامير قرابة مئة حديث، منها ثمانية أحاديث صحيحة؛ وسبعين حديثاً ضعيفة، وقرابة ثمانية عشر أثراً بعضها صحيح وبعضها ضعيف؛ فلا يصح أن نترك الأحاديث الثمانية الصحيحة؛ لأنه وردت أحاديث أخرى ضعيفة؛ فالأحاديث الصحيحة هي التي يحتج بها؛ فلو ثبت حديث واحد لكان يكفي، كيف وقد وردت ثمانية أحاديث - على الأقل – ثابتة وصحيحة. وقد رد العلماء المتخصصون في علم الحديث من المتقدمين والمتأخرين على ابن حزم _رحمه الله_، وبينوا أنه غير مصيب في رأيه هذا بأدلة علمية قوية جداً. السبب الثاني: عدم تفريق المجيزين للموسيقى بين السماع والاستماع ، وهذا داخل في أسباب الخلاف التي تعود إلى ما يعرف عند علماء الأصول بدلالات الألفاظ، والحق أن السماع شيء والاستماع شيء آخر؛ فالسماع يكون بغير قصد، أما الاستماع فيكون بقصد؛ ومثال ذلك من الواقع: عندما تذهب لبعض الأسواق لغرض التسوق لحاجاتك؛ فإنك ستجد أن هذا السوق يبث فيه بعض أنواع الموسيقى والأغاني فأنت هنا قد تسمعها بحكم أنها تبث في السوق، ولا تقصد سماعها، ولهذا لو سألك سائل عن عبارات هذه الأغنية فإنك ستقول لا أدري؟ لأنك كنت مشغولاً بالتسوق والبحث عن حاجاتك، ولم تذهب لقصد سماعها؛ فأنت هنا تسمى سامع، ولا تسمى مستمع، وقد سبق شرح هذا الكلام في الأدلة. هذه ببساطة أهم سببين للخلاف. وقد فصل العلماء في بيانها ومناقشتها مناقشة علمية قوية في كتب كاملة؛ من أوضحها وأسهلها على سبيل المثال كتاب (تحريم آلات الطرب) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني _رحمه الله_، وقد ذكر فيها كلام علماء الحديث المتقدمين والمتأخرين في الرد على ابن حزم _رحمه الله_. خامساً: بعض البدائل التي يمكن استعمالها في الأنشطة الإسلامية؟ ينبغي للإخوة القائمين على بعض الأنشطة الإسلامية كالتسجيلات الإسلامية والبرامج الإذاعية الإسلامية أن يثبتوا أصالتهم بإيجاد بدائل مشروعة، ومن ذلك على سبيل المثال ما تفعله بعض التسجيلات الإسلامية من: استعمال الأصوات الطبيعية، كأصوات الطيور، وخرير المياه في الجداول والشلالات، واستعمال أصوات المدافع والقذائف إذا كان الموضوع أو النشيد له علاقة بالجهاد والرجولة وإحياء العزة في النفوس وهكذا؛ واستعمال الفواصل من هذه الأصوات ونحوها أو من بعض المقطوعات النشيدية التي لا محذور فيها. سادساً: تنبيهات مهمة عندما نريد نقل فتوى لأحد العلماء: ينبغي أن أنبه إلى أمور مهمة هنا - وقد أخرتها حتى لا أقطع تسلسل بيان حكم مسألة الموسيقى - وهي: الأول: أن نتأكد من صدور الفتوى عن العالم، ولا نكتفي بمجرد نقل الناس من بعضهم عن بعض دون تأكد، ثم نتعرف فتوى العالم كاملة، ولا نأخذ بعضها ونترك البعض الآخر؛ فقد تكون الفتوى مشروطة بشروط، فيأتي شخص وينقل هذه الفتوى دون الشروط والقيود التي ذكرها العالم. والثاني: أن يكون همنا عند نقل الفتاوى بيان الحق، وليس الهوى أو التعصب لعالم معين أو غير ذلك من الأهداف الباطلة؛ فإن من أسباب تخلف الأمة بعد عزتها، ظهور التعصب فيها للأشخاص والمذاهب والأقاليم، لا للحق. والثالث: أن نحترم العلماء المعروفين بالصدق والإخلاص وطلب الحق؛ لأنهم إن كانوا مصيبين في فتواهم فلهم أجران: أجر على اجتهادهم في معرفة الحكم الصحيح بالطرق والقواعد المعروفة عند العلماء، وأجر ثان على بيانهم للحكم الصحيح؛ وإن كانوا مخطئين فلهم أجر واحد، على اجتهادهم في محاولة الوصول للحكم الصحيح بالطرق والقواعد المعروفة عند العلماء؛ فلا يجوز أن نسب العلماء ونتهمهم في نياتهم أو نشكك فيهم بغير علم؛ فإن هذه جريمة عظيمة، وسب العلماء والتشكيك فيهم، هي من الأمور التي يتمناها أعداء الإسلام؛ وقد قال ابن عساكر الدمشقي _رحمه الله_: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في منتقصهم معلومة. ومن أخطر الأمور نقل الفتوى مع عدم ذكر القيود التي يذكرها العالم في فتواه؛ لأن هذه القيود هي الفرق بين الحلال والحرام في الفتوى؛ وعدم ذكرها فيه تلبيس على الناس. وعلى سبيل المثال فإن رأي ابن حزم وفتوى الشيخ يوسف القرضاوي في حكم الغناء، يذكرها بعض الناس ولا يذكرون القيود التي ذكرها ابن حزم أو الشيخ يوسف القرضاوي في بيانهم لرأيهم، وأنا هنا لست مقتنعاً بصحة الفتوى المبيحة للغناء؛ لكنني أريد أن أبين كيف يكون أثر نقل الفتوى أكثر خطراً إذا ذكرت من غير القيود التي وضعها المفتي في فتواه. فابن حزم _رحمه الله_ قيد قوله بإباحة الغناء بقوله في كتابه (المحلَّى(: "من نوى باستماع الغناء عونًا على معصية الله _تعالى_ فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء". وبهذا القيد يتبين أن الغناء المعروف اليوم هو من الغناء المحرم حتى عند ابن حزم، فالغناء اليوم هو الفسق بعينه، الذي لو رآه ابن حزم لقال بحرمته؛ فلا يخالف فيه ابن حزم _رحمه الله_، ولا غيره ممن له معرفة بالواقع. والشيخ يوسف القرضاوي قيد فتواه بإباحة الغناء – بعد ذكره لرأيه في الغناء الذي تبع فيه ابن حزم – بقوله (هذا نص كلامه): يقول: "ولكن لا ننسى في ختام هذه الفتوى أن نضيف إليها قيودًا لابد من مراعاتها: (أ) فلابد أن يكون موضوع الأغنية مما يتفق وتعاليم الإسلام وآدابه.. فالأغنية التي تقول: "الدنيا سيجارة وكأس" مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجساً من عمل الشيطان، ويلعن شارب "الكأس" وعاصرها وبائعها وحاملها وكل من أعان فيها بعمل. والأغنية التي تمجد "صاحبة العيون الجريئة" أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ" (النور: من الآية30)، "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ" (النور: من الآية31)؛ ويقول رسول الله: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وعليك الثانية" وهكذا. (ب) ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به، ولا غبار عليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول، وتعمد الإثارة، والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة - ينقل الأغنية من دائرة الحلال إلى دائرة الحرام من مثل ما يسمعه الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تصرخ ب " ياه " و" يوه " " ييه " إلخ؛ ولنذكر قول الله لنساء النبي: "فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض". (ج) هذا إلى أن الدين حرم الغلو والإسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحًا، أن هذا دليل على فراغ القلب والعقل من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار حقوق أخرى كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود، وما أصدق وأعمق ما قاله ابن المقفع: "ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع". (د) على أن المستمع - بعد الحدود التي ذكرناها - يكون فقيه نفسه، فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة ويسبح به في شطحات الخيال الحسي فعليه أن يتجنبه ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح. ولا ريب أن هذه القيود قلما تتوافر جميعًا في أغاني هذا العصر بكمها وكيفها وموضوعها وطريقة أدائها والتصاقها بحياة أقوام بعيدين كل البعد عن الدين وأخلاقياته ومثله، فلا ينبغي للمسلم التنويه بهم، والمشاركة في نشر ذكرهم، وتوسيع نطاق تأثيرهم إذ به يتسع نطاق إفسادهم. ولهذا كان الأولى بالمسلم الحريص على دينه أن يأخذ بالعزيمة لنفسه وأن يتقي الشبهات وينأى بنفسه عن هذا المجال الذي يصعب التخلص فيه من شائبة الحرام إلا ما ندر. ومن أخذ بالرخصة فليتحر لنفسه وليتخير ما كان أبعد عن مظان الإثم ما استطاع، وإذا كان هذا في مجرد (السماع) فإن الأمر في (الاحتراف) بالغناء يكون أشد وأخوف؛ لأن الاندماج في البيئة "الفنية" كما تسمى خطر شديد على دين المسلم يندر من يخرج منه سالمًا معافى.. وهذا في الرجل، أما المرأة فالخطر منها وعليها أشد، ولذا فرض الله _تعالى_ عليها من التصون والتحفظ والاحتشام في لبسها ومشيتها وكلامها ما يباعد الرجال من فتنتها وما يباعدها من فتنة الرجال ويحميها من أذى الألسن وشره الأعين وطمع القلوب المريضة كما قال _تعالى_: "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ" (الأحزاب: من الآية59) وقال: "فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ" (الأحزاب: من الآية32). واحتراف المرأة المسلمة للغناء يعرضها لأن تَفتن أو تُفتن ويورطها في محرمات قلما تستطيع التغلب عليها من الخلوة بالأجنبي للتلحين أو التسجيل أو التعاقد أو غيرها، ومن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها اختلاطًا لا تقره الشريعة، بل الاختلاط بالنساء المتبرجات " المتحررات " من المسلمات بالوراثة ومن غير المسلمات هو محرم أيضًا. والله أعلم " انتهى كلام الشيخ يوسف بن عبد الله القرضاوي بنصه. فيجب على من اقتنع بهذه الفتوى قناعة شرعية دون اتباع لهواه ورغبته، أن يأخذ الفتوى بقيودها كما ذكرها المجيزون؛ وإلا كان متتبعاً للرخص، هدفه تحقيق هواه ورغبته _والعياذ بالله_. كيف وقد سبق ذكر الأدلة الواضحة في حرمة المعازف. سابعاً: فتاوى للشيخ عبد العزيز بن باز _رحمه الله_ في موضوع الموسيقى: حكم الاستماع إلى الموسيقى: قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – وهو من الذين يجمعون بين التخصص في الفقه والحديث معاً كما هو معروف - يقول _رحمه الله_: "الموسيقى وغيرها من آلات اللهو كلها شر وبلاء، ولكنها مما يزين الشيطان التلذذ به والدعوة إليه حتى يشغل النفوس عن الحق بالباطل، وحتى يلهيها عما أحب الله إلى ما كره الله وحرم؛ فالموسيقى والعود وسائر أنواع الملاهي كلها منكر ولا يجوز الاستماع إلا وقد صح عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف"، والحر هو: الفرج الحرام – يعني: الزنا - والمعازف هي: الأغاني وآلات الطرب". وقال أيضاً: "إن تزويد الإذاعة بالأغاني والطرب وآلات الملاهي فساد وحرام بإجماع من يعتد به من أهل العلم، وإن لم يصحب الغناء آلة اللهو فهو حرام عند أكثر العلماء. وقد علم بالأدلة المتكاثرة أن سماع الأغاني والعكوف عليها ولا سيما بآلات اللهو كالعود والموسيقى ونحوهما من أعظم مكايد الشيطان ومصائده التي صاد بها قلوب الجاهلين وصدهم بها عن سماع القرآن الكريم وحبب إليهم العكوف على الفسوق والعصيان، والغناء هو قرآن الشيطان ومزماره ورقية الزنا واللواط والجالب لأنواع الشر والفساد. وقد حكى أبو بكر الطرطوشي وغير واحد من أهل العلم عن أئمة الإسلام ذم الغناء وآلات الملاهي والتحذير من ذلك، وحكى الحافظ العلامة أبو عمرو بن الصلاح _رحمه الله_ عن جميع العلماء تحريم الغناء المشتمل على شيء من آلات الملاهي كالعود ونحوه، وما ذاك إلا لما في الغناء وآلات الطرب من إمراض القلوب وإفساد الأخلاق والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. ولا شك أن الغناء من اللهو الذي ذمه الله وعابه وهو مما ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، ولا سيما إذا كان من مطربين ومطربات قد اشتهروا بذلك فإن ضرره يكون أعظم وتأثيره في إفساد القلوب أشد قال الله _تعالى_: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (لقمان:6، 7). قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء انتهى. وكان ابن مسعود _رضي الله عنه_ وهو أحد كبار الصحابة وعلمائهم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو على أن لهو الحديث هو الغناء وقال _رضي الله عنه_: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. وقد ورد عن السلف من الصحابة والتابعين آثار كثيرة بذم الغناء وآلات الملاهي والتحذير من ذلك وصح عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" رواه البخاري، والحر هو: الفرج الحرام والمراد بذلك الزنا، وأما المعازف فهي: آلات الملاهي كلها كالموسيقى والطبل والعود والرباب والأوتار وغير ذلك " انتهى كلام الشيخ _رحمه الله_. حكم استماع بعض البرامج المفيدة التي تتخللها الموسيقى: س: ما حكم استماع بعض البرامج المفيدة كأقوال الصحف ونحوها التي تتخللها الموسيقى؟ ل -ع -م - الرياض الجواب: لا حرج في استماعها والاستفادة منها مع قفل المذياع عند بدء الموسيقى حتى تنتهي؛ لأن الموسيقى من جملة آلات اللهو، يسر الله تركها والعافية من شرها ". وأخيرا: فهذا خبر مهم أجلته لأهميته، وهو: أن الأئمة الأربعة متفقون على تحريم المعازف: فإذا كان قد أفتى بإباحة المزامير عالم أو عالمان، أو ثلاثة؛ فليعلم أن الأئمة الأربعة أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يرون تحريمها: فقد سئل الإمام مالك _رحمه الله_ عن ضرب الطبل والمزمار، ينالك سماعه وتجد له لذة في طريق أو مجلس؟ قال: فليقم إذا التذ لذلك، إلا أن يكون جلس لحاجة، أو لا يقدر أن يقوم، وأما الطريق فليرجع أو يتقدم. (الجامع للقيرواني 262)، وقال _رحمه الله_: "إنما يفعله عندنا الفساق" (تفسير القرطبي 14/55). وقال ابن عبد البر _رحمه الله_: من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذا الأجرة على النياحة والغناء وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء وعلى الزمر واللعب الباطل كله. (الكافي). وقال الإمام الطبري _رحمه الله_: "فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه" (تفسير القرطبي 14/56). وقال ابن قدامة _رحمه الله_: "الملاهي ثلاثة أضرب؛ محرم، وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها، والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها، فمن أدام استماعها ردت شهادته) (المغني 10/173)، وقال _رحمه الله_: "وإذا دعي إلى وليمة فيها منكر، كالخمر والزمر، فأمكنه الإنكار، حضر وأنكر؛ لأنه يجمع بين واجبين، وإن لم يمكنه لا يحضر" (الكافي 3/118). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_: "مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام، ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً" (المجموع 11/576). وقال ابن القيم _رحمه الله_: "مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه من أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد بها الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: أن السماع فسق والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثاً لا يصح رفعه، قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره، وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنهم؛ لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض" (إغاثة اللهفان 1/425). وقال الألباني _رحمه الله_: "اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم آلات الطرب كلها". (الصحيحة 1/145). وأفتى الإمام البغوي _رحمه الله_ بتحريم بيع جميع آلات اللهو والباطل مثل الطنبور والمزمار والمعازف كلها، ثم قال: "فإذا طمست الصور، وغيرت آلات اللهو عن حالتها، فيجوز بيع جواهرها وأصولها، فضة كانت أو حديد أو خشبا أو غيرها" (شرح السنة 8/28). هذا ملخص حكم هذه المسألة، وقد حاولت جمعه ثم اختصاره وترتيبه قدر المستطاع؛ ليكون سهل الفهم، والله _تعالى_ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.