يُلاحَظ أن كل من أمكنه من الخاصّة (سياسيين، مثقفين، صِحافيين) أن يتحدث على الملأ لا يتوانى في تقديم نفسه بصفة «الناطق باسم الجميع» أو «لسان الفَصْل باسم الأكثرية»، كأنّ لسان حاله يقول: «أنا الشعب!». ومن النادر أن تجد بين الخاصّة من يتكلم مُدرِكا أنه يَعرف بالضبط موقعه بالنسبة إلى كل الشروط الموضوعية التي تتحكّم واقعيا في إمكانات الفاعلية الذاتية للأفراد ضمن جماعاتهم وسياقاتهم الخاصة فتَحُدّ، بذلك، من مداها في "التمثيل الموضوعي" على النحو الذي يُوجِب على كل متكلم أو ناطق أن يسعى -بكل وُسعه- ليتبيَّن حُدود كل خطاب تمثيلي يَدَّعي قول حقيقة الواقع المشترك. ولأن خاصّةَ الناس تجهل -على ذلك النحو- ما يُحدِّدها فيما تفعل، فإنه ليس مُستغرَبا أن تكون العامّة أشدّ جهلا بكل ما يُحدِّد وُجودها وفاعليتها بشكل يجعلها ميّالةً إما إلى ٱدِّعاء الِانفكاك عن كل قَيْد وإما إلى ٱستشعار مدى عِظَم أسباب الفعل بالنسبة إلى عَظَمة العالَم المُحيط بها. وفي كلتا الحالتين، فإن لسان العامّة لا يكاد يقول غير: «هم الذين يفعلون!» أو «هُم الدولة!» و، خصوصا بالنسبة إلى المغاربة، «إنه المخزن!». تُرى، في ظل هذا التوجُّه العامّ إلى إساءة فهم المسؤولية الذي يَؤُول إلى التنصُّل منها بِردِّها إلى مجهول أو إلى من لا يتحمَّلُها إلا جزئيا، ألا يجدُر التساؤُل في وجه كل مِنّا بصيغة خِطابية وٱستنكارية: «وأنت من تكون؟!». إن كل ٱمرئ مُنْتمٍ إلى جماعة مُعيَّنة يجد نفسه يميل -من جرّاء المسار الطويل والخفيّ لاستدخال الوجود الجماعي بواسطة "التنشئة" المُيسِّرة للاندماج ٱجتماعيا والمُؤدِّية إلى الِانغماس ذهنيا ونفسيا في المجال الخاص- إلى أن يتصور نفسه كما لو كان يُمثِّل بشخصه "الجماعةَ" عينَها التي ينتمي (أو يرغب في الِانتماء) إليها. ولذا، فالغالب أن يَظُنّ المرءُ نفسَه هو "الشعب" ذاته، ليس فقط لأنه يجد في قَرارة نفسه أنه يُريد أن يُمثِّل "الشعب" فيما يقول ويفعل، وإنما لأن له مصلحةً (أو مصالحَ) حيويةً في ذلك تكفي لجعله لا يُمثِّل -حينما يقول أو يفعل- إلا نفسه بالأساس. ف"ما الشعب" في "التمثيل/التمثُّل" الذهني والسلوكي؟ وهل هو نفسه "الشعب" في "الواقع" الموضوعي والعيني؟ هذا هو السؤال الذي لا يَجرُؤ على وضعه كثيرٌ من الذين لا يترددون في الحديث ب"ٱسم الشعب". وبعيدا عن الظن الذي يُوهِم أنّ "الشعب" كُتلةٌ واحدةٌ ومُنسجمةٌ من "الإرادات" أو "الآراء" إلى حدّ المُجازفة الشائعة بالحديث عن "الرأي العام"، فإن الواقع الفعلي لا يَعرف سوى فئات من الناس مُتنازعةٍ إراداتُها، مُتشعِّبةٍ آراؤُها، مُتضاربةٍ حاجاتُها على النحو الذي يجعل تمثيل "الشعب" في مجموعه غير مُمكن إلا ب"لانهائية من التقريبات" التي تُشير إلى كل الِاحتمالات على مستوى "الإرادة" و"الرأي" و"الفعل". وإذا كان "الشعب" -في حقيقة الأمر- ليس سوى "لانهائية من التَّشعُّبات"، فهل لا يزال ثمة من يُمكنه أن يَجرُؤ على النطق ب"أنا الشعب" فيكون، بذلك، مُستعدّا لتحمُّل المسؤولية فعليّا "باسم الشعب" قولا وعملا؟ وهل هناك من يستطيع أن يُمثِّل تلك "اللانهائية من التَّشعُّبات" بحيث يَحِقّ له أن ينطق "أنا الشعب"؟ إن "التمثيل" الذي يَطمع أن ينقل "الصورة الحقيقية" للواقع الفعلي المَعِيش من قِبَل شعب ما لا يكون في مُتناوَل الإنسان المُفرد إلا من حيث هو -بصفته الذاتية- موضوعٌ لسلسلة من التحوُّلات الفاعلة فيه وبه باعتباره نتاجا موضوعيا مُحدَّدا من الناحيتين الاجتماعية والتاريخية، فهو "تمثيلٌ" يَفتقد -من الناحية الذاتية- "المُماثَلة" الكُليّة مع "الواقع الخارجي" ويبقى -من الناحية الموضوعية- دون "التمثُّل" الواعي بفعل إكراهات الضرورة كما تتجسد في أشكال التعدُّد والتفاوُت المُلازِمة للوجود والفعل البشريين في هذا العالم (بشروطه المُتعدِّدة والمُتغيِّرة). فلا إمكان، إذًا، لبُلوغ حقيقة "الذاتي" في علاقته ب"الموضوعي" إلا على أساس "الِاجتهاد العلمي" في تدرُّجه وٱنفتاحه. وبما أن الواقع الاجتماعي قائمٌ -في العمق- على "التنازُع"، فإن الوصول إلى "الحقيقة" لا يكون فرديا، بل إن "الاجتهاد العلمي" نفسَه يصير موضوعا لنوع من "المُنازَعة/النزاع" بين إراداتِ الفاعلين المَعنِيِّين من أجل بُلوغ "الوسائل" و"الألقاب" المُتعلِّقة ببناء وعَرْض "الحقيقة العلمية"، أي أنه يتحدَّد ك"مُجاهَدة/جهاد" ("مُغالَبة في الجُهد") في سبيل ما يُنْظَر إليه، على مستوى عالَم ٱجتماعي مُعيَّن، ك"ٱمتياز عِلْميّ". ومن ثم، فإن "التمثيل المشروع" للواقع الفعلي (المتعلق بالشعب) يُعدّ أحد أهم الرهانات التي تدور حولها النزاعات ٱجتماعيا وسياسيا وثقافيا، لكونه يرتبط بالأشكال الحيويّة الأخرى التي لا تنفكّ مشروعيتُها عن الإمكانات والكيفيّات التي تُعرَض بها ك"تمثيل" حقيقي للواقع. ولهذا، فإن "تنازُع الإرادات" لا يختص بالمجال السياسي، وإنما هو تنازُعٌ لا يكتمل إدراكُه إلا بصفته قائما على ثلاثة مستويات: تنازُعٌ بين "الأفراد"، في مجالات الفضاء العمومي، حول كل الأشياء حتى التافهة منها ؛ وتنازُعٌ بين "المُختصِّين" في مجالات ٱحتراف الخطاب لقول الحقيقة، بما فيها حقيقة أشكال الخطاب نفسها ؛ وتنازُعٌ بين "السياسيين" في مجالات العمل المُؤسَّسِيّ والرسمي المتعلق ب"الدولة" (وهو التنازُع الذي يَنْزِع أو يَؤُول -في الغالب- إلى تجريد أصحابه أنفسهم من كل صدق ومصداقية في خدمة "الصالح العام") ؛ مِمّا يجعل كل طمع في "التمثيل المشروع" يَقُود، على الأقل في إطار المجتمعات المعاصرة، إلى التنازُع المدني حول الوسائل المُمَكِّنة من السيطرة على "الدولة" بصفتها ذلك المجال الذي يَحتكر وسائل الِاستعمال المشروع للعنف المادي والرمزي ("ماكس ڤيبر"، "شارلز تيلي"، "پيير بورديو"). ف"ما الدولة" إذن؟ إنها، في التصور السائد، أولئك «"الهُمْ" الذين يفعلون»، بالبناء للغَيْبَة أو للمجهول، بل إنها ذلك "الهُو" غير المُتعيِّن، والفاعل "الغائب" رغم حضوره في كل شيء وفي كل مكان، بل إنها ذلك الكائن "المجهول" على الرغم من الظن الشائع بأنه "المعلوم" حقًّا لكل الناس. لكن "الدولة"، في الحقيقة، ليست فاعلا غيرَ مُحدَّد ومجهولا إلا من حيث هي مجالٌ لفاعلية غير شخصية. فهي كيانٌ غير شخصي، وفعلٌ فوق (أو يتجاوز) الأشخاص. ف"الدولة"، في الواقع الفعلي، ليست شخصا مُعيَّنا ولا تكون موقوفةً على شخص بعينه، في المدى الذي لا يملك أحدٌ من البشر أن يكون قائما بنفسه تماما أو قائما بكل حاجات غيره إلا توهُّمًا. ومن أجل ذلك، فإن تحديد "الدولة" بالقول إنها «أولئك "الهُمْ" الذين يفعلون» يُعدّ، بالفعل وفي آن واحد، تأكيدًا لواقع الغَيْبة المزدوجة، من حيث وجود جملة من الأفعال التي لا يُريد أحدٌ من عامة الناس (أو الشعب) أن يتحمل المسؤولية عنها، ومن جهة كون "أجهزة الدولة" تصير عاملةً لحساب نفسها أو -بالأحرى- لحساب أشخاص من مصلحتهم ألا تُعلَن هُويتُهم، بالتحديد، في صلةٍ بما لا يرغب أحدٌ في تحمُّل المسؤولية عنه. وبما أن هذين الوجهين يرتبط أحدهما بالآخر، فإن قيام "الدولة" -على مستوى الوعي الذاتي العامّ وفي الواقع الموضوعي- كمجرد «فاعلية غير مُتعيِّنة» أمرٌ يُشير إلى حقيقةِ مُجتمعٍ لم يَرْقَ بعدُ إلى مستوى ٱستئناس وتأنيس ذلك "الغُول اللاإنساني" الذي يُرَغِّب ويُرَهِّب -على نحوٍ نقيضيّ- بأَيْدٍ بشرية، لَكِنْ فيما وراء الأشخاص العَيْنيِّين! غير أنّ كون "الدولة" تتحدَّد بطابع غير شخصي يُعَدّ أحد جوانبها المُقلِقة جدًّا. إذ أنه يجعلُها تُتَصَّور -في الغالب وفقط- كمصدر للامتيازات لكل طامِح أو طامِع. وقد يبدو الأمر طبيعيّا ما دام عامّةُ الناس لا يكادون ينظرون إليها إلا بصفتها «أولئك "الهُمْ" الذين يفعلون». لكنّ كون "الدولة" مجالا للامتيازات يربطها بمجتمعها الخاص أكثر ممّا يجعلها كيانا سماويا أو غيبيّا يحظى بأفضاله بعض الناس. إنه يقتضي أن أساسها يُوجَد في ٱتِّصال دائم مع أعضاء المجتمع، بحيث لا تكون "الدولة" بكل ٱمتيازاتها حكرا لفئة من الناس إلا في المدى الذي يكون المجتمع -في معظمه أو بِرُمَّته، ولأسباب ٱجتماعية وتاريخية- مُستكينًا وخانعا على النحو الذي يجعله يتواطأ، بهذا القدر أو ذاك، مع الذين يُريدون أن تشتغل "الدولة" حصرا لصالحهم من دون سائر الناس. ولذلك، فإن "الدولة" -كمخزن للموارد والامتيازات التي تُعطى لها ٱجتماعيا قيمةٌ والتي تَسنُد سياسيا السلطة والنفوذ- لا قيام لها إلا بما هي "قوانين" ("نسق من القوانين والتنظيمات") و"مُوظَّفون" ("مجموعة من الموظفين العاملين شرعيا على تنفيذ القوانين وتدبير الشؤون العامة"). وهذا معناه أن "الدولة"، حتى بصفتها قوانين غير شخصية وموظفين لا يعملون لحسابهم الشخصي، لا تكون مِلْكًا مُسجَّلا باسم فئة من الأشخاص (هم، بالأحرى، "مُوظَّفون في الخدمة") أو مِلْكًا موضوعا تحت تصرُّفهم الخاص، بل لا مشروعيّة لها إلا بما هي الوجود الموضوعي للناس في فضاءٍ ٱجتماعي مُعيَّن بما هم فاعلون ٱجتماعيون مُحدَّدون أخلاقيا وقانونيا بالشكل الذي يجعل وجودهم رهينًا بتفاعُلهم وٱشتراكهم في إطارٍ مدنيّ لتحقيق "الحرية الإنسانية" على أساس "معقولية" مشتركة تُمكِّن من تحديد "المسؤوليّة". وبهذا تصير "الدولة" الوجه الآخر ل"مجتمع الناس" بما هو "مجتمع من المُواطنين"، أي بالتحديد "مجتمع مدني" يَعِي أعضاؤُه أن "نظام الحاجات الحيوية" لا سبيل إلى تحقُّقه موضوعيا إلا من خلال تدبير مشترك وتفاوُضي يتجسد قانونيا ومُؤسَّسيّا في هيئة عُليا مُتنِّزلة ٱجتماعيا وسياسيا تُسمّى "الدولة". هكذا، فإن "الدولة" ليست شرطًا في تحقُّق "المجتمع المدني" (لأنه يُمْكِنُها، في كثير من الحالات، أن تقوم في غيابه أو بتغييبه)، وإنما هي مشروطةٌ دوما بالنسبة إليه بصفته مجتمع المُواطنين الأحرار والمُتساوين، وباعتباره هو الذي يُؤسِّس مشروعيتها ٱجتماعيا ويَحرُس شرعيتها تنظيميا. وكونها كذلك هو الذي يستلزم التساؤُل ع"من تكون أنت؟". سُؤالٌ حينما يُجاب عنه يتحقَّق فهم المُراد ب"الشعب" و"الدولة" معًا وينتهي، من ثم، التضليل باسمهما أو يُمكِن، على الأقل، الحدّ منه بتبيُّن أهم أشكاله. فأنت -ككيان فردي- لستَ بشيء بالنسبة إلى تلك الكُتلة السديمية التي تُسمَّى "الشعب"، من حيث يُمكِنُها أن تستمر من دونك ؛ وأيضا فأنت -ككيان جَمْعي- لست بشيء من دونها، من حيث لا تستطيع أن تُوجد وتستمر وحدك. وكذلك، فما أنت بشيء أمام "الدولة" بصفتها ذلك "الغُول اللاإنساني" الذي يتجاوز الأشخاص ؛ وما أنت بشيء من دونها، في المدى الذي لن تبلغ حاجاتك من دونها. ولكن، لا "الشعب" شعبٌ من دون أفراده الذين أنت أحدهم ؛ ولا "الدولة" بدولة من دونك، لأنك أنت وسيلتُها وغايتُها ما دُمتَ شريكًا في كل تعاقُد وتشاوُر، شريك يفعل بوعي ومسؤولية ولا يقبل أن يُفعَل به خارج إرادته وبخلاف مصلحته التي لا تقوم من دون مصلحة باقي الشركاء. وأَنَّى لك ذلك ما دُمتَ لا تملك إلا أن تكون "الخادم" المُطيع والتابع الطَّيِّع، من جراء إِمَّعِيّة راسخة أو ذهنية رَعَوية سائدة أو ٱمتثالية نظامية مَرْعيّة! إنك لا تصير الأُس اللازم في بناء "الدولة" إلا من حيث صار مُمكنا، من الناحية الاجتماعية والتاريخية، أن تقوم بصفة "المُواطن" المُشارِك لنُظرائه من "المُواطنين" في سُكْنى "الوطن"، والمُساوي لأمثاله من الناس في الحُقوق والواجبات على النحو الذي يجعل "الكرامة الآدمية" واقعًا فِعليّا لا يقبل أن يُتصَّرف فيه إلا بأن يكون موضوعا لاحترامٍ واجبٍ تبادُلا، وذاتًا مُلْزَمةً بالاعتراف تفاعُلا. إذًا فما أنت بشيء من دون السعي الجادّ لتحصيل حقوقك وأداء واجباتك بالتوازي مع شركائك في "المُواطنة" وبالتساوي معهم على النحو الذي لا يترك فرصةً لأحد لكي يكون له من الحقوق أكثر ممّا لنُظرائه (الكل سواسية أمام القانون ولا أحد فوقه) أو عليه من الواجبات دون ما عليهم (الإعفاء من أداء الواجب ٱستثناءٌ مُعلَّلٌ وليس قاعدةً مُطَّردةً). بِناءً على ذلك، يُمكن أن يُقال -على غرار بيت "أبي القاسم الشابّي"- بأنه «إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة، فلا بُدّ أن يستجيب القدر». لكن "إرادة الحياة" ليست، في الواقع، مُعطًى مقسوما بالسويّة على آحاد الشعب إلا في المدى الذي يُنشَّأ الناس على أن "الحرص على الحياة" لا معنى له من دون "الحرص على الكرامة". وإلا، فإن كثيرا من الشعوب -عبر التاريخ وفي العالم الحاضر- تظل حريصةً على حياة، فلا يستجيب لها القدر إلا بمزيد من الاستخذاء والمهانة، لأن "الرغبة في الحياة" -كما يُؤكِّد "هيغل"- ليست سوى شيء يُعترَف به من جرّاء مُخاطَرةٍ بالحياة نفسِها حتى الموت، مُخاطرة يُسفِر خوضُها عن قيام "إرادة الحياة" كوعي بذاته ولِذاته. ولأن طُلَّاب السيادة لا يَستبِدُّون بأسباب الحياة مُطاولةً ومُنازعةً إلا بحرصهم الشديد على الحياة، فإن قَبُول المَسُودين للخدمة إذعانًا وطاعةً يجعلُهم -في معظم الأحيان- أحرص الناس على حياة بما يُدنيهم فِعليّا من الموت لو كانوا يَدرُون! فأنْ تَعرف من أنت ليس معناه شيئا آخر غير أن تكون طُمُوحًا يسعى -في خضم كل تشعبُّات وتعقُّدات الواقع- لكي يُلاقي القدر فيُدافِعَه بِقَدَرٍ هو أنت كبَشَرٍ. فأنت قَدَرٌ من أقدار هذا العالَم إذا آمنتَ بأنَّ قَدْرك كإنسان يُنْزِلُك مقام من يَقْدِر إذا شاء. ولقد شاء أن تكون له وليس لغيره ممن لا يفعل إلا أن يشاء. ولهذا فأنت حاملُ "الأمانة" حتى حينما يأبى أن يحملها من ينبري لتمثيل عامّة الناس، فلا يصير إلَّا إلى تمثيل نفسه بأهوائها وأغراضها ووقاحتها فينطق "أنا الشعب!" في مقامٍ لو أحسن الفهم لقال: "أنا" [في خدمة] "الشعب"! وأنت صاحبُ "القوة" الذي عليه أن يُطالِب، دوما، من يُفَوَّض له الأمر بالبرهنة عمليّا على جدارته بتحمُّل المسؤولية أمانةً وقوةً. فلستَ أنت إن كانوا «هم الذين يفعلون» بك أو من دونك، وإنما تكون "أنت" حينما لا يستطيعون أن يفعلوا من دونك أو إلا وأنت معهم. إذْ لا يكونون «هم الذين يفعلون» إلا لأنك تفعل معهم، بوعي أو من دونه، بالقدْر الذي يَكفُل قيام واقع لا يبدو فاعلُه مجهولا إلا لأنه لا أحد يفعل بمعقوليةٍ تكفي لتسمح له بتحمُّل المسؤولية عنه شخصيّا بمقدار ما عَمِل بحيث لا يُسأل عما لم يَعملْ. لستَ، إذًا، في حاجةٍ إلى أن تُمثِّل غيرك بالدخول في مجاهيل "أنا الشعب" أو إلى أن يُمثِّلك من "هُم الدولة" فتَغتصِب حقوقا لآخرين تنكُّرا أو تنصرف عن واجبات لهم تجاهُلا، بل يكفيك أن تُمثِّل نفسك بمُغالَبَة غيرك إحسانا وإصلاحا في جُهدٍ عُمراني لطلب نصيبك من الدنيا التي تُطلَب غِلابًا وتُكسَبُ جهادًا، لأن القَدَر لا يستجيب إلا لمن أراد الحياة بصدقٍ وعزم ونهض للعمل لها بقوةٍ وأمانةٍ. [email protected]