لم يكن الاحتفال برأس السنة ، ليمنع ويثني عزائم الشغوفين بالقراءة وأصدقاء وعشاق الأديب والإعلامي الأستاذ عبد الجبار السحيمي شافاه الله ، للتقاطر في أفواج عارمة يوم الخميس 31 دجنبر من السنة المنصرمة، وابتداء من الساعة الخامسة بعد الزوال، على المكتبة الوطنية بالرباط، لحضور أمسية التكريم الكبرى التي أقيمت على شرفه في إطار المهرجان الوطني للقراءة؛ وقد أصاخ الجمهور عميقاً السمع والفؤاد لشهادات شفيفة سافرت في ذاكرة الأستاذ عبد الجبار السحيمي، مستحضرة في المسار الثقافي والإعلامي لهذا الرجل الفذ، أبلغ المواقف الإنسانية والإعلامية التي جعلت من خط يده، خطوطاً قلبية دافقة بالمحبة والحياة. ألقى هذه الشهادات بالغة التأثر والتأثير الأساتذة: عبد الكريم غلاب، محمد العربي المساري، عبد الله البقالي، مبارك ربيع، عبد الحميد عقار، محمد بوخزار وسلمى المعداني. وقد استلفت انتباه الجميع مدى كثافة الجمهور الغفير الذي استدعاه اسم »عبد الجبار السحيمي« كأحد الأعلام البارزين في الذاكرة الثقافية المغربية التي مازالت بخير، وامتزج في هذا الجمهور العاشق لأهل الثقافة والمعرفة، الطالب والتلميذ والوزير والإعلامي والأديب والمناضل والمقاوم؛ لنقل كل المشارب التي إنما تعكس العمق الإنساني للأستاذ عبد الجبار السحيمي شافاه الله؛ وقد آلينا في غمر هذه الأجواء الوارفة بالدعوات لعبد الجبار بالشفاء العاجل، إلا أن نقتطف بالإضافة إلى الشهادات التي ألقيت، شهادات من بعض الأساتذة الوازنين في الحقل السياسي والثقافي. عاس الفاسي: تحلى الأخ عبد الجبار السحيمي بنكران الذات من أجل المصلحة العامة أعود بالذاكرة في علاقتي بالأخ عبد الجبار السحيمي، إلى السنوات التي أتيت فيها للتسجيل بكلية الحقوق بالرباط، ومنذئذ توطدت علاقتي بعبد الجبار الذي يستحق أكثر من هذا التكريم نظرا لإخلاصه لمبادئ الحزب، فهو وطني يعمل في السياسة بمفهومها النبيل، وليس سياسويا متلاعبا، بل يناضل من أجل تحقيق الأهداف التي استقاها من المدرسة الوطنية مدرسة علال الفاسي وأبو بكر القادري؛ ومحمد بوستة، ومحمد الدويري، وكل المناضلين الأجلاء. طبعا؛ ثمة ميزة أخرى لعبد الجبار السحيمي الأديب المتميز بخاصيته، فهو يستطيع التعبير عن أصعب الأفكار الثورية بهدوء وبكلمة تأخذ طريقها الى القلب والوجدان؛ إنه قصاص بارع. ويتحلى الأخ عبد الجبار السحيمي، بنكران الذات، وهذا شيء أساسي يجب أن يتوفر في الصحافي الذي يروم الدفاع عن المصلحة العامة أولا وأخيرا. وإذ نتمنى لعبد الجبار الشفاء وطول العمر نسجل كذلك أنه من المخلصين لجريدة »العلم« التي اختارها سنة 1957 واستمر بها الى اليوم، وهذا من النادر أن نجده اليوم في حقلنا الإعلامي؛ فقد أخلص ل »العلم« والعلم أخلصت له، وأخلص لحزب الاستقلال، وأخلص حزب الاستقلال للأخ عبد الجبار السحيمي. محمد بوستة: عبقرية في الكلام والكتابة أتمنى في هذه المناسبة الطيبة أن يحفظ الله عبد الجبار السحيمي ويعجل بالشفاء إنشاء الله، وأريد أيضا بهذه المناسبة أن أنوه بالعمل الذي قام به وبالثبات وبالاخلاص، وحقيقة بالوفاء، وبعبقريته في الكلام وفي الكتابة. كما أنوه بهذا العمل الذي قام به الاخوان المنظمين للتكريم تذكيرا بما قام به عبد الجبار، ولتذكيرنا جميعا أنه موجود وليبقى موجوداً إنشاء الله ونتمنى له الشفاء العاجل. سعد العلمي:عبد الجبار السحيمي طبع مرحلة مهمَّة ثقافيا وإعلاميا إن هذا الجمع بتنوعه، يشهد على قيمة عبد الجبار السحيمي أولا كإنسان، وثانيا كمبدع، وثالثا كحامل رسالة تلتصق بالإنسان وبمشاغله ومعاناته وطموحاته، لقد أحب الناس وكذلك أحبه كل الناس، وبالتالي تجد أحباء خُلص له من كل المشارب الثقافية والفكرية والسياسية، هذه المناسبة اليوم هي أقل ما يمكن أن ينظم لتكريم هذا الرجل الذي يستحق كل الإشادة والتنويه بسيرته وبعمله وبكل ما قام به، وبالتالي فعبد الجبار السحيمي طبع مرحلة مهمة سواء في المجال الثقافي أو الإعلامي، فهو إلى جانب أنه إنسان مبدع كما قلت، يعتبر أيضا إعلاميا لامعا وله أسلوب نسيج وحده في الكتابة الصحفية والإعلامية، إلى جانب كتابته الأدبية، فشافاه الله حتى يعود لمواصلة عمله لأن كثيرا من المعجبين به ومن المحبين له ينتظرون بشوق كتاباته التي انقطعت لبعض الوقت نرجو ألا يطول. عبد الله البقالي:نصر على الحضور اليومي لعبد الجبار السحيمي معنا رغم ظروف المرض يتملكني كثير من الارتباك والقلق من قوة اللحظة التي تفرض علينا الاحتفاء برجل نرفض في أسرة العلم أن نفارقه، فلقد حظينا بقيادة كتيبة من الرجال العظام في هذه المؤسسة كان ولايزال ضمنهم أستاذنا عبد الجبار السحيمي، رفقة الأستاذ الجليل عبد الكريم غلاب والصحفي المصر على هويته محمد العربي المساري، تعلمنا منهم القيم الحقيقية والمثل الفضلى لمهنة المتاعب التي لا تقبل أية لحظة من اللحظات أن تنزل من علو الرسالة إلى حضيض الابتذال والارتزاق، التي طغت كثير من تجلياتهما على الممارسة كما هي سائدة في ظروف وشروط مكنتها من أن تكون سائدة فعلا. تحكمني كثير من عوامل الضغط النفسي لأنني ما تخيلت يوما أن تكون العلم بدون عبد الجبار السحيمي، أو أن يكون السحيمي بدون جريدة العلم، لذلك نصر على حضوره اليومي معنا رغم ظروف المرض التي أبعدته عنا لمدة نشعر أنها تتجاوز الحقب، بالرمزية التي يقتضيها تجسيد هذا الإصرار، يحضر عبد الجبار في تفاصيلنا اليومية في جميع مواقع المؤسسة التي اعتاد عبد الجبار أن يمر منها في كل صباح، بابتسامته وتواضعه وبساطته، كان يحرص على أن يضخ ما يكفي من النفس في أجسادنا القلقة الخائفة من هول وجسامة ما كنا نقوم به كل من موقعه: ونحن نتطلع كل صباح أن تحمل لنا أية لحظة الخبر الذي يعيد إلينا ربان السفينة التي تسير على هديه. ماذا عساني أقول عن الرجل في لحظة لا يمكن أن تتسع ولو لجزء بسيط جدا من تفاصيل الرجل المفعمة بالاخلاص والحب والمسؤولية. هل أذكر مثلا أنه كان مناصرا لنا في وجه أقوى لحظات غضب، خصوصا الذين أصروا على خنق قنوات تصريف الحوار في زمن سياسي غير مأسوف على مضيه. هل أذكر دفاعه المستميت على تحسين أوضاعنا المهنية، وكنا نشعر به دوما واحدا من الصحفيين، وليس »مسؤولا« لا يدخر جهدا بالدفع بالحوار نحو أفقه السالك. هل أذكر أن عبد الجبار لم يتعلم الصحافة من معهد أو جامعة بل تعلمها من نبض الشعب الحقيقي، وصقلها في إبداع حي، كانت قوة الكلمات فيه أقوى مما كان يفتعل داخل المؤسسات، هذا أذكر أن عبد الجبار طوق أداءه بكافة مظاهر التحصين وسيج رفقة الأستاذ عبد االكريم غلاب مدار العلم بما يكفي من الضمانات الحقيقية التي جعلت هذه المؤسسة مستعصية على الآخرين. هل أذكر لعبد الجبار تضامنه الفعلي مع المعتقلين السياسيين، ليس بالكلمة والتعبير، بل بالمبادرات الفعلية التي مثلت متنفسا حقيقيا كمناضلين دفعوا ثمن ما ننعم به اليوم. هل أذكر لعبد الجبار حرصه الثابت والدائم على وضع الحد الفاصل بين الصحافة الحقيقية وبين ما دونها. اليوم حينما نحتفي بالرجل فإننا نحتفي بنموذج فرد نظر إليه الآخرون بصيغة الجمع، نحتفي برجل حمل الرسالة طيلة أكثر من أربعين سنة. وسار بها في طريق مليئة بالاغراءات ومكتظة بالأشواك والمسامير، لكنه سلك بها إلى نقطة الوصول. بدأ المسار بسيطا وخرج منه بسيطا كما دخله أول مرة، ماعدا القيم والمثل التي أثرى بها التجربة وحفل بها المسار ومثلت غذاء روحيا فعليا لأجبال قادمة من الصحفيين. إننا في جريدة العلم، وفي حزب الاستقلال، نعتز كل الاعتزاز بعبد الجبار الذي مثل بالنسبة إلينا عنوانا بارزا من عناوين النضال الصادق الذي لا ينتظر ترقية اجتماعية، ولا يتوقف على الجزاء، بل يكرس قيم النضال والجهاد في سبيل الله وفي خدمة هذا الشعب وهذا الوطن. عبد الكريم غلاب:عبد الجبار السحيمي لسان حال الفقراء أخي العزيز السيد عبد الجبار لا يمكنني أن أتحدث عنك دون حضورك، ولهذا أستحضرك معنا في هذه الجلسة الطيبة، التي أشكر جمعية القراءة للجميع على تنظيمها واستدعاء أصدقائك ليتحدثوا عنك وأنا أعرف أننا لو استأذناك لإقامة هذا المهرجان، لأبيت وامتنعت، لأنك تنفذ إلى صميم الأشياء لا إلى التظاهرات التي تعبر عن أشياء أخرى، ومع ذلك فأنا أذكر دائما أنك كنت تقدر الذين يكرمون العاملين والمناضلين والمثقفين في حياتهم، لأن ذلك اعترافا من الإخوة ومن الجميع بثقافتهم وبعملهم وبنضالهم. أيتها الأخوات، أيها الإخوة، لا أتحدث عن الأخ عبد الجبار إلا بصفته إنسانا وإنسانية عبد الجبار هي التي دفعتني إلى المشاركة في هذا المهرجان. كان إنسانا ولايزال، وكان يعتبر الإنسانية أسمى ما في الوجود، ولهذا فإن شخصيته اتسمت بإنسانيته وإنسانيته أضفت على شخصيته لواء العزة والكرامة والأنفة والعمل الدائب، عبد الجبار نشأ في بيئة فقيرة وهذا هو الجزء الأول من إنسانيته، نشأ في بيئة فقيرة ونشأ مع الفقراء في الأحياء الفقيرة بمدينة الرباط، وكان من الذين يدرسون هذه الأحياء قبل أن يدرس أو يتعلم الدراسة. وارتسمت في نفسه شخصيات من هؤلاء وأولئك الذين كانوا يكونون حي »بوقرون« وأحياء أخرى، خاصة الأحياء الفقيرة بمدينة الرباط. وهذا الفقر تسلل إلى مدرسته الأولى الابتدائية أي المدرسة القرآنية، وأذكر أنه حدثني يوما عن الفقيه »المدور« فيما أعتقد، وكان هذا الفقيه رحمه الله يلبس تلاميذه الصغار جلبابا في الشتاء بخاصة، ليدفئهم وهو يعرف أن آباءهم لا يستطيعون ذلك ولكنه كان يشفق على أبنائه وتلاميذه في المدرسة، لكي لا يزعجهم شتاء المغرب وبرد الرباط. وكانت هذه من الصفات الإنسانية التي كونت إنسانية عبد الجبار. ولقد نشأ في بيئة فقيرة، ولذلك كان يعيش مع الفقراء قارئا كل الكتب التي تتحدث عنهم لفيكتور هيغو صاحب »البؤساء« ودوستويفسكي ونجيب محفوظ، وتلاميذه الذين كتبوا في الرواية وفي القصة عن الفقراء، كان رائدا أو مريدا لهؤلاء ولذلك أخرج »الممكن من المستحيل«، أخرج الحديث عن هؤلاء من المستحيل الذي كان يضفي عليهم الإقصاء والإبعاد. أخرجهم إلى الوجود وكتب عنهم، وكان »الممكن من المستحيل« نموذجا من هذه الكتابات وكذلك »بخط اليد«. عبد الجبار نشأ في هذه البيئة ولذلك نجده دائما يحن إليها حينما يتحدث إليك، يحن إليها حينما يكتب، ويحن إليها وهو يذكر الماضي الذي عاشه في مدينة الرباط، ويذكر بعض النماذج من هذا الماضي، لا أقول الأسود ولا السيء ولكن الماضي المنعش الذي رسم في نفسيته شعورا بأنه ناطق باسم هؤلاء الفقراء والبؤساء. ومن هنا تكونت شخصية عبد الجبار اللامعة، لمعت لا لأنه أكبر المثقفين والعلماء، ولكن لأنه شخصية تلتقي بشخصيات عديدة في المغرب، كادت تختفي لولا أدب عبد الجبار وشخصيته متنوعة بتنوع ثقافته وكتاباته، لأنه لم يكن كما قلت يكتب فقط عن البؤساء والفقراء، ولكن كان يكتب عن أحوال العالم التي تتغير من سيء إلى أسوء، وهذا هو الذي كان يزعجه في حياته وهو يكتب »بخط اليد«، كان يزعجه أن يرى في كل يوم حياة جديدة ولكنها ليست مشرقة، هذه الحياة البئيسة أو المظلمة هي التي دفعت عبد الجبار إلى أن يكتب ويستمر في الكتابة، وكان عبد الجبار كذلك رجلا وطنيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى يرفض كل مظاهر السياسة ليقوم بالسياسة أو ليعمل السياسة داخل الوطنية، كان يشعر بأنه وطني وسياسي، في نفس الوقت ولكن السياسة الوطنية لا السياسة السياسوية كما يقول المحدثون الآن، لهذا تجد تفكير عبد الجبار دائما مستقيما ويسير في طريق واحدة وواضحة. تعرف عبد الجبار قبل عشرين سنة وتعرفه بعد عشرين سنة، فلا تتغير صفاته، ولكن أسلوب كتابته يتغير، فهو حداثي يكتب بالأسلوب الحداثي ويترك الأساليب العتيقة أو الأساليب الخشبية كما يقال. عبد الجبار كان يكتب وكان يستمر في الكتابة ويكتب ويكتب دائما، ولا ينشر إلا القليل مما يكتب، ومع ذلك كان يبدو لقرائه كأنه يكتب القليل بمعنى أنه يكتب ما قل ودل. والواقع أن الفقرة التي يكتبها أو العمود الذي يكتبه حافل وعامر بالمعاني وبالقيم، فكل جملة تحمل مفهوما وتحمل معنى، وكل جملة تقول شيئا، لا تجد في كتاباته الجمل الفارغة التي لا تقول شيئا، ولا تجد في كتاباته الفراغ، ولكن تجد دائما العامر، ولهذا كان عبد الجبار كأنه صانع في مصنع فني أو رسام يرسم لوحة فنية في سطور معدودة وفي كلمات معدودة وبلغة حية، ويختار الكلمات ولا يمكن أن تجد كلمة نابية في كتاباته، ولا تكاد تجد لغة غير اللغة العربية الصميمة، كأنه ابن الجاحظ أو ابن كبار الكتاب والأدباء، وهذه الصفة جاءته أولا لأنه يريد أن يكتب للكتابة ولو أنه صحفي، والصحفيون دائما مطلوب منهم أن يملأوا الفراغ، ولكنه كان يملأ ما يجب أن يملأ من الفراغ، ولهذا كان يقرأ قبل أن يكتب، وكان دائم القراءة ومعتزا بالجديد وبالطيب، بالجيد مما يقرأ، ولهذا تجد دائما أسلوبه في تطوير وأسلوب عبد الجبار يجب أن يكون نموذجا. هكذا عرفت عبد الجبار بشخصيته وبإنسانيته وبتفكيره المرتبط بالمجموعة الشعبية والمبعدين والمقصيين وبالذين خانهم الدهر، حيث لا يجدون من يتحدث عنهم إلا أمثال عبد الجبار، هكذا نجد هذا الرجل الذي نرجو أن يشفيه ا لله ويستمر في إبداعه. أرجو أن تطلبوا الله معي في أن ينقذه من محنته... محمد العربي المساري: عبد الجبار رجل مواقف حينما أشير إلى مواقف عبد الجبار، أقصد تلك التي يتخذها إزاء الصغير والكبير من الشؤون التي تطرأ في الحياة، وإزاء الصغير والكبير من الناس الذين يلقاهم في حياته اليومية. أكاد أقول إنه دائم اليقظة، وكأنه لا يستريح. وعبد الجبار صادق فيما يكتب. يصادق بصدق ويعادي بنزاهة. و يزكي قولي في هذا الصدد كل من عرفه عن قرب. وأريد أن أؤكد أنه لا يصدر في آرائه ومواقفه عن الناس والأشياء، عن نزوة أو انفعال. و أقول إن آراءه ومواقفه ليست خبطات بوهيمية أو صيحات مجذوب. ولهذا حينما يتكلم، كثيرا ما تكون كلماته هي الأخيرة بالنسبة إلينا. وهذا ما حدث في المؤتمر الرابع لاتحاد كتاب المغرب الذي عقدناه في مدارس محمد الخامس بالرباط. كان ذلك اللقاء حافلا بمواقف عصيبة. وكان المؤتمر أشد توترا من المؤتمر الثالث الذي وصفته مجلة الاتحاد « آفاق «، عدد ربيع 1971، بأنه كان قد عرف بدوره مواجهة بين تيار وطني يدعو إلى أن يقوم المثقفون بواجباتهم، وتيار كان يحاول لاهثا ترك الاتحاد في منطقة الظل بدعوى الحياد. وكان مؤتمر مدارس محمد الخامس معبرا عن شدة الاضطراب الذي كان يعتمل في الساحة الثقافية، كانعكاس للاضطراب السياسي. واتسم المؤتمر بمنعطفات عصيبة، وحفل بمواجهات كانت تدور حول مسألة رئيسية وهي صيانة استقلالية الاتحاد، وضرورة النأي به عن مسلسل التدجين. وقد تبلورت مواقف شديدة الوطأة بمناسبة مناقشة البيان العام، سواء في اللجنة الأولى أو في الجمع العام. وتوترت الأعصاب إلى درجة أن رئيس المؤتمر ، المرحوم الأستاذ المهدي الدليرو، أصابه إرهاق أدى به إلى الانسحاب من منصة الرئاسة، وتولت أعباء مواصلة التسيير الشاعرة الأستاذة مليكة العاصمي، وذلك في جلسة صاخبة ظهر وكأنها لن تنتهي. وأشد المواقف حرجا عرفه المؤتمر حينما تصدى أحد الأعضاء وكان وزيرا سابقا، باقتراح لم يلق القبول، بل وتم رفضه بما يشبه الإجماع في المؤتمر. وكان الاقتراح يرمي إلى أن يرفع المؤتمر برقية ولاء وإخلاص إلى جلالة الملك. و رفض الاقتراح بسبب أن رفع البرقيات يدخل في طقوس محافل رسمية تابعة للدولة، وهو ما يتنافى مع هوية الاتحاد الذي هو متميز عن باقي التنظيمات والأجهزة التي تحركها وزارة الداخلية من قبيل الغرف المهنية. ودافع صاحب اقتراح البرقية عن رأيه باستماتة، أمام جمع عام صاخب وغاضب. وفي غمرة انفعالات قوية، تناول الكلمة الأستاذ عبد الجبار السحيمي، وألقى برصانة كلمة، استمع إليها الجمع العام بانتباه مرهف، قال فيها ثلاث جمل قصيرة. الأولى : إن الاتحاد ليست له عقدة لمخاطبة جلالة الملك، فهو عاهل البلاد وملك الجميع. ثانيا: أنه سبق للاتحاد أن وجه برقية إلى جلالته. وثالثا: أن العقدة المريرة في الموضوع كله هي أن أعضاء الاتحاد لا يقبلون أن يتم الركوب على منظمتهم، ليتسلق أحدهم إلى منصب الوزارة. وهذا فقط هو مغزى موقف رفض الاقتراح.