قد لا يُدرَكُ، في بادئِ ٱلرأي، أنَّ كُلَّ "ما هو حديثٌ" لا يَتحدَّدُ ك"شيءٍ جديد" فقط بما هو "حَادِثٌ" كُتِب له أن يَقع ويَطرأ في هذا العالَم بشُروطه المُحدِّدة طبيعيًّا وٱجتماعيًّا وتاريخيًّا، بل بما هو "بِدْعٌ مُحدَثٌ" يُخالِف تمامًا ما سبقه من "حوادث" إلى الحدِّ الذي قد يبدو فيه خارِقًا. ولهذا فإنّ "ٱلحَداثةَ/ٱلجِدَّةَ" لا ترتبطُ بمجرد فِعْلِ "ٱلحُدُوث/ٱلإحداث" إمكانًا وتَحقُّقًا كما لو كان هذا يَكفي لإثبات أصالةِ وجدارةِ "ٱلحديث" بالنِّسبة إلى ما يُضادُّه ممّا يُوصَمُ عادةً ب"ٱلقديم" أو "ٱلتّقليديّ" أو "ٱلماضويّ" (وحتّى "ٱلرَّجْعيّ" أو "ٱلمُحافِظ")، وكما لو أنّ الأمرَ كلَّه قائمٌ في مدى ثُبوت "ٱلحُضور ٱلآنِيِّ" (أو، إنْ شئتَ، "ٱلحَاضِريّة" التي يُسمِّيها بعض كُتّابنا "ٱلرّاهنيّة"!). ويَتّضح، من ثَمّ، أنّ "ٱلحديثَ/ٱلجديدَ" لا يَتعلّق بكل "حَدثٍ" سواءٌ أكان واقعًا مُتقلِّبًا أمْ فِكْرًا مُتبدِّلًا أمْ كلامًا مُتحوِّلا. ذلك بأنّ من "ٱلحَدث" في حياةِ "ٱلإنسان/ٱلبَشر" ما هو لَصيقٌ بما يَعتريه باستمرار من حاجةٍ إمّا إلى ٱلتَّخلُّص من فَضَلات جسمه بإلقائها "خَبَثًا" يَحْدُث في اليوم مرّةً أو أكثر (خصوصا عند "ٱلأحداث" من ٱلوِلْدان وٱلصِّبْيان) وإمّا إلى مُسايَرةِ ما تُوسوِس به له نفسُه الأمّارةُ بالسوء "خُبْثًا"! فهل يَصِحّ، إذًا، أنْ يُنظَر إلى حوادثِ وأحداثِ "ٱلعصر ٱلحديث" من دون ٱستحضارِ خَبائِث النُّفوس وأخباث الأعمال كما تتجلّى أفكارًا في "ٱلحَداثة/ٱلخَباثة"؟ يَحسُن، ٱبتداءً، ٱلِانتباهُ إلى أنّ كونَ "ٱلحَداثة" لا تَقبل واقعيًّا أن تُفصل عن "حَدَثان ٱلدَّهر" (أيْ عن مجموع "ٱلنّوائب" و"ٱلحوادث" التي تَتخلّل حياة النّاس فتجعلُها مُراوَحةً بين "ٱلجِدّة" و"ٱلقِدَم" لصُعوبة ٱلمُزايَلة بين "ٱلحاضر" و"ٱلماضي") يُوجب الوقوفَ على تجذُّرها في ٱلمَعيش ٱلبشريِّ كما تُحدِّده شروطُ الوُجود والفعل بهذا ٱلعالَم، ممّا يقتضي - في جميع الأحوال- ألا يُنظرَ إليها إلا بصفتها ٱجتهادًا بَشريًّا مشروطًا، بهذا القدر أو ذاك، في ٱلِانفكاك عن مجموع ٱلإكراهات التي تتعلّق بأحداث الحياة في تعبيرها عن الإنسان بما هو ذاتٌ فاعلةٌ - حَسَب ما يظهر- بوعيٍ نافذٍ وإرادةٍ حُرّةٍ وعزيمةٍ لا تَفتُر. وإنّ كونَ "ٱلحَداثة" يُراد لها أن تُحيلَ، في آن واحد، إلى كُلٍّ من "ٱلعقل" (كفكر قائمٍ على مُمارَسة المُساءَلة النّقديّة تمحيصًا وتعليلا) و"ٱلحُريّة" (كرُشْدٍ بلا وصايةٍ وٱستقلال دون تبعيّة) و"ٱلتّقدُّم" (كصَيْرورةٍ دائمةٍ من النُّمو وٱلِازدهار والتّوسُّع) يَجعلُها من المَواضيع التي تَحظى، عند أكثر النّاس، بامتياز لا يَكاد يُضاهى. وبالتّالي، لا يَعود خافيًا أنّه ليس ثمّة ما هو أهمّ وأحسن، في خضم التّنازُع حول مُختلِف ٱلِامتيازات، من أنْ يُبديَ ٱلمرءُ ٱهتمامَه ب"ٱلحَداثة"، بل أنْ يُركِّز عليها عملَه وقولَه حتّى لا يَفُوته شيءٌ من أفضالها وخيراتها. وهذا ما يُمكن أنْ يُلاحَظ غالبًا في كُلّ ما يَميل إليه الذين يَحرِصُون على ٱدِّعاء "ٱلحَداثة" تعاقُلا و/أو تحرُّرًا و/أو تقدُّمًا. ومن أجل ذلك، فإنّ أخذَ "ٱلحَداثة" بدلالتها على «مجموع مَكاسب الفعل البشريِّ في هذا العصر الحاضر كإنجازٍ عقليّ مُتحرِّر ومُتقدِّم» لا يَجعلُها تُمثِّل "حُضورَ" أو "حاضريّةَ" الإنسان بما هو فاعليّة قائمة بالأساس على "ٱلعقل" و"ٱلحُريّة" و"ٱلتّقدُّم" إلا في المدى الذي يَثبُت أنّ كُلّ (أو، على الأقل، جُلّ) مَكاسب الفعل البشريّ الحديث كانت خيرَ تمثيلٍ للإنسان بصفته ذاتًا لا تَنْفكّ عن "ٱلعقل" و"ٱلحُريّة" و"ٱلتّقدُّم". وٱلحال أنّ الفكر المعاصر، منذ أكثر من قرن، لم يُمْعِنْ في نَقْضِ شيء بقدر ما أمعن في نقض "ٱلذّات" بكل صفاتِها تلك، حيث لم يَعُدْ مُمكنًا تصوُّر "ٱلحَداثة" خارج كونها ٱجتهادًا - مُحدَّدًا ومحدودًا- في إنجازِ "مشروع يُستكمَل باستمرار"، بل لقد أُعيدَتْ أكثر من مرة مُراجَعةُ مفاهيم "ٱلعقل" و"ٱلحريّة" و"ٱلتّقدُّم" بما يَنأى بها عن أساطير "ٱلتّنويريِّين" في تفاؤُلهم ٱلسّاذج ويُحيطها بكثير من الحذر والتّواضُع. ولذا، فكل إصرار على رَبط "ٱلحداثة" بفُتوحاتِ عقلٍ مُتحرِّرٍ أصلا ومُتقدِّم دَوْمًا ليس سوى تضليلٍ يَأبى إلا أنْ يَتعاطى "ٱلحَداثة" تَكالُبًا وتَواقُحًا بالشكل الذي يَستنزل مَطلَبَ "ٱلِاجتهاد" إلى دَرَكاتِ "ٱلخَباثة" فلا يَعودُ إلا تَعالُمًا بلا تحقيق و/أو تَحادُثًا بلا تجديد! حقًّا، ما أكثر وأعظم مُنجزَات "ٱلعصر ٱلحديث" التي تُعدّ - على مُستوى تجليّات "ٱلعقل" و"ٱلحريّة" و"ٱلتّقدُّم"- بُنْيانًا يَعِزُّ نظيرُه في كل عصور الماضي. غير أنّ الأمر لا يَستقيم، بهذا الصدد، إلا باستحضار جُملةِ الإخفاقات والمَفاسد التي تُلازِم جوهريًّا تلك المُنجزات ويَصعُب فعليًّا إدراجُها في خانةِ الآثار العَرَضيّة أو ٱلتّبِعات الهامشيّة. وحَسْبُ المرء، هنا، أنْ يَذكُر أنّ الوُجودَ والفعلَ الإنسانيِّين لا يَصِحُّ ٱختزالُهما في حَداثةٍ لا تُفعِّل "ٱلعقل" إلا تألُّهًا مُتنزِّلا أو تَعالِيًا وَسيليًّا، ولا ترى في "ٱلحُريّة" إلا تَسيُّبًا إباحيًّا أو تَوحُّدًا فَرْدانيًّا، ولا تَتصوّر "ٱلتّقدُّم" إلا إنتاجيّةً ٱستغلاليّةً أو نُموًّا ٱستهلاكيًّا. وإلا، فإنّ مَآل "ٱلحَداثة" بعد قرون من التوسُّع الهيمنيِّ وٱلِاستغلاليِّ إلى "ٱلعولمة" في ٱتِّجاه "ٱلتّنميط ٱلأُحاديّ" المُشتغل بآليّة "ٱلفوضى الخلاقة" لا يُعبِّر عن "ٱلوضع ٱلبشريّ ٱلحديث" إلا بما هو إحدى بقايا "ٱلماضي" المُنفلتة من إِسار "ٱلتّنوير" عقلا تشارُكيًّا و"ٱلتّحرير" تقدُّمًا تضامُنيًّا! وأكثر من ذلك، نجد أنّ "ٱلحَداثةَ" - بمُقتضى أنّ كل النّاس الموجودين خلال فترةٍ ما يَطمحون إلى أنْ يَعيشوا وُجودَهم في حداثته (أو كحداثةٍ)- ما فتئت تُعرَض (وتُفرَض) في الغالِب بصفتها مُتعارِضةً مع "ٱلماضي"، ليس "ٱلماضي" فقط في دلالته على «مجموع مَكاسب الفعل البشريّ بما هي مُنجزَات تُعبِّر عمّا كان وٱنقضى»، وإنّما أيضا ذاك "ٱلماضي" في دلالته على «رُسوخ ٱلتّقليد وفُشوِّ ٱلِاتِّباع». ولهذا، فإنّ تصوُّر "ٱلحَداثةَ" بما هي "ٱلجِدّة" كما تتمثّل في "ٱلمُحدَثات/ٱلمُستجدّات" التي تختلف - بهذا القدر أو ذاك- عن "ٱلمَورُوثات ٱلقديمة" يَمنع من إدراكِ أنّ كلّ ٱلنّاس في فترة ما لا يَشتركون في هذه "ٱلحَداثة" بنفس الكيفيّة والقَدْر. ذلك أنّ "ٱلأحداث/ٱلصِّغار" لا يَخلُفون فقط "ٱلقُدامى/ٱلكبار" أو يَختلفون بما هم "أخْلاف/لاحقون" عن "ٱلأسلاف/ٱلسّابقين"، بل أيضا يَختلفون فيما بينهم على النّحو الذي يُؤكِّد تنازُعَهم وتفاوُتَهم في إنجاز حداثتهم بما يُوجب تَبيُّن أن "ٱلحَداثةَ" لا تنفكّ مُطلقًا عن "ٱلتّعدُّد" و"ٱلتّناقُض" و"ٱلتّفاوُت". فالنّظر، إذًا، إلى "ٱلحَداثة" بصفتها مُناهَضةً للموقف القائم على "حِفْظ ٱلماضي" (كتقليد مُتّبَع أو تقاليد مَرْعيّة) يُقيمها في صورة مُلاحَقةٍ ل"ٱلحديث/ٱلجديد". لكنّ ما ينبغي ٱلِانتباه إليه هو أنّه ليس كل جديد مُفيدًا، ولا كل قديم خِلْوًا من الفائدة، وإنّما المُعتبَر دائما أنّ "ٱلقِيَم ٱلنّافعة" - بما هي ضالّة العاقل- ليست حِكْرًا لفترةٍ تاريخيّة أو فئة بشريّة بعينها سواء أكانت مَاضيةً أمْ حاضرةً. وإذا كان ليس من الصعب قَبُول أنّ الماضي لا يخلو البتّة من "ٱلقيم" التي تقبل أنْ تُستحضر، فإنّ ما قد يَصعُب قَبُوله أنّ ذلك الأمر يَقتضي تأكيد أنّه، من جهة، لا "حديثَ/جديدَ" من دون قديم يُوجد كأصلٍ أو سبَبٍ له و، من جهة ثانية، لا "حديثَ/جديدَ" إلا ويصير قديمًا. ومن هنا، فإنّ "ٱلحَداثة" أبعد من أن تكون بلا "أُصول" مُؤسِّسة سواءٌ أَنُظر إليها كأسباب أمْ كقِيَم أمْ كشُروط. وإذا كان من الشّائع أنْ تُحدَّد "ٱلحَداثة" بما هي "إِحداثٌ"، فإنّ ما يَغيب (أو يُغيَّب) مع ذلك هو أنّ شُروط "ٱلوضع ٱلبشريّ" في ضرورتها وتداخُلها تجعل فاعليّةَ الإنسان غير مُمكنةٍ إلا بالنِّسبة إلى ٱلتّأسيس ٱلِاجتماعيّ وٱلتّاريخيّ الذي يَشتغل بالأساس من خلال آليّة "ٱلِاتِّباع/ٱلتّقليد" التي لا تكاد يُعترف بها إلا في "ٱلمُحاكاة" لدى الأطفال والتي يُنسى دورُها الجوهري في "ٱلتّنشئة ٱلِاجتماعيّة" المُنتجِة للفاعِلين. ولذا، فإنّه لا سبيل إلى ٱعتبار الفعل الإنسانيّ ك"إِحداث" يُنشئُ موضوعَه ٱبتداءً فيُوجِدُ نفسَه خَلْقًا وتخلُّقًا إلا بجعل الإنسان في مَقامِ إلاهٍ مُتنزِّل على شاكلةِ تلك "ٱلذّات" (الديكارتيّة) القائمة ك"جوهر مُستقلٍّ بنفسه ومُدرِك لها كحُضور دائم"، ممّا يُقيمها ك"فاعل/مُبدِع" يَخلُق أفعالَه "بَدائعَ" من لا شيء وعلى غير مثال سابق. وهذا هو مفهوم "ٱلإبداع" الذي يُعدّ من قِبَل كثيرين "رُوح ٱلحَداثة"، رُوحها المُتعالِيَة على "ٱلضرورة ٱلِاجتماعيّة" بكل مُحدِّداتها ٱلتّاريخيّة وٱلِاقتصاديّة وٱلسياسيّة وٱلثقافيّة. لكنْ بالقدر نفسه الذي نجد أنّ مفهوم "ٱلإحداث/ٱلإبداع" ذاك يُظهر الجانب ٱلِادِّعائيّ في "ٱلحَداثة" بما هي "تَحرُّرٌ"، فإنّه يعمل على إخفاءِ حقيقةِ أنّ القدرةَ على "ٱلإنشاء/ٱلبِناء ٱلفنيّ" مُتجذِّرةٌ بعمقٍ في الوجود التّاريخيّ والبنيويّ للفاعلين الذين لا يستطيعون في الواقع أن يَنتزعوا ٱستقلالَهم المُراد إلا حينما يَمتلكون - بفعلِ مُمارَسةٍ ٱنعكاسيّةٍ غير عاديّة- الوسائلَ النّظريّة والعَمليّة الكفيلة بتعزيز فُرصهم في جعل "بُطلان/إبطال سِحْر ٱلعالَم" (disenchantement du monde) يَتّخذُ صورةَ سياسةٍ واقعيّة وعِلْميّة تجعل "ٱلحُريّة" المُقوِّمة ل"ٱلمسؤوليّة" مَنُوطةً فِعْليًّا ب"ٱلمَعقوليّة" كعملٍ جماعيٍّ مُؤسَّسٍ موضوعيًّا ومُسدَّدٍ معرفيًّا. هكذا، حينما يُؤكَّد أنّ "ٱلحَداثة" تزدوج ب"ٱلخَباثة" في خطابِ "ٱلمُتحادِثين" بيننا، فليس المقصود شيئا آخر غير أنّها "خَباثة" بمعنى الدّعوة إلى ٱعتماد "ٱلحداثة" بالإخلاد إلى "خَبَثِ" ٱلأرض تكالُبًا وتكاثُرًا أو بمُسايَرةِ "خُبْث" النّفس الأمّارة بالسُّوء تظاهُرًا وتفاخُرًا. ذلك بأنّ الميلَ إلى عَرْضِ "ٱلحَداثة" كما لو كانت إذْعانًا محتومًا لمُقتضيَات "ٱلعصر ٱلحديث" ليس سوى تعبير عن أمرٍ واقعٍ لا يُردُّ له قضاء، أمر يُفيد أنْ يُسْلِمَ المرءُ مَقادَه لأزِمّةِ عصره مُمثّلةٍ، بالخصوص، في سيرورة "ٱلتّدهير/ٱلتّدْنِيَة" التي صارت تَفرِض على الإنسان المُعاصر أنْ يَحصُر كل هَمِّه في حُدود هذا "ٱلعالم ٱلدُّنيويِّ" باعتباره يُكوِّنُ ليس فقط الأُفق المُشترك بشريًّا، وإنّما أيضا بصفته غايةَ الوُجود والفعل البشريَّيْن. وينبغي أنْ يكون بيِّنًا أن "ٱلحَداثة" بهذا المعنى هي "ٱلخَباثة" بعينها حيث إنّها تَشُدّ هِمّةَ الإنسان المُعاصر إلى "ٱلعمل ٱلدُّنيويِّ" بما هو قَدرٌ أرضيٌّ بلا عاقبةٍ أُخرويّة، كأنّ "ٱلتّنوير ٱلحَداثيّ" لا يُفترَض فيه أنْ يُمكِّن دَوْمًا من "ٱلتّحرُّر" من كل الإكراهات وليس فقط من تلك المُتعلِّقة حصرا بالماضي الذي يُراد له يُطَّرح بتقاليده البالية ومُعتقداته المَوثُوقة! وفي ذلك المستوى بالضبط، يَتجلّى تهافُت خطاب "ٱلمُتحادِثين" كخطابٍ لا يَكتفي بتعاطي "ٱلحَداثة" تواقُحًا وتخابُثًا، بل يَذهب إلى حدِّ الوقوع في "ٱلتّعالُم" و"ٱلتّعاقُل" من خلال تشديدِ "أصالةِ ٱلحَداثة" ك"إحداثٍ جذريٍّ" يقوم في صورةِ "لَوْح ممسوح" (أو "صفحة بيضاء") خِلْوٍ من كل آثار ٱلماضي ومُعدٍّ لإنشاءِ "بِدْعٍ مُحدَثٍ" يَستوي بَديعًا ساحرًا أمام أنظار العالَمين أو بين أيديهم ؛ وهو الأمر الذي يَفضحُ ذلك "ٱلتّطرُّف ٱلحَداثيّ" الذي يُراد به حصرُ المسألة كلِّها كما لو كانت مسألةَ حياةٍ أو موتٍ في السِّجال المُفتعَل والمُحتدِم بين "حداثةٍ طليعيّةٍ" (تُتصوَّر كإنجاز يُصطنَع دائمًا في صورةِ "إحداثٍ" و"إبداعٍ") و"سَلَفيّة رَجْعيّة" (يُنظر إليها كنُكوص نحو "أُصولٍ" يُطلَبُ حِفْظُها كاملةً وخالصةً بواسطة "ٱلتّقليد" و"ٱلِاتِّباع"). وهكذا لا تَعُود "ٱلحَداثة" سيرورةً نافِذةً ل"بُطلان/إبطال سِحْر ٱلعالَم" إلا في المدى الذي تَكُون أيضا سيرورةً ٱنعكاسيّةً على الدّوام تَكفُل المُساءَلة تأسيسًا وتجديدًا حتّى بالنسبة إلى ما يُعدّ "حَداثةً"، بل ضدّها حينما تَتعيّن فتَصيرُ تقليدًا آسِرًا وسُنّة مُتّبعةً بعيدًا عن كل ٱجتهادٍ ونقدٍ. فالِانخراط في "ٱلحَداثة" لا يكون، إذًا، بمجرد ٱدِّعاء "ٱلِانقطاع عن ٱلماضي" زُهدًا في قِيَمه وتجاهُلا لعطاءاته وٱلتّظاهُر، من ثَمّ، ب"ٱلِانقطاع إلى ٱلحاضر" عُكوفًا على "قِيَم ٱلعصر" وتشرُّبها ٱستهلاكًا وٱجترارًا ؛ وإنِّما يكون بالِاقتدار على ٱمتلاك "مجموع ٱلقِيَم ٱلحيويّة" (سواء أتعلّقت بالماضي أمْ بالحاضر) من موقع "ٱلِاجتهاد" في مُساءَلتها وتجديدها حتّى لو ٱقتضى الحالُ مُراجَعةَ "قِيَم ٱلحاضر" في تكلُّفها وتحلُّلها على ضوء "قيم ٱلماضي" في بساطتها وصرامتها. وبدلا من "ٱلحَداثة ٱلقِشْريّة" التي تَدّعي ٱلِانقطاع عن " تقاليد ٱلتُّراث" في الوقت نفسه الذي تُرسِّخ ٱلتّبعيّة ل"تُراثِ ٱلعصر"، فإنّه يجب تأسيس ضربٍ من "ٱلحَداثة ٱلبِنائيّة" يكون قِوامُها أنّ "ٱلتّجديد" الذي من شأنه أن يُعطِّل كل مَيْلٍ إلى "ٱلتّقليد" لا يَتأتّى إلا باجتهادٍ مُزدوِجٍ يُتِيحُ ٱلِانفكاك عن قُيود الماضي وإكراهات الحاضر في آنٍ واحدٍ، ممّا يُوجب أنْ يُقامَ العملُ "مُغالَبةً في ٱلجُهد ٱلعُمرانِيّ"، أيْ أنْ يكون بالتّحديد "مُجاهَدةً/جِهادًا" على النّحو الذي يُفعِّل "ٱلعقلَ" مُشارَكةً ومُغالَبةً في "ٱلجُهد ٱلتّنويريّ وٱلتّحريريّ" بعيدًا عن ٱستسهالِ المُتواكِلين في ٱتِّجاهِ سَلَفِ الماضي وعن ٱستعجالِ المُتكاسِلين في ٱتِّجاهِ سَلَفِ الحاضر. ولأنّ مثل تلك "ٱلحَداثة ٱلبِنائيّة" تُسفِّهُ أحلامَ دُعاةِ التّقليد بين المُنافِحين عن "ٱلتُّراث" سَلَفيّةً أو تَسلُّفًا وبين المُنتصرين ل"مُنجزَات ٱلعصر" تَبعيّةً أو تحادُثًا، فإنّها لنْ تُقابَل إلا بالتّشكيك والتّبخيس من كلا الفريقين ليس فقط لِاضطرارهما إلى الدِّفاع عن توجُّههما التّقليديّ الصريح أو المُضمر، بل أيضا لوُقوعهما تحت وطأةِ ٱلِاستسهال وٱلِاستعجال ٱللّذين بقدر ما يُعفيان من بَذْل الجُهد الكافي إتقانًا في العمل وإحسانا في المُعامَلة، فإنّهما يَدفعانِ إلى خَوْض المُغالَبة بالإمعان في "ٱلتّخابُث" لإخفاء تَهافُتِ خطابٍ يَبتغي الأصالةَ ٱدِّعاءً وتكاسُلا ولا يَتوانى عن تطلُّبِ المشروعيّة تَظاهُرًا وتَجاهُلا. [email protected]