قد يَجِدُ الوَلِعُون بالتّبسيط، في ما أورده الأُستاذ "محمد العُمري" بمقاله "الأُصوليّة المتطرفة بالخُشَيبات"، فصلَ المقال بخصوص ما يُسمّى "ٱلأُصوليّة" من حيث إنّه مقالٌ حَرَص صاحبُه - من مُنطلَق ما سمّاه "الاجتهاد في مُلاءَمة المصطلحات مع مُعطيَات البيئة حيث تُوظَّف"- على تحديد "ٱلأُصوليّة" بصفتها «الدّعوة إلى العودة إلى الأُصول وتحكيمها في صياغة الواقع الراهن والتخطيط للمستقبل المرتقب، درجات من التحكيم ؛ تصلُ عند المتطرفين إلى حدّ التحكُّم.» و، من ثَمّ، على تمييز ثلاثة منها (أُصوليّة دينيّة، أُصوليّة عرقيّة، أُصوليّة ٱجتماعيّة-ريعيّة) تُعدّ مُستكرَهةً ومُستهجَنةً إلى أبعد حدٍّ وبلا مُشاحّة. لكنْ يبقى أنّ أيَّ قراءة مُتمعِّنة في خطاب الأستاذ "العُمري" من شأنها أن تكشفَ أنّ الأمر لا يعدو أن يكون ضربًا من التّبسيط الذي يبدو أنّه، رغم كونه أراد أن يقول كل شيء عن "ٱلأُصوليّة، يَمِيلُ إلى إخفاء نوع أشدّ من "ٱلأُصوليّة" قد يُسمّى - إذا قَبِلنا هذا المُصطلَح- ب"ٱلأُصوليّة ٱلحَداثيّة"، وإلا فيَحسُن أن يُسمّى بما يُحقِّق تعيينَه، أيْ بما هو ضربٌ من "ٱلتّطرُّف ٱلمُتعالِم" (خصوصا أنّ الأستاذ "العمري" قد حَسم في ضرورة كَسْرِ عين "عِلْمانيّة" كأنّه يُسلِّم تسليمًا بأنّ المُراد من المصطلح المنقول إنّما هو تأكيد التّعارُض بين "ٱلعِلْم" و"ٱلدِّين"، بل تَنافِيهما وسُمّو الأول على الثاني!). وبالتالي، يُمكن أنْ يُحدَّد هذا "ٱلتّطرُّف ٱلمُتعالِم" بصفته «ٱدِّعاء ٱستحالة العودة إلى أُصولٍ مُعيّنة يُمكن تحكيمُها في صياغة الواقع الراهن والتخطيط للمستقبل المُرتقَب.»، وهو التّطرُّف الذي لا يَملِكُ إلا أنْ يَفضحَ تَخشُّبًا فكريًّا لدى كثير من أدعياء "ٱلحداثة" بيننا (أيْ من "ٱلمُتحادِثين") لإطباقهم على الظنّ بأنّ "ٱلعِلْمَ" (المعاصر بالخصوص) يقوم كصيرورة ٱنقطاعيّة يُطرَّح فيها ٱطِّراحًا كل "أصلٍ سابق" على النّحو الذي يجعل "ٱلمعرفة ٱلعلميّة" تتحدّد كتعبير عن "ٱلحداثة" بما هي "أصالةٌ" قائمةٌ بنفسها وليس أبدًا بالنِّسبة إلى "أُصول ٱلماضي" ؛ إنّها، إذًا، إبداعٌ مُستقلٌّ لا يَفتأ يُنْشِئ أُصولَه إنشاءً ويَبني ٱمتيازه كأمرٍ واقع يجب أخذُه بصفة "ٱلكُلّيّ" الذي يفرض نفسه ولا يَقبل إلا الإذعان وٱلِامتثال! ولعّل مُنطلَق الإشكال يَكمُن في الحرص على ٱلِاستسهال في مَقامٍ لا يُجدي فيه إلا بالغ ٱلِاجتهاد لإقامة البيان تفكيرًا وتعبيرًا. ذلك بأنّ ٱلِاستسلام للَفظ "أُصوليّ/أُصوليّة" في ترجمة ٱللّفظ الأجنبيّ « fundamentalism/fondamentalisme » لا مُبرِّر له، في هذا المجال، سوى طلب السهل من ٱلذّرائع وٱلأَدلّة. يَظهر هذا، أولا، في الغَفْلة عن سرّ الجَمْع في اللّفظ العربيّ ("أُصول" بدلا من "أَصْل" أو "أُصوليّ" بدلا من "أَصْلِيّ"، تمامًا بخلاف المُقابِل الأجنبيّ!) ؛ و، ثانيا، في خَرْق مُشترَكٍ تداوُليٍّ يَقْضي بأنّ صفةَ "أُصوليّ/أُصوليّة" في العربيّة تَنْسُب الموصوفَ إلى "علم أُصول ٱلفقه" أو إلى "علم أُصول ٱلدّين" ؛ و، ثالثا، في أنّ قَبُولَه لم يَمنع من إسناده بصفةِ "مُتطرِّفة" (كما في عنوان المقال المعنيّ: "أُصوليّة متطرفة"!). وإذا أُخذ ذلك كلُّه بالحُسبان، فإنّ ترجمةَ المصطلح الأجنبي لا يُمكن أن تتمّ إلا باستحضار ألفاظٍ مُتداوَلة لدينا مثل "سَلَفيّ/سَلفيّة" أو "تطرُّف" أو "تعصُّب"، وأيضا باعتبار أنّ ما يَنقُله اللفظ الأجنبي « fundamentalism/fondamentalisme » ليس سوى تخصيص للَّفظ الآخر « extremism/extrémisme » حينما يُراد تعيين "ٱلتّطرف ٱلدينيّ" الذي تَخصُّه الفرنسيّة بلفظِ « intégrisme » والذي هو عين ما يَدُلّ عليه لفظ "ٱلسَّلَفيّة" بما هي "تشدُّدٌ" و"غُلُوّ"، مِمّا يُوجب نقل المعنى ب"ٱلتّطرُّف ٱلدينيّ" أو "ٱلتّطرُّف ٱلإسلاميّ" تمييزًا له عن أنواع التّطرُّف الأخرى (التطرُّف العرقيّ أو القوميّ، التّطرُّف السياسيّ، التّطرّف الثقافيّ، إلخ). وإلا، فإنّ أيَّ ترجمة حقيقيّة تُعدّ غير مُمكنة إلا من خلال العمل على صبِّ المعنى ٱلِاصطلاحيّ للَّفظ الأجنبيّ (بمعنى «ٱلنّزعة ٱلحَرْفيّة في تصوُّر "ٱلأُصول/ٱلمصادر ٱلدينيّة" والعمل بها») في صيغةٍ صرفيّة تَكفُل تقريبَ المعنى من دون كثيرِ تحريفٍ أو بالِغ تَلْبيس. وبهذا الخصوص، فإنّه لا مناص من ٱلِاكتفاء بعبارةٍ شارِحةٍ مثل "ٱلتّطرُّف ٱلدينيّ" (كتقليد حَرْفيّ) أو تطويع النّقل ٱلِاستعاريّ كما في "سَلَفيّ/سَلَفيّة" (خصوصا أنّ المعنى الأجنبيّ يَدُلّ على «ٱلمُمارَسة التي تَتّبع بدّقةٍ القواعدَ والتّعاليمَ الأساسيّة في أيِّ دين») أو ٱلِانتقال إلى نَحْتِ لفظٍ جديدٍ كما في "أَصْلانيّ/أَصْلانيّة" بمعنى «ٱدِّعاء إمكان حفظ "ٱلأصل" في كماله وصفائه والرُّجوع إليه بما هو كذلك». وهكذا، فإنّ كونَ الأمر يَتعلّق بإرادةِ تعيين وتمحيص "حركاتٍ" أو "نزعاتٍ" يَدّعي أصحابُها أنّ "ٱلدِّين" لا يُؤخذ إلا بما هو "أَصلٌ" أو "أُصول" كما أخذه "ٱلسّلَف ٱلصالِح" يَقتضي الحديث عن "ٱلسَّلَفيّة" بما هي "تطرُّف" في تصوُّر شيء ما والعمل به، بحيث يَصِحّ الحديث عن "سَلَفيّة دينيّة" و"سلفيّة أدبيّة" و"سلفيّة فلسفيّة" و"سلفيّة سياسيّة" و"سلفيّة علميّة" أو عن "ٱلسَّلفيّة ٱلإسلاميّة" في مُقابل غيرها من السلفيّات (مسيحيّة، يهوديّة، بوذيّة، إلخ.). وقد يجوز القياس على لفظ "ٱلتّطرُّف" نفسه وتخريج لفظ "ٱلسلفيّة" على صورته الصرفيّة فيُقال "تسلُّف". ولا يخفى أنّ أنواعَ "ٱلتّطرُّف" المقصودة بواسطة مُصطلح "سَلَفيّة" تتحدّد، أساسًا، بكونها تَقُوم على "ٱلتّقليد" و"ٱلمُحافَظة" في مقابل "ٱلِاجتهاد" و"ٱلتّجديد". وإذا كان نُقّاد "ٱلسّلفيّة ٱلدِّينيّة" يَحرِصُون على الظهور ك"حَداثيِّين"، فإنّ كونَهم لا يَستطيعون في الغالب أنْ يُبرهنوا - بمقتضى إعمال مبادئ "ٱلِاجتهاد" و"ٱلتّجديد"- على ٱنقطاعهم الفعليّ عن "أُصول ٱلحداثة" لدى غيرهم يَجعلُهم لا فقط "مُتحادِثين" يَدّعون "ٱلحداثة" بالتّمنّي وٱلتّشهّي، بل يَضعُهم أيضا بين زُمَر "ٱلمُقلِّدين" و"ٱلمُتسلِّفين" من الذين يَتفانون في ترديد شعارات لم يَخترعوها وفي تطبيق مَأثُورات يَكتفون بالنّسج على منوالها من دون ٱلِاقتدار على تجاوُزها ومُضاهاتها بما يُخالِفها. ومن ثَمّ، فإنّ تمييزَ "ٱلتّطرف" و"ٱلتّسلُّف" عمّا سواهما لا يَستقيم إلا بتحديد معايير مُحدّدة تُتيح "ٱلحُكْم" و"ٱلفَصْل"، ممّا يجعل الرُّكون إلى لفظ "أُصوليّة" يقود إلى أمرين مردودين كليهما: كون "ٱلسّلفيّة" مجرّد حِفْظ ل"ٱلأَصْل الكامل والخالِص" ؛ وكون غيرها يقوم كاطِّراح تامٍّ ومُراجَعة لكل "أصل سابق". وما يجعل هذين الأمرين مردودين إنّما هو ٱمتناع الحِفْظ بمعنى «ٱلتّكرار الذي يَسترجع أو يَستنسخ الأصل من دون أدنى تغيير أو تحريف» وٱستحالة إقامة العمل دائما بمعنى «ٱلإحداث الكُلّيّ أو ٱلِانبعاث البَدْئيّ». ذلك بأنّه لا شيء من الفعل البشريّ إلا وهو مشروط ٱجتماعيّا وتاريخيّا بما يُقوِّمه بالضرورة كفعل نِسْبيّ ومحدود في إطار مجموع شُروط هذا العالَم. فلا تَسلُّف بلا تجديد يُقيم الأعمال ٱجتهادًا ومُجاهدةً، ولا حداثة بدون أُصول تُؤسِّس ٱلبناءَ عقلا وتُعِدّ ٱلنّفس فِعْلا. ولذلك فإنّ أخذَ لفظ "أُصوليّة" كما شاع ٱستعمالُه يَستلزم أنْ يُنظَر إلى "ٱلتّطرُّف" بما هو، من جهة، «ٱدِّعاء إمكان حفظ الأُصول في تقويم الفُروع» و، من جهة أخرى، بما هو «ٱدِّعاء إمكان الخُروج على كل الأُصول ٱكتفاءً بالفُروع». وعليه، فإنّ تّطرُّفَ "ٱلمُتحادِثين" في ظهورهم بمظهر من يَتنصّل من كل "أصل" لا يَقلّ تَسلُّفًا عن تطرُّف "ٱلمُتأسلِمين" الذين يَمنعُهم الوجودُ بالنِّسبة إلى شُروط "ٱلواقع ٱلحديث" من الوُصول المُباشِر والخالص إلى "ٱلأُصول". حقًّا، إنّ هناك تَضخُّمًا ممجوجًا في ٱستعمال صفة "إسلاميّ/إسلاميّة" بحثًا عن مشروعيّةٍ وأصالةٍ لا يَخفى زيفُهما إلا من شدّة إغرائهما (بدءًا ب"لِباس إسلاميّ" و"مُفكِّر إسلاميّ"، وٱنتهاءً ب"عِلْم إسلاميّ" و"فن إسلاميّ"!). غير أنّ رفضَ كل تحدُّد بالنِّسبة إلى "ٱلإسلام" بحصره في "ٱلدِّين" (بما هو "خاصّ" و"فرديّ") يُعدّ مَدعاةً إلى المزيد من "ٱلتّطرُّف ٱلإسلاميّ" في المدى الذي لا يَأتي ذلك الرّفض إلا بناءً على تطرُّفٍ مُتعالِمٍ (يَظُنّ أصحابُه أنّ كل "ٱلتُّراث ٱلإسلامي/ٱلعربيّ" صار خِلْوًا من كل قيمةٍ) أو على تخشُّبٍ مُتحادِث (يَحملُ أصحابَه على ٱلِاستسلام لحداثةٍ يُنظَر إليها ك"كُلّيّ" يَنْزل كونيًّا وحتميًّا على كل الأشياء في مُختلِف الأمكنة والأزمنة). ومن البيِّن أنّ رفضَ ٱلِاستناد إلى "ٱلتُراث ٱلحضاريّ ٱلإسلاميّ" باسم "ٱلعَلْمانيّة ٱلمانِعة" إنّما هو صِنْوُ الرّفض الذي يُحرِّم ٱعتمادَ عطاءات "ٱلتُّراث ٱلحضاريّ ٱلغربيّ" باسم "ٱلإسلامانيّة ٱلجامعة". إنّه لمُغْرٍ جدًّا أنْ يُنْشِدَ المرءُ: «أنا حداثيّ، لأنّي أرفضُ أن أُسْتعبدَ باسم أيِّ أصل أو حق سابق لوجودي». لكنْ ما أشدّ خيبة هذا المرء نفسه حينما يُدرك أنّ رفعَ مثل هذا الشعار لا يَكفي لدفع "ٱلِاستعباد" ما دام وجودُه مسبوقا بأُصول تُعطي حقوقًا لآخرين عليه أو من دونه: فمن يقول "أنا حداثيّ" لا يُسلَّم له بأنّه كذلك إلا إذا أثبت أنّه لا يَدين بشيء لسابقيه وأنّه لم يَعُدْ فيه شيءٌ من آثار الماضي، شيءٌ مَطمور في أعماق نفسه ممّا لا يَعيه أو ممّا يَستمرّ في تقلُّده ٱتِّباعًا لمن سبقوه! فعبارة "أنا حداثيّ" لا معنى لها، إذًا، إلا إذا كانت تقريرًا لواقعٍ أَجِدُني فيه خالِقًا لنفسي باستمرار على شاكلة ذلك "ٱلوُجود" الذي يَسبق "ٱلماهية" والذي لا إمكان له إلا بإثبات أن الإنسان إلاهُ نفسِه ٱبتداءً وٱستمرارًا! وإنَّ من تجشّم ما يَكفي من العناء لإظهار التّكالِيف الجمّة التي يَقتضيها ٱلِانفكاكُ التامّ عن التّبعيّة في هذا ٱلِاتِّجاه أو ذاك، سيُدرِك أنّ ٱدِّعاءَ "ٱلحداثة" لا يَرقى إلى أن يكون تحرُّريًّا إلا إذا أصبح صيرورةً تَستغرِق مَسارات الحياة بكاملها، ولا يَتحقّق منه شيء إلا بقدر ما يُجتهَد في قَطْع الحبال التي تَشُدّ المرءَ إلى الماضي و، من ثَمّ، صُنْع وشدّ الحبال التي تُوصلُه بالحاضر وتَنقُله نحو المستقبل. ولا ريب في أنّ هذه الصيرورة تزداد صعوبةً في ظل مجتمع لا يزال مشدودا بأثقال التّبعيّة نحو الماضي والحاضر كليهما وبقيود التّخلُّف عن الرّكب في أكثر من مُستوى. وليس ثمة خلاص فرديّ، إلا أن يكون ٱنتشاءً حالِمًا في غمرةِ تَردٍّ مُطبِق يُحيق بمجتمع بكامله (بل بأُمّة كلها). فهل يتمّ "ٱلتّنوير" بمجرد ٱلِادِّعاء تَعالُمًا وتَحادُثًا كما هو ديدن كثيرين بين ظَهْرانَيْنا؟ وهل يَتأتّى "ٱلتّحرير" بمجرد رفع شعارات رنّانة ولافتات خلّابة؟ أمْ أنّ مُقتضَى "ٱلتّنوير" يقوم في تعاطي "ٱلعِلْم" حُكْمًا مُعلّلا وحِكْمةً بالغةً، وأنّ مُقتضَى "ٱلتّحرير" لا يَتحقّق إلا بترسيخ الشروط الموضوعيّة والمُؤسّسيّة وتوفير الوسائل التقنيّة والإجرائيّة المُقوِّمة للمعقوليّة والمسؤوليّة عملا حسنًا ومُعامَلة بالحُسنى؟ يبدو أنّ من أدلِّ الأشياء على بُؤس "ٱلمُتحادِثين" أنّهم لا يجدون سبيلا لإشهار ما يدَّعُون غير العُكوف على ثَلْب زُمَرِ المُتقاعِسين والمُتكاسلين ممّن يَظنّون أنّ أسلافَهم قد حازوا كل فضل فلم يبق لهم، بما هم أخلاف، سوى ترجيعه قُعودًا وٱجتراره جُمودًا. وإذا كان في ٱنتقاد هؤلاء بشدِّة أحيانا شيءٌ من الفائدة، فإنّ الخيرَ كلّه في النُّهوض بما يَكفُل إتيان العمل إنشاءً وتجديدًا، بعيدًا عن ٱلِاكتفاء بالنُّتَف المُجتزأة والصِّيَغ الجاهزة. وإلا، فما أشدّه من بُؤْس حينما أصبحت عندنا "ٱلحداثة" مَفخرةً وقد أمستْ مَثْلبةً منذ أمدٍ لدى غيرنا. وأيُّ مَثْلبةٍ هي تلك "ٱلحداثة" (« modernité ») التي ٱنفضحت أُصولُها المجهولة وتكاثرت فُصولُها المَدخولة، فلم يَعُدْ مُمكنًا تمييزُها من "ٱلخَباثة" (« merdonité ») كإخلاد من أدعيائها إلى "خَبَث" الأرض وإمعان منهم في "خُبْث" النّفس! أفلا يَجدُر بنا، إذًا، أنّ نستوعب الدّرس جيِّدا كما تُجسِّدُه أوجاعُ "ما بعد ٱلحداثة" في نَقْضها المُفكِّك لأوهام "ٱلحداثة" ونَكْثِها المُفتِّت لأساطيرها؟! أوَليس من "ٱلرُّشْد" أن نُدرِك أنّ حداثتَنا تَصيرُ حتمًا إلى الكِبَر هَرمًا وخَرَفًا بقدر ما نقف دون عجلة الزّمن ٱستسهالا و/أو ٱستعجالا؟! ألا يَكفي وفاءً لرُوح الحداثة أنْ يُؤتى العمل ٱجتهادًا بإحسان وأنْ يُترَكَ الكسلُ ٱتِّقاءً للخِذْلان؟! ألمْ يَحِنْ بعدُ لعُقولٍ أنْ تَنْبِذَ زائف الإشكالات وتقتحم السبيل إلى "ٱلتّجديد" مُغالَبةً في ٱلبناء وليس مُسايَرةً للغُثاء؟! ألا إنّ مُناهَضةَ "ٱلتّطرف ٱلدِّينيّ" بواسطة "ٱلتّخشُّب ٱلفِكْريّ" تَعالُمًا أو تَحادُثًا مُحاوَلةٌ تستديمُ السِّجال الزّائف بين مُناضِلي "ٱلعَلْمانيّة ٱلمانِعة" ودُعاة "ٱلإسلامانيّة ٱلجامِعة"، من حيث إنّها تُناهِض أُصولا مَعلومةً بأُصول مُتنكِّرةٍ وتقف دون الذّهاب بعيدًا في مُساءَلةِ فعلِ المُناهَضة نفسه كفعلٍ مشروط ٱجتماعيًّا ومُعلَّل معرفيًّا. والحال أنّ "ٱلتّجديدَ" ليس تنزيلا لنوعٍ من "ٱلكُلّيِّ" ٱلمَبْنيِّ سَلفًا، وإنّما هو مُغالَبةٌ في "ٱلجُهد ٱلعُمرانيّ" لإقامة "ٱلكُلّيِّ" كاشتراكٍ تَداوُليّ وتفاوُضيّ في "ٱلمَعقوليّة" و"ٱلمسؤوليّة". ولهذا، فإنّ "ٱلتّطرُّف ٱلحَداثيّ" لا يَفضُل "ٱلتّطرُّفَ ٱلدِّينيّ" إلا بقدر ما يُمكن تصوُّر "ٱلتّجديد" كإبدع جذريٍّ يَدَّعي مُساءَلة "ٱلأُصول ٱلدِّينيّة" بأُصولٍ مُتنكِّرة يُراد لها أن تبقى خارج كل مُساءَلةٍ (خصوصا إذا كانت مُساءَلةً دينيّةً صريحةً)! [email protected]