صحافيون جزائريون يستحضرون مساهمة المغرب في استقلال الجارة الشرقية    زخات رعدية محليا قوية مصحوبة بهبات رياح عاصفية مرتقبة بعدد من أقاليم الممكلة    "أطباء القطاع العام" يعلنون خوض إضراب وطني عن العمل احتجاجا على حكومة أخنوش    أشرف حكيمي ضمن المرشحين الخمسة للفوز بلقب أفضل لاعب إفريقي للسنة    المنتخب الوطني يختتم مشواره في إقصائيات كأس إفريقيا بفوز كبير على منتخب ليسوتو    المفوضية الجهوية للأمن بأزرو…استعمال السلاح الوظيفي من قبل شرطي لتوقيف متورطين في اعتراض وتهديد سائق أجرة    أسرة الأمن الوطني تحتفي بأبنائها المتفوقين دراسيا ورياضيا وفنيا    توزيع 10 حافلات للنقل المدرسي على الجماعات الترابية بإقليم الحسيمة    المنتخب المغربي يختتم تصفيات كأس إفريقيا 2025 بالعلامة الكاملة    مشاريع الحسد الجزائرية تواصل فشلها الذريع....    شريط سينمائي يسلط الضوء على علاقات المملكة المغربية والولايات المتحدة منذ مستهل التاريخ الأمريكي    الشرادي يكتب : عندما تنتصر إرادة العرش والشعب دفاعا عن حوزة الوطن وسيادته    حالة ان.تحار جديدة باقليم الحسيمة.. شاب يضع حد لحياته شنقا    العراقي محمد السالم يعود لجمهوره المغربي بحفل كبير في مراكش    إنقاذ سائح وزوجته الألمانية بعد محاصرتهما بالثلوج في أزيلال    مصرع 4 أشخاص في حادث سير مروع    المغنية هند السداسي تثير الجدل بإعلان طلاقها عبر "إنستغرام"    مجموعة العشرين تعقد قمة في البرازيل يطغى عليها التغير المناخي والحروب وانتخاب ترامب    بريطانيا تفرض عقوبات جديدة ضد إيران        دراسة: البحر الأبيض المتوسط خسر 70 % من مياهه قبل 5.5 ملايين سنة    الفرحة تعم أرجاء القصر الملكي غدا الثلاثاء بهذه المناسبة        الحزب الحاكم في السنغال يستعد للفوز    رابطة ترفع شكاية ضد "ولد الشينوية" بتهمة الاتجار بالبشر    هذه هي المنتخبات التي ضمنت رسميا التأهل إلى "كان المغرب" 2025    أجواء غير مستقرة بالمغرب.. أمطار وزخات رعدية وثلوج ابتداءً من اليوم الإثنين    جائزة ابن رشد للوئام تشجع التعايش    فتح باب الترشح لجائزة "كتارا للرواية العربية" في دورتها الحادية عشرة    محامي حسين الشحات: الصلح مع محمد الشيبي سيتم قريبا بعد عودته من المغرب    انطلاق مهرجان آسا الدولي للألعاب الشعبية وسط أجواء احتفالية تحت شعار " الألعاب الشعبية الدولية تواصل عبر الثقافات وتعايش بين الحضارات"    المغرب يستضيف الملتقي العربي الثاني للتنمية السياحية    مركز موكادور للدراسات والأبحاث يستنكر التدمير الكامل لقنطرة واد تدزي    الكرملين يتهم بايدن ب"تأجيج النزاع" في أوكرانيا بعد سماح واشنطن باستخدام كييف أسلحتها لضرب موسكو    تزامن بدلالات وخلفيات ورسائل    فاتي جمالي تغوص أول تجربة في الدراما المصرية    فرنسا تقسو على إيطاليا في قمة دوري الأمم الأوروبية    بني بوعياش وبني عمارت على موعد مع أسواق حديثة بتمويل جهوي كبير    "غوغل" يحتفل بالذكرى ال69 لعيد الاستقلال المغربي    المغرب يفتح آفاقاً جديدة لاستغلال موارده المعدنية في الصحراء    ملعب آيت قمرة.. صرح رياضي بمواصفات عالمية يعزز البنية التحتية بإقليم الحسيمة    تنظيم النسخة 13 من مهرجان العرائش الدولي لتلاقح الثقافات    بعد صراع مع المرض...ملك جمال الأردن أيمن العلي يودّع العالم    مزاد يبيع ساعة من حطام سفينة "تيتانيك" بمليوني دولار    ارتفاع أسعار النفط بعد تصاعد حدة التوتر بين روسيا وأوكرانيا    تراجع النمو السكاني في المغرب بسبب انخفاض معدل الخصوبة.. ما هي الأسباب؟    مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان    وقفة احتجاجية بمكناس للتنديد بالإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة    خبراء يحذرون من "مسدس التدليك"    شبيبة الأندية السينمائية تعقد دورتها التكوينية في طنجة    دراسة علمية: فيتامين "د" يقلل ضغط الدم لدى مرضى السمنة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    حشرات في غيبوبة .. "فطر شرير" يسيطر على الذباب    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في التضليل باسم العقل
نشر في هسبريس يوم 15 - 08 - 2011

«أيُّ ملاذٍ قد يُؤْوِي من أهان جَلال العقل؟» ("إسپينوزا")
«ثمة غُلُوَّانِ: إقصاءُ العقل، وعدمُ الإذعان إلا للعقل.» (پاسكال)
يَميلُ "ٱلْمُبطِلُون" (أيْ المُشتغلون ب"ٱلباطل" قَولًا مُرسَلًا بلا قَيْدٍ و/أو فِكْرًا مُلْقًى بلا سَنَدٍ) إلى ٱلإكثار من ٱدِّعاء ٱلِاعتماد على "ٱلعقل". ذلك بأنَّه لا يَخفى أنَّ "ٱلعقلَ" يُمثِّل لا فقط مَناط التّميُّزِ النّوعيِّ للإنسان، بل يُمثِّل أيضًا مَناطَ نوعٍ من التّميُّز ٱلِاجتماعيّ وٱلثّقافيّ. ولهذا، فإنَّ بعض مُحترِفي "خطاب ٱللَّغْوَى" يَحرِصُون دائمًا على الحديث "في موضوع ٱلعقل" و"باسم ٱلعقل" حتّى يَكفُلوا لخطابهم مَشروعيّةً لا تُضاهى في ظنِّهم، تمامًا كما لو كان ذلك يَكفي لجعل خطابهم "مَعقولًا" ولإعطائهم مكانة "أُولِي الألباب"!
لكنْ، يُلاحَظ أنَّ "ٱلمُبطلِين" يَستعملون لفظ "ٱلعقل" إطلاقًا بدون تقييد وتعميمًا بدون تخصيص، إمّا جهلا منهم بواقعه الحقيقيّ (القائم على التّغيُّر والتّفاوُت) وإمّا تدليسًا على عامّة النّاس ممّن يكتفون، في معظم الأحيان، بالِانبهار والتّلويح بما يُعدُّ ٱمتيازًا في مجال ٱجتماعيٍّ مُعيَّن. إِنّك تجدُهم لا يَتحدّثون إلا عن "ٱلْعقل" (مُعرَّفًا ب"ٱلْ")، ويَنْدُر أنْ تسمعَ من أحدهم عبارةَ "هذا العقل" أو "عقلُنا" أو "ٱلعقل في هذه الحدود" أو "ٱلعقل بالنِّسبة إلى شروط إمكانه وٱستعماله".
ولأنّهم لا يكادون يُدركون مدى تصديقهم ذاك - بل "إيمانهم"- ب"ٱلعقل في ذاته"، فإنّهم لا يَتردَّدُون في إتيان "ٱلإثبات" تَحكُّمًا أو تَعاطِي "ٱلنّفي" إنكارًا مُتجاوزين ب"ٱلعقل" نطاقَه البشريّ وجاعلينَه "معيارَ ٱلفصل" فيما لا يُحيطُ به وُجودُهم أو معرفتُهم، خصوصا أنّ منهم من يَذهب إلى حدِّ القول بأنَّ التّجلِّي الحقيقيّ للعقل لا يكون إلا في صورة "ٱلتّشكيك الجِذريّ" الذي يَؤُول، بالضرورة، إلى "ٱلإلحاد" تَعاقُلًا وتَعالُمًا.
ولعلَّ أوّل ما يَجدُر بالمُتأمِّل إدراكُه أنّ ما يُسمَّى "ٱلعقلَ" - في الواقع البشريّ- لا يَستقلُّ بذاته مُطلقًا، لأنّه ليس ب"ذات قائمة بنفسها"، وإنّما هو نِتاجٌ للصيرورة التي تُقِيمُ الإنسانَ ذاتًا، ونِتاجٌ يبقى جُزئيًّا بين جُملة من الإنتاجات التي لا تُعدّ كلُّها "عقليّةً" بالتّحديد (الِانفعالات/الأهواء، المُيول/الرَّغبات، الِانطباعات، التَّوهُّمات، التَّردُّدات، الأخطاء). فهو، بالأحرى، "فِعْلٌ" مُحدَّدٌ بالنّسبة إلى ما هو طبيعيّ وٱجتماعيّ وتاريخيّ في نفس كل ٱمرئ (أو ذهنه)، إنّه جُزءٌ من مجموع "ٱلْأفعال" التي يَطلُب بها كل إنسان شيئًا من "ٱلإدراك" أو "ٱلتّقييم" أو "ٱلفعل" في إطار تحصيل حاجاته الحيويّة ضمن مجتمعه الخاص. فلا يَقُوم "ٱلعقلُ"، إذًا، إلا في مُحيطٍ من "ٱلأهواء" و"ٱلأوهام" المُتناقضة والمُتهارِشة على النّحو الذي يَجعل "ٱلعقلَ" و"ٱللاعقلَ" مُتلازمَيْنِ في ٱلمَعِيش البشريّ تَلازُمًا يُوجِبُ دوامَ "ٱلِاجتهاد" لتَبيُّن الفُروق الدّقيقة التي تُميِّز بين "ٱلمُدرَك ٱلعقليّ" (في وُضوحه ولُزومه) و"ٱلمُدرَك ٱللاعقليّ" (في ٱلتباسه وتَفلُّته).
وعمومًا، فإنَّ أساسَ مفهوم "ٱلعقل" يُمكن ردُّه إلى معنى "ٱلجَمْع/ٱلرَّبْط" بين الأشياء (أو الظواهر) بشكل يُؤدِّي، من جهة، إلى نوع من "ٱلإدراك/ٱلفَهْم" الذي يُمسِكُ ب"ٱلعلاقات" أو يُحدِّد "ٱلنِّسَب" القائمة بينها و، من جهة أخرى، إلى تَعاطي "ٱلحُكْم/ٱلضَّبْط" بشأنها تمييزًا وترتيبًا وتقديرًا. و"ٱلعقل"، بهذا التّحديد، يَتمثَّل في مُمارَسة "ٱلتّفكير ٱلِاستدلاليّ" تَعليلًا وتشريعًا وترشيدًا، وليس فقط في "ٱلفحص النقديّ" تَبيُّنًا وتمحيصًا.
غير أنّه لا شيء من ذلك يَتِمّ إلا في حُدود ما تَسمحُ به الشروطُ التي تَحكُم وجودَ وفعلَ الإنسان ضمن هذا العالَم على نحو طبيعيّ وتاريخيّ وٱجتماعيّ. ومن هنا، فإنَّ "ٱلعقل" ليس "فاعليّةً" مُتعالِيَةً ومُطلقةً، وإنّما هو "نشاطٌ تَفاعُليٌّ" تَحكُمه مجموعةٌ من الشروط التي تَجعلُه مُحدَّدًا بالنِّسبة إلى مجموع أسباب المُمارَسة النّظريّة والعمليّة المُتعلِّقة بمختلف مجالات الحياة والنّشاط البشريَّيْن.
ولأنّ "ٱلعقلَ" لا يَستقلُّ بذاته كجوهر (واحد وثابت)، فإنّه لا يُمكنُ أنْ يُؤسِّس نفسه بنفسه (إلا دَوْرًا فاسدًا أو تَسلْسُلًا مُحالًا في طلب "ٱلمبادئ" و"ٱلمعايير" الأُولى)، بل يحتاج إلى غيره ممّا يُوجَدُ خارجه لكيْ يَتأسَّس عليه. ومن العجيب أنّ الذين يَأخُذهم الزَّهوُ في مُتابَعة تصور "ديكارت" للعقل يَغفُلون عن كونه لم يَجعل أساس اليقين قائمًا في "ٱلعقل" باعتباره مُستقلا بنفسه، وإنّما صَرَّح بأنّ "ٱللّه" هو وحده "ٱلضامن" لليقين الذي يُميِّز المُدركَات العقليّة في تَطابُقها مع موضوعاتها (ومن هذه المُدركات اليقينيّة إدراك النّفس لذاتها بحسب ما فُطِرَتْ عليه وكما يتجلّى في مثال "الكُوجيتو").
ولذلك، فإنَّ "ٱلعقلَ" - بما هو قُدرةٌ ذهنيّةٌ ونفسيّةٌ مُعطاةٌ مبدئيًّا إلى كل النّاس- لا يَقُوم فعليًّا إلا بالنِّسبة إلى مجموع الشروط الِاجتماعيّة والتّاريخيّة والثقافيّة التي تَحكُم وجودَ وفعلَ الإنسان ضمن هذا العالَم. ولذا، فإنَّ "ٱلعقل" كسلطة حاكِمة وفاعِلة (أيْ ك"عقل عُموميّ") لا يَتأسَّس إلا تَداوليًّا في حُدود ما تَسمح به شُروط ٱلِاستعمال القائمة في مجالٍ مُعيَّن كشُروط تُحقِّق، في آنٍ واحد، الإيمانَ بأهميّة "ٱلعقل" وبقُدرته ككيفيّة نَظريّة و/أو عمليّة.
ومن ثَمّ، فإنَّ "حُدودَ ٱلعقل" لم تَعُدْ مسألةً ظنيّةً يُمكن للمرء أنْ يَتردَّدَ في قَبُولها مُستهينًا بها أو مُستعظِمًا لها. إِذْ أنَّ مُكتسبات البحث العلميّ والفلسفيّ المعاصر صارت تَسمحُ بتَبيُّن أهمّ الكيفيّات التي تُثبت مَحدوديّة "ٱلعقل" ليس فقط بِناءً على ٱزدياد المعرفة بتَناهي الوُجود والفعل البشريَّيْن، بل أيضًا بسبب ثُبوت لاتناهي المعرفة بما ليس بشريًّا على مستوى الوُجود والفعل كليهما. ونجد، بهذا الصدد، أنّ حُدودَ "ٱلعقل" باتَتْ ثابتةً علميًّا (مُبرهَنة "غُودل" وفيزياء "ٱلكوانتا") وفلسفيًّا (ٱمتناع التّأسيس المُتعالِي، التّجذُّر التّاريخيّ وٱلِاجتماعيّ للعقل الوَسِيلِيّ، التّلازُم الضروريّ بين "ٱلمعقول" و"ٱللامعقول").
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنَّ مُلاحَقة الفكر للمُمكنات (كلانهائيّة من الوُجوه ٱلِاحتماليّة) يُقوِّي إحساسنا بأنَّ "ٱلعقلَ" قُدرةٌ تُخرجنا من "ٱلمحدوديّة" وتَجعلُنا ننفتح على "ٱللاتناهي"، بل تَقُودنا إلى تكسير قُيود "ٱلحتميّة" وتُهيِّئ لنا، من ثَمّ، سُبل ٱلِانطلاق نحو أبواب "ٱلحُريّة" المُشْرَعة على المستقبل ٱجتهادًا وٱبتكارًا. لكنْ ينبغي عدم ٱلِاستسلام للخلط الشائع بين إغراءات "ٱلإمكان" وصعوبات "ٱلتّحقُّق"، لأنَّ تَصوُّرَ "ٱلعقل" كلانهائيّة من المُمكنات لا يُعطينا تَمامَ القُدرة الفعليّة على تنزيلها واقعيًّا إلا بقدر ما نتفانى في التّعامُل مع الشُّروط القائمة توسيعًا لحُدودها وتكثيرًا لمَنافِذها، مِمّا يَقتضي أنَّ لانهائيّةَ المُمكنات ليست من بناء "ٱلعقل" عينه، وإنّما هي عَطاءٌ مُتعالٍ يُؤكِّد أنَّ كل شيءٍ فيه إنّما هو تَجَلٍّ يَتجاوز حدود ما هو بشريّ.
وإذا كان الإقرارُ بمحدوديّةِ "ٱلعقل" ونسبيّته يُعدُّ أدَلَّ على الوفاء له بما هو كَسْبٌ بشريّ (يقول "پاسكال": «لا شيءَ أشدُّ مُوافَقةً للعقل من هذا الجُحود للعقل.»)، فإنّه ليس تَهوينًا من شأنه أو تَخليًّا عنه لصالح ضدٍّ من أضداده ("ٱلهوى ٱلغريزيّ" أو "الإيمان الأعمى") كما يَزعُم المُبْطِلُون، وإنّما هو إقرارٌ بواقع "ٱلوَضْع البشريّ" تَواضُعًا لا ٱتِّضاعًا، وهو التّواضُع الذي من شأنه أنْ يَجعلَ معرفةَ الحُدود شرطًا في تفعيلها عقليًّا ك"إمكانات" و"أسباب". ولأنَّ "أهل الغِرّة" يَنْسون أنَّ ٱلتّواضُعَ أصلٌ في الرِّفعة والشّرف عند الحُكماء، فإنّهم يَأْبَون بجُحودهم إلا أنْ يَزيدوا تأكيدًا لتَوجُّههم التّضليليّ في تَناوُل "ٱلعقل"، فتَراهُم يُصرُّون على ربط "ٱلتّنوير" برفض "ٱلإيمان" وجعل "ٱلتّحرير" ٱنفكاكًا عن "ٱلدِّين" كأنَّ أخذَهم ب"ٱلعقل" يَقُوم بدون إيمانٍ، ولا يترتب عليه إلزامٌ أو ٱلتزامٌ، بل كأنَّ في "ٱلإلحاد" مُنتهَى ٱلِاكتفاء وٱلِاكتمال.
إنّ الدرس الكنطيّ، الذي ظلَّ كثيرون عاجزين عن ٱستيعابه، لا يَكمُن في مجرد ٱلِاعتراف بامتناع "ٱلبرهنة العقليّة" على ٱللّه، وإنّما أيضا في ٱمتناع البرهنة على العكس (لأنَّ "ٱلعقلَ" نفسَه الذي يَعْجِزُ عن القيام بالأمر الأول لن يَستطيعَ القيام بالأمر الآخَر!)، بل يتمثل - أبعد من ذلك- في كون هذا ٱلِامتناع يَفسَحُ آفاق "ٱلإيمان" بالفعل نفسه الذي يُعيِّن به حدود "ٱلعقل" فيَحصُرُه في تَعرُّف "ٱلظّواهر" دون "ٱلبَواطِن". ولهذا، فإنّ حُجّة "راسل" - القاضية بأنّ ٱللّه، سبحانه وتعالى، كان أوّل من خرق "ٱلعقل" حينما ٱمتنع عن إعطاء بُرهانٍ على نفسه- ليست في العمق سوى شَيْطنة خادعة، من حيث إنّه لو أُعطي البُرهان القاطع على وجود ٱللّه لكان خرقٌ في "الحكمة الإلاهيّة" ولَٱنْتفت بالمرّة حُريّة الإنسان لكونه لن يستطيع بعد ذلك أنْ يَلتمس عُذرًا يُبرِّر له عمله من دون ٱعتبار الأمر الإلاهيّ النّازل عليه بسُلطان "ٱلعقل" نفسه، بل إنَّ حياة الإنسان بكاملها لا معنى لها إلا على أساس كونها سعيًا مُجِدًّا في طلب "ٱلدّليل" ٱجتهادًا نظريًّا وعمليًّا على نحو لا يَنفكُّ عن مُكابَدة مكر "دليل ٱلأدلّة" الذي له ٱلحقّ وحده في أنْ يَقضيَ "دَالًّا/هادِيًا" فلا يَصِحّ، بالتّالي، أنْ يُقضى بشأنه "مَدلولًا" موضوعًا بين أيدي (أو مَدارِك) بعض خَلْقه. وبهذا، نَتفهّمُ مغزى قول "كنط" «كان عليَّ أنْ أَحُدَّ من العِلْم لأستبدل به الإيمانَ.»!
ومن أجل ذلك، صار من الأجدر أنْ يُعترَض على ٱلتّوجُّه الإلحاديّ المُتعاقِل من عدّة نَواحٍ: ناحية وُجوديّة، وناحية معرفيّة، وناحية ٱجتماعيّة-تاريخيّة، وناحية أخلاقيّة. فمن النّاحية الوُجوديّة، يَمتنعُ على الإنسان - بفعل تَناهيه في الزمان والمكان- أن يَبُتَّ في وجود أو عدم وجود "ٱللّه" (غير المُتناهِي أصلا)، إذْ لا أحدَ من البشر يَستطيع أنْ يُوجدَ خارج هذا "ٱلكون ٱلمفتوح" على النّحو الذي يُخوِّلُه أنْ يَتفحَّصه من كل الزوايا والنُّقط ليرى ما يُوجد فيه وما لا يوجد من كائنات. ومن النّاحية المعرفيّة، يَمتنعُ على الإنسان أنْ يَبُتَّ علميًّا في وُجود "ٱلله" أو عدم وجوده، لأنّ معرفته - حتّى بخصوص هذا "ٱلعالَم ٱلمشهود"- تبقى دائمًا مشروطةً، ولا سبيل أمامه ليَجعلَها معرفةً مُطلقةً كعلمٍ كليٍّ ونهائيٍّ («[...]، وما أُوتيتم من العِلْم إلا قليلا.» [الإسراء: 85] ؛ «[...]، ولا يُحيطون بشيء من علمه، إلا بما شاء [...]» [البقرة: 255]). أمّا من النّاحية الِاجتماعيّة-التّاريخيّة، فإنّ ٱستحالةَ وجود الإنسان خارج الشروط الِاجتماعيّة والتّاريخيّة يَقتضي ألا تكون ٱعتقاداتُه قابلةً للتّعليل إلا بالنِّسبة إلى تلك الشروط، مما يَترتَّب عليه أنّ القول بعدم وجود "ٱللّه" ليس حُكمًا قَبْليًّا خالِصًا يُصدرُه عقلٌ لا تَعلُّق له بالتّجربة في تحدُّدها ٱلِاجتماعيّ-ٱلتّاريخيّ، وإنّما هو حُكْم ٱعتقاديٌّ صريحٌ مُعلَّل بَعْديًّا بالنِّسبة إلى مجموع الظروف التي تُحيط بالمرء كعُضوٍ في مجتمع وثقافة مُعيَّنين. وأمّا من النّاحية الأخلاقيّة، فلو ٱمتنع وجودُ "ٱللّه" ("الدّيَّان") ووُجود حياة بعد الموت ("يوم ٱلدين" و"ٱلآخرة")، لصار طلب "ٱلحقيقة" وٱلتزام "ٱلفضيلة" عَبَثِيًّا ونَفْعيًّا تماما لِاستحالة تطبيع "ٱلأخلاق" (أيْ جعل ٱلِالتزام الأخلاقيّ طبيعيًّا وليس ثقافيًّا)، ولجاز - بالتّالي- التّخلُّص من "أخلاق ٱلعِلْم" (آداب البحث والحوار) و"أخلاق ٱلعمل" (آداب السُّلُوك والمُعامَلة) بقدر ما يُمكن تحقيق المصلحة من دون وقوع تحت طائلة الجَزاء السَّلْبيّ: إِذْ ما الذي يُمكن أنْ يُلزِمَ "ٱلْمُلحد" خارج مبدأ "ضرورة الصراع لبقاء الأقوى"؟ إنّه لا شيء، ٱللّهُمّ إلا ما يُفرَض عليه ٱجتماعيًّا وثقافيًّا بحكم ٱضطراره للتّعايُش مع أمثاله، بحيث يَتعيَّنُ "ٱلعقلُ" فقط ك"عَقْل وَسيلِيٍّ" مُحدَّدٍ في علاقته ب"غاياتٍ عمليّة" مُتغيِّرة دَوْمًا. لكنّ المُفارَقة، كما أكّد "پاسكال"، هي أنّه «تبعًا للعقل وحده، لا شيء عادِلٌ بذاته، بل كل شيء يَهتزُّ بمرور الزمن.»!
ولأنَّ الأمرَ يَؤُول، هكذا، إلى أنَّ "ٱلتّعقُّل/ٱلتّعقيل" لا يُمكنُ إلَّا أنْ يَخضعَ لنوعٍ مُعيَّنٍ من أنواع "ٱلتّوجيه ٱلعمليّ" الذي يَشتغل كآلية ل"ٱلتّأسيس" التّداوليّ و"ٱلتّشريع" الأخلاقيّ، فإنّ التّوجُّهَ "ٱلإلحاديَّ" لا يَتفرَّدُ لا بأسانيد "ٱلصَّواب" ولا بأسباب "ٱلصّلاح"، بل إنّه بالأحرى مُطالَبٌ بمُغالَبة ٱلتّوجُّه "ٱلإيمانيّ"، في هذا المستوى، مُغالَبةً مَدنيّةً في بَذْل "ٱلجُهد ٱلعُمرانيّ" الكفيل بتحقيق "ٱلحياة ٱلطَّيِّبة" عاجلا و/أو آجلا.
وهكذا، فإنَّ "ٱلإلحاد" - بما هو تَعاقُلٌ يَتعدّى الحُدود البشريّة- لا يَعودُ موقفًا يقع خارج كل ٱعتقاد، بل إنّه بالأحرى موقفٌ ٱعتقاديٌّ مُتنكِّر أو مُتفلِّت، من حيث إنّ أصحابه لا يَملِكُون أنْ يَتوقَّفوا نهائيًّا عن الحُكْم تواضُعًا وٱتِّضاعًا، ولا أنْ يُعلِّلوا تَعاطيَهم للحُكْم خارج المُغالَبة في ٱلِاجتهاد العقليّ ك"ٱستدلال" قد يَتكافأ مع ٱستدلالات غيرهم (لِتَكافُؤ العُقلاء) أو يَنْزِلُ دونها بدرجة أو أكثر (لعدم تَكافُؤ ٱستعمالات "ٱلعقل" باستمرار حسب تَغيُّر شروط البحث والتّباحُث).
إنَّ تَوْضِيعَ سيرورة "ٱلتّعقُّل/ٱلتّعقيل" لا يُؤدِّي بالضرورة إلى تبنِّي نزعةٍ نسبيّة مُتطرِّفة (يَحسُن أنْ تُسمّى "نِسبيّانيّة" لوُقوفها في حدود "ما هو نسبيّ") قد تقول باستحالة "ٱلحقيقة" أو بامتناع "ٱلفضيلة"، وإنّما ينبغي أنْ يُنظَر إليه كعمل على فتح سُبُل "ٱلمعقوليّة" في حُدود وضع الإنسان في هذا العالَم باعتبار هذه الحدود هي عينها شرط إمكان الفاعليّة البشريّة تكليفًا وترشيدًا. ولهذا، فإنّه تَبيُّنٌ في شروط إمكان "ٱلمعرفة الموضوعيّة" فيما وراء "ٱلموضوعانيّة" المُتعالِمة و"الذاتيّانيّة" الحالِمة على النّحو الذي يُمكِّن للفعل البشريّ كفعل مسؤول أخلاقيًّا وسياسيًّا، ومُتحرِّر فكريًّا ومعرفيًّا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.