مقدمة : العقل في مواجهة الوحي قضية شغلت منذ القديم، وما زالت تشغل علماء الأمة ومفكريها. واتخذت القضية أشكالاً مختلفة وانتحلت أسماء متغايرة، فهي قضية السَمْع والعقل، أو النقل والعقل، أو الخبر والعقل. وهي قضية الرأي مقابل البيان، والنظر مقابل العرفان. وانقسم العلماء في تعريفهم للعلاقة بين الوحي والعقل في دائرة الفقه إلى مذاهب كالأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية، وفي دائرة التوجه العقدي إلى فرق كالخوارج والشيعة والسنة، وفي دائرة التصور إلى مدارس كالحشوية والمعتزلة والأشاعرة والفلاسفة. ومع اجتياح المد الثقافي والحضاري الغربي معاقل الفكر الإسلامي التاريخية ازدادت علاقة الوحي بالعقل تعقيداً، وانضافت إلى المشكلات التي أدت إلى الخلافات المذكورة آنفاً -وهي في حقيقتها مشكلات ارتباط- مشكلة أكثر خطراً وأعظم أثراً، مشكلة انفكاك الوحي والعقل في الخبرة التاريخية الغربية. إن المتأمل في الخريطة الفكرية للعالم الإسلامي اليوم يلحظ أن الانقسامات الفكرية الكبرى يمكن ردها إلى قضية العلاقة بين الوحي والعقل. بل يمكننا القول إنَّ الانقسامات الفكرية تعكس الإشكاليتين الرئيسيتين التي تواجهان العقل في علاقته بالوحي: إشكالية التعارض وإشكالية الكفاية. فانقسام مثقفي الأمة ومفكريها بين الاتجاهين الإسلامي والعلماني يعود من حيث دواعيه النظرية إلى إشكالية الكفاية المتمثلة في تشديد الفئة السابقة على مصدرية الوحي المعرفية ومرجعيته القيمية وإصرار الفئة اللاحقة على كفاية العقل في توليد التصورات وإنشاء القِيَم وهداية الفرد والمجتمع. كما يمكن إعادة انقسام الإسلاميين بين الاتجاهين الإحيائي والإصلاحي إلى إشكالية التعارض المتمثلة في رفض الإحيائيين كل اجتهاد يخالف في منهجه أو مضمونه التفسيرات التراثية لنصوص الوحي، وتأكيد الإصلاحيين ضرورة إعمال النظر من جديد في نصوص الوحي وقراءتها قراءة جديدة في ضوء المعطيات المعرفية والاجتماعية المتجددة. ان مشكلة العلاقة بين العقل و الشرع هي مشكلة أرقت الكثير من المفكرين قديما و حديثا ، وقد كان سب ظهور هذه المشكلة قديما عوامل كثيرة تتصل بوضع الأمة الإسلامية بين الأمم ووضعها السياسي و الحضاري على خارطة الكرة الأرضية و مدى صلة مثقفيها بأصول حضارتهم أو انقطاعهم عنها. قرأ ابن تيمية رحمه الله هذا كله ووقف إزاءه متسائلا عن الأسباب الكامنة وراء هذا الزعم القائل بإمكان تعارض العقل و الشرع و حددها في أمور : -- ايمان بعض المفكرين أن ما عند أر سطو من تصورات عقلية عن الله صحيح لا خطأ فيه . -- جهل الامة بالميراث النبوي المتمثل بالكتاب و السنة الصحيحة . -- عدم التفرقة بين العقل القطعي الصريح الدلالة و بين ما يسميه الناس معقولات أو دلالة عقلية . وقد أخذ شيخ الاسلام في مواقفه مع معارضيه بمنهج تحليلي رائع تمثل فيما يلي : -- كان يبدأ أولا بتحديد المصطلح ليعرف ما فيه من معاني ليمكن بعدها أن يقبلها أو يرفضها . -- ثم يضع أمامه الأدلة التي ظنها الفلاسفة عقليات للمناقشة و التمحيص . -- ثم يوضح لمعارضيه بالأمثلة العقلية أن العقل الصريح لا يتعارض أبدا مع المنقول الصحيح . -- و في النهاية يقول لأصحاب هذه الدعاوى : إنه يمكن للخصوم أن يعارضوا قولكم بمثل حجتكم و لا تملكون دليلا صحيحا تردون به صولتهم عليكم . سيتم التركيز في هذا العرض على قضايا أساسية كانت محور الخلاف بين شيخ الاسلام ابن تيمية وبين خصومه وهي : • منهجه في إثبات وجود الله . • مذهبه في التوحيد . • موقفه من التشبيه و التنزيه . اولا : نبذة عن حياة ابن تيمية : نشأته : هو الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن الإمام مجد الدين أب البركات عبد السلام بن أبي محمد بن عبد الله بن أبي القاسم بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني . ولد بحران في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول سنة 661 ه - الموافق 22 يناير 1263 م . هاجر به والده إلي دمشق عندما أغار التتار علي البلاد الإسلام سنة 667 ه وفي دمشق استقر به المقام. حفظ القران وهو في سن الصبا ثم اتجه إلي تحصيل علوم الحديث والفقه والأصول وعلم الكلام ولقد انبهر بذكائه وفطنته أهل دمشق منهجه الإصلاحي : ** جهاده : يحدثنا التاريخ عن كثير من مواقف ابن تيمية ضد غارات التتار و تحريض المسلمين على القتال , فلقد تقدم الصفوف في واقعة شقحب سنة 702 ه التي كانت بين التتار و المسلمين و أفتى الجنود بضرورة الفطر في رمضان حتى يقووا على ملاقاة الأعداء و افطر هو أمامهم و كان يبيت لياليه على الأسوار حارسا أمينا على أمن البلاد . **محاربة البدع : لقد اشتدت عداوة ابن تيمية للمتصوفة و الباطنية و حرص على تخليص مجتمعه من خرافاتهم التي ملكوا بها عقول السذج معلنا لهم انه لا يوجد طريق إلى الله غير طريق محمد صلى الله عليه و سلم و ليس هناك هدى سوى هدى القران . **محنته ووفاته : جرت الطبيعة البشرية على أن كل من علا نجمه و استشهد بفضله كثر حساده و لقد كان خصوم ابن تيمية في كثير من الأحيان هم قضاته من الفقهاء الذين كبر عليهم مخالفته لهم في فتاواهم و أرائهم فألقي به في السجن عدة مرات بسبب فتاواه و اجتهادا ته ولقد كانت حياة ابن تيمية داخل السجون أحب إليه من حياة يجبر فيها عل النفاق أو السكوت على الباطل و استمرت حياته عل هذا النحو فما يخرج من السجن إلا ليودع في غيره و ما كانت تنتهي محاكمة إلا لتبدأ أخرى وقد ظل ابن تيمية في سجنه الأخير سنتين و أشهر و قد أفتى بحبسه هذه المرة طائفة من أهل الأهواء على رأسهم القاضي المالكي الأخنائي . وعندما منع ابن تيمية من الكتابة و التأليف و هو في سجنه و التي كانت أنيسه وزاده الروحي اشتدت به علته و ازداد به الضيق حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة 728 ه و مات الرجل كما يقضي عظماء الرجال من أصحاب العقائد الثابتة و الإيمان الراسخ الذي يجعل صاحبه غصة في حلوق أعدائه فلا يتنفسون إلا في غيبته و لا ينعمون بالحياة إلا بعد رحيله و قد شهد جنازة ابن تيمية من الخلائق مالا يحصره عد . ثانيا : منهج ابن تيمية في إثبات وجود الله : سلك ابن تيمية في الاستدلال على وجود الله اتجاهين كلاهما يمكن الاستدلال به على وجود الصانع سبحانه و تعالى : 1. الموقف الذاتي : الاتجاه الأول : وهو لجوء المرء إلى الفطرة السليمة التي هي مضطرة بطبعها إلى الإقرار بوجود الرب الخالق , و ذلك لما تحتاجه النفوس من لجوئها إلى قوم عُليا تستنقذ بها عند حلول المصائب . الاتجاه الثاني : وقد يطرأ على بعض الناس من يفسد فطرتهم فيحتاجون في ذلك إلى ما ينير لهم السبيل و يوضح لهم الطريق كالتعليم مثلا , و لذلك بعث الله الرسل و أنزل الكتب . الاتجاه الثالث : أن في النفوس قوة لطلب الحق و ترجيحه على غيره و من هنا نفهم من أسلوب القرآن في الاستدلال على وجود الله جاء في صورة التذكير و التنبيه . الاتجاه الرابع : نجد أنه في كل نفس ما يدفعها إلى قبول الحق و رفض الباطل مما يعرض لها من خارج ذاتها و في هذا دليل على أن فطرة الإنسان مركوزة على الاعتراف بالحق . الاتجاه الخامس : إن كل نفس إذا لم يعرض لها مصلح و لا مفسد من خارج ذاتها فإننا نجدها تطلب ما ينفعها و تحاول أن تدفع عنها ما يضرها . الاتجاه السادس : إنه لا يمكن للنفس أن تكون خالية من الشعور بخالقها و عن الإحساس بوجوده وذلك لان نفس لابد أن تكون مريدة و شاعرة . 2. الموقف الخارجي : يقسم ابن تيمية هذه الأدلة إلى نوعين : أقيسة و آيات أ. الأقيسة : وهي لا تدل إلا على معنى غير متعين . فإذا قيل هذه مُحْدث فلا بد له من مُحْدِث . أو كل ممكن لابد له من واجب فإن النتيجة التي تؤدي إليها مقدمات هذا القياس هي إثبات واجب قديم . لكنها لا تدل على عينه . ب. الآيات: وفي معرض الاستدلال بالآيات على وجود الله نجد القرآن يضع أمام الإنسان أكثر هذه الآيات دلالة و أظهرها وضوحا في الاستدلال وهي أية الخلق من العدم قال تعالى : \" اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق \" . إن أدلة ابن تيمية على وجود الله تمتاز بوضوحها و بداهتها مع نفسها و هي أكثر ملاءمة للنفوس و العقول ولجميع الناس عامتهم و خاصتهم . ثالثا :ابن تيمية بين التشبيه و التنزيه: لقد وضع القرآن أمامنا آيات عديدة يدور الحديث فيها حول تنزيه الله تعالى عن مشابهة الحوادث مثل قوله تعالى : \" ليس كمثله شي \" و قوله تعالى : \" ولم يكن له كفوا أحد \" و مع ذلك فقد ذكر القرآن جميع الصفات الإلهية التي وصف الله بها نفسه من العلم و القدرة و العلو و الاستواء . و طلب من المؤمنين أن يؤمنوا بجميع صفاته و آيات كتابه العزيز و منها آيات التنزيه وعلى ذلك فليس من التشبيه في شي أن يؤمن العبد بأن الله عليم و قدير و أنه استوى على عرشه ما دام يعتقد أنه سبحانه ليس كمثله شي في صفاته , و كما أنه لا يشبه شي في ذاته .و ما على العبد إلا أن يثبت وجود الصفة لله كما أثبتها له القرآن و لا يبحث في كيفها و كما ه منهج القرآن في ذلك إثبات بلا تشبيه , و تنزيه بلا تعطيل . وكان ابن تيمية على هذا المنهج القويم و كان كل ما صرح به أما نطق به القرآن و إما جاءت به السنة الصحيحة فهو يثبت لله صفات العلو و الاستواء و المجيء و الإتيان و النزول و هذا المنهج قد اخذ به أيضا أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر و في كتابه \" الإبانة \" و \" اللمع \" . و مع أن ابن تيمية يصرح بنفي التمثيل و التشبيه و التكييف لهذه الصفات إلا أن خصومه نسبوا إليه أقولا كان بعيد عنها وجميع الاتهامات التي وجهت إلى الإمام ابن تيمية سواء في حياته أو بعد مماته لا تكاد تخرج عن نمطين من الحديث : • النمط الأول : نمط من الحديث مكذوب و محض افتراء عليه بقصد التشنيع و التشويه . • النمط الثاني :اتهامه بالتشبيه و التجسيم نتيجة الخطأ في فهم مذهبه . رابعا: إشكالية التعارض عند ابن تيمية: تتحدد الصورة العامة لإشكالية التعارض في عبارة أوردها ابن تيمية في مطلع كتابه \"درء تعارض العقل والنقل\"، ونسبها إلى فخر الدين الرازي: \"إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر التقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يُجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً، وإما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل. ثم النقل إما أن يُتأول وإما أن يفوض وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما.\" فالإشكالية كما يتضح من العبارة السابقة، تتعلق بتحديد الكيفية الواجب اتباعها لتجاوز التعارض أو التناقض بين الأحكام النقلية والأحكام العقلية حال قيامه. ولأن القاعدة التي اعتمدها الرازي للتعامل مع مشكلة تعارض العقل والنقل تقتضي تقديم العقل على النقل على أساس أن العقلَ أصلُ النقلِ، فإن ابن تيمية يعمد في كتابه \"درء تعارض العقل والنقل\" هذا إلى تفنيد قاعدة تقديم العقلي على النقلي وإظهار فسادها، لينتهي أخيراً إلى استحالة قيام تعارض حقيقي بين القطعيات النقلية والعقلية، وبالتالي إلى ضرورة \"دفع المعارض العقلي\" حال قيامه والحكم عليه بالفساد. وبذلك يحدد ابن تيمية موقفه من إشكالية التعارض باتخاذ موقف مناقض لموقف الرازي، والدعوة إلى تقديم النقل على العقل حال تعارضهما، فيقول: \"إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع، لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبره به.\" بيد أن ابن تيمية يلحظ أن القول بقيام تعارض بين نقل يُردُّ إلى الوحي المنزل من لدن حكيم خبير، وعقل جعله الوحي نفسه مدار التكليف أمر مشكل في ذاته، لذلك يكرر في سياق نقده للرأي القائل بتقديم العقل على النقل القول بأن التعارض لا يمكن أن يقوم بين القطعي من أحكام العقل والنقل. وإذا كان ذلك كذلك فإن التقديم يجب أن يرتبط بقطعية الحكم مهما كان مصدره. لذا يدعو ابن تيمية إلى تقديم قطعيين فيمتنع التعارض، وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدّم.\" هل يعني هذا أن الإشكالية قد حلت وأن بالإمكان تقديم العقلي القطعي على النقلي الظني؟ هنا نجد ابن تيمية يتردد في موقفه ويتحفظ على تأخير النقلي الظني، فيقول: \"فإن قيل نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة السمع المخالفة له باطلة، إما لكذب الناقل عن الرسول، أو خطئه في النقل، وإما لعدم دلالة قوله على ما يخالف العقل محل النزاع، قيل هذا معارض بأن يقال نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة العقل المخالفة له باطلة لبطلان بعض مقدماته، فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلى مقدمات الأدلة السمعية.\" وهكذا يأخذ الخلاف بين العقلي والنقلي بُعداً جديداً. فالقضية ليست قضية تقديم لقطعي وتأخير لظني، بل قضية إثبات منهج في النظر والاستدلال في مقابل منهج آخر وترجيح \"معقول\" نقلي في مواجهة \"منقول\" عقلي. لذا نرى ابن تيمية يؤكد مرجعية العقل في إثبات صدق الوحي والنبوة، ولكنه ينزع منه الحق في مخالفة المنقول الذي يستمد مصداقيته من الوحي والنبوة، فالعقل كما يرى ابن تيمية \"متولٍّ وليّ الرسول ثم عزل نفسه، لأن العقل دل على أن الرسول يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.\" إن تراجع ابن تيمية عن القاعدة التي اختارها آنفاً والتي تقضي بتقديم القطعي، سواء أكان عقلياً أم نقلياً، يعود في تقديرنا إلى إدراكه أن التعارض بين العقلي والنقلي ليس تعارض بين منظومتين من الأحكام التي تم الوصول إليهما وفق منهجين مختلفين، أو لنقل توخياً للدقة هو تعارض بين عقلين، كما صرح بذلك ابن تيمية عندما وصف التعارض بين العقلي والنقلي أنه \"تعارض العقل الدال على صدق الرسول والعقل المناقض لخبر الرسول.\" فإصرار ابن تيمية على إخضاع العقلي إلى حكم النقلي يرجع إلى رغبة قوية في التصدي للعقلانية الكلامية التي يمثلها الرازي والغزالي والجويني وغيرهم من أعلام المتكلمين. فالقانون الكلي الذي يدعو إلى تقديم العقل على النقل عند قيام التعارض بينهما لم يضعه الرازي، كما يخبرنا ابن تيمية، بل سبقه أبو حامد الغزالي إليه. وبدهي أن \"العقل المناقض لخبر الرسول\" الذي يشير إليه ابن تيمية ليس عقلاً رافضاً لأولوية أحكام الكتاب، لأن الخصم الذي يواجهه ويتصدى لمقولاته هو المدرسة الكلامية المقرة بصدق الرسالة والمنافحة عنها ضد المتشككين في مرجعيتها، بل العقل المصر على استبعاد الخبر الظني من دائرة المرجعية التصورية. لذلك نرى ابن تيمية يشدد على رفض تحكيم العقلي في المنقول الظني، فيقول في معرض الرد على من يدعو إلى استبعاد الخبر لضعف إسناده أو اضطراب متنه: \"فإن قالوا إنما أردنا معارضة ما يظن أنه دليل وليس بدليل أصلاً، أو يكون دليلاً ظنياً لتطرق الظن إلى بعض مقدماته، إما في الإسناد وإما في المتن، كإمكان كذب المخبر أو غلطه، وكإمكان احتمال اللفظ لمعنيين فصاعداً، قيل إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر، بل اعتقاد دلالته جهل، أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل، أمكن أن يفسر الدليل العقلي المعارض للشرع بما ليس بدليل في نفس الأمر، بل اعتقاد دلالته جهل، أو يظن أنه دليل وليس بدليل.\" يتضح لنا من النقاش السابق أن إشكالية التعارض لا تتعلق بالتشكيك في أهمية الوحي والعقل لتوجيه الحياة البشرية، فكلا الفريقين متفقان على ضرورة اتباع الأحكام القطعية، سواء انتسبت إلى الوحي أو العقل، واستحالة قيام تعارض بين القطعيات العقلية والنقلية. بل تتعلق الإشكالية بتعارض عقليتين أو منهجين في التفكير والاستدلال. فالرازي لا يشكك في كون الوحي مصدراً معرفياً، بل ينطلق من النص القرآني في تحديد التصور الكلي للوجود، كما فعل في كتابه أساس التقديس. لكنه يدعو إلى تأويل نصوص الكتاب إذا استحال حمل معناها على ظاهرها، وإلى رد أخبار الآحاد عند تعارضها مع أحكام العقل القطعية. وبالمثل فإن ابن تيمية لا يتشكك في أهمية مبادئ العقل في بيان صدق المنقول، لكنه لا يرى أن كل ما نسب إلى العقل قطعي لا يحتمل التردد فيه. إن المواجهة بين ابن تيمية والرازي، التي تعرضنا إلى طرف منها في الفقرات السابقة، ليست مواجهة بين شخصين، بل بين تيارين فكريين كبيرين. ذلك أن الموقفين الرئيسيين من مسألة تعارض العقل والنقل المتمثلين في آراء الرازي وابن تيمية يعبران عن حالة الاستقطاب التي صبغت حركة تطور الفكر الإسلامي خلال القرون الماضية وأدت إلى انقسام العلوم إلى نوعين متمايزين ومتصارعين: العلوم العقلية والعلوم الدينية. لذلك فإننا نلحظ الصراع المحتدم بين العلوم العقلية والدينية في كتابات أبي حامد الغزالي، أحد أبرز رجالات المدرسة الأشعرية التي حملت شعلة العقل الكلامي بعد المعتزلة. إذ يعمد الغزالي في مقدمة كتابه الأصولي الهام المستصفى من علم الأصول إلى تقسيم العلوم إلى عقلية ودينية، فيقول في معرض الحديث عن مرتبة علم الأصول بين سائر العلوم: \"اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية كالطب والحساب والهندسة وإلى دينية كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن.\" وعلى الرغم من تأكيد الغزالي المستمر أهميةَ العقل، واعتباره \"الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع المزكى المعدل،\" فإن تقسيم العلوم إلى عقلي وديني دفع الغزالي إلى تهميش العلوم العقلية. فالعلوم العقلية، كما يرى الغزالي، تنقسم إلى \"عقلي محض لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه، كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم فهي بين ظنون كاذبة لائقة، وإن بعض الظن إثم، وبين علوم صادقة لا منفعة لها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليست المنفعة في الشهوات الحاضرة والنعم الفاخرة، فإنها فانية دائرة، بل النفع ثواب دار الآخرة.\" إن إشكالية تعارض العقل والنقل لم تنبع أصلاً من داخل العقل الإسلامي الذي تشكل بتأثير الخطاب القرآني، ولكنها طرأت نتيجة لتأثر الفكر الإسلامي بالعقل الإغريقي الثاوي في الفلسفات الإغريقية. ذلك أن المدقق في الخطاب القرآني يلحظ استنكار القرآن الشديد للعقلية الآبائية الرافضة للوحي المنزل استناداً إلى مرجعية تاريخية وأحكام موروثة عن الأجيال: \"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ\"(لقمان:21). \"وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ\" (الزخرف:23-24) \"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ\". (البقرة:170) وانبنى التنديد القرآني بالموقف الآبائي على أن هذا الموقف يعكس رؤية منغلقة على ذاتها رافضة للنظر في أطروحات الخطاب المنزل وتعقل مضمونه، والحكم عليه من خلال تقويم محتواه قياساً بمحتوى التصور الموروث عن الآباء. كما دعا القرآن مشركي قريش إلى تأسيس تصوراتهم ومعتقداتهم على قاعدة معرفية ثابتة، وعلى يقين علمي نابع من نظرة ناقدة متفحصة: \"وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً\"(الإسراء:36). فقدرة الإنسان على السمع وفهم الخطاب والنظر في الآيات المبثوثة في الآفاق الممتدة من حوله، ومن ثمّ الوصول إلى قناعات علمية راسخة بما يملكه من عقل أو فؤاد هي التي تمكنه من الوصول إلى الحقائق. فالعقل قادر على اكتشاف عظمة الخالق من خلال النظر إلى المخلوق والتفكّر في آياته: \"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ\" (البقرة:164). فالقرآن يدعو الإنسان إلى الاستدلال على وحدة الله وجلاله وقدرته بالنظر إلى ملكوته والتأمل في آياته. كذلك يدعو القرآن الإنسان إلى التصديق بمرجعيته الإلهية وإلى التيقن بمصدريته العلوية من خلال تدبر آياته والتأمل في تماسك عباراته واتساق معانيه: \"أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً\" (النساء:82). وطالب القرآن الخصوم أن يقدموا برهانهم على صدق معتقداتهم وأن يبينوا مصدر علمهم: \" أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ\" (النمل:64). \"وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ\"(البقرة:111). وانطلاقاً من النظرة القرآنية التي تربط العقل بقدرة الإنسان على تمييز الحق من الباطل والخير من الشر، رأى علماء المسلمين الأوائل أن للعقل قدرة فطرية أو غريزة تمكن الإنسان من النظر واكتساب المعارف والعلوم. ولذلك نرى هذا المعنى واضحاً عند الحارث المحاسبي (165-243ﻫ، الذي يميز بين دلالات أو مستويات ثلاثة للعقل. فالعقل أولاً غريزة يولد العبد بها ثم يزيد فيها معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول\" فهو بادئ ذي بدء معرفة ضرورية \"كمعرفة الرجل نفسه وأبيه وأمه والسماء والأرض وجميع الأشياء التي تشاهد\". والعقل ثانياً قدرة على فهم الخطاب بتحليل مفرداته وتحديد دلالاته \"فالفهم والبيان يسمى عقلاً لأنه عن العقل كان.\" والعقل ثالثاً وأخيراً \"بصيرة ومعرفة تمكن الإنسان من تمييز الحق من الباطل والصواب من الخطأ والمصلحة من المضرة. ومع قدرة الإنسان على التمييز بين الخير والشر فإن العاقل هو الذي يلزم الخير ويتجنب الشرور، ويقبل الحق ويرفض الباطل.\" بيد أن المفهوم السابق للعقل على أنه قدرة فطر الله الناس عليها تمكنهم من تمييز الصدق من الكذب والحق من الباطل، على بساطتها، لم تلبث أن اضطربت مع انتشار الفلسفات الإغريقية، وما حملته من مفاهيم ما ورائية مرتبطة بالتصور الإغريقي للوجود. فنجد أن الفلاسفة المسلمين الأوائل تبنوا النظرية الإغريقية للوجود، واعتمدوها في كتاباتهم. فالفارابي (ت 339) يستعير التصور الإغريقي لبنية الوجود، فيقول: \"المبادئ التي بها قوام الأجسام والأعراض التي له ستة أصناف، لها ست مراتب عظمى، كل مرتبة منها تحوز صنفاً منها؛ السبب الأول في المرتبة الأولى، الأسباب الثواني في المرتبة الثانية، العقل الفعّال في المرتبة الثالثة، النفس في المرتبة الرابعة، الصورة في المرتبة الخامسة، المادة في المرتبة السادسة.\" وتتولد عن نظرية الوجود هذه نظرية معرفة للعقل الفعال فيها أثر رئيسي في توليد معارف جديدة. فالعقل الفعّال هو الذي يمكن الإنسان من تعقل الأجسام التي ليست بذواتها معقولات، لأن \"المعقولات بذواتها هي الأشياء المفارقة للأجسام، والتي ليس قوامها في مادة أصلاً.\" ومن خلال تحويل صور الأجسام إلى معقولات ثم تلقينها للعقل الإنساني، يتحول هذا الأخير من عقل بالقوة إلى عقل بالفعل. لذلك يؤكد الفارابي أن \"القوة الناطقة التي بها الإنسان إنسان ليست هي في جوهرها عقلاً بالفعل، ولم تعط بالطبع أن تكون عقلا بالفعل، ولكن العقل الفعال يصيرها عقلاً بالفعل، ويجعل سائر الأشياء معقولة بالفعل للقوة الناطقة.\" وهكذا يقوم الفارابي بإعادة تفسير الحقل المعرفي الإنساني انطلاقاً من فرضية العقل الفعّال والمعقولات المفارقة الناجمة عن فعله وبإعادة تفسير ظواهر الوجود، بما فيها ظاهرة الوحي والألوهية. فالموجودات التي تحتل رتبة أعلى من العقل الفعّال لا تعقل إلا ذواتها. بينما يتفرد العقل البشري من بين الأنفس العاقلة بتعقل المادة، بهدي من العقل الفعّال. والعقل الفعّال الذي يمثل الفيض الإلهي هو الوحي الذي يهدي الإنسان إلى معرفة الحق. \"فهذه الإفاضة الكائنة من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل بأن يتوسط بينهما العقل المستفاد هو الوحي.\" خامسا : هل يتعارض العقل والنقل ؟: يشرح ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفصل الاول من كتابه \"درء تعارض العقل والنقل\" قانون الرازي الذي وضعه في كتابه \" نهاية العقول \" والذي يذهب فيه إلى القول بأن العقل قد يتعارض مع الشرع , وحينئذٍ ينبغي عنده أن نرد دليل الشرع و نعتصم بدليل العقل و هذه الدعوى يردها ابن تيمية من عدة أوجه . فبين رحمه الله أولا أن كلام القائلين بتعارض العقل و الشرع يتطلب إثبات التعارض فعلا , ثم يطلب بعد ذلك أن ما يدعيه المتكلمون و الفلاسفة من أدلة هي في ذاتها أدلة عقلية صريحة في دلالتها على مطلوبها , ثم بعد ذلك ينظر رحمه الله فيما يدعونه من شرع هل هو شرعي صحيح أم أنه ليس شرعيا في ذاته و هم يسمونه كذلك ؟ ثم يشرح ابن تيمية الجهة التي يكون الدليل مقبولا أو مرفوضا لأجلها , و ليس أن الدليل يقبل كونه قطعي الدلالة على المراد , و كدلالة طلوع الشمس على وجود النهار , فهذه دلالة قطعية لا يشك فيها عاقل . ثم يتعرض بعد ذلك للعلم فيقسمه إلى علم نظري و عملي ثم إلى كسبي و وهبي و يبين أن العلم بالله لا يتوقف على العقليات المخالفة للشرع , و ينصح الفلاسفة و المتكلمين بضرورة الاعتصام بألفاظ الكتاب و السنة لان الله أعلم بما يليق به منا , و بين رحمه الله أن سبب الخطأ عندهم هو استعمالهم لتلك الألفاظ المجملة في حق الله تعالى , و أنها أوقعتهم و أوقعت المسلم معهم في حيرة و اضطراب , و لو كانت طريقتهم سديدة في استعمال هذه الألفاظ لكانت الرسل أسبق منهم إلى استعمالها و الإشارة إليها , ولما لم يستعمل الرسل في حق الله لا نفيا ولا إثباتا دل ذلك على أنها طريقة فاسدة , أو على الأقل أنها ليست هي الطريقة الأقوم لهداية البشر . وقد اعتمد شيخ الاسلام عدة اوجه في جوابه على اعتراض الرازي و الفلاسفة : الوجه الأول : أن قوله : \" إذا تعارض النقل و العقل \" إما أن يريد به القطعييَن , فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ ٍ . و إما يريد به الظنييَن , فالمقدم هو الراجح مطلقا . و إما أن يريد به أن أحدهما قطعي , فالقطعي هو المقدم مطلقا , و إذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعيا . لا لكونه عقليا . فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقليا خطأ . الوجه الثاني : أن يقال لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكرناه من الأقسام الأربعة , إذ من الممكن أن يقال : يقدم العقلي تارة و السمعي أخرى , فأيهما كان قطعيا قدم , و إن كانا جميعا قطعيين , فيمنع التعارض و إن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم . فدعوى المدعي : أنه لابد من تقديم العقلي مطلقا أو السمعي مطلقا , أو الجمع بين النقيضين , أو رفع النقيضين – دعوى باطلة – بل هناك قسم ليس من هذه الأقسام كما تقدم , بل هو الحق الذي لا ريب فيه . الوجه الثالث : هو العقل أصل في إثبات الشرع في نفسه أم أصل في علمنا به ؟ قوله : \" إن قدما النقل كان ذلك طعنا في أصله الذي هو العقل , فيكون طعنا فيه \" غير مُسَلم . وذلك لان قوله : \" إن العقل أصل النقل \" إما أن يريد به : أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر أو أصل في علمنا بصحته . فالأول لا يقوله عاقل , فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت , سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته و عدم علمنا بالحقائق و لا ينفي ثبوتها في أنفسها . فتبين بذلك أن العقل ليس أصلا لثبوت الشرع في نفسه . الوجه الرابع : أن يقال إما أن يكون عالما بصدق الرسول , و ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر , و إما أن لا يكون عالما بذلك . فإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوما له , لان المعلوم لا يعارضه المجهول و إن لم يكن المعقول معلوما لم يتعارض مجهولان . الوجه الخامس : هل أخبرت الرسل بموارد النزاع ؟ إنه إذا علم صحة السمع و إن ما أخبر به الرسول فهو حق فإما أن يعلم أنه أخبر بمحل النزاع , أو يظن أنه أخبر به أو لا يعلم ولا يظن . فإن علم أنه أخبر به امتنع أن يكون في العقل ما ينافي المعلوم بسمع أو بغيره , فإن ما علم ثبوته أو انتفاؤه لا يجوز أن يقدم دليل يناقض ذلك . و إن لم يكن في السمع علم و لا ظن فلا معارضة حينئذ ٍ , فتبين بذلك أن الجزم بتقديم العقل مطلقا خطأ و ضلال . الوجه السادس : يجب تقديم الشرع عند مظنة التعارض أن يقال إذا تعارض الشرع و العقل وجب تقديم الشرع , لان العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به و الشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به , و لا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل . و معلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم كما قال بعضهم : يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول و معاني كلامه و بين ابن تيمية رحمه الله في هذا الوجه أن معارضة الشرع للعقل ليس فيه حجة على تقديم أراء العقلاء على الشرع . الوجه السابع : أن يقال : تقديم المعقول على الدلالة الشرعية ممتنع متناقض و أما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف . فلو قيل بتقديم العقل على الشرع , و ليست العقول شيئا واحدا بينا بنفسه بل فيه الاختلاف و الاضطراب و أما الشرع فهو في نفسه قول الصادق و هذه صفة لازمة له لا تنفك عنه و لا تختلف باختلاف الناس . الوجه الثامن : موارد النزاع من الأمور الخفية أن يقال : المسائل التي يقال أنه قد تعارض فيها العقل و السمع من المسائل البينة المعروفة بصريح العقل , كمسائل الحساب الهندسة و نحو ذلك بل لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن نبينا صلى الله عليه و سلم شيئا من هذا الجنس إلا في حديث مكذوب موضوع يعلم أهل النقل أنه مكذوب مثل حديث عرق الخيل و أمثالها من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل العلم فلا يجوز لأحد أن يدخل هذا و أمثاله في الأدلة الشرعية . الوجه التاسع : إلى عقل من نحتكم عند النزاع ؟ و هو أن يقال : القول بتقديم الإنسان معقولة على النصوص النبوية قول لا ينضبط , و ذلك لان أهل الكلام و الفلسفة المتنازعين فيما يسمونه عقليات كل منهم يقول : \" إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعى الأخر أن المعلوم بضرورة العقل أو بنظره نقيضه . الوجه العاشر : مجادلة أهل الباطل بالتي هي أحسن أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه , فيقال إذا تعارض العقل و النقل وجب تقديم النقل لان الجمع بين المدلولين جمع بين نقيضين و رفعهما رفع للنقيضين و تقديم العقل ممتنع , لان العقل دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم فلو أبطلنا النقل لكنا أبطلنا دلالة النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل لم يصح أن يكون معارضا للنقل فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه فلا يجوز تقدمه . الوجه الحادي عشر : الدليل اليقيني هو القطعي في دلالته إن ما يسميه الناس دليلا من العقليات و السمعيات ليس كثير من دليلا و إنما بظنه الظان دليلا و هذا متفق عليه بين العقلاء . فنقول : أما المتبعون للكتاب و السنة من الصحابة و التابعين و تابعيهم فهم متفقون على دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان و الأسماء و الصفات و اليوم الأخر و ما يتبع ذلك و المعارضون لذلك من أهل الكلام لم يتفقوا على دليل واحد من العقليات مع العلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس هذه الأدلة العقلية و إنما فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب و السنة و ليس في ذلك دليل صحيح في نفس الاسم و لا دليل مقبول عند عامة العقلاء . الوجه الثاني عشر : كل ما عارض الشرع علم فساده بالعقل إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده و إن لم يعارض العقل و ما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل و لا شرع . و هذه الجملة تفصيلها هو الكلام على حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج و تناقضها و من تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم فساد المعقول المخالف للشرع مالا يعلمه إلا الله . الوجه الثالث عشر : علم المحدثين بمقاصد الرسول أن يقال : إن أهل العناية بعلم الرسول , العالمين بالقرآن عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول و مراده ما لا يمنعهم دفعه عن قلوبها و لهذا كانوا متفقين على ذلك من غير تواطؤ و لا تشاغر كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن و نقل الصلوات الخمس و القبلة بالتواتر ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني سواء كان التواتر لفظيا أو معنويا . الوجه الرابع عشر : الأمور الشرعية فطرية بأن يقال : الأمور السمعية التي يقال أن العقل عارضها كإثبات الصفات و المعاد و نحو ذلك , و هي مما علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه و سلم جاء بها و ما كان معلوما بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلا مع كون الرسول رسول الله حقا , و فمن قدح في ذلك و أدعى أن الرسول لم يجئ به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين . الوجه الخامس عشر : الدليل إما قطعي و إما غير قطعي أن يقال : كون الدليل عقليا أو سمعيا ليس هو صفة مدحا أو ذما و لا صحة ولا فسادا بل ذلك يبين الطريق الذي به علم , و هو السمع أو العقل وان كان السمع لابد له من العقل و كذلك كونه عقليا أو نقليا , و إما كونه شرعيا فلا يقابل بكونه عقليا و إنما بكونه دعيا إذ البدعة تقابل الشرعة و كونه يدعيا صفة ذم و شرعيا صفة مدح وما خالف الشريعة فهو باطل . خاتمة: إن إشكالية تعارض العقل والنقل لم تنبع أصلاً من داخل العقل الإسلامي الذي تشكل بتأثير الخطاب القرآني، ولكنها طرأت نتيجة لتأثر الفكر الإسلامي بالعقل الإغريقي الثاوي في الفلسفات الإغريقية. ذلك أن المدقق في الخطاب القرآني يلحظ استنكار القرآن الشديد للعقلية الآبائية الرافضة للوحي المنزل استناداً إلى مرجعية تاريخية وأحكام موروثة عن الأجيال: \"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ\"(لقمان:21). \"وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ\" (الزخرف:23-24) \"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ\". (البقرة:170) وانبنى التنديد القرآني بالموقف الآبائي على أن هذا الموقف يعكس رؤية منغلقة على ذاتها رافضة للنظر في أطروحات الخطاب المنزل وتعقل مضمونه، والحكم عليه من خلال تقويم محتواه قياساً بمحتوى التصور الموروث عن الآباء. كما دعا القرآن مشركي قريش إلى تأسيس تصوراتهم ومعتقداتهم على قاعدة معرفية ثابتة، وعلى يقين علمي نابع من نظرة ناقدة متفحصة: \" وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً\"(الإسراء:36). فقدرة الإنسان على السمع وفهم الخطاب والنظر في الآيات المبثوثة في الآفاق الممتدة من حوله، ومن ثمّ الوصول إلى قناعات علمية راسخة بما يملكه من عقل أو فؤاد هي التي تمكنه من الوصول إلى الحقائق. فالعقل قادر على اكتشاف عظمة الخالق من خلال النظر إلى المخلوق والتفكّر في آياته: \"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ\" (البقرة:164). الكاتب الصحفي والطالب الباحث: اسعيد مديون المراجع : - التوحيد واثبات صفات الرب ل محمد بن اسحاق ابن خزيمة (ت 311ه) - درء تعارض العقل والنقل لشيخ الاسلام ابن تيمية - تهافت التهافت على المتكلمين لابن رشد. - المستصفى للغزالي