فرية تكفيريين و كذبة محترقين "" سعى ويسعى خصوم الشيعة إلى إخراجهم عنوة من الملة ولو اقتضى الأمر الإتيان بأغلظ الأكاذيب. فلقد هندسوا قراءة متكاملة عن الشيعة تحمل ثقوب الخداع القروسطوي المفضوح كما تحمل بلادة الاستئصال الأهوج وروح الإساءة والكراهية والدجل وبهتان ما قبل ثورة العلوم الإنسانية وقيم التسامح ومظاهر الرشد العقلي المعاصر . وكل كلمة هنا هي في محلها راكبة على وجه الحقيقة لا على سبيل الإسراف أو من قبيل المجاز. هذا أمر وقفنا عليه نحن من بذل جهد ربع قرن أو يزيد من البحث في هذه الحكايات البالية. ربما قبل أن يبلغ الحلم من يبارزنا اليوم بالجهالات. وربما قبل أن يكتشف أغيلمة التكفير مفتاح الإنترنيت الذي جهّلوا حضارته ، ليقعوا بكسل المرددين ونهم الأشعبيين على أطباق متعفة من التجديف في مواقع البؤس الفكري والفقر الأخلاقي والكرنفال التكفيري، ممن ورثوا جهلا على جهل حتى لم يعودوا يدركون وضوح العقل وصفاء الروح فملئوا دنيا المسلمين بالقذف والسب وقلة المروءة. والرب جل جلاله أقدر على شرار عباده وهو حسبنا في هذا المكر الضعيف . وترانا نزداد كل مرة بصيرة بهذا البهتان وعوائد أهله. عش يوما تزداد نفورا من هذه الرداءة. ولذلك كنت ولا زلت أعتبر أن إحدى مشكلات النزاع بين المختلفين هي مشكلة أخلاقية بالدرجة الأولى. فالأخلاق شرط في استكمال دورة البرهان. كذب من قال لا أخلاق في المنطق. وليس غريبا على من عبدوا شيخ الإسلام الناقم على المنطق والناقض على المنطقيين أن يتلبسوا بهذا الضوضاء الذي يسمونه جزافا برهانا. لقد قتلوا البرهان وطرائقه ثم مشوا في جنازته باكين طالبين أطيافه. فمن دون أخلاق، تتلاشى الحقائق كالسراب ولا يصمد بعدها سوى العناد. هكذا صارت الأمة تتغذى فكريا وروحيا على العناد حتى تحجّر عقلها ومات ضميرها. لأننا لاحظنا أن كافة المقولات العقلية تتحطم على صخرة الرؤوس العنيدة وتتهشم في سوق الصياح والحجاج الأجوف الذي لا يبتغي أهله بلوغ الحقائق بقدر ما يستهويهم الدفاع عن محروس أكاذيبهم ولو بالثرثرة الهوجاء والتجديف الأجرب. الأخلاق هي آخر معيار لتقدير الموقف العقلي نفسه وهي ضامنته. ومن دون أخلاق لا ينفع الناس منطقهم ولا يشفع للعاقل في هذا اللجاج برهانه. فعلى من تقرأ قرآنك يا محمد(ص) " قل هاتو برهانكم إن كنتم صادقين" ما دام الناس طوت كشحا عن حقائق الدليل فأقمسوا الدلاء إلى قاع الجهل ليصبوه فوق الرؤوس دجلا وعنادا. ألم يقل قدوة الشيعة وإمامهم وضامن السنة لا يضمنها سواه ، علي بن أبي طالب: "ما جادلت جاهلا إلا غلبني". إنها حقيقة نعيشها ونحسها ونلمسها في تجارب الجدل الذي يسعى أصحابه إلى اللّجاج العنيد لا إلى الحجاج الرشيد. يقصد كثيرون من ذلك بلوغ أفهام الناس بالزور والبهتان في سباق أحمق وهرولة بلهاء. وهذا ليس هدفنا. فهدفنا هو الرمي بكل أكذوبة في وجه صانعها والمعاند في تأبيدها. وأيضا هدفنا إلقاء الحجة على صانع البهتان حتى تثقل ضميره ويتحطم عناده أمام الحقيقة ، وإن كذب فقد استيقنتها نفسه . وقد رأينا أن الخصم يعيد لوك ما حسبناه أسطوانة مشروخة ليس له من دليل على ثبوتها إلا حرصا مهسترا على تثبيتها بأي ثمن. وهذه مشكلة لا تحلها المعرفة ولا المنطق بقدر ما يحلها علم النفس المرضي للعناد واللجاج . وهذا ما يفسر الإصرار الكبير على تهمتهم التي شاخت وهرمت لكنها ظلت مصرة على الحياة كحيزبون طاعنة في السن تعيش عمياء ومفصولة مريضة متهالكة، لكنها تعيش على كل حال. وحيث إن القرآن هو ما تبقى جامعا بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم واجتهاداتهم ، حرص خصوم الشيعة على حبك حكاية أخرى لا تقل عن حكاية أن للشيعة أذناب بقر ، ألا وهي تهمة القول بالتحريف. وليس ذلك إلا لبخل في توسيع رحمة الله والقبول بصحة إيمان الخلق، كما لو كانوا زبانية أو حراسا على باب رحمته تعالى. ورحمة الله أوسع من أن يحرسها البخلاء. ولو كان مطلب خصوم الشيعة هو مجرد اعتراف الشيعة بهذا القرآن المتوفر بين يد المسلمين ، لكانوا كفوا عن هذه الفرية لمجرد أن تصدمهم صورة ملايين الشيعة المتدفقين في كل مكان يقرؤون هذا القرآن ويبتغون به الدرجات الرفيعة ويجعلون من ختمه في مناسبات دينية أمرا مستحبا ومندوبا. وينضمون إلى من رأى أن بعضا من سوره مثل المعوذتين في رأي مشهور لابن مسعود ما يخالف الصحيح. ولا زال علماؤهم يفسرون القرآن من الحمد إلى المعودتين يلقى ذلك أفضل القبول عند خاصتهم وعامتهم. أما اليوم فاهتمامهم بحفظه وتجويده ما يلقى صدا دوليا ، حيث تفننوا وحصدوا من الجوائز ما يبهر. حتى أنهم كانوا من أوائل من قدم أطفال المعجزة في بديهة استحضار آياته وهو ما يدركه مشاهير القراء. لكن خصومهم كانوا قد ركزوا بين السلة والذلة. ولا يقبلون إلا بأن يوجد الشيعة خارج الأمة ليحتكروا وحدهم الشرعية ويستبدوا بالرأي والتأويل. وقد زادوا الطينة بلة وزادوا الحبكة بلادة حينما اتهموا الشيعة بأن لهم قرآنا بديلا أسموه مصحف فاطمة. ويا ما "دندن" خصوم الشيعة باجترار هذه الحكاية حتى أنهم حفّظوها أغيلمتهم إلى أن أصبحت ترنيمة تافهة مملّة تحفظ عن ظهر قلب. وقد يصبح التوضيح خطرا ها هنا لأنه ليس فقط أنه كاشف عن الحقيقة المخالفة لما تمت هندسته في مخبر خصوم الشيعة، بل لأنه فاضح لخصوم الشيعة وأخلاقهم و فاضح لأكاذيب عاشت عليها الأمة وأصبح همّ هؤلاء حراستها، لأنهم لا يمكنهم الإساءة إلى هذه المدرسة إلا بالأكاذيب وليس بالدليل. وهذا واقع مر يجب الاعتراف به. وأنا أعترف به لأنني نبتت وترعرعت ونشأت داخل السنة لا خارجها. وليس هناك فرق بيني وبين من يعاند سوى أنني أكثر تثبتا في تجريم الآخر وأكثر انفتاحا وأقل تسرعا في الحكم قبل البحث والنظر في مظان القوم لا في مظان خصومهم. فالذين يزعمون من صيصان خصوم الشيعة أنهم يملكون الحق ، أقول لهم إن هذه حصيلة نظر وبحث امتد لربع قرن ، فما هي أعماركم ، ومتى بدأ اهتمامكم وكيف وماذا بذلتم من التضحية في سبيل ذلك ، وما هي العبقرية التي تملكونها لا نملكها حتى انطلت علينا حيلة القوم "يا شاطر" .. قبل أن تتعالموا وتعطوا دروسا للمتخصصين في هذا المجال بوقاحة .. وإذا كنتم منزعجين لمجرد أن يعزم الإنسان على أن يرد الافتراء ويسلط النور على التهم الموجهة بالمجان إلى ما يعتقد به الناس واعتبار مجرد البراءة من التجديف جريمة وانحراف وخروج عن المعقولية والموضوعية ، فتلك مصيبة أخرى ، أن ينتظر المدعون أن يسيئوا إلى عقائد الناس في العراء ومن دون وازع أخلاقي ثم يطلبون من الناس أن يقبلوا بالتجديف ضدهم .. ما الجريمة في أن يقول المرء إن ما تفترونه ليس صحيحا .. ولماذا حينما تكون الحقائق والأدلة في اتجاه معاكس لآرائكم تولولون وتنزعجون ثم يتأستذون بالعوام والخواص وهم بالمناسبة سيان في مدى فهمهم واستيعابهم لتراث القوم وإن حشدوا ما يعمي الأبصار الضعيفة ويحكمون بأن ذلك ليس صحيحا ولا موضوعيا، ثم يصبح الباحث غير منطقي وغير موضوعي وغير منهجي ، فقط لأنه لم يستسلم للتجديف والبهتان. بينما يصفقون للعوام إذا تدحرجوا في منحدر الشتائم والسباب، فقط لأنهم يسلمون ويتقافزون في دفاع جاهل جبان لا يحمل من أخلاقيات الحوار والنقاش ولا من متانة التحقيق وجدّته ما يصح ويجزي..وأين كانت تلك الحكمة يوم أمطرونا بكل تهمة رخيصة من دراري مشردين على طريق المعرفة لا يحسنون تدبير الخلاف متى تحدثنا ولو في الرياضة والفيزياء. يطلقون العنان لشيطان إسرافهم يحسبون أنها طريقة من يرهب أو يقمع أو يربك وهم في ذلك أبلد الخلق وأسرفهم في الغباء. ومع ذلك أقول إن ما نقدم عليه يعزز التقارب ويفرضه من جهة العقل لا من جهة الانفعال.. لأننا يجب أن نقبل الحقيقة ونتفهم المختلف ولا ننام على تراث من الإساءة والإرهاب الفكري ضد الآخر؟! وما هي الجريمة إن كان أفق هذا التوضيح هو تبرئة أمة من المسلمين وليس بالضرورة حربا على أحد. لم يخاف الرعديد ويحسب كل صيحة عليه. فليس فيما ذكرنا حتى اليوم سوى تبرئة الآخر من البهتان وليس إساءة لمدرسة مقابل أخرى. اللهم إلا أنهم يدركون أن فضح البهتان هو فضيحة لصناع البهتان. والمطلوب كما يتمنونه من عند أنفسهم هو أن لا تخرق هذا السور وتلك الصورة النمطية وتلك الهندسة الكاذبة ، وإلا فأنت معتدي. بمعنى صريح ، يريدون القول: لا تفتح هذه السيرة واقبل بأنك سليل عبد الله بن سبأ الذي اصطنعناه لنخفي تفاصيل الفتنة الكبرى.. واقبلوا بأنكم أبناء المجوس والصفويون والخرافيون وغيرها من المحفوظات البليدة ، حتى لا تزعجونا. أي كائن حر وكريم وعاقل يقبل أن ينسج حوله شراذم الإساءة هذه الصورة دون أن يدافع عن رأيه وفيما يعتقد. فهل هذا اعتداء أم أنه أقل ما يطلب داخل هذا الضوضاء الفظيع. إذن لا يوجد سوى العناد. ومن العناد ما قتل. واضح أنه في مثل هذا الصراع لا يحضر العلم و الأخلاق بقدر ما يحضر الجهل وإرادة النفي والاستئصال. ويبقى السؤال المحير: ما المصلحة في أن نتّهم أمة من المسلمين بالقول بتحريف القرآن وهي تعلن رسميا عبر قرون أن قرآنها الذي تتعبد به هو قرآن المسلمين؟! يقرؤونه ويجتهدون في تجويد عبارته كما هو ، وفهمه من الفاتحة حتى المعوذتين. كيف أصبح خصوم الشيعة لا يرون فيهم إلاّ ولا ذمة حتى فقدوا صوابهم وضمائرهم فطغى شيطانهم حتى قالوا فيهم: ليس علينا في الأميين سبيل. وي وي وي على هذا البهتان العظيم.. ألا يخجلون.. ألا يتعبون .. ألا يسمعون .. ألا يعقلون .. ألا يفهمون .. ألا يتقون؟! ولماذا نسرف في التفتيش عن روايات شاذة لها معارضاتها الصحيحة من نفس المظان ، مادام المقرر هو إجماعات الطائفة والمعتبر في آراء رواد المدرسة؟! وما الجدوى الحجاجية من ممارسة حطابة الليل في المتون الشيعية لحشو ما شذ وضعف من روايات المجاهيل والآحاد غير المعتبرة ما دام في وسع الشيعة أيضا أن يأتوا بما هو أصح في كتب القوم يشير إلى التحريف والنقيصة في القرآن كما اعترف أخيرا محمد عابد الجابري في كتابه: "المدخل إلى فهم القرآن الكريم"، وهو من خصوم الشيعة ، حينما اعترف (وأخيرا اعترف) أن أحاديث التحريف موجودة عند الشيعة والسنة . مع أن الحديث هنا فيه تفصيل يطول؟! إن كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس بحجر. لقد لجأ خصوم الشيعة إلى فرية أخرى طمعا في أن يقضّوا مضاجع الشيعة ، ألا وهي فرية القول بتحريف القرآن. وهي فرية شاعت وتفاحشت وتضخمت وتورمت بها رؤوس هؤلاء الخصوم. لكن مبلغ علمي أن لا أحد من المسلمين لا سيما السنة والشيعة الإمامية ينكر أن يكون القرآن المصدر الأول للتشريع عند المسلمين. وأن القرآن المقصود هو هذا القرآن من الدفة إلى الدفة. وأن ما راج من حكاية عن بعض الأقوال أو المرويات لا يصمد في وجه إقرارات المدرسة الشيعية وما تدين به لا ما يوجد في بطون كتب الأخبار التي فيها الصحيح وفيها غير الصحيح. ولست أدري ما الغاية من أن يعمد خصوم الشيعة إلى تكذيب مرضي للشيعة بخصوص إيمانهم بصحة وحفظ الكتاب ، إلا أن يقال أن هدف الخصم هو عدم قبول إسلام الشيعي مهما بدت آراؤه مستمدة من المصادر السنية نفسها. ومنشأ الشبهة وجود روايات توحي بالتحريف والقول بالنقيصة. ويعزز خصوم الشيعة ما ورد من تلك الأخبار بكلام عن مصحف فاطمة، لتكتمل الفرية وتصبح جاهزة للإطعام. لكن ما لا يظهره هؤلاء هو أن أخبار النقيصة في القرآن مما ورد عند السنة قبل الشيعة. وحيث لو طبقنا المنهج نفسه إزاء الكم الكبير من تلك الأخبار التي وجدت في التراث السني تقول بوجود النقيصة في القرآن ، وقلنا إن السنة تقول بذلك ، لكنا خاطئين لا محالة. لأن المعول عليه هو إجماعات وإقرارات أعلام المدرسة والمذهب وليس ما يوجد في بطون الكتب. دون أن نغفل أمرا ها هنا ، وهو أن ورود مثل هذه الأخبار عند الشيعة قابل للتأويل بينما عند السنة غير قابل للتأويل. كما أنه عند السنة مروي في أصح كتبها بينما عند الشيعة ليس هناك مانع علمي ومنهجي يمنع من نقدها ، لسبب بسيط ، هو أن الشيعة لا تقول بالصحيح ولا تعتبر أن ثمة كتاب صحيح من الدفة حتى الدفة مهما زعم كتابها ومهما بلغت مكانتهم. فالكليني فاضل عند الشيعة معتبرة روايته ، وله مكانة كبيرة عندهم، لكن هذا لا يعني تصحيح كل أخباره . ويمكن القول حول مسألة ما يسمى مصحف فاطمة الذي بالغ فيه خصوم الشيعة واعتبروه قرآنا مستقلا فيما الشيعة تتحدث عنه ككتاب يحوي أحاديث فاطمة مما لا وجود له اليوم. فحسب الروايات لا يوجد في مصحف فاطمة آية من القرآن. وإذن هو حصيلة ما حدثت به وكتبه علي بن أبي طالب. أي بما أنها كانت امرأة محدثة كما جاء في الأخبار، فهي دونت ذلك في كتاب سمي بعد ذلك بمصحف فاطمة. وحسب الإمام الصادق، إنه لا ينطوي على آية من قرآننا، وليس فيه ما يفيد الحلال والحرام، ولكن فيه أمور تتعلق بنبوءات. ولا يخفى المكانة التي تحتلها فاطمة في الاعتقاد الإسلامي عموما والاعتقاد الشيعي خصوصا . فهي سيدة نساء العالمين. وهي محدثة ولها مكانة عند الرسول ص ، وعلى باب بيتها كان يقرأ قوله تعالى: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". ولعل الإشكال هنا يتعلق بلفظ المصحف مما يوحي بأن الأمر يتعلق بمصحف بديل. والحق أن المصحف هو إسم أعم من القرآن. والأصل في لفظ مصحف هو ما كان جامعا للصحف المكتوبة بين الدفتين كما يقال. والقرآن في الأصل لم يكن يسمى مصحفا إلا بعد أن جمع واحتار المسلمون حول تسميته، ما بين من رأى تسميته بالسفر وبين من رأى تسميته بالمصحف، وربما البعض رأى أن كلمة مصحف من أصل حبشي وليست عربية. هذا أصل اللفظ كما ذهب أبو هلال العسكري والفراء. فأبو هلال يميز في الفروق اللغوية بين معنى الكتاب والمصحف. ويرى أن المصحف يضمن مجموعة من الأوراق بينما الكتاب يضم ورقة واحدة. وهذا واضح في تعبير القدامى حينما يقولون: كتب له كتابا، ويعنون رسالة هي في العادة ورقة واحدة. المصحف إذن ليس عنوانا شرعيا بل هو عنوان لغوي. ومن هنا فمصحف فاطمة لا يؤدي المعنى الذي يعتقده المخالفون للشيعة. بل الشيعة ما فتؤوا يذكرون بأن قرآنهم هو قرآن المسلمين الموجود بين الدفتين. ولو أنك زرت مكتبة آية مرعشي نجفي في مدينة قم ، لوجدت مخطوطات للقرآن كتبها الشيعة قبل ألف سنة وأقل ، دليل على أن قرآن الشيعة هو قرآن المسلمين. ولا أدل على سوء الفهم الكبير هذا أنك تجد خصوم الشيعة يتهمونهم بمصحف علي تارة ومصحف فاطمة تارة أخرى. وليت شعري ما الفارق بينهما وهل هما شيء واحد أم قرآنين. غير أن العاقل الحصيف يدرك أن الأمر يتعلق بتأويل كان يحتفظ به القراء الذين يجيدون القراءة. وبخصوص مصحف علي بن أبي طالب فهو تأويل يطابق التنزيل. وكل الحديث الذي قيل حول التنزيل يراد به ما أشار إليه أئمة السنة أنفسهم بمناسبة الحديث المعروف: " أتيت القرآن ومثله معه". فلقد ذهب عدد من العلماء إلى أن المقصود هو التنزيل. وقد كان يسمى قرآنا أيضا لقوله تعالى:" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه". يذكر الخطابي في شرح مختصر سنن أبي داود : " قوله ( أوتيت الكتاب و مثله معه ) يحتمل وجهين من التأويل ، أحدهما : أن يكون معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو. ويحتمل أن يكون معناه ، أنه أوتي الكتاب وحيا يُتلى وأوتي من البيان ، أي أُذن له أن يبين ما في الكتاب ويَعُمّ ويَخُصّ وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم و لزوم العمل به : كالظاهر المتلو من القرآن ". وهو عين ما عبر عنه علماء الشيعة ومنهم الشيخ المفيد في أوائل المقالات ، إذ يقول : " ولكنّ حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله تعالى {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114). فسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف ، وعندي أنّ هذا القول أشبه ". أي أشبه من القول بتحريف النص القرآني"(1) . فهو تنزيل وليس قرآنا. وإذا كان أعلام السنة قد أثبتوا وجود التنزيل إلى جانب القرآن وهو مما أوحي به إلى الرسول(ص) ، فإن احتمال وجود التنزيل في مصحف علي بن أبي طالب يكون كبيرا. وربما كما ذهب بعض علماء الشيعة إلى أن المقصود بالحذف ما كان له علاقة بالتنزيل وليس المراد به هنا القرآن ، لإجماعهم على حفظه وإعجازه ، إجماعا لا يخدشه قول الآحاد مع وجود ذلك الإلتباس. يقول الشيخ الطبرسي : " ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فإنه لا يليق بالتفسير ، فأما الزيادة فمجمع على بطلانها ، و أمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة : أن في القرآن تغييراً و نقصاناً ... والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى – قدّس الله روحه – و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات " . وهذه من المسلمات التي لم يمنحها الشيعة أي أهمية ولم يقفوا عندها بالنقاش لوضوحها إلا بعد أن تعالت أصوات الخصوم بهذه التهمة السخيفة والبليدة أيضا التي تسعى لإقصاء قسم كبير من المسلمين خارج دائرة الإسلام لا لشيء إلا لأن لهم رأي مخالف في بعض سلوكيات بعض الصحابة. فضحوا بأمة من المؤمنين انتقاما لذلك . وكفروهم لهذا السبب الذي لا يكفر به مسلم حتى مع فرض غلطه. وأعتقد جازما أن كل هذا الاحتراق في جانب خصوم الشيعة ضد الشيعة ليس سوى انتقاما لتحرر الشيعة من هذه القراءة التاريخية التي هندسها الغالب. وهناك حكاية النقيصة في قصة الشيخ النوري الطبرسي صاحب كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، وهو الكتاب الذي طالما أوتي به كحجة على قول الشيعة بالتحريف. ولا أريد أن أدخل من مدخل تحرير مفهوم الحرف والتحريف الذي استعمل كثيرا لدى بعض القدماء، حيث قصدوا بذلك حرف المعنى وتحريف الكلام عن مواضعه، وهو يشمل التأويل أيضا. بل دعنا نختصر الطريق لنقول بأن ثمة مقدمة لا بد من استحضارها..أولا إن الشيخ ميرزا حسين نوري الطبرسي ليس من المعتدلين كما توهم البعض خلطا بين تيارات الشيعة ، بل هو من الأخبارية التي تذهب إلى وقوع النقيصة في الكتاب، خلافا لأصولييهم. ولهذا رفضوا القول بحجية الكتاب لهذه الجنبة. وقالوا بالاحتجاج بالسنة . ولجمهور الأصوليين والمحققين الإمامية مئات المقالات الكتب والفتاوى التي تصدت لهذا الزعم قبل أن يدركه غيرهم، وكلها تؤكد على أن القرآن المعتبر هو ما بين أيدي المسلمين: المصحف العثماني. وقد صح ما بين دفتاه بلا منازع. والشيعة تقرأ هذا القرآن، أصولا وأخبارا.. ووجب حينئذ أن نحقق فيمن هو المقصود بالاعتدال عند الإمامية من غيره.. والمعتدل ليس بالضرورة هو المعترف بقدره والموصوف بالصلاح ، فذلك ما لا علاقة له بالاعتدال. حيث يراد بالمعتدل من الإمامية المحققين الأصوليين المجتهدين.. وكذلك الأخبارية المجددين مثل صاحب الحدائق الناظرة مثلا. وغير الملمين بالتراث الشيعي يخلطون بين أصناف العلماء الإمامية فلا يميزون بين الأخبارية والأصوليين ، فبالأحرى أن يميزوا بين طبقات الأخبارية وطبقات الأصوليين. ومن يؤخذ بإجماعاته من الأصوليين أنفسهم من غيره. فالمسألة ليست بهذه البساطة والمدرسة الشيعية هي من التعقيد بحيث لا تسمح بمن يمر على متونها مرور الكرام أو يمارس نزهة سريعة بين بعض مصنفاتها حتى يقف على مداركها. أما الملاحظة الثانية ، فإن منزلة الشيخ النوري وجميع هذه المصنفات الأخبارية لا تتنزل منزلة الصحيح عندهم. فهذه مقايسة ساذجة لم يقل بها محققوا الامامية، ولا كافي الكليني يضارع منزلة صحيح البخاري عندهم كما قال خصوم الشيعة. فالمطلع على الرجاليين كالطوسي والغضائري ونظرائهما وصولا إلى السيد أبي القاسم الخوئي لا يوجد فيهم من قال بقطعية صدور أخبارهم. ففيها ما هو ضعيف وواضح الضعف . فالشيعة لا تؤمن بوجود مدونات صحيحة بالجملة بل تؤمن فقط بوجود أخبار صحيحة قد توجد في هذا المصنف أو غيره ، والعمدة في التصحيح والتضعيف هو ضابط الدراية وعلم الرجال. لكنني أقول لك ليتك اطلعت على رأي أعلام الشيعة الإمامية في روايات وكتب الشيخ النوري الطبرسي ، فلقد نبهوا إلى هذا الحشو وإيراد أخلاط من الروايات كما لو كان الشيخ النوري في وارد تحشيد كل ما وصله من روايات عجيبة وغريبة ، لكونه اشتهر بكتابة الموسوعات كما هو حاله في مستدرك الوسائل. وما رواه حول سورة النورين هو نفسه يحيله على كتاب "دبستان مذاهب" وهو كتاب منسوب حسب بعض المحققين لداعية زرادشتي إسمه كيخسرو بن اسفنديار. وطبعا الكتاب لم يكن صاحبه معروفا حيث تمت النسبة إلى كيخسروا بعد التحقيق الذي قام به رحيم رضا زاده ملك . وقد نبه النوري إلى أن السورة المروية عن علي ، لم يجدها في مصادر الشيعة. وكان من المفترض أن يستحضر خصوم الشيعة رأي النوري وشهادته بأن روايته تلك عثر عليها في هذا الكتاب الذي اختلف المحققون حول كاتبه قبل أن يحقق رحيم رضا في الموضوع. وأعتقد أن الحاج ميرزا حسين النوري ربما ظن أن صاحب الكتاب هو من المخالفين للشيعة وأراد أن يستدل به ما دام يخبر عن وجود سورة ساقطة فيها ذكر صريح بالولاية. وهذا من الغرائب حتى أن الكثير من الأعلام الإمامة ومتأخريهم كالإمام الخميني يتعجب كيف أن المعاصرين للشيخ النوري لم يردوا سخف هذا القول ، وكيف أنه ومع جليل قدره ذهل كما ذهل المعاصرون له عن استبصار تناقضات هذا الكلام ، حيث لو صح ما في هذه الرواية إذن لماذا لم يحتج به الأئمة والصحابة الموالون ضد خصومهم. فيقول: " وأزيدك وضوحا : أنه لو كان الأمر كما توهّم صاحب فصل الخطاب الذي كان كتَبَهُ لا يفيد علماً ولا عملاً ، وإنّما هو إيراد روايات ضعاف أعرض عنها الأصحاب وتنزّه عنها أولوا الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمّدين الثلاثة المتقدمين رحمهم الله"(2) . وينقل الشيخ معرفة حكاية في صيانة القرآن من التحريف وصفا للسيد هبة الدين الشهرستاني عن تداعيات ظهور كتاب النوري في الأوساط الحوزوية يومها. ما يعني أنه تقبل قبول الشاذ الغريب. يذكر في رسالته التقريظية إلى الميرزا مهدي البروجردي بقم المقدّسة 1373 ه ، صاحب رسالة البرهان: " كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف ، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف ، تلك العقيدة الصحيحة التي آنست بها منذ الصغر أيّام مكوثي في سامراء ، مسقط رأسي ، حيث تمركز العلم و الدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير ، فكنت أراها تموج ثائرة على نزيلها المحدث النوري بشأن تأليفه كتاب فصل الخطاب ، فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلاّ ونسمع الضجّة والعجّة ضدّ الكتاب ومؤلّفه وناشره ، يسلقونه بألسنة حداد ". المشكل هنا ليس في كتاب الحاج ميرزا النوري الذي لا يؤخذ كلامه مأخذ الصحيح ، والشيعة الإمامية تؤمن بالاجتهاد وهي من المخطئة ولا تقبل بالخبر إن ورد من غير طريق صحيح على الضابطة المقررة في علم الدراية والجرح والتعديل. فوجودها لن يكون معتبرا كما لو وجدت مثلا في صحيح البخاري لمجرد وجودها. ولذا لزم أن نأخذ رأي الشيعة من مداركهم الرسمية. بمعنى آخر، ليس المقصود بالمدارك الرسمية كل ما هو معتبر في خزائن الكتب، بل مما أجمع عليه أهل التحقيق المعتبرين عند الإمامية وفقا لقواعدهم وأصولهم الاعتقادية والفقهية . فوجب أخذه من مصادره الرسمية ولن يوجد بإطلالة فضولية في هذا البحر المتلاطم من مصنفاتهم..علينا أن نميز ما هو الشاذ النادر في تراثهم ومن يمثل الإجماع ومن المعتبر دون غيره، وكيف يفهم الإجماع عندهم ، فوجود رواية في الكافي أو رواية في الكتب الأربعة ، لا يعني أن مذهب الشيعة على هذا الرأي تماما كما أن وجود روايات التحريف في البخاري وغيره لا يعني أن رأي السنة على القول بالتحريف . أقول هذا مع أن لي رأيا خاصا في الموضوع، أرى فيه بأن القول بالتحريف بهذا المعنى لم يقل به أحد ولا استساغه عقل مسلم، بل ثمة حلقة مفقودة في البين ترى أن التحريف هو مساوق للتأويل ، وبأن الحرف والتحريف هو تقنية من تقنيات التأويل ، فحرف المعنى من الحقيقة إلى المجاز مع وجود القرينة الصارفة ، سياقية أو عقلية و حالية متصلة أو منفصلة وما شابه كله يأتي بمعنى الحرف بتعبير القدامى، وكما الحرف ينقسم إلى ما هو صحيح كحرف المعنى بصرفه من الحقيقة إلى المجاز مع وجود القرينة، وإلى ما هو فاسد كحرف الكلام عن المعنى بعد عقل الكلام كصرف المعنى من الحقيقة إلى المجاز من دون قرينة معتبرة. فإن التأويل الذي هو غاية الحرف ينقسم إلى قسمين : التأويل الصحيح الذي مدح في القرآن إلى جانب التأويل المذموم الذي ذم في القرآن. فليس الحرف والتأويل هما المذمومان في ذاتهما ، بل لعارض يصرفهما عما يتعين التقوم به في الحرف الحسن والتأويل الصحيح. وأحسب أن المسألة تتطلب نقاشا وبحثا صناعيا طويلا لا يتسع له المقام. وليس يسيرا علينا ردّ هذه الفرية التي أسرف خصوم الشيعة في مضغها. لأننا نرى أن ما ورد من روايات في بعض كتبهم لم تفهم على وجهها ، وهي قابلة للتأويل هذا دون أن ننسى أنها ضعيفة وتعارض ما تواتر في كتب الشيعة وإفادات علمائهم عبر العصور من أن قرآنهم هو قرآن سائر المسلمين. فهم يعتقدون بكل الآيات التي تثبت حفظ القرآن . كما أنهم دعوا إلى تحكيم الكتاب فيما تم الاختلاف حوله وقالوا بحديث العرض على الكتاب واعتبروا أئمتهم ثقلا أصغر إلى جانب القرآن الذي هو الثقل الأكبر، كما في حديث الثقلين. وكتب الشيعة ورواياتهم لا زالت تحث على قراءة القرآن والندب إلى حفظه كما لا يخفى. ما ترويه الشيعة في فضل قراءة القرآن كلّه لا يتسع المقام لذكره. فافتح باب فضل قراءة القرآن في كل مصنفاتهم من الكليني حتى البحار ، لتدرك أن الأمر يتعلق بقرآن كامل يقرأ من الدفة إلى الدّفة. فلا يمكن أن يوجه أئمة الشيعة شيعتهم لقراءة القرآن وختمه وقد علموا أن ليس بين أيديهم إلا هذا القرآن. وكما في ثواب الأعمال ، يقول الإمام الباقر (ع) : " من ختم القرآن بمكة من جمعة إلى جمعة وأقل من ذلك وأكثر ، وختمه يوم الجمعة ، كتب الله له من الأجر والحسنات من أول جمعة كانت إلى آخر جمعة تكون فيها ، وإن ختمه في سائر الأيام فكذلك " . ومثل هذا كثير في مصنفاتهم . فعن أي قرآن يدعو الإمام الباقر إلى ختمه إن كان ناقصا محرفا ، يا ترى؟! علماء الشيعة يرفضون أخبار التحريف في كل بلاد الدنيا ، لو أجمع العلماء على شيء وجاء أحمق برأي مخالف لذلك الإجماع ، ستكون النتيجة هي الرفض. ونحن نتساءل ماذا لو جاء بهذا البهتان خصم لا يوقر وعدو لا يرعوي ومجدف حاطب ليل؟! لماذا يسعى خصوم الشيعة إلي قمش الشواهد وانتقاء الشاذ وإبراز المرفوض غير المعتبر في تراث الشيعة دون الإنصات إلى رأيهم الإجماعي في الموضوع. يفعلون ذلك كما لو أن علماء الشيعة لم يكن لهم رأي في الموضوع قبل ألف سنة من ظهور مثل هذه الروايات الشاذة في تراث المسلمين. يكفي أن من بين أعلام الشيعة وممن رووا هذه الروايات كما رواها البخاري أيضا ، رفضوها وضعفوها وأخبروا عن بطلانها وإجماع الطائفة على أن القرآن مصون من الزيادة والنقيصة . فالشيخ المرتضى يقول بإجماع الطائفة على صحة الكتاب وتمامه والشيخ الصدوق يكذب في اعتقاداته من يزعم أن الشيعة تقول بوجود أكثر من هذا القرآن عندها. فيقول :" اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه و آله هو ما بين الدفتين و هو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الناس مائة و أربع عشرة سورة ، وعندنا أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة ولإيلاف وألم تر كيف سورة واحدة ، ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب . وما روي من ثواب قراءة كل سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كلّه ، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة ، والنهي عن القِران بين السورتين في ركعة فريضة ، تصديق لما قلناه في أمر القرآن و أن مَبلَغه ما في أيدي الناس ، وكذلك ما ورد من النهي عن قراءة كلّه في ليلة واحدة وأن لا يجوز أن يختم في أقل من ثلاثة أيام تصديق لما قلناه أيضا " (3) . ويكفي أن الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة ومصنف كتابين من كتبهم الأربعة المعتبرة في الحديث ، ومصنف الرجال والفهرست من كتب الرجال المعتبرة أيضا ، يصنف كتاب التبيان في تفسير القرآن من الحمد إلى المعودتين منذ ألف سنة. وفيه ينفي القول بالتحريف ويرد تلك الروايات التي وجدت عند الشيعة والسنة جملة ، ما يؤكد أنه في زمانه كان الحديث عن وجود أخبار من ذاك القبيل توجد في كل مصنفات المسلمين من دون مائز بين سنة وشيعة. لذا يؤكد في التبيان: " أمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمها لا يليق به ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر في الروايات ، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجد علماً ، فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها »(4) . ومثله قال السيد المرتضى فيما ذكر الطبرسي في مجمع البيان بأنّ " العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة ... إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة » . وآخرهم السيد أبو القاسم الخوئي إذ يقول : " إنّ من يدّعي التحريف يخالف بداهة العقل" (5). وقال السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه في تقريراته : " أن الروايات التي دلت على وقوع التحريف قد أخذت من كتب لا اعتماد عليها ، فإن أكثرها مأخوذ من كتاب أحمد بن محمد بن السيار المعروف بالسياري ، وهو منسوب إلى فساد المذهب . فعن النجاشي أنه ضعيف الحديث فاسد المذهب ، ذكر ذلك الحسين بن عبيد الله مجفو الرواية كثير المراسيل انتهى . وعن ابن الغضائري في رجاله : أحمد بن محمد بن سيار يكنى أبا عبد الله القمي المعروف بالسياري ضعيف متهالك غال منحرف ، استثنى شيوخ روايته من كتاب نوادر الحكمة وحكى عن محمد بن علي بن محبوب في كتاب نوادر المصنف أنه قال بالتناسخ ". لقد آمن الشيعة بالآية الكريمة: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(الحجر/9) . ورووا من الأخبار في تحكيم الكتاب ما يدفع هذه التهم. فأئمة الشيعة حثوا أتباعهم على منهج العرض على القرآن في كل ما بلغهم من أقوال ، وإلا ضربوا بها عرض الحائط . ولو أنهم عرفوا أنه ليس بين يدي الشيعة قرآنا منقوصا محرفا إذن لما وجهوهم إليه واعتباره ميزانا لتصحيح السنة نفسها. لقد رووا عن الإمام الصادق ما يصلح فصلا للخطاب. جاء في بحار الأنوار عن أيوب مثلا : " عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا حدثتم عني بالحديث فأنحلوني أهنأه وأسهله وأرشده فان وافق كتاب الله فأنا قلته ، وإن لم يوافق كتاب الله فلم أقله " .كما رووا عن الهشامين جميعا وغيرهما قال : " خطب النبي صلى الله عليه وآله فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف القرآن فلم أقله " . وعن أيوب بن الحر قال : " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : كل شئ مردود إلى كتاب الله والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ". ورووا عن النوفلي عن السكوني : " عن أبي عبد الله عن آبائه عن علي عليهم السلام قال : إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالف كتاب الله فدعوه ". وعن سدير قال : " قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام : لا تصدق علينا إلا بما يوافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه واله ". وفي تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في تفسير قوله تعالى:{ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }(فصلت/42). عليهما السلام ، قال : { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ } من قِبل التوراة ولا من قِبل الإنجيل والزبور { وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } لا يأتيه من بعده كتاب يبطله ". وفي تفسيره آلاء الرحمن يذكر الشيخ البلاغي وهو معاصر لتلك الفترة ومن أعلام النجف فقها وكلاما وأدبا ، ما يبطل به هذا الشذوذ الذي جاء في الكتاب المذكور. وقد قال بصريح العبارة: " هذا وإن المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة وكثر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل على الأئمة عليهم السلام في الكتب كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع أن المتتبع المحقق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد ، وفي الجملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها ، ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤول به إلى التنافي والتعارض ، وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين . هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلاًّ منهم إما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية ، وإما بأنه مضطرب الحديث والمذهب ، يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء ، وإما بأنه كذاب متهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثا واحدا ، وأنه معروف بالوقف ، وأشد الناس عداوة لرضا عليه السلام ، وأما أنه كان غاليا كذابا ، وإما بأنه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ومن الكذابين ، وأما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلو . ومن الواضح أن أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا ، ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة أن ننزلها على مضامينها..." . في مصادر السنة أخبار تزعم التحريف ويبدو أن الأخطر من ذلك هو وجود أخبار في صحاح السنة تؤدي نفس المعنى وهي كثيرة وصريحة في القول بالتحريف والنقيصة فضلا عن أنها صحيحة مخرجة في صحيح البخاري وصحيح مسلم وموطأ مالك وغيرها، ومنسوبة إلى الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وأبي موسى الأشعري وغيرهم. ومع ذلك لم يتحامل الشيعة على السنة واتهامهم بالقول بتحريف القرآن. بل فيما يبدو لي أن أخبار التحريف والنقيصة توجد في مصادر السنة أكثر من وجودها عند الشيعة. فقد ذكر الخطيب الشربيني الشافعي في تفسيره السراج المنير: " وحكي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأبان بن عثمان : أنّ ذلك غلط من الكتاب ، ينبغي أن يكتب " والمقيمون الصلاة " . وكذلك قوله في سورة المائدة : ( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصابئون والنصارى ) وقوله تعالى : ( إنّ هذان لساحران ) قالا : ذلك خطأ من الكاتب ، وقال عثمان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره ؟! فقال : دعوه فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً . وعامّة الصحابة وأهل العلم على أنّه صحيح " . وكذا ذكره ابن الخطيب في الفرقان بعنوان " لحن الكتّاب في المصحف ": " وقد سئلت عائشة عن اللحن الوارد في قوله تعالى : ( إنّ هذان لساحران ) وقوله عزّ من قائل : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) وقوله جلّ وعزّ : ( إنّ الذّين آمنوا والّذين هادوا والصابئون ) . قالت : هذا من عمل الكتّاب ، أخطأوا في الكتاب" . وقولة للشعراني الحنفي في الكبريت الأحمر: " ولو لا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان". وقولة للثوري أوردها السيوطي في الدر المنثور: " بلغنا أنّ ناساً من أصحاب النبي صلًى الله عليه وآله وسلّم كانوا يقرأون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من القرآن ». وذكر السيوطي في الدر المنثور: " أخرج عبد الرزاق في المصنّف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن منيع والنسائي ، والدار قطني في الأفراد ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصحّحه وابن مردويه ، والضياء في المختارة : عن زرّ ، قال : قال لي اُبيّ بن كعب : كيف تقرأ سورة الأحزاب أو كم تعدّها ؟ . قلت : ثلاثاً وسبعين آية . فقال اُبي : قد رأيتها وإنّها لتعادل سورة البقرة وأكثر من سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم » فرفع منها ما رفع ". ويذكر أيضا عن عائشة ، أنّها قالت : " كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن ". ويذكر: " أخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه ، عن حذيفة ، قال : التي تسمّون سورة التوبة هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحداً إلاّ نالت منه ، ولا تقرأون ممّا كنّا نقرأ إلاّ ربعها ». و روى مسلم في صحيحة عن مسلم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي ، عن أبي موسى الأشعري ، أنّه قال لقرّاء أهل البصرة : « وإنّا كنّا نقرأ سورة كنا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فنسيتها غير أنّي حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوفه إلاّ التراب " . وذكر السيوطي في الإتقان سورتين سمّاها : ( الحفد ) و ( الخلع ) وروى أنّ السورتين كانتا ثابتتين في مصحف اُبيّ بن كعب ومصحف ابن عبّاس ، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام علّمهما عبدالله الغافقي ، وأنّ عمر بن الخطّاب قنت بهما في صلاته ، ... وأنّ أبا موسى كان يقرؤهما. كما أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : "إنّ الله بعث محمداً بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلّى الله عليه وآله ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله . ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن أبائكم ، أو : إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ... " . وذكر مالك بن أنس في الموطّأ عن سعيد بن المسيب وهو من أكابر التابعين عن عمر قوله : « إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل : لا نجد حدّين في كتاب الله ، فقد رجم رسول الله صلّى الله عليه وآله ورجمنا . والّذي نفسي بيده : لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ( الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة ) فإنّا قد قرأناها " . وأخرج ابن ماجة في سننه عن عائشة ، قالت : " نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها". أخرج مسلم صحيحه عن أبي الأسود ، عن أبيه ، قال : " بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم ، فاتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنّا كنّا نقرأ سورة كنا نشبّهها في الطول و الشدة ب « براءة » فانسيتها ، غير أنّي حفظت منها : « لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب " (6) . الإمام البغوي في تفسيره أن بعض الصحابة قالوا إن لفظ القرآن {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ }(النساء/162) هو تحريف وخطأ من الكاتب حينما كتب المصحف : " {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} اختلفوا في وجه انتصابه ، فحكي عن عائشة وأبّان بن عثمان أنه غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب ( والمقيمون الصلاة ) وكذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} وقوله {وإِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ، قالوا : ذلك خطأ من الكاتب . وقال عثمان إن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها فقيل له : ألا تغيّره ؟ فقال : دعوه ! فإنه لا يُحلّ حراما ولا يحرم حلالا . وعامة أهل العلم على أنه صحيح ". ولا يخفى أن منهج أهل السنة بل وحتى السلفية في عهد شيخها الأكبر بن تيمية لم يكونوا يقولوا بكفر من اعتقد بتحريف القرآن من الصحابة أو التاربعين وغيرهم. وذلك لوجود شبهة في المقام تستدعي التوقف. ويكفي أن ابن تيمية نفسه أشار إلى ما كان من اختلاف السلف في قضايا تتعلق بحروف القرآن وبأن ذلك مما جرت به العادة فلا يكفر صاحبه ، بل عد بعضهم من أئمة المسلمين ، فيقول في رسائله: " وأيضا فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل ، واتفقوا على عدم التكفير بذلك ، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي و أنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف ، وكذلك لبعضهم في قتال بعض ولعن بعض وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة ، وكان القاضي شريح يذكر قراءة من قرأ ( بل عجبتَ ) ويقول : إن الله لا يعجب ، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال : إنما شريح شاعر يعجبه علمه ، وكان عبد الله أفقه منه ، فكان يقول ( بل عجبتُ ) فهذا قد أنكر قراءة ثابتة ، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنّة ، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة ، وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن ، من إنكار بعضهم قوله {أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا}(الرعد/31). وقال: إنما هي ( أولم يتبين الذين آمنوا ) ، وأنكر الآخر قراءة قوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}(الإسراء/23) (7) . ويذكر ابن حزم في المجلد الأول من كتاب الإحكام في أصول الأحكام: " وقد قال قوم في آية الرجم إنها لم تكن قرآنا وفي آيات الرضعات كذلك . قال أبو محمد –أي ابن حزم- : ونحن لا نأبى هذا ولا نقطع أنها كانت قرآنا متلوا في الصلوات ولكنا نقول إنها كانت وحيا أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه (وآله) وسلم مع ما أوحى إليه من القرآن فقرئ المتلو مثبوتا في المصاحف والصلوات وقرئ سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط " (8). فيبقى السؤال: إذا كان هذا الكم الهائل من الأخبار التي لم نذكر منها إلاّ عينات قليلة جدا، موجودة في تراث السنة المعتبر والصحيح، فهل يقال أن مذهب السنة يرى القول بالتحريف؟ في نظري عبثا أن يقال ذلك. إن وجودها في أصح كتب السنة لا يعني اعتقاد الناس بها فما بالك إن كانت تدخل في ضعيف الأخبار عند الشيعة وتكذبها رواياتهم وشهادات كبار أعلامهم منذ ألف سنة حتى اليوم. وعندي يقين شديد بأن الاختلاف بين المسلمين في هذا الأمر لا يتعدى الاصطلاح. ولذا وجدنا أن يعضهم تقبل اصطلاح التنزيل والخلاف حوله من دون اعتراض. مما يؤكد أن لمفهوم التنزيل عند السلف ما ليس عند المحدثين. فالأوائل اعتبروه أعم من القرآن فيما أصبح عند المحدثين يؤدي معنى القرآن. وما محنة توحيد القراءات إلا مثالا على ذلك. وإلا ما معنى أن يسعى عثمان إلى حرق القرائين للإبقاء على رواية زيد . وبتعبير آخر رواية لا تتضمن تنزيلات وتأويلات من كانوا محسوبين على المعارضة السياسية . إن القدامى اعتبروا التنزيل أوسع معنى. أي من التنزيل ما يؤدي غرض التأويل أو المعنى غير المقروء. ومثال ذلك كثير. انظر ما جاء في كلام صاحب تفسير المنار:: " وليس كل وحي قرآناً فإن للقرآن أحكاماً ومزايا مخصوصة وقد ورد في السنة كثير من الأحكام مستندة إلى الوحي ولم يكن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ولا أصحابه يعدونها قرآنا ، بل جميع ما قاله عليه السلام على أنه دين هو وحي عند الجمهور واستدلوا عليه بقوله {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(النجم/3-4). وأظهره الأحاديث القدسية . و من لم يفقه هذه التفرقة من العلماء وقعت لهم أوهام في بعض الأحاديث رواية ودراية وزعموا أنها كانت قرآناً ونسخت " (9) . وقد يسلم الخصم بالإجماع الشيعي على صحة الكتاب وعدم وقوع التحريف. لكنه يتساءل لماذا لم يكفروا من روى أخبار التحريف مثل الشيخ النوري. والحقيقة أن ما ذكرنا يكشف عن حقيقة الموقف. وإلاّ ، كيف لا يتساءل الشيعة أيضا لماذا لم يكفر أهل السنة البخاري وغيره من المحدثين الذي رووا أخبار التحريف؟! والحل؟ الحديث عن التحريف والحرف وما شابه هو من لوازم التأويل. ففي اصطلاح الأوائل ليس كل حرف غير مقبول. بل الحرف عندهم يفيد معنى التأويل. والتأويل هو يصرف المعنى عن ظاهره متى توفرت القرائن لذلك وليس مع عدمها. والأهم أن العاصم في التأويل هو إحكام آياته بعضها بعضا ، من خلال عرض متشابهه على محكمه. وفي مثل هذا يمكن تحقيق تنزيلات وتأويلات يكبر بها المعنى ويصير تنزيلا وتأويلا لجهة تعبيره عن المعنى الحقيق وليس من جهة كونه قرآنا. فعرض المتشابه على المحكم يحكمه ويجعله معنى منزلا متولدا من رحم القرآن نفسه. وقد أوضحنا ذلك في مكان آخر. ما يعني أننا لو سلكنا طريق السلف الصالح وليس للسلف الصالح من طريق غير هذا، العودة إلى القرآن واستنطاقه بحرفه واستنزال معناه وتوليد دلالاته وتثوير آياته فإذا للبطن بطن وللظهر ظهر. لو فعل المسلمون ذلك وتحاكموا إلى هذا المنطق ، لكانوا على المحجة البيضاء وكفوا عن الزعيق فيما لا ينفعهم في دنياهم ولا آخرتهم. فالجامع للأمة هو هذا المنهج نفسه الذي يجعل حرف المعنى وتأويل القرآن طريقا لبلوغ الحقائق واختراق الحصار المعنوي للنص. القرآن كامل نصا ولكنه غير مستنطق وغير مستنزل. فالمشكلة في الدراية لا في الرواية.. وفي التأويل لا في التنزيل.. وفي تجدد المعنى لا في أسباب النزول..فالقرآن ليس محرفا وعلى المسلمين أن يحرفوه، أي يخرجوه من خصوص السبب إلى عموم المعنى. وفي الختام أقول: لا أحد من المسلمين يعتقد بهذه الفرية. وعلماء أهل السنة لا يصدقون هذه الكذبة التي لفقها خصوم الشيعة ضد الشيعة كما هي سائر التلفيقات الغرائبية التي ألصقوها بهم . يكفي ما قاله الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " الإمام الصادق ": "القرآن بإجماع المسلمين هو حجة الإسلام الأولى وهو مصدر المصادر له ، وهو سجل شريعته ، وهو الذي يشتمل على كلّها و قد حفظه الله تعالى إلى يوم الدين كما وعد سبحانه إذ قال{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر/9). وإن إخواننا الإمامية على اختلاف منازعهم يرونه كما يراه كل المؤمنين " . بل ما أروع ما شهد به الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، منصفا متقيا ومتقززا من هذه الفرية حيث قال: " سمعت من هؤلاء يقول في مجلس علم : أن للشيعة قرآنا آخر يزيد وينقص عن قرآننا المعروف ! فقلت : أين هذا القرآن ؟ ! ولماذا لم يطلع الإنس والجن على نسخة منه خلال هذا الدهر الطويل ؟ لماذا يساق هذا الافتراء ؟ ... ولماذا هذا الكذب على الناس وعلى الوحي " . قد يكون الشيخ أبو زهرة بليدا في نظر أغيلمة الإساءة والتكفير. وقد يكون الشيخ الغزالي مسكينا مغررا به في نظر دراري فخخت أذهانهم بمحفوظات التجديف الأحمق. غير أن الحقيقة مهما كثر حولها الضوضاء تظل شامخة تتحدى تضاريس الزمان الأغبر، لتعانق عنفوانها في نهاية المطاف. وبهذه الشهادة العقلائية من شيوخ التسامح والفقه ندرك سر الحكاية وبها نختم! ------------------------------- 1 اعتمدنا في ذكر النصوص على الكتاب القيم لأبي عمر صادق العلائي، المعنون: " إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف". كما يمكن الوقوف على هشاشة هذه الفرية في مجمل الأبحاث المقدمة حول التحريف ، في كتاب البيان للسيد الخوئي وأبحاث إثبات عدم التحريف للسيد مرتضى العاملي والسيد علي الميلاني وغيرهما ، ففيهما مزيد تفصيل. 2 أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية ج1 ص243 – 247 3 الاعتقادات ص59-60. 4 التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي 1 : 3 . 5 البيان : 27 6 التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف بقلم السيّد علي الحسيني الميلاني انتشارات الشريف الرّضي 7 كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج12ص179-180 8 ابن حزم الأندلسي : الإحكام في أصول الأحكام ، م1 ج4ص493 ط دار الكتب العلمية 9 تفسير المنار المجلد الأول ص 414-415 . ط دار المعرفة. [email protected]