الله سماها تقية.. فأين الإشكال؟! "" قبل البدء : خبر أخبر كل من يهمه الأمر أن بريدي الإلكتروني السابق أصبح في حكم الملغى بعد أن تم الاعتداء عليه من قبل جهة ما حيث شرعت فورا في العبث به وتغيير المفتاح. ربما تتسع شريعتهم وأخلاقهم إلى أن يستبيحوا حرمات الناس ويتجسسوا على بريدهم الشخصي ويتصرفوا فيه بكل راحة ضمير. لقد صرح الشخض مجهول الحال عن هذا الاختراق وعن توجهه السلفي . ربما تلك هي حيلة العاجز. وتلك هي طريقتهم في قمع التفكير الحر والنقاش العلمي حسبنا الله ونعم الوكيل لكننا سنتستمر في توضيح كل تهمة رخيصة يقذفونها في وجهنا لنقول لهم إننا لسنا كما تتوقعون وكما تهندسون صورتنا العبثية الحمقاء في أذهانكم. لننتفض في وجه الصورة النمطية الهوجاء من أجل نبذ عوامل الفرقة وسوء الفهم والجهل ليفيق المسلمون من سباتهم المذاهبي والطائفي ويحترموا بعضهم بعضا على أساس من العلم والأخلاق. ولي مع هذا الموضوع وقفة لاحقة إن شاء الله لمزيد من التوضيح. على أن بريدي الجديد هو: [email protected] قليل من الفقه يكفي لا زلت أرى وراء كل خلاف مصطنع خلل فقهي وهشاشة نظر.. كما أرى خلف كل إسراف وتجديف لا يتقيد بموازين علمية وأخلاقية، نذرة عقل وقلة دين.. وفيما كان من خصومة بين الشيعة والسنة على مدى فترات طويلة من التاريخ لم يكن استجابة لمعقول صريح ولا لمنقول صحيح.. أحيانا نخالف قواعد الفقه ونعاكس قوانين العقل فنقع في المحذور.. فما لم يلتفت إليه خصوم الشيعة هو أنهم لم يروا فيهم ما يصلح في أصول أو في فروع البتة.. إنهم شر مطلق.. ترى هل يوجد فوق كوكبنا من يملك حتى لو أراد أن يكون أبو الأبالسة شرا مطلقا؟! لم أجد في معروض خصوم الشيعة اعترافا بإيجابية واحدة حتى لو تعلق الأمر بنضالات الشيعة من أجل خير الأمة وصلاحها.. حتى لو مات الشيعة عن بكرة أبيهم دفاعا عن شرف الأمة فهم متآمرون.. حتى لو قدموا من العلم ما يصلح حال الأمة اتهموا بالجهل.. لم أجد في معروض خصومهم فهما لمقالاتهم ولا تفهما لرأيهم ولا تفاهما حول المطلوب فعله.. هناك إرادة استئصال هوجاء تستهدف أصل وجودهم حتى كانت مشكلة الشيعة مع خصومهم مشكلة أنطولوجية بامتياز. وفي مثل هذه الحالة يتساءل العقلاء: أين الفقه في كل هذا.. وأين العقل.. وأين الأخلاق.. وأين و أين؟! لذلك لا زلت أعتقد أن طريق تضميد هذا الجرح الخلافي النازف هو تصعيد الممارسة الفقهية والفكرية مستندة إلى وازع أخلاقي. فخصوم الشيعة لا يؤمنون بالموازنات في الجرح والتعديل.. بينما إذا افتقدنا الموازنات اختل الاجتماع وانتشر التطرف والغلو وحصل الهرج والمرج. إن الفتنة ليست هي إظهار ما يحبط التزييف وما ينور العقول وما يرشد النفوس إلى الحقائق في شروطها الموضوعية وإلى المواقف الصحيحة.. الفتنة تبدأ حينما نمكّن للإسراف أن يأخذ مداه ويعربد فوق الرؤوس ، وحينما نسمح للتغلب أن يستبيح من الحقيقة يابسها وأخضرها. حينما عيّروا الشيعة بالتقية لا يجوز لفقيه عاقل ومنصف أن يسرف إسراف خصوم الشيعة في تعييرهم بالتقية كما لو كانت أمرا منتحلا ويحمل من الحقيقة ما تصنعه مخيلة خصومهم. لسبب بسيط، هو أن التقية قضية مفهوم ومسألة حكم وليست سبة. وأي إطلالة على معناها اللغوي وحقيقتها الشرعية في مصادر الفقه الإسلامي يكشف بلادة المجدفين . فهي لا تصلح لهذه الملهاة التنابزية والقدحية والتهريجية ، لأنها عقيدة المسلمين سنة وشيعة ، ولأنها عقيدة العقلاء طرا. فلا يستبيح الشيعة منها إلاّ قدر ما يستبيحه أهل السنة منها. ولا يستبيح المسلمون منها إلا بقدر ما يستبيحه مجتمع العقلاء منها. فالتقية من فقه الضرورات. والضرورات تقدر بقدرها. والتقية مباحة والكذب حرام. فقد كذب خصوم الشيعة حينما اعتبروها كذبا. التقية رخصة والكذب حرام. فحتى في الموارد التي أباحت الشريعة فيها الكذب كما في إصلاح ذات البين، فإن ذلك لا يعد كذبا بعد أن فقد عنوان الكذب الحرام. والتقية هي تكليف الخائف أو المضطر لحفظ ما ضمنته مقاصد الشريعة كحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. فالتقية شرعت لحماية الدين ولحماية العقل ولحماية باقي الضروريات التي هي مناط مقاصد الشرع. يزعم خصوم الشيعة أن الشيعة يؤمنون وحدهم بالتقية بعد أن صنعوا لها معنى زائفا في مخيلتهم ثم جعلوها ممضوغا آخر في التجديف المرضي ضد الشيعة . بتعبير آخر إنه "كوشمار" شيعي مرضي كما صوره خصومهم على شاكلة رسم أحمق. وحتى لا يستمر التلبيس على المسلمين بهذا الخصوص كان لا بد من إحقاق الحق فنقول: ما هي التقية وهل قدر الشيعة أن يتعبوا أنفسهم بإعلان حسن النوايا حتى قيام الساعة. وهل مع استمرار هذا المنظور الخرافي يمكن أن يستتب أمر الوحدة وبناء الثقة بين مكونات الأمة. أو هل سيكون أمر الشيعة مريبا على طول وليس لهم سوى أن يقولوا متى قالوا أو فعلوا على أساس، صدق أو لا تصدق!؟ التقية كما يعرفها الشيعة حكمة صادقة.. وهي كما يعرفها خصومهم جبن وخور وخداع ومراوغة وكذب. فكيف يقال ذلك وقد قال إمامهم يوما: لو تظاهرت علي العرب ما وليت هاربا! وما ذا سيفعل الشيعة بكل هذه التعاليم الحاثة على نبذ الكذب وتعظيم خطره و مكارم الأخلاق التي اكتضت بها مصنفاتهم ونهض عليها نظامهم التربوي؟! لقد ارتبط مفهوم التقية بالعقائد الشيعية ، حتى بات في نظر خصومهم واحدا من مميزات الشخصية الشيعية لا تنفك عنها بأي حال من الأحوال . وذلك بعد أن تعدوا بالمفهوم إلى مطلق السلوك الشيعي الفردي والجماعي على السواء. فلم يكن غريبا أن يتحدث أحد المحللين عن موقف الشيعة بالعراق بأنهم يمارسون التقية مع الأمريكان. ولقد بالغ خصوم الشيعة في هذه النعوت بل وأصبحوا يحملون عنها فهما خرافيا لا يقل سذاجة عن خرافة الشيعة أصحاب أذناب البقر التي طالما تغذى عليها العقل التكفيري ردحا من الزمان. والواقع أن مفهوم التقية بعد أن كان مفهوما ذا أهمية قصوى ودلالة عالية في العقائد الإسلامية ، سرعان ما تحول إلى معنى قدحي ، دفع الشيعة بموجبه الثمن غاليا ، حيث ظن غالبية الناس من ضحايا التجهيل ، بأن الشيعة غير صادقين في ما يظهر من كلامهم. ولا يخفى أن المنظور الذي يحمله خصوم الشيعة عن الشيعة بخصوص مفهوم التقية ، هو بخلاف الطبيعة البشرية وبخلاف الواقع التاريخي الذي عاشوه ولا يزال دربه ممتدا أمامهم وبخلاف منظومتهم المعرفية. فأما من جهة الطبيعة ، فإن بشريتهم مانعتهم من أن يكون لهم باطن دون ظاهر كسائر خلق الله أجمعين بمن فيهم إبليس اللعين. فإذا كان مستساغا لدى من رأى فيهم يوما أنهم ليسوا بشرا ، بل لهم أذناب بقر ، فحتما سيصدق بكل ذلك إلا أن يقال أن لهم باطن فقط ، حيث كل ما للحيوان ، ظاهر لا محالة. فأن يكون سلوك الشيعة محكوم بهذا الستار الحديدي من التقية في الصغيرة والكبيرة، دليل على طبيعة العقل الذي يتحلى به خصومهم، وهزال التفكير الذي لا يزال يشكل القاعدة المنطقية لمثل هذه النعوت. وأما من جهة التاريخ، فإن الشيعة كانوا ولا زالوا يتواصلون ويتفاعلون ويكتبون ويحاضرون ويجاهدون ويبنون..ومثل ذلك لا يستقيم بالباطنية المطلقة، والتقية الشاملة لفعلهم. وكيف يقال أنها كذلك ، في حين أن السر لو ذاع في المجتمع وفشا بين الناس عز أن تجد له حاجبا . فمادام للشيعة مجتمعا وما دام مجتمعهم محكوما بسنة الاجتماع البشري من نزعات وخصومات وعواطف وانفعالات ومعاملات وذنوب ، فحتما لن يكونوا باطنية على طول الخط ، بل ولكان انتهى التواصل بينهم منذ زمن بعيد. لجهة أن قوام التواصل هو ثبوت إرادة المتكلم وجريان الفهم على قانون التلقي ، الذي يقوم على حجية الظواهر وقرينة الحكمة كما يقول الأصوليون. للتقية فقه وحدود وأما من جهة منظومتهم المعرفية ، فلك أن تنظر في عقائدهم ، حيث ظن الكثيرون أن التقية من العقائد التي تتقوم بها أصولهم . في حين التقية هي سلوك طبيعي وموقف عقلاني وعقلائي أمضاه الشارع بنص الآية وجملة الروايات التي كان أول مواردها حادثة الصحابي الجليل عمار كما لا يخفى. ولك أن تتأمل مورد الآية، حيث رفع الحرج عن عمار بن ياسر لم يسلب قيمة الصدح بالحق الذي قضى في سبيله أبواه، ثم قضى فيه هو نفسه في معركة الحق جنديا في المعسكر العلوي الشريف ضد معسكر معاوية الباغي . فهم صدحوا وهو اتقى، وكلاهما له حكم خاص، فتأمل! وهي تمثل ما سماه غيرهم تورية وما إليها من عبارات تؤكد على المطلب ولا تنفيه وإن كانت تخالف الاصطلاح الذي أقره القرآن ليتحول من معناه اللغوي المعروف ، إلى حقيقة شرعية بموجب هذا المورد. مع أن أصل التسمية هو ظاهر الآية : "إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه" . ولعمري هي المرة الأولى التي أرى الشيعة يعيرون بمبدأ سماه القرآن ولم يسموه إلا تمسكا به. ومن جهة أخرى، ما كان للشيعة أن يكون لهم هذا التراث الكبير من الفروع لو أن التقية قامت عندهم على خلفية هذا المنظور الخرافي المستحيل تحققه في عالم النوع. فلا شك في أن الفروع تتحصل بظاهر الكلام، وأنهم أدركوا في عملية الاستنباط أن كلام العقلاء وذلك هو مفاد قرينة الحكمة تام وظاهر ومفيد. وما استثني عند التعارض بسبب التقية إنما هي واحدة من طرائق فك التعارض بين الروايات عند انسداد باقي الطرق المقدمة في المقام. ولو كانت التقية مساوقة للكذب، لكان الإمامية أولى بنبذها لما علمت أن مذهبهم في التخلق على مذهب الأبطال والفرسان من آل محمد ص . وليس للشيعة من مائز عن السنة في هذا الاعتقاد إلا الاصطلاح. فالسنة تسميه تورية والشيعة تسميه تقية. والتقية هي مصطلح قرآني، لقوله: "إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه"(آل عمران /28). وهي الآية التي نزلت في شأن عمار لما قال له : إن عادوا فعد. أي اتقيهم، بإعلان الشرك دون أن تعتقد بذلك. وهي وسيلة عمار للنجاة من المشركين. وهي فضلا عن ذلك سيرة العقلاء في كل دين وفي كل جيل: أن تظهر خلاف ما تعتقد دفعا لضرر مكروه في شروط تفرضها ضرورات مشخصة مشروطة أيضا. من هنا قوله تعالى :" إنَّما يَفتَري الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بآياتِ الله وأُولئك هم الكاذبون . مَنْ كَفَرَ باللهِ مِن بَعدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمئنٌ بالإيمان"(1) . التقية مفهوم قرآني لماذا يسعى خصوم الشيعة إلى هذا التهويل في أمر تقرر في محكم التنزيل. ولا أدري إلى متى سيستمر هذا الإسراف في تعيير الشيعة في أصول وفروع تمسكوا فيها بالقرآن والسنة حتى وإن سعى خصومهم لاحتكار السنة خارج مدرسة أهل البيت الذين لم يرووا لهم ما يغني اللبيب واكتفوا بادعاء احترامهم كما لو كانوا ضيوف الرحمان لا يستحب أن ينزلوا في القلب أكثر من ثلاثة أيام قبل أن نضيق بهم ضرعا ونبتغي سواهم. والمفسرون السنة يقرون بأن التقية مفهوم قرآني من خلال تعيين أسباب النزول وتفسير واقعة عمار المذكورة. يذكر الطبري في تفسيره ، على هامش قوله تعالى " لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ": "وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان. وقال آخرون: معنى:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة. ذكر من قال ذلك: - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله:"إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين. - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء"، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه، وقوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك. - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا. قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة= فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على معنى الكلام. والتأويلُ في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمَل فيهم"(2). وفي الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، نجد قوله: "ثم استثنى وهى: الثانية - فقال: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما. وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك: " إلا أن تتقوا منهم تقية " وقيل: إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الايذا العظيم. ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في " النحل " إن شاء الله تعالى"(3). ويذكر الرازي في تفسيره للآية الكريمة نفسها: "المسألة الثالثة : قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ، ومحمد رسول قريش ، فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله؟ فقال : إني أصم ثلاثا ، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه . » واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ). المسألة الرابعة : اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها . الحكم الأول : أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يعرض في كل ما يقول ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب . الحكم الثاني للتقية : هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل ، ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة . الحكم الثالث للتقية : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة ، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين ، فذلك غير جائز البتة . الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس . الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ولقوله صلى الله عليه وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فكيف لا يجوز ههنا ، والله أعلم"(4) . ومثله ذكر صاحب الدر المنثور في التأويل بالمأثور: "وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { إلا أن تتقوا منهم تقاة } فالتقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإِيمان ، فإن ذلك لا يضره إنما التقية باللسان . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) قال ( التقاة ) التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإِيمان ، ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) قال : إلا مصانعة في الدنيا ومخالقة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في الآية قال ( التقية ) باللسان وليس بالعمل . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) قال : إلا أن يكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك"(5) . وأما الخازن فيؤكد على ذلك أيضا في التفسير بقوله: " وقيل : إنما تجوز التقية لصون النفس عن الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان" (6). وهنا يبدو الأمر في غاية الوضوح. إن كل المفسرين من أعلام السنة أكدوا على أسباب نزول تلك الآية ، وسموها تقية بتعبير القرآن. كما تحدثوا عن أصل شرعيتها في حدود الكبرى. ويبدو أن الذين يتحدثون اليوم عن التقية كما لو كانت أمر لا سند ينهض بها من قرآن أو سنة ، إنما هم يسلكون طريق الخوارج الذين انفردوا برفضها . إن الكفر بالتقية هو منهج الخوارج لا السنة. فانظر ما يقول الآلوسي مثلا : " أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلاً ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة منها أن أحداً لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه/ في صلاته كي لا يهرب ، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان "(7). ومن السنة ما لا يخفى ولولا خشية الإطالة لسردت من أمثلة هذه التقية من عهد الصحابة حتى آخر المتشرعين.. ومن عهود الرسالات السابقة حتى الرسالة الخاتمة ، من المواقف والأعمال التي جاءت بنحو التقية وصرّح بها القوم. ولو شئت أن آتيك بأمثلة لهذه التقية كما مارسها أئمة المذاهب السنية الأربعة لملأت بها الوعاء. وحسبي من موقف لأبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى في مسألة خلق القرآن. يذكر الخطيب البغدادي عن سفيان بن وكيع قال : «جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعتُ أبي حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟ فقال : مخلوق. فقال: تتوب وإلاّ أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله . قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق .فقال أبي : فقلت لاَبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟ قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ فأعطيته التقية"(8). ودعني أعلن أمرا لم يدركه الشيعة والسنة معا. وهو أنني أدركت أن الشيعة هي أقل ممارسة للتقية بمعناها الأناني العاري عن حود الشرع. لأن الشيعة وحدهم عبر التاريخ استرخصوا أنفسهم للحديث عن فضائل أهل البيت ولم يتقوا في ذلك أحدا. بينما الكثير من المسلمين أخفوا الحديث عن فضائلهم ومارسوا أفعالا خلاف قناعاتهم تقية للسلطان. وهذا ما يفسر أن ما أظهره الشيعة أخفاه السنة ولم نجده إلا على هامش مذاهبهم. والأمثلة في ذلك طوع البنان ليس يسعنا المقام لذكرها. وحسبك المحدث الزهري وحديث الغدير سابق الذكر نفسه. يذكر ابن الاَثير في أُسد الغابة عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري قال : "سمعت سعيد بن جناب يحدث عن أبي عنفوانة المازني ، قال : سمعت أبا جنيدة جندع بن عمرو بن مازن ، قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وسمعته وإلاّ صُمَّتا يقول : وقد انصرف من حجة الوداع ، فلمّا نزل غدير خم ، قام في الناس خطيباً وأخذ بيد علي ، وقال : " من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه " . قال عبيد الله : فقلت للزهري : لا تحدث بهذا بالشام ، وأنت تسمع ملء أذنيك سب عليٍّ . فقال : والله إنّ عندي من فضائل علي ما لو تحدثت بها لقتلت"(9). وهذا واضح، فقد تلقى الإمام النسائي ضربا مبرحا من قبل أهل الشام لمجرد أن ألف في خصائص علي بن أبي طالب. لو مارس الشيعة التقية بالمعنى الذي يفهمه خصومهم لما سالت من أبنائهم أودية من الدماء خلدها التاريخ. وإنما التقية بالمعنى الشيعي لها أحكام. فهي شرعت لحفظ النفس والمال والدين والعرض والعقل. أي بتعبير أوضح إنما شرعت كباقي ما شرع من الأحكام ورخص من رخص حفظا لمقاصد الشريعة. ولذا فهي تدور معها، وتستمد مشروعيتها منها. لذا حرمت التقية في مقام الدماء لأنها متكافئة بين المسلمين ولشدّتها في أحكامهم أيضا. كما منعت في الفتيا لأنها بخلاف الغرض من البيان إلا ما كان له حالات استثنائية سرعان ما تم تداركها لبيان حيثيتها ، فكانت الفتوى اللاحقة ناسخة للأولى مبينة وجه التقية فيها. وعموما هناك من أعلام السنة من أوضح ذلك بما لا مجال لرده. ابن العربي المالكي (ت 543 ه) في أحكام القرآن ذكر في كلامه عن حديث الرفع كما مرّ اتفاق العلماء على صحة معناه ، وانهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن اجماعهم على أن ما استُكرِه عليه الاِنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقية . جمال الدين القاسمي الشامي (ت 1332 ه) في محاسن التأويل، قال : "ومن هذه الآية : " إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنهُم تُقَاةً ) استنبط الاَئمة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام مرتضى اليماني "، . ومع ذلك فالشيعة لا ترى التقية في أمور كثيرة كالقتل مثلا. وعموما للتقية أحكام تندرج في الأحكام الخمسة وليست أمرا مفتوحا للشطط. ودائما الشيعة يدفعون ثمن اصطلاحهم وتسمية الأشياء بأسمائها وتأصيلها على قاعدة العلم وفي دائرة الوضوح. أقول: التقية إدانة للمجتمع الظالم الذي يفرض قمعه على الإنسان وليست للمتقي. فإذا أمكن الإنسان أن يعبر عن رأيه ارتفعت الحاجة إلى التقية. فإذا رأيت مجتمعا يضطر فيها الشيعة للتقية فهو مجتمع ظالم. فهذا مؤشر على ظلم المجتمع لا على تهمة الشيعة وغير الشيعة . لأن المسألة تتعلق بحالات كان فيها الشيعة يعيشون في أوضاع ظالمة مزرية. وفي مثل هذه الحالة تصبح تلك حالة إنسانية تجري مع كل دين ومع كل نحلة. وللتذكير فقط: لم يعد في زماننا أي حاجة للتقية بالمعنى التقليدي للعبارة. والشيعة اليوم يفكرون بصوت عالي، والماضغون لتهمة التقية، نغمة قديمة. وخصوم الشيعة اليوم لا يملكون تخويف أحد ولا يملكون ذلك في المستقبل. لأن العالم تطور كفاية لكبح جماع التوحش في ممارسة الغلب السافر . والكون الحديث لا يقبل بالإبادات الرعناء على الهوية. وفوق هذا وذاك إن الشيعة اليوم في العالم يملكون من القوة ما من شأنه أن يحمي وجودهم ومصالحهم وفكرهم، فهذا واقع . فلم التقية إذن، وممن سيتقي الشيعة ويخافون؟! هناك فرق بين المودة والاحترام وخفض جناح الذل من الرحمة وبين الخوف الذي لم يعد له مكانا في قلوب الشيعة الذين أدركوا من تجربة كربلاء كيف تكون مظلوما فتنتصر. وكيف ينتصر الدم على السيف. وكيف تكون حرا وفوق رأسك اختلفت السيوف. فمن كان من غير هذه الطينة فهو مشكوك في تشيعه حتى لو ادعى ذلك. إذن ارتفع موضوع التقية ولم يتبق إلا ما يضارع حسن المجاملة والتورية وما يقتضيه معاش الناس في إصلاح ذات البين . وهذا يجعل التقية تكليفا في صغريات الأمور وهو بين الشيعة والشيعة يجري مجراه بين الشيعة والسنة. علينا أن نلف على الحقائق الصغيرة من أجل إصلاح كبرياتها. نتقي لنصلح بين المتخاصمين. نتقي لنصلح نزاعا بين أزواج وعوائل وقبائل وأمم. نتقي العالم كما لو كان طفلا صغيرا نحرص على سلامته ولا نجيبه إلا على ما يصلح أحواله. إنه منطق الأبوة مع عالم لا يعيش دائما على سلطة الحقائق. بل القسم الأكبر في معاشه قائم على الانفعالات والاندفاعات والأهواء والعواطف... وحينئذ فقط تصبح التقية شريعة المتعاملين من حيث هي عنوان للمجاملة وحسن المعاشرة وسنة التواصل في الحد الذي يميزها عن الكذب القبيح في دنيا اجتماع العقلاء بله المتشرعة. فالتقية ها هنا حسن معاملة وتدبير معاش يفعله الأب مع ابنه .. والزوج مع زوجته.. والراعي مع الرعية... فالمشكلة هي في الاصطلاح . ولو قدر أن نسميها باسم مختلف لقلنا هي فن إدارة المعاملات وفن التواصل مع المختلف وفن التعايش في عالم متعدد.. وهنا تصبح الابتسامة تقية وحسن المعاملة تقية والصدق نفسه تقية لأننا إذا لم نصدق في مجتمع العقلاء سيكون في الأمر ضرر وأما الكذب فهو أمر بيّن واضح لا يحتاج إلى توضيح. فحدوده معلومة وأغراضه مفضوحة. والشيعة تحرص على الصدق حرص كل العقلاء. والكاذب فاقد العدالة في الفقه الشيعي . والكذاب مرذول ساقط في المجتمع الشيعي. وما قاله الشيعة في مدح الصدق وذم الكذب لا يتسع له أسفار بكاملها. ولا يكاد يفهم خصوم الشيعة الدلالات الإيجابية لمفهوم التقية وهي ما تفوق المعنى الساذج للخوف. إن التقية هي تكليف في حال مطلق الحرج ما لا تكون في أمر خارج بالدليل. ليس الخوف من القتل وحده يحل للمكلف التقية. فهي هنا تتحدد بموجب الأحكام الخمسة. وتتحدد بموجب مقاصد الشريعة أيضا. فمن هذه العينة ونظائرها يتأكد أن ما يتهم به خصوم الشيعة الشيعة لا موضوع له. بل هو تحامل وإسراف في التبشيع، وجهل في جهل. هذا هو معنى التقية بكل بساطة . وأن الخلاف وهمي يتحلل بمجرد التقدم في الفقه والنظر. -------------------------------- 1 سورة النحل : 16 | 105 106 2 أبو جعفر الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن ج6 ص 316 ، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة ط 1 ، 1420 ه - 2000 م 3 الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ج 4 ص57 ، ط: دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه - 1985 م 4 مفاتيح الغيب ، فخر الدين الرازي، ج4 ص 169، انظر موقع التفاسير -5الدر المنثور في التأويل بالمأثور ، جلال الدين السيوطي ج2 ص 306 ، انظر موقع التفاسير 6 لباب التأويل في معاني التنزيل ، أبو الحسن الخازن، ج1 ص 358 ، انظر موقع التفاسير 7 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الألوسي ، ج 2 ص 481 ، انظر موقع التفاسير. 8 تاريخ بغداد 13 : 379 380 | 7297 في ترجمة أبي حنيفة تحت عنوان (ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن). 9- ابن الاَثير ، أُسد الغابة ج1 ص ، 194 في ترجمة جندع الانصاري الاَوسي بسنده عن محمد بن مسلم بن شهاب انظر موقع وراق [email protected]