نفتح هنا ملفا عن أزمة الكنيسة و هو ملف مترجم عن مجلة التايم الامريكية يشرح فيه الكاتب طبيعة الازمة التي ألمت بالكنيسة الكاثوليكية الامريكية بصفة خاصة و الكنيسة الكاثوليكية العالمية بصفة عامة . فقد توالت مؤخرا قضايا و دعاوى رفعت ضد عدد كبير من القساوسة الامريكيين بتهمة الاعتداء الجنسي على الاطفال ترجع فصول بعضها الى سنوات الستينات من القرن الماضي . و قد اعتبر الكثير من المتتبعين و المختصين ان الفضائح الجنسية لرجال الدين المسيحي شكلت ضربة قاصمة للرسالة المسيحية , حيث بات الكثير من المؤمنين المسيحيين يشككون في الدين نفسه و ليس فقط معتقد من معتقداته » بعدما كثرت و تزايدت الاتهامات بالاعتداءات الجنسية التي يرتكبها الرهبان الكاثوليك و بعد التستر الرسمي عليها , طالب الرومان الكاثوليك الغاضبون قادتهم و رؤسائهم بإصلاح الدين المسيحي . فالصدمة هي أن حالات كثيرة من هذا القبيل انتشرت كفيروس قاتل في نظر الرأي العام . فالأمر لم يعد يقتصر على بوسطن بل تعداه إلى لوس أنجلس و سانت لويس و مينوستا و فيلادلفيا و بالم بيتش و فلوريدا و واشنطن و بورتلاند و ماين و برايدج بورت و كونكنتيكت . و المريع في كل هذه الحالات ليس تفردها بهذه القضية بل في الشبه المرعب بينها. فقد تنوعت و تعددت الاتهامات الموجهة للرهبان الكاثوليك بالاعتداء الجنسي على الأطفال و اتهامات للكنيسة بالتستر عليها سواء القضايا التي تورط فيها الأب دان أو أوليفر أو روكو أو بريت « كان فرانك مارتينلي صبيا مشرقا يبلغ من العمر 14 سنة و أقسم كصبي الصليب بأن يصبح قسيسا فكان ينظر بتفاءل بالغ لمستقبل مشرق حين اصطحبه الراهب لورانس بريت الذي كان أيامها شابا في مقتبل العمر و راهبا مؤثرا و نشيطا . اصطحبه إلى كاثدرائية سانت سيسيليا في ستامفورد بولاية كونكتيكات و سجله ضمن قسم للتلاميذ الجدد الذين كانوا تحت رعاية برايت في مافيريك . لم تكن العلاقة علاقة تلميذ براهب نزيه و طاهر كما اعتقد مارتينلي في أول وهلة . فخلال إحدى النزهات في واشنطن تحرش الأب بريت جنسيا بالصغير فرانك حين حصره في أحد الحمامات . و في طريق العودة اجبره الأب على التفاعل معه جنسيا و بارك الأب ذلك العمل و اقنع الصغير بأن ذلك هو الطريق لحصوله على العشاء الرباني . و ككل الأطفال التزم الصغير الصمت . فقد شعر فرانك بالعار والحيرة و الخجل من أن ينطق بكلمة واحدة. و مارتينلي الآن يبلغ 54 سنة و لم يصبح قسيسا كما تمنى في صغره بل تزوج و له ابن و استقر في ميلووكي حيث يعمل كمستشار لإحدى المنظمات الخيرية . دمرت حياته بسبب الأسئلة الكثيرة التي لم يجد لها أجوبة و الغضب و الاكتئاب و فقدانه للالتزام الديني الذي كان ينشده . ولم يستطع فهم ما جرى له إلا في إحدى الليالي في سنة 1991 حين كان يتحدث بالهاتف مع أحد أصدقاءه القدامى الذين كانوا معه في مدرسة الأب بريت في مافريك . فقد أسر هذا الصديق من كونكتيكات لفرانك بان الأب بريت اعتدى عليه جنسيا خلال تلك الأيام . يقول فرانك لمجلة التايم : (( انتفضت فجأة حين سماعي للخبر و تذكرت تلك الأحداث التي تعرضت لها )). بدأ فرانك بعد ذلك زيارة عيادة نفسية لتلقي العلاج النفسي , و حوالي سنة بعد تلك الحادثة أقام دعوى مدنية بالمحكمة الفدرالية بنيوهافن في كونكتيكات ضد بريت و كاثدرائية برايدج بورت التي كانت تدار بواسطة القسيس ادوارد ايغن. و يذكر أن السلطات الكنسية في برايدج بورت اكتشفت ميول بريت الجنسية في بداية سنة 1964 و لكنها لم تبلغ عن ذلك السلطات المدنية و لا حتى الأبرشية و سمحوا له بالاستمرار في عمله في عدة مدارس دينية حول البلاد . و في سنة 1990 وحين اصبح ايغن أسقفا قابل بريت . يقول ايغن متحدثا عن تلك المقابلة:(( تكلمنا عن كل شيء و أعطى انطباعا جيدا, حيث أفصح عن كل التفاصيل خلال حوارنا ". و كنتيجة لذلك سمح ايغن لبرايت بالعودة إلى عمله السابق في برايدج بورت كقس مرة أخرى . و في سنة 1992 اعترف برايت بالأمر للجنة خاصة شكلت لبحث المشكلة على نطاق محدود و لكنه استمر رغم ذلك في عمله . و جاءت اتهامات مارتينيلي و معها اتهامات من جهات أخرى لتدفع بالقضية إلى الواجهة. و أسبوع بعد ذلك اخبر ايغن برايت بأنه لا يمكنه الاستمرار في عمله كقس . و في أواسط سنة 1997 قررت لجنة للمحلفين بان الكاثدرائية أخلت بواجبها حين لم تحذر مارتينيلي بميولات برايت الجنسية و فرضت عليها تعويضه بمليون دولار عن ما حصل له. و بعد استئناف الحكم تقرر إعادة النظر في مبلغ التعويض و استقرت القضية على ذلك . و اليوم برايت هو في حالة هروب و ما يزال رسميا قسيسا رغم المطالبات المتكررة بطرده من عمله .اما ايغن فقد اصبح اليوم كاردينال و رئيس لأساقفة نيويورك و ربما الأسقف البارز في الولاياتالمتحدة كلها. و قد تزايدت الضغوط عليه لتوضيح موقفه ليس فقط بخصوص برايت بل بخصوص التستر على حالات كثيرة لقساوسة آخرين مثل برا يت حصلت حين كان في برايدج بورت. و من الناحية الأخرى فمارتينيلي لا يشعر بأنه حصل على التعويض المناسب فهو لا يهمه المبلغ المالي للتعويض بقدر ما يهمه اعتذار رسمي و علني أمام الرأي العام. و لقد ألقت الآلاف من حالات مارتينيلي و المئات من حالات برايت بظلال من الشك على كنيسة الروم الكاثوليك و على القساوسة الأمريكيين الذين سمحوا لهذا المرض بان يستفحل . فالأزمة في تطور مستمر من سيئ إلى أسوأ , يوما بعد يوم مع اتهام 2000 من القساوسة بالاعتداءات الجنسية على الأطفال في كل البلاد و ارتفاع خطير لعدد المكالمات الساخنة لضحايا هذه الاعتداءات . الامر ليس كما صوره الكاردينال بيرنارد لو في بوسطن بالخطأ الكارثي و لكنه ضربة قاصمة للجهاز المالي و الروحي للمؤسسة الكنسية أيضا و إحباط كبير لكل رجل يلبس ( الياقة) الرومانية. فحقيقة دمرت حياة العديد من الناس و تزعزعت الثقة و مصداقية الكنيسة في معالجة المشاكل الاجتماعية. كم من الوقت يلزم لتعلم هذه المؤسسات بان الأمر ليس فقط الجريمة في حد ذاتها بل هو أيضا متعلق بستار السرية الذي يلعنهم جميعا؟ لقد ظلت كنيسة الروم الكاثوليك وفية لصمتها طوال عقود حيال أفعال لا أخلاقية و جرائم بشعة و مقززة ارتكبت في حق أطفالها , و لكن و في هذا الجو من المصارحة لم يعد بالإمكان إخفاء الأمر . فماذا سيقول القساوسة حين يقفون في الأعياد المقدسة ؟ و بماذا سيخاطبون تلاميذهم بعد كل هذه الفضائح التي تم التستر عليها لمدة طويلة؟ و كما يفرض على المؤمنين في كنيسة الروم الكاثوليك بان يؤمنوا بان يسوع المسيح سوف يقوم من جديد لينقذ أرواحهم فهم الآن يريدون معرفة كيف ستنقذ أولا الكنيسة نفسها ؟ الجزء الثاني : بعد أسابيع من الصمت أصدر البابا يوحنا الثاني رسالة مبهمة في الأسبوع المقدس يقول فيها : (( نحن ككهنة نتأذى شخصيا و بعمق بسبب السيئات التي ارتكبها بعض اخوتنا الذين خانوا قسم الطهارة و نعرب عن تعاطفنا مع الضحايا )) و لكن هذه الكلمات الصامتة لم ترض أولئك الذين يريدون إجراءا عمليا لحل الأزمة. و في رسالته الرعوية ليوم الأحد كرر الأب ايغن كلامه عن أنه كان مهتما شخصيا بالتهم و لكنه كان يحث الضحايا على تقديمها للشرطة و دافع عن موقفه في برايدج بورت كمحامي بارع مدعيا أن كل ما حدث حصل أثناء عمل سلفه و حاول الالتفاف كخبير على مسألة إعادته للقساوسة المتورطين في قضايا الجنس إلى الوزارة الكنسية. ثقافة السرية لقد أفاق الكثير منا على حقيقة مروعة للمدى الذي وصلت إليه الاعتداءات الجنسية على الأطفال من قبل القساوسة و الرهبان و خصوصا بعد يناير الأخير حين فجرت صحيفة البوسطن غلوب فضيحة جون جيوهان و السرية التي تعاملت بها المؤسسة الكنسية حيال القضية كعادتها. فالكنيسة الأمريكية على علم بكل شيء عن هذا الأمر , فهي تعلم ماهية هذا السلوك الجنسي المنحرف و مدى فداحته و المرات التي يحدث فيها على الأقل بعد أشهر قضية شهدت فصولها محكمة لويزيانا في 1985 حين حوكم جيلبرت غوث ب 20 سنة بسبب اعتداءات جنسية على العشرات من الأطفال و تم تعويض الضحايا بمبلغ 18 مليون دولار . و شهدت السنوات التي تلت هذه الحادثة قضايا كبرى شبيهة بها و تعويضات مالية ضخمة وصلت إلى مليار دولار و لكن لم تبذل جهود أو توضع قوانين تعالج الأزمة بفاعلية أكثر. و مبكرا جدا أصدر القس توماس دويل المحامي في سفارة الفاتكان بواشنطن تقريرا من 100 صفحة ينصح فيه بإبعاد المعتدين عن الأطفال و تعويض الضحايا و مصارحة الرأي العام بالحقيقة . و لكن و في كل حادثة تدعي الكنيسة بان الأمر مجرد انحراف أو حالة منفردة أو ثمرة فاسدة أو حملة إعلامية من الصحافة المعادية للكاثوليكية. و يلاحظ أن المؤسسة الكنسية تعيش في نمط من المعارضة لأي شيء و الخديعة الذاتية . فهي تعتبر علم الأمراض الجنسية فشل أخلاقي و الجريمة مسألة دينية . فكنيسة الروم الكاثوليك هي عبارة عن نظام هرمي صارم يحافظ دائما على أسراره و يحيط نفسه بهالة من السرية و يصدر القرارات من الأعلى . و يتوجب على القس المطيع أن يبقي رأسه إلى الأسفل ليحصل على بركة البابا مقابل التزامه بالبيروقراطية و الاورثودكسية المتشددة. و حين يرقى إلى كاردينال يتعهد أمام البابا و يقسم بأنه سيتحفظ و يتستر على أي شيء قد يتسبب في فضيحة أو أذى للكنيسة إذا نشر أو أعلن . و حين يتعلق الأمر بالاعتداءات الجنسية على الأطفال فإن الفاتيكان يقول للأساقفة بان الأمر يهمهم هم و يعود إليهم لوحدهم مجنبا نفسه حساسية الموقف. و إذا عرفنا بأن تجنيب الكنيسة الفضيحة هو جوهر العمل الأخلاقي للأساقفة فان هذا معناه أن يقوم 194 أسقفا مسؤولا عن مؤسسة كنسية في الولاياتالمتحدة بالتغطية على القساوسة على اعتبار أن الاعتداءات الجنسية على الأطفال شيئ له علاقة قوية بأهم مبادئهم . و هذا بالطبع معناه التستر على الفضائح و إخفائها أمام الرأي العام . و حين تصل الادعاءات إلى أبرشية أي مؤسسة كنسية فإن الأسقف و الذي يعتبر نفسه صاحب القرار و أن تعيينه أسقفا يمنحه جزءا من قوة البابا يتصرف كما لو أنه القاضي و الجلاد في نفس الوقت. و بسبب الأعداد المتناقصة للقساوسة و من أجل عدم تشويه صورة الكنيسة يعمد إلى تحسين النظام العام , فيقوم بإجراءات أخرى من قبيل إقناع عائلات الضحايا بان ذلك من شأنه تدمير أسس الدين المسيحي و منع إصدار تقارير إلى الشرطة و عدم تحذير الأبرشية و معاملة القس بطريقة الاعتراف و إرساله إلى مراكز إعادة التأهيل الدينية و منحه العفو النصراني و بعد ذلك السماح له بالاستمرار في ممارسة أعماله في مؤسسة جديدة. و هذا بالضبط ما حصل مع قساوسة» الويسكي« ( قضية الإدمان على الكحول التي اتهم بها عدد من القساوسة ) . و قد اعتقد الأساقفة أو جعلوا أنفسهم يعتقدون بأنه يمكن معالجة الاعتداءات الجنسية على الأطفال إلى أن ارتفعت عدد الحالات و ازداد عدد الضحايا و أكدت الاعتداءات المتكررة للقساوسة خطأ معتقد الأساقفة . و لا يفصل من عمله إلا من افتضح أمره بشكل كامل فيجبر على ترك عمله بعد إمهاله مدة طويلة جدا . و إذا ما تقدمت الضحية بدعوى قضائية فان الاستراتيجية المتبعة هي إنكار كل شيء و الالتزام بالصمت و البحث عن صفقة لإقفال القضية نهائيا في المحاكم . يقول ريتشارد سيب راهب مدينة بينديكتي السابق و الذي شهد كخبير في عدد من الدعاوى قدمت ضد القساوسة : " الكنيسة دائما ما تتخذ موقفا دفاعيا بدل أن تتخذ موقفا فعالا و عمليا ". يصعب علينا فعلا تصور أن الأطفال و في هذه الأيام من الاعترافات التزموا الصمت طوال 30 أو 20 أو 10 سنين و لم يفصحوا عن تلك الجرائم و الاعتداءات الجنسية . و لكن لا بد أن نعي انهم كانوا خائفين و خجلين و متأكدين من أن لا أحد سوف يصدقهم . و يقول كريس ديكسن 40 سنة لمجلة التايم : " لم نعتبر المسالة مسالة اعتداءات جنسية أبدا " . و قد قام فقط قبل شهر بالإفصاح عن عدد من الادعاءات عمرها اكثر من عقدين وجهت ضد الأسقف انتوني اوكونيل في بالم بيتش بفلوريدا و الذي قدم استقالته قبل أيام فقط . يقول كريس : " لماذا يصدقني أحدهم ؟ لقد اعتقدت بان عائلتي سوف توبخني إذا قمت بذلك ". و فيما يختار المفترسون فرائسهم بعناية من الأبرشيات الأكثر تحمسا للدين تقوم العائلات الملتزمة بتعليم أبنائهم لأجيال مضت احترام و عدم تخوين القساوسة . فمن الذي سيظن بان الأب الطاهر الذي جاء للغذاء مع الأطفال و اللعب معهم و يتعامل معهم كأب لهم سوف يرتكب شيء سيئ كهذا ؟ فتخوين القس معناه فقدانك لحصانتك الروحية . فمثلا حين أخبر رالف سيدواي قبل 65 سنة مضت بان أحد القساوسة اعتدى عليه جنسيا ضربته ضربا شديدا لأنه لا يجب في نظرها قول شيء كهذا في حق القساوسة . قال هذا الكلام المحامي شيلدن ستيفن المحامي في فلورديا و المتابع لقضية ابن رالف الذي رفع قضية اعتداء جنسي ضد القس روكو أنجيلو الذي اعتدى عليه جنسيا حين كان صغيرا . و يؤكد أن الكنيسة علمت بالأمر إلا أنها استخدمته كسبب لمنع الناس من متابعة شكاواهم . الجزء الثالث و ليست هناك أية طريقة محددة لتتبع هذا المرض العضال .فمعظم الحالات المكتشفة تعود لسنوات خلت . فالبرغم من أن الأمر أصبح غير شاق على البالغين للكشف عن أحداث مخزية حصلت لهم في الماضي إلا انه من الصعوبة بما كان دفعهم للحديث عن هذه الوقائع خصوصا و الاعتداءات الجنسية مازالت مستمرة . يقول جون فولز و هو رجل كهل من كاليفورنيا تعرض لاعتداء من هذا النوع في صغره :" آخر شيء أفكر فيه هو التحدث عن ذلك الاعتداء الذي تعرضت له بسبب القسيس المسؤول عني وقتها ". و يؤكد من ناحيته نيل بليك المحامي المهتم بهذه القضايا في نيو ميكسيكو : " لا أظن بأنه مازال هناك قساوسة يعتدون جنسيا على الأطفال لأن الضحايا لا يفصحون عن ذلك . و لربما نكتشف الأمر مرة أخرى في سنة 2015". دور القانون أدى تنامي و اتساع دائرة الفضائح الجنسية على صفحات الصحف الأولى إلى تغيير ملموس في سلوك الكنيسة سواء قبل بذلك زعماؤها أم لا . فتحت فداحة الفضائح أعلن بعض الأساقفة بأنهم لن يتسامحوا أبدا مع أي قس يتورط في قضايا من هذا القبيل سواء في الوقت الحاضر أو في الماضي . و قد تم فصل العديد من القساوسة من عملهم بشكل سري خلال الأسابيع الماضية , فمثلا طرد القس مايكل بكارك من أبرشية الكاونتي أورنج التي تقع في جنوب كاليفورنيا في بداية شهر مارس بسبب فضيحة تعود لعقود خلت. و بمجرد ما إن اتصلتا كاترين غاريت و أختها غينز و هما في الثلاثينات من عمرهما بمكتب الأبرشية في واشنطن المسؤول عن كنيسة الروم الكاثوليك للأفارقة الأمريكان تتهمان القس روسيل ديلار الامريكي من أصل إفريقي و البالغ من العمر 54 عاما بأنه تحرش بهما جنسيا في الماضي حين كانتا مراهقتين لم يمهل الكاردينال صديقه ففصله على الفور رغم أن القس اخبر رئيسه بان الأمر كان عبارة عن علاقة أبوية و لم يتعدى حدود الأدب . و قد تم تحويل القس إلى مصحة للأمراض النفسية المتعلقة بالجنس و تم إعلام الشرطة بالشكوى المقدمة من الأختين و أكد الكاردينال انه لن يقبل بعودته إذا ما اتضح أن الفتاتين تقولان الحقيقة. و حتى أن زملاء ديلار في الأبرشية اصبحوا يتنافسون في تثبيت الاتهام عليه . هناك لا شك محاولات حثيثة لحماية الرأي العام , فلم يرتح أحد للمتابعات و المساءلات التي كانت تجري تحت سلطة الأساقفة . و قد أصدر الفاتيكان السنة الماضية قوانين بطريقة سرية حتى أن العديد من رجال الدين لم يشعروا بها على الإطلاق . حيث نشرت روما و باللغة اللاتينية بيانا بابويا سمي بموتو بروبريو و معناه " تحت سلطة البابا" و يتحدث عن سجل كامل للسنة قامت به ما تسمى لجنة الرؤية المقدسة . و قد أكد البيان انه يجب تحويل كل الادعاءات و التهم إلى لجنة روما المقدسة لحفظ الدين مما يبقي كل السلطات و بشكل صارم تحت سلطة الكنيسة و لم يذكر في البيان أي شيء عن إعلام السلطات المدنية بهذه الحوادث . و لم يستطع المؤتمر الأمريكي للأساقفة الكاثوليك الخروج بأي سياسات و قرارات واضحة لتفعيل ما اتفقوا عليه . فمثلا اتهمت امرأتان في 1998 أسقفا بولنديا عين في أواخر الثمانينات في أبرشية شمال ميامي بأنه تحرش بهما جنسيا و واحدة منهما كانت قاصرة . و رد ماليكي على هذا الاتهام قائلا بأن الكنيسة جعلته كبش فداء حين سارعت إلى الإعلان عن توقيفه و لكنه رغم ذلك لم يحمل الكنيسة المسؤولية . و رغم أن المحققين و بعد سنتين لم يعثروا على دليل واحد يدين القس إلا أنه مازال في حالة غياب . يقول محامي ماليكي : " الكنيسة حاولت إبعاد نفسها عن هذا الأمر و التخلي عن القس في هذا الوقت بالذات , و إذا ما تطورت هذه القضية فأعتقد بأن كل قسيس قد اصبح مهددا بهذا الشكل ". .و بسبب تزايد و ارتفاع عدد الاتهامات الموجهة للكنيسة فقد أصبحت هناك مراجعة لعلاقتها بالقانون. فحتى يومنا هذا هناك فقط 19 ولاية تفرض على رجال الدين إخطار السلطات المدنية بأية اعتداءات جنسية أو أشياء مريبة عامة . و في الوقت الذي يسعى فيه المشرعون لضم الكنيسة إلى التقارير الأمنية يؤكد العديد من الأساقفة بأنهم تعهدوا بإعلام الشرطة بأية اتهامات أو شكاوى يتلقونها بهذا الخصوص . و كنتيجة لهذه الضغوط تحاول كل من أبرشية برايدج بورت و بوسطن الكشف عن كل تفاصيل أرشيف القضايا التي يعود البعض منها إلى 49 سنة مضت . و لكن الكاردينال ايغن لم يلتفت إلى هذه التغييرات , فهو مازال ممسكا بسلطاته و يرفض إعلام الشرطة بأي حادثة إلا إذا وافقت الضحية على ذلك فهو يشعر بان هناك أسباب منطقية تفرض عليه الاستمرار في هذا النهج , و فيما يخص أرشيف القضايا فقد أكد أن ذلك الأرشيف سيظل مقفلا و لن يفتح . و أهم ما تواجه به دعاوى الاعتداءات الجنسية هي التعقيدات و الاختلافات القانونية بين الولايات فيما يخص هذه القضايا بالذات . فهناك بعض الولايات التي تسمح بمتابعة الاتهامات الجنائية في كل الحالات بدون استثناء , و لكن في الولايات الأخرى لا يسمح بفتح القضية إذا ما تجاوز عمر الضحية سنة أو خمس سنوات أو عشرة بعد بلوغه سن الثامنة عشرة . و بهذا الشكل استطاع العديد من القساوسة المعتدين الهروب من الملاحقة القضائية .فمثلا حين اتهم مارشال غورلي و هو اشهر قس في دينفر كان القانون قد أعفاه بسبب تجاوز القضية للمدة المحددة إلا انه و رغم ذلك لم تمت القضية . و لسنوات مضت كانت دائما الدعاوى المقدمة في المحاكم دعاوى مدنية , و لكنها كانت مكلفة جدا من الناحية المادية ففي بعض الأحيان تترتب عليها مبالغ مالية تصل إلى ملايين الدولارات . و بسبب هذه التكاليف الباهضة التي تتحملها الابرشيات فقد سعت هذه الأخيرة إلى نهج تكتيكات قانونية تعتمد على عنصر الابتزاز للضحايا . فمثلا قدمت مجموعة تتألف من 93 فردا دعوة قضائية ضد أبرشية بروفدانس منذ 10 سنوات تتهم فيها 11 من قساوستها و تطالب بتعويض مادي عن كل الاعتداءات التي تعرض لها الضحايا . و لكن محامو الكنيسة هاجموا و بشدة الضحايا و شككوا في مصداقيتهم و في عائلاتهم , و أغرقوهم بوابل من الأسئلة وصلت إلى حوالي 500 سؤال مكتوب و طالبوهم بدفع ضرائب عمرها اكثر من 30 سنة و طالبوهم أيضا بأسماء الأطباء و مواعيد الزيارات التي قاموا بها لعياداتهم قبل 12 سنة مضت . و قاموا أيضا بسؤال الأمهات و البحث وراء حيات أبنائهم الجنسية . تقول أحد اللواتي تقدمن بالدعاوى و تدعى لي وايت و تبلغ من العمر 45 سنة :" انه هجوم شنيع علينا و ابتزاز . فأنا اشعر كما لو انه اعتدى علي من جديد ". المستقبل أولا يجب على المؤسسة الكنسية الاعتراف بفداحة الكارثة و الأذى الذي تسببت فيه . فالكلمات المشفرة للبابا خلال الأربعاء المقدس مؤخرا و التي وجهها للقساوسة لا تقدم و لا تؤخر . و حتى المؤتمر الذي عقده بعد ذلك الكاردينال داريو كاستريلو هويوس لم يأتي بشيء جديد . فبعد أن أسهب في الحديث عن القواعد و القوانين الصارمة التي تتبعها الكنيسة تجاه الاعتداءات الجنسية للقساوسة على الأطفال نظر من خلال الورقة التي كان ممسكا بها و تحدى أن تكون للمؤسسات الأخرى مثل هذا النظام الكنسي الصارم قائلا بإشارة من إصبعه : " أريد أن اعرف مؤسسة واحدة فقط تمتلك مثل هذا النظام." و قد اعتاد الفاتيكان دائما التعامل مع الأزمة على أنها أزمة أمريكية كما لو أن الدول الأخرى بعيدة كل البعد عن هذه الظواهر . ففي ممرات روما يجتمع رجال الدين ليلقوا باللائمة على طبيعة المجتمع الأمريكي الذي يسارع حسب زعمهم إلى إقامة الدعاوى القضائية بسبب أو بغير سبب و أيضا يوبخون القساوسة و يرجعون ضعفهم إلى الأعراف الجنسية المتساهلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية . يقول أحد مسئولي الفاتيكان : " انهم يعتمدون في الولاياتالمتحدة كثيرا على علم النفس الحديث فيما يغفلون الدور الحكيم التقليدي للكنيسة ". و يؤكد المسؤولون عامة أن البابا مستاء جدا من الأزمة التي تعرضت لها الكنيسة الأمريكية . و لكن هذا لا يعني انه مستعد لمواجهتها . فقد عرف عن الكنيسة أنها تكره الانحناء للضغوط الخارجية . و يعلق المحامي في مينوسيتا جيف اندرسن الذي رفع قضايا عدة ضد الكنيسة قائلا : " لن يتغيروا أبدا إلا إذا أرسل القساوسة إلى السجن و يسمع كل قس باب السجن يقفل وراءه فحينها سوف يصل صدى ذلك الصوت إلى الفاتيكان ". الجزء الرابع لا يحتاج الأمر صراحة من الفاتيكان ثورة ليغير و يحسن من الطريقة التي تتعامل بها الكنيسة مع فضائح الاعتداءات الجنسية على الأطفال . و قد أوضح أسقف اتلانتا جون دونوغي خلال رسالته الرعوية مؤخرا بعض الأمور التي يجب اتبعاها في مثل هذه الأزمات . و من ذلك إحالة أية ادعاءات إلى القانون فورا و التعاون مع المحققين , و إبعاد المشتبه به بعيدا عن الأطفال , و إذا تبثت التهمة عليه يقال نهائيا من الوزارة الدينية. و دعا سكوت ابيلبي المدير لمركز كوشوا في روتردام و المتخصص في دراسة الكاثوليكية الأمريكية إلى أن يتخذ مؤتمر الأساقفة الكاثوليك سياسات ملزمة و فاعلة تمكن من تطبيق المبادئ المتفق عليها . يقول سكوت : " المشكلة في الماضي كانت الصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها كل أسقف و التي تمنحه حرية مطلقة في تطبيق أو عدم تطبيق القرارات التي تخرج عن المؤتمرات ". و قد طالب الكثير من المراقبين أن تعين كل أبرشية لجنة تتشكل من المستشارين و المحامين و علماء النفس للنظر في كل حالة اعتداء على حدا . و يمكن أيضا لمزيد من المحاضرات التثقيفية و التوعية الجنسية للقساوسة الذين يعانون مشاكل جنسية أن تساهم في التخفيف من حدة هذه الازمة. و رغم أن هذه خطوات خجولة إلا أنها قد تساعد بشكل أو بآخر . و لكن عددا متزايدا من الروم الكاثوليك كالبروفيسور كريستينا ترينا من جامعة نورت ويسترن أكدت أن هذه الخطوات غير كافية لاسترجاع ثقة الناس بالكنيسة . تقول ترينا أن الضحايا الذين اتهموا بأنهم يسعون للمال من وراء رفع مثل هذه القضايا لا يريدون إلا عطفا روحيا لهم و اعتذار من الكنيسة تعترف فيه بان هذه الجرائم ارتكبت فعلا في حقهم و أن تقوم بإجراءات واضحة و تشرح الكيفية التي تتعامل بها مع القساوسة الذين يعتدون جنسيا على الأطفال . و تضيف ترينا بان حدة الغضب لن تتراجع إلا بتصريح واضح من أعلى السلم الكنسي حول هذه الفضائح . تقول كريستينا ترينا : " يجب أن يسمع للرأي العام حول كل من ساهم في التغطية على هذه الأعمال و يجب أيضا أن يتغير سلوك السرية الذي تتعامل به الكنيسة ليتوافق مع السلوك العام " . و حقيقة فان الواقع يؤكد أن الكنيسة لن تتعاطى مع أي إصلاحات كبيرة خاصة و أن الأزمة في ذروتها . و هذا ما يطمئن الكاردينال ايغن في نيويورك و الكاردينال بيرنارد لو في بوسطن و هما معا متورطان في الفضائح الأخيرة التي هزت الكنيسة الأمريكية . و مع هذا فان العديد من القساوسة يتوقعون استقالات كثيرة على مستوى اكبر في الكنيسة الأمريكية. و قد جاء في خبر نشرته أسبوعية الروم الكاثوليك الوطنية : " لو أن كل أسقف تحمل مسئوليته و استقال لما صب الإعلام و الرأي العام و مجالس الابرشيات جام غضبهم على الكنيسة . و لكن الغريب في الأمر أن و لا أسقفا استقال من منصبه باستثناء الاثنان اللذان تورطا بشكل مباشر في هذه الفضائح طوال 15 سنة من عمر هذه الأزمة. و إذا استمر الأساقفة في مواقفهم فان الروم الكاثوليك يتمنون من زعمائهم انفتاحا و مسؤولية اكبرتتزامن مع تخليهم عن ثقافة السرية التي تعتمدها الكنيسة . و في هذا الصدد يقول الأسقف ويلتون غريغوري رئيس مؤتمر القساوسة الكاثوليك بان أهم واجبات الكنيسة الآن هي الكشف عن كل هذه الأمور بدون مواربة و يأتي بعدها الاعتماد على قواعد شفافة تلزم الكنيسة بمسئوليتها في حالة تجددت هذه الفضائح . و ينصح الكاتب ويليام بينيت الكنيسة قائلا :"إذا أرادت الكنيسة حماية نفسها فعليها أن تعتمد على الشفافية و الابتعاد عن السرية ". و إضافة إلى هذا يؤكد الخبير النفسي المختص بقضايا الاعتداءات الجنسية ريتشارد سيب بأنه لا مخرج على الإطلاق للكنيسة من هذه الأزمة إلا بفتح حوار و النأي بنفسها عن السرية التي تتعامل بها مع هذه الأمور . و حتى الضحايا يشددون على أهمية هذه النقطة . حيث يقول جيم غريلي البالغ من العمر 39 سنة و الذي اعتدى عليه قبل 30 سنة من قبل قس كاليفورنيا مايكل بكاريا بأنه في مهمة لكسر هذه السرية التي تتعامل بها الكنيسة .يقول : " إن كل ما جرى سيجبر الكنيسة على تطهير نفسها , لأنه يجب عليها أن تدمر أحجار السرية و تتعامل معنا بكل صراحة و شفافية ". و يلاحظ بأن حجم الفضيحة استفز الروم الكاثوليك في أمريكا حيث انه لم يسبق أن تعرضت الكنيسة من قبل لمثل هذه الأزمة التي تتهدد إحدى أهم توابثها الدينية خصوصا و أنها فجرت مطالب تتحدث عن إعادة النظر في أمور حساسة للغاية كالعزوبية و القساوسة و القسيسات المتزوجين . يقول القس ريتشارد ماكبراين بروفيسور اللاهوت في جامعة نوتردام أن هذه الأمور كلها تقف وراء مشكلة اعتداءات القساوسة الجنسية على الأطفال . و يذكر أن أبرشية بوسطن أصدرت ورقة قبل أسابيع تدعو فيها الروم الكاثوليك لدراسة ما إذا كانت هذه المعتقدات التي عفا عليها الزمن صالحة اليوم أم لا . و كحل لجزء من المشكلة تطرح بعض الأطراف الليبرالية فكرة إدراج القساوسة و القسيسات المتزوجين ضمن السلم الوظيفي للكنيسة الكاثوليكية . إلا أن هذه الفكرة لن تتعامل معها الكنيسة في روما لان هذا يتعارضا تماما مع معتقداتها الراسخة و التي لا يجب تغييرها على الإطلاق . و يبقى الأمل الأكثر واقعية كما أشار إلى ذلك بروفيسور اللاهوت شيستر جيليس معقودا على من سيخلف البابا. لم يكن أبدا دين الروم الكاثوليك دينا مرنا بحيث يفتح باب الحوار, بل دينا مغلقا بشكل تام . ففي خطبة حماسية للمونسينيور كونولي من أبرشية (العائلة المقدسة) في جنوب كاليفورنيا و التي لم تتورط في الفضائح الأخيرة تحدى في خطبته الكنيسة بان تفتح حوارا تفتح فيه الكنيسة عقلها و قلبها . يقول المونسينيور كليمنت لمجلة التايم :" ليس لدينا طريقة نعتمدها في هذا الحوار و لكن اعتقد بأنه إذا تحدثنا مع الناس و خاطبناهم بشفافية و شاركناهم مآسيهم فان الطريقة ستأتي بعد ذلك ". و فيما يستعد الروم الكاثوليك للأعياد القادمة يعبر العديد منهم عن مشاعر السخط التي انتابتهم من جراء هذه الفضائح التي زلزلت معتقداتهم من جذورها . يقول هيرب تيم القس في وينيتكا بأنهم غاضبون إلى أقصى درجة , و يصف أحد اتباع العائلة المقدسة الأزمة بأنها كارثة بالنسبة للضحية و القس و الكنيسة . فطريقة السرية لن تجدي شيئا مع هذه الأزمات . و حقيقة فانه يجب على زعماء الكنيسة الصلاة لإيجاد الحل قبل أن يفقد المؤمنون دينهم . ترجمة: حميد نعمان جوانا ماكجيري عن مجلة التايم الامريكية