الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«العقل العربيّ»: فضيحةٌ تُجتنَب أمْ فضيلةٌ تُجتلَب؟!
نشر في هسبريس يوم 24 - 09 - 2012

أُثيرَ، في مقالاتٍ سابقة (خصوصا في «العقل بين الطبيعيّ والثقافيّ: شُرُوط إمكان "العقل العربيّ"» بجُزأيه)، إشكالُ تسمية «0لعقل 0لعربيّ» التي 0ستبدلها "الجابري" مكان تسمية «0لفِكْر 0لعربيّ» باعتبار أنّ غرض مشروعه النقديّ يَتعلّق بدراسة «0لفِكْر-0لأداة» (الذي هو "0لعقل" في ظنّه) وليس ب«0لفِكْر-0لمُحتوى» (الذي هو "0لإديولوجيا" في زعمه). وليس يَخفى أنّ 0ختيار صاحبنا لتسمية «0لعقل 0لعربيّ» يَترتّب عليه أنّ "0لعقل"، في 0رتباطه بالثقافة والتاريخ الخاصَّيْن بالعرب، له "خُصوصيّةٌ" يَفْقد بمُوجبها طابعَه الكُليّ ؛ وهو الأمر الذي يَتعارض مع ما هو مُتعارَف في الفكر البشريّ من أنّ "0لعقل" إمكانٌ كُليٌّ مُعطًى لجميع النّاس على الرغم من كل الفُروق والتّبايُنات القائمة واقعيّا بينهم.
ومن حيث إنّ المشهور في أعمال الفِكْر، منذ القرن الثامن عشر على الأقل، أنّ النّقد يَتّخذ موضوعا له «العقل النظريّ المُجرَّد» (كما عند "كنط" في «نقد العقل الخالِص») أو «العقل النظريّ العمليّ» (كما عند "كنط" أيضا في «نقد العقل العمليّ» أو عند "سارتر" في «نقد العقل الجَدليّ») أو «العقل العمليّ» (كما عند الباحثين في الإنْسيّات والاجتماعيّات)، فإنّ تسميةَ «العقل العربيّ» كما 0رتضاها "الجابري" تُمثِّل خُروجًا صريحًا على ذلك في المدى الذي تَدُلّ على أنّ "0لعقل" كأساس نظريّ وعمليّ ليس مُعطًى بَشريّا كُليًّا، وإنّما هُو بناءٌ جُزئيٌّ وخاصٌّ بالنِّسبة إلى شُروط "الثقافة" و"التاريخ" المُحدِّدة له في الواقع الفعليّ. ومن هُنا، يُطرَح السؤال الإشكاليّ التّالي: هل يَتعلّق الأمر ب"فضيحةٍ" يَنبغي 0جتنابُها لكون القول بخُصوصيّة "0لعقل" يَستلزم الخُروج عن المُعتقَد الشّائع القاضي بأنّ "0لعقل" مُشترَكٌ بشريٌّ كُلّيٌّ ومُتعالٍ أمْ أنّه يَتعلّق ب"فضيلة" يجب 0جتلابُها باعتبار أنّ القول بخُصوصيّة "0لعقل" ليس سوى إقرارٍ بواقعٍ ماديٍّ وموضوعيٍّ يَتميَّز بِما لا يُحصى من الفُروق والتّفاوُتات على النحو الذي يجعل "0لعقل" يَتحدّد في تبعيّته الضروريّة لمجموع الشروط الموضوعيّة الحاكمة له طبيعيّا و0جتماعيّا وتاريخيّا؟ ألا يُؤدّي القول ب«خُصوصيّة 0لعقل»، على هذا النحو، إلى 0بتذاله بصفته مجرد نتاج لخُصوصيّة تاريخيّة وثقافيّة يَصعُب (أو يَمتنع) عليها أن تَبني عقليّا "الحقيقة" و"الفضيلة" بما هُما نوع من "الكُلّيّ" المُشترَك بشريّا وموضوعيّا؟
لقد سبق لكثيرين أن 0عترضوا، من أكثر من ناحية وبهذا القَدْر أو ذاك، على تسمية «0لعقل 0لعربيّ». وبِما أنّ مقالاتنا السابقة تضمّنتْ مُلاحَظات نقديّة في هذا الاتِّجاه، فإنّه يَجدُر 0ستعراضُ ما أدلى به نُقّاد "الجابري" بنفس الصدد على النحو الذي يُمكن أن يُغْنيَ النقاش المُثار بشأن هذه التسمية الإشكاليّة. ولا بُدّ من التنبيه، هُنا، على أنّ تناوُلنا لهذه المسألة لا علاقة له بما يَأتيه «الشُّعوبيّون الجُدد» الذين لا يرون في تلك التسمية إلا تعبيرا سخيفا عن «القَوْمانيّة العربيّة» كمركزيّة قوميّة وعرقيّة غافلين بذلك عن أنّ صاحبَنا لم يَكُنْ يقصد شيئا من هذا، خصوصا أنّه لم يَتوانَ في تأكيد أنّ «0لعقل 0لعربيّ» إنّما يَدُلّ على «الخُصوصيّة الثقافيّة والحضاريّة للفكر النظريّ عند العرب» (وهل هناك ما يُرضي نُزوعَ "الشُّعوبيّ" نحو الخصوصيّة أكثر من هذا التأكيد لخُصوصيّة «العقل العربيّ» بالنّسبة إلى خُصوصيّة "الثقافة" و"التاريخ" العربيَّيْن كما يَدّعي صاحبُنا؟!).
1- من المعروف أنّ كتاب «تكوين العقل العربيّ» ل"محمد عابد الجابري" قد صدر في السنة نفسها (1984) مع كتاب «من أجل نَقْدٍ للعقل الإسلاميّ» ل"محمد أركون" (بالفرنسية: Pour une critique de la Raison islamique). ويُمكننا أن نُلاحظ أنّه إذَا كان الأوّل يستعمل مُصطلح «0لعقل 0لعربيّ»، فإنّ الآخر يُخالفه مُفضِّلا الحديث عن «0لعقل 0لإسلاميّ» (على الرغم من أنّه قد سبق له 0ستعمال مُصطلَح «0لفكر 0لعربيّ» عُنوانًا لكتابه الذي صدر بالفرنسيّة في 1975 وتُرجم إلى العربيّة في 1979). وينبغي أن يُلاحَظ، أيضا، أنّ هذا التّبايُن في الاصطلاح يُعَدّ مَصدرًا للاعتراض على التسميّتَيْن معا: فما سمح باختلاف المُؤلِّفَيْن في تسمية "0لعقل" المَعْنيّ يَسمح، من ثَمّ، بتجاوُز 0ختياريهما إمّا بالجمع بين صفتيْ "عربيّ" و"إسلاميّ" وتقديم إحداهما («عقل عربيّ-إسلاميّ» أو «عقل إسلاميّ-عربيّ») وإمّا برفض الحديث عن "0لعقل"، في إطار «الحضارة العربيّة-الإسلاميّة»، بتخصيصه بهذه الصفة أو تلك. وبالتالي، يَصحّ الاعتراض على تسمية «العقل العربيّ» بالقدر نفسه الذي يَجُوز الاعتراض على تسمية «العقل الإسلاميّ»: ما الذي يُوجب وصف "0لعقل" حصرا بصفة "عربيّ" أو "إسلاميّ" وليس بالجمع بينهما أو بتفاديهما معًا؟!
2- يُعَدّ "علي حرب" من أوائل الذين 0نتقدوا تسمية «العقل العربيّ»، إذْ نجده في كتابه «نقد النص» (المركز الثقافي العربي، ط 1، 1993) قد عَقد فصلا بعنوان «محمد عابد الجابري: مركزيّة العقل العربيّ» (ص. 115-129). ويبدو، فيما يَعنينا هُنا، أنّ "علي حرب" لا يَكترِث بتسمية «العقل العربيّ» التي يُكرِّرها من دون حرج ويَقيس عليها فتَراه يستعمل تسمية «العقل الغربيّ» و«عقل الفُرس». لكنّنا نستطيع أن نُلاحظ، من خلال عنوان الفصل (وأيضا عنوان الفقرة الأُولى منه «مركزيّة العقل»)، أنّه يَستعيد بالأساس شيئا من كلام "جاك دريدا" في نقده للفلسفة الغربيّة بصفتها في نظره تقوم على ما يُسمِّيه "logocentrisme"، وهو ما يُمكن تجوُّزًا أن يُترجَم ب«مركزيّة العقل» ؛ وإلّا، فإنّ الأمر يَتعلّق ب«بمركزيّة 0لكلام/0لخطاب» على أساس «مركزيّة 0لصوت» ("phonocentrisme") بالشكل الذي أدّى تاريخيّا إلى تهميش وتنقُّص "الكتابة" على الرغم من 0ستمرار الاعتماد عليها في المُمارَسة الفلسفيّة. وبالتالي، فإنّ تفكيك (أو، أحسن، نَقْض) "الميتافيزيقا" يَكشف عن أنّ "0لعقل" - بما هو حُضور دائمٌ وحيٌّ للذّات في مركز الفكر والفعل- لا يَنْفكّ عن "0للَّاعقل" بكل تجليّاته. ومن البيِّن أنّ نقد "علي حرب"، من هذه الناحية، غير ذي جدوى لأنّه بدلا من أن يُركِّز على معنى «الخُصوصيّة الثقافيّة/القوميّة» فيما فضّل "الجابري" تسميته ب«العقل العربيّ»، يَذهب نحو التّركيز على خصوصيّة أُخرى تُحيط ب"0لعقل" من حيث إنّه يَتلازم تاريخيّا وواقعيّا مع "0للّاعقل" بالشكل الذي يُفقده مركزيّته المزعومة. وكمْ كان من المفيد لو أنّ "علي حرب" وقف عند دلالة وأبعاد إفقاد "العقل" عموما مركزيّته وإثبات خصوصيّته ونسبيّته بالشكل الذي عَمِلت عليه «فلسفة النّقض» في إبرازها لما يبدو مجرد "هامش" أو "مُلْحَق": ذلك بأنّ مُمارَسة "0لنّقض" على بِناء "0لعقل" تَؤُول إلى مُساءَلةِ مشروعيّة "0لنَّقْض" نفسه بما هو إجراء فلسفيّ ما فتئ أصحابُه يَدّعون سُموَّه على غيره من الإجراءات (بأيِّ معنى سيَسمُو عليها إذَا كان، بما هو «تدميرٌ للعقل»، يَنْزِع نحو بَعث "0لعَدميّة" تشكيكًا جذريّا وتَنْسيبًا إباحيّا؟!).
3- خصّص "هشام غصيب" كتابا كاملا بعُنوان «هل هناك عقل عربي؟، قراءة نقديّة لمشروع محمد عابد الجابري» (ط 1، 1993، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار التنوير العلمي). ونجد هذا النّاقد، في الفصل الثالث من كتابه (بعنوان «أسطورة العقل العربي»، ص. 28-34)، يُؤكِّد أنّ "الجابري" «يبدأ الفصل الأول من كتابه "تكوين العقل العربي"، والموسوم ب"عقل... ثقافة"، بطرح مجموعة من الأسئلة المشروعة والمادية الطابع بصدد مفهوم "العقل العربي"، والتي تثير الشك حول علمية هذا المفهوم. بيد أن طرح هذه الأسئلة لا يشكل مقدمة للإجابة عنها ونقد مفهوم "العقل العربي" في ضوئها، وإنما يشكل مقدمة للابتعاد عنها نحو مزيد من المفهومات المقالية حتى يصل إلى تهميش هذه الأسئلة وإهمالها من دون تقديم أي إجابة عنها، [...]» (ص. 29). ثُمّ، يَتساءل "هشام غصيب": «وكيف يبرر الجابري استعماله مفهوم "العقل العربي" بدلا من المفهوم الأكثر شيوعا وعلمية "الفكر العربي"؟»، فلا يجد في إجابة "الجابري" بأنّه مفهوم يختص بالدلالة على معنى «الأداة المُنتِجة للفكر» (وليس «مُحتوَى الفكر» كإيديولوجيا) سوى أنّه «يحد من حقل فعل الآيديولوجيا [كذا] في الوقت نفسه الذي يوسع مفهومها إلى حد إلغاء معناها المحدد وإذابته في مفهوم واسع عريض. إنه يبعدها عن جوهرها المتمثل في الفعل [الإپستمولوجي] وفي الوقت ذاته يحيلها إلى لا شيء بتوسيع مفهومها إلى كل شيء في حقل معين.» (ص. 30-31). وهكذا، فإنّ مفهوم «العقل العربيّ»، في نظر "هشام غصيب"، يُعبِّر عن تصوُّر مثاليّ مُجرّد يُغيِّب الواقع الحقيقيّ المُتمثِّل في العمليّة المُعقّدة لإنتاج الفِكْر والمعرفة التي لا يَصِحّ 0ختزالُها أو تشييئُها في «الفكر-الأداة المُنتِجة»، أيْ "0لعقل". ولا يَتردّد "هشام غصيب"، في الفصل الخامس من كتابه («عرقية الجابري»، ص. 45-53)، عن تأكيد أنّ "الجابري" بحديثه عن «العقل العربيّ» في مقابل «العقل اليونانيّ» (القديم) و«العقل الأروبيّ» (الحديث) لا يكتفي فقط بتغييب "العُقول" الأخرى (المرتبطة بكُبرى الحضارات التاريخيّة: الحضارة المصريّة، الحضارة البابليّة-الأشوريّة، الحضارة الفارسيّة، الحضارة الهنديّة، الحضارة الصينيّة) بصفتها ذات بنية يَغْلِب عليها في زعمه "السحر" (أو "الغيب" و"الدِّين")، بل يُعزِّز «تحيُّزا عرقيا أوروبي المنبع والجذور، طالما جَلَدنا به الغربيون. إذ إن الغربيين لا يفتأون يُروِّجون الفكرة العرقية بأنهم هم وحدهم القادرون على الإبداع النظري. أما الشعوب الأخرى، فهم إما نَقَلة (العرب) وإما مُقلِّدون (اليابانيون).» (ص. 48). ويكفي، من ثَمّ، أنْ يَتبيّن الناقد أنّ مفهوم «العقل العربيّ» يُعبِّر عن نُزوع مثاليّ ويقود إلى تعزيز «الخُصوصيّة العرقيّة» لينكشف 0لتباسُه وهشاشتُه بما يُؤكِّد أنّ هناك نوعا من «السهولة والرُّعونة الفكرية» - حسيب تعبير "هشام غصيب"- يقف وراء 0ستعماله أو إرادة فَرْضه كمفهوم علميّ!
4- ليس مَجانا أن يَفتتح "جورج طرابيشي" نقده للجابري (نقد نقد العقل العربي: 1- نظرية العقل، 1996، الفصل الأول «أصول نظرية العقل عند الجابري»، ص. 11 وما بعدها) بعبارة «تَعُود الشهرة التي حازتها كتابات الجابري، في جزء منها، إلى توظيفه مفهوم "العقل" بما هو كذلك.». لكنّ هذه العبارة، رغم أهميّتها، لا تقول بصيغتها هذه كل شيء. إذْ ليس الاستناد إلى "العقل" مُطلقًا هكذا هو الذي يُمكن أن يُعطي الشهرة لكاتب مثل "الجابري"، ولا أنّ شُهرة كتابات صاحبنا تَعُود في جزء منها لهذا الاستناد، بل إنّ كون "العقل" شيئا يُطلَب عمليّا ويُدَّعى بامتياز هو الذي يَفْرض على كل طامع في الشهرة أو البُروز أن يَتّخذه موضوعا للتّفكير والكتابة (و"العقل" في هذا مثل "التُّراث" و"الثورة" و"الحداثة") ؛ ممّا يجعل ما حَظِي به "الجابري" وكتاباتُه من شُهرة يرجع في أكبر جزء منه إلى 0ختيار "العقل" - مع تخصيصه بصفة "العربيّ"- موضوعا لمُمارَسة (ومُواصَلة) نقد "التُّراث". ومن هُنا يَأتي، في الحقيقة، تَبْخيس "الجابري" لمفهوم "الفكر" لصالح مفهوم "العقل" في تسميته لموضوع بحثه. وبهذا فقط تَتّضح أهميّةُ عبارة "طرابيشي" التي تُركِّز 0بتداءً الانتباه على أحد المُبرِّرات (أو، بالأحرى، الدّوافع) المُغيَّبة من خطاب "الجابري". ثُمّ يُشير "طرابيشي"، بعد ذلك، إلى أنّ تعبير «العقل العربيّ» ليس من 0ختراع صاحبنا الذي نَسِي أو تَناسى أنّه سُبق إليه، مثلا، من قِبَل "زكي نجيب محمود" الذي كتب مقالا بعنوان «العقل العربي يتدهور» (نُشر في مجلة "روز اليوسف" القاهرية في 11 نيسان/أبريل 1977)، بل إنّ "أحمد موسى سالم" سبقه إلى 0تِّخاذ تلك التسمية عُنوانا لكتابٍ كامل («العقل العربي ومنهاج التفكير الإسلامي»، دار الجيل، بيروت، 1980، في 343 صفحة من القطع الكبير) ردّ به على مقال "زكي نجيب محمود" الآنِف الذِّكر! ورغم هذا، نجد "الجابري" - كما يُؤكِّد "طرابيشي"- هو وحده الذي 0ستأثر بامتلاك تعبير «العقل العربيّ» و0متياز تمثيله تحليلا ونقدا وترويجا في المجال التداوليّ للثقافة العربيّة المعاصرة (ص. 11). لكنْ لا بُدّ من مُلاحَظة أنّ عبارة "طرابيشي"، بما تحمله من سُخريّة، تُخفي أنّ إرادة الاستئثار بالشّرف والامتياز المُحيطين بتسمية «العقل العربيّ» تُعبِّر، في العمق، عن سُخْفِ المَسعى النقديّ لدى "الجابري": لكونها، من جهة، إرادةً تجعل قيمة العمل الفكريّ تابعةً لشرف الموضوع المُتناوَل (في حالتنا "العقل") ؛ ولكونها، من جهة أخرى، إرادةً تُوحي بأنّ "العقل" لا يَنْفكّ عن نوع من "الخُصوصيّة" (تُحدِّد بأنّها ثقافيّة أو قوميّة) و، بالتالي، فإنّ 0لامتياز الذي يُريد صاحبُنا (أو غيرُه) أن يَحظى به من وراء الاستئثار بدراسة "العقل" ونقده يَصير مَدْعاةً للشكّ؛ لأنّ موضوعات الامتياز - حتّى لدى الانسان العاديّ- ترتبط في الغالب بما يبتعد عن "الشُّموليّة" (إذْ لا يسعى النّاس للتميُّز إلا بما هو "خاصّ" و"خُصوصيّ" أو "نادر"، وليس بما هو "عامّ" أو "مُشترَك" و"كُليّ")! ولهذا، فمن الوجيه جدًّا ما ذهب إليه "طرابيشي" - بالاستناد إلى علم 0جتماع المعرفة وعلم نفس المعرفة- من الرّبط بين صعود نجم "الجابري" (كمُحلِّل ناقد للعقل العربيّ) وبين إعادة الاعتبار لمفهوميْ "العقل" و"العقلانيّة" في الساحة الثقافيّة العربيّة بعد هزيمة حزيران/يُونيو 1967 و0نكشاف خَواء الإديولوجيا العربيّة السائدة (بما هي وعيٌ لا يَعِي نفسَه) أو من رَبْط رواج كتابات "الجابري" بنوع من «العُصاب الجماعيّ» الذي أصاب، بعد تلك الهزيمة، المثقفين العرب في نُكوصهم نحو "التراث" بحثا عن أبٍ حامٍ أو أُمٍّ شديدة القُدرة تماما كما يَتجلّى في كون «العقل العربيّ» المُتناوَل بالنقد عند "الجابري" هو حصرا «العقل التراثيّ» بامتداداته في "اللاعقل" العربيّ الحديث والمُعاصر. ومع هذا، فإنّ "طرابيشي" يَكُفّ جُموحَه النقديّ فيقف عند الإقرار بأنّ ما صنع مجد "الجابري" يُعَدّ بالأساس من طبيعة معرفيّة (أو، كما يُحبّ هو، «إپستمولوجيّة») لأنّه، في رأيه، يَتميّز عمّن سبقه إلى الكتابة عن «العقل العربيّ» بقُوّة التّأسيس النظريّ (أو "الإپستمولوجيّ") لهذه التسمية. ويَنبغي ألا يخفى، بهذا الصدد، أنّ 0عتراف "طرابيشي" بقُوّة التّأسيس النظريّ والمعرفيّ لتسمية «العقل العربيّ» لا يُرجعنا فقط إلى نُقطة البدء، بل يقودنا إلى التّساؤُل عن حقيقة هذا التّأسيس المزعوم في هذه التسمية التي أُريدَ لها أن ترقى إلى مستوى "المفهوم" المُحكَم فلسفيّا وعلميّا. ولكي نبقى في حُدود مناقَشة تسمية «العقل العربي» (من دون الانتقال إلى مستوى ما يُفترَض تأسيسا نظريّا أو إپستمولوجيّا لها من خلال تمييز "لالُند" بين «عقل مُكوِّن» و«عقل مُكوَّن»، وهو ما سيَأتي تناوُله في مقالات لاحقة)، فإنّ كونَ "طرابيشي" نفسِه 0نْبَرى لنقد فكر "الجابري" بتخصيص كتابٍ كامل ل«نظريّة العقل» (هو واحد من بين خمسة كُتب أُخرى تُكوِّن في مجموعها مشروعَه في «نقد نقد العقل العربي») يَطرح بالتالي مُشكلةَ الجدوى من عمل نقديٍّ كهذا، وهو الذي يُعَدّ - حتّى إنْ لم يَكُن 0عتراضًا منهجيّا أو معرفيّا على المشروع الأصليّ- مُراجَعةً له على الأقل في بعض مُكوِّناته التي تَحضُر بالتأكيد من بينها تسمية «العقل العربيّ». وإلا، فإنّ إقرار "طرابيشي" السالِف بوُجود قُوّة نظريّة ومعرفيّة مُؤسِّسة لمشروع "الجابري" لا يَتجاوز «التّواطُؤ المِهْنيّ» الذي يَكُون بين أقرانٍ أو خُصومٍ 0ضْطُرُّوا إلى الإجماع (أو الاجتماع) على الحدّ الأدنى الذي من شأنه أن يُمكِّنهم من حفظ مَصالِحهم المُشترَكة لكي لا تصير مُهدَّدةً برُمّتها لو بَقُوا يتنازعون حول ذلك الحد الأدنى نفسه! وفضلا عن هذا، فإنّ "طرابيشي" يَعُود في الفصل الثاني من كتابه («التوظيف المركزي الإثْنيّ لنظريّة العقل»، ص. 25-115) ليُقِرَّ بأنّ توظيف "الجابري" ل«نظريّة العقل» ليس سوى تعبير مُتطوِّر عن «المركزيّة القوميّة» (هو يُفضِّل لفظ "إثنيّة") و، بالتالي، ف«المقاربة المعيارية لإبستمولوجيا العقل لا تلبث أن تترجم عن نفسها حالا إلى مركزيّة إثنيّة شرسة على صعيد أنتروبولوجيا الحضارات [ بالتمييز بين حضارات العقل وحضارات اللاعقل]» (ص. 30). وحَسبُنا، هُنا، أنْ يُؤكَّدَ أنّ إقرار "طرابيشي" بوُجود هذا التوظيف من قِبَل "الجابري" لنظريّة العقل لنَتبيّن أنّ تسميةَ «العقل العربيّ» لا يُمكن أن تَمُرّ دون الإحالة إلى نوع من «المركزيّة القوميّة (أو الثقافيّة)» (l'ethnocentrisme). ولن يَحتاج المرء بعدُ إلى مزيد 0ستدلال ليُثبت أنّ التأسيس النظريّ المزعوم في خطاب "الجابري" ليس سوى مَظهر خادع سرعان ما يَنكشف زيفُه لكل من يُحسن التّبيُّن!
5- يُعَدّ "يحيى محمد" من النُقّاد الذين وقفوا طويلا عند تسمية «العقل العربيّ». ونَجِدُه، في كتابه «نقد العقل العربي في الميزان» (مؤسسة الانتشار العربي، ط 1، 1997 ؛ أفريقيا الشرق، ط 2، 2009)، يُخصِّص لها الفصل الثاني («هُويّة العقل والتراث»، ص. 33-61) حيث يُحاول أن يجد تبريرا لها باعتبار أنّ الأمر يتعلّق ب"عقل" تكوَّن في حضارةٍ وثقافةٍ تلعب فيها "العربيّة" دورا أساسيّا يَتمثل في كونها لُغة «النّص المُؤسِّس» ("القرآن" بالأخص) الذي هو نص ذو طبيعة مُزودجة من حيث إنّه، في آن واحد، «مادّة لغويّة» مَصُوغة بالعربيّة كلُغة تعكس «الواقع العربيّ» و«مادّة دينيّة ذات صبغة معياريّة». فكونُ "الإسلام" يُؤدِّي في هذه الحضارة نفس دور "العربيّة" يُوجب، بالتالي، تأكيد 0ستحالة الفصل بين صفتي "عربي" و"إسلامي" في تحديد "العقل" المَعْنيّ، فهو «عقل عربيّ إسلاميّ» بلا مُنازِع. ويَرى "يحيى محمد" أنّ هناك بعض المُبرِّرات التي رَجّحت لدى "الجابري" 0ستعمال تسمية «العقل العربيّ» بدلا من عبارة «العقل الإسلامي»، فيُشير إلى ما أورده صاحبُنا في كتابه «التراث والحداثة» (ص. 131) من أنّ "العربيّة" وعلومَها لها دور كبير في تشكيل آليّات المعرفة وبِناء أُسُسها، ومن أنّ «[...] عبارة "العقل الإسلامي" لا يمكن أن تدل في حقل الثقافة العربية إلا على ما تدل عليه عبارة "العقل المسيحي" في الثقافة الأوروبيّة [...]»، وهو ليس من 0هتمامه أو 0ختصاصه التحرُّك في إطار «العقل الدينيّ» سواء كان إسلاميّا أو مسيحيّا (نقد العقل العربي في الميزان، ص. 34) ؛ فضلا عن أنّه ليس في وُسعه الإحاطة بكل ما راكمه هذا "العقل" في كل اللُّغات المُكوِّنة للحضارة الإسلاميّة. ولهذا، فإنّ "الجابري" يرى أنّ 0ختياره لتسمية «العقل العربيّ» يرجع بالأساس إلى قيامه ب«النقد الإپستمولوجيّ» (كنقد يَنْصبّ على نقد آليّات المعرفة وأُسُسها) وليس بما يُسمِّيه «النقد اللاهوتيّ» (كنقد يَتعرّض، في نظره، لقضايا الدِّين)، ممّا يجعل 0ختيارَه هذا 0ستراتيجيّا ومبدئيّا ومنهجيّا، خصوصا أنّ «النقد اللاهوتيّ» (الذي يُمكن أن يُبرِّر 0ستعمال تسمية «العقل الإسلاميّ») لا يَتحمّلُه العالم العربي في وضعيّته الرّاهنة ولا بُدّ من حُصول نوع من التطوُّر حتّى يخرج هذا النّقد من النِّطاق الشخصيّ حيث تجب مُمارَسته (التراث والحداثة، ص. 132). وعلى الرغم من أنّ "يحيى محمد" لا يقول بأنّ تبرير "الجابري" لاختياره ذاك مُقنعٌ بما يكفي، فإنّه يَعُود في الأخير ليُؤكِّد أنّ تسمية الفكر العربي الإسلامي ب«العقل العربيّ» تُعبِّر عن «اختيار معرفي استراتيجي دون أدنى شك، فهناك مبررات عديدة تجعل من تلك التسمية لائقة ومتفقة مع طبيعة البحث. فهو مكرس للكشف عن أثر اللغة والمحيط على تكوين العقل وتأسيس بنيته وآلياته الاستدلالية، فكيف لا يكون عربيا؟!» (ص. 43). وحتّى بعد أن حاول هذا النّاقد أن يَلتمس بعض التبرير لتلك التسمية (على أساس أنّ هناك 0عتبارًا يُسمِّيه "أكسيوميّا" يقود إليها)، فإنّه لم يجد مَناصًا من الانتهاء إلى تأكيد أنّ «إضفاء خاصية "العروبة" على العقل في مشروع "نقد العقل العربي" لم يُصادف بنظرنا النجاح لعلتين: فمن جهة إن "العقل العربي" وكما أوضحنا كشف عن إفنائه لذاته لضمه النماذج الأجنبية على طابعه "القومي" [؛] ومن جهة أخرى[،] فإنّ قرائن تأثير البيئة على العقل لم تكن قرائن كافية لإقناعنا بقبول تفسير تكوين وبناء بنية هذا العقل.» (ص. 61). وعموما، يُمكننا القول - لتعذُّر القيام، هُنا، بنقدٍ مُفصَّل لكثير من التفاصيل بهذا الصدد- بأنّ "يحيى محمد" لم يَذْهب بعيدا في نقده لتسمية «العقل العربيّ»، بل 0كتفى بالبناء على ما أورده "الجابري" (من مثل التمييز الحاسم بين "المعياريّ" و"التقريريّ") مُوهمًا إيّانا بأنّه يقوم بعمل نقديٍّ يَرُوم كشف التناقُضات المنهجيّة والمعرفيّة في الخطاب المَعْنيّ، في حين أنّه إنّما كان يَحْرِص على تلطيف مفهوم «العقل العربيّ» حتّى يَنفتح على «ما هو إسلاميّ» فيَتّسع ل«ما ليس عربيّا» (و، بالتحديد، «ما هو فارسيّ» مِمّا يَرتبط بالخصوص بمذهب «التشيُّع الاثناعشريّ» كما يُلاحَظ في الفقرة الأخيرة من الفصل الثالث التي جُعِلتْ بعُنوانٍ صريحٍ ولافِتٍ «دفاع عن العقل الشيعيّ»!).
6- نجد "حسن حنفي" (فصل «نقد العقل العربي في مرآة "التراث والتجديد"»، ضمن كتاب «التراث والنهضة: قراءة في أعمال محمد عابد الجابري»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت [ط 1، 2004]، ط 2، 2005، ص. 215-277) يرى أنّ «"العقل" في مشروع نقد العقل العربي هو المُنتَج الثقافي، ما أبدعه العقلاء، متكلمين وحكماء وأصوليين وإشراقيين، بل أيضا فقهاء ونُحاة ومفسرين ومُحدِّثين ومؤرخين. العقل هو إنتاجه. العقل كمَلَكة هو المعقول كإنتاج. العقل كذات هو العمل كموضوع. العقل ليس مُعطى سابقًا على نتاج التفكير، بل هو حصيلة التفكير نفسه.» (ص. 232)، ثُمّ يُعقِّب قائلا: «لذلك يكون لفظ "الفكر" أو "الثقافة" أفضل من ["العقل"]. لأنّ ["العقل"] أداة ومنهج، في حين أنّ ["الفكر"] أو ["الثقافة"] نتاج وأعمال.» (ص. 233، المعقوفان هُنا يُشيران إلى إضافة المزدوجتين إلى الألفاظ الموضوعة بينهما). غير أنّه لا يَتّضح بما يَكفي في هذا القول إذَا ما كان "حنفي" يُوافق "الجابري" في 0ستعماله للفظِ "العقل" بحصره في الدّلالة على «الفِكْر-الأداة المُنتِجة»، وإنّما نَلمس فيه إشارةً إلى أنّ "العقل" مُنتِجٌ ومُنتَجٌ في آن واحد. ويَتساءل "حنفي" بعدُ «وماذا يعني "العربي"؟ هل هو وصف لغوي يشير إلى كل الناطقين بالعربية، فليست العروبة بأبٍ أو أمّ، إنما العروبة هي اللسان. ومن هنا يكون مسكويه وسيبويه والفارابي وابن سينا والخوارزمي وأبو علي الفارسي عربا. [...] وهل يوصف العقل بالجنس والعرق أمْ أنه مجرد ملكة ذهنية، وقوة في النفس، وقدرة على التفكير تعبّر عن نفسها في أعمال أدبية وثقافية وعلمية بلغة محددة وفي بيئة معينة. ["العربي"] وصف للمُنتَج الثقافي وليس للعقل البشري. وقد روّجت النظريات العنصرية في الغرب في القرن التاسع عشر لهذا المفهوم العرقي للعقل. وتحدثوا عن العقل العربي، والعقل اليهودي، والعقل الغربي، والعقل الأمريكي، والعقل الياباني، والعقل الصيني. ومايزوا بين هذه العقول في تراتبية تقوم على التفضيل بين الأعلى والأدنى. وأحيانا يكون التمييز بين مجموعة من العقول مثل العقل السامي، ويضم العرب واليهود والأحباش وكل الشعوب السامية[،] في مقابل العقل الآري الذي يضم العقول الغربية، وطبقا للتمايز في تاريخ اللغات، بين مجموعة اللغات السامية ومجموعة اللغات الآرية أو الهندية الأوروبية. وأحيانا [يُتجاوَزُ] ذلك إلى تعميم آخر بالحديث عن الشخصيات القومية للشعوب التي يتمتع كل منها بخصائص قومية تتجاوز الفروقات الفردية. ويصل التعميم إلى أقصى مدى بالتمييز بين الشرق والغرب، في العقل والشخصية والمزاج والثقافة والحضارة.» (ص. 233-234، مع تصحيح «يَتِمّ تجاوُز» ب"يُتجاوَزُ" فعلا مَبْنيّا للمجهول). وتَتمثّل أهميّة كلام "حسن حنفي" هذا في كونه يُؤكِّد ضمنيّا أنّ وصفَ "العقل" ب"العربيّ" يُعَدّ إشكاليّا لأنّه وصفٌ يُخصِّصه أو يَحصُره ضمن قومٍ مُعيَّنين أو ثقافةٍ مُحدَّدة بالشكل الذي يَنْزِعُ عنه صفة "الكُلِّيّة" و"الشُموليّة" (حتّى ضمن قومه أو ثقافته ما دام يَبقى خاصّا أو خُصوصيّا!). ومن المُؤسف أنّ "حسن حنفي" لا يُصرِّح بأيِّ شيء من ذلك، بل يُفضِّل إلقاءَ كلامٍ مُرسَل وهُلاميّ: «ويُوحي وصف "العربي" بالتغاير بين الأنا والآخر. ف["العربي"] لا يصف موضوعًا مُغايرًا بأنه ["عربي"]. فالذات لا تجعل من نفسها موضوعًا. الأنا العربي يحلل ذاته ويصف مشاعره، ويدخل في أعماق ذاكرته الجماعية. ولا يكون وصفًا لآخر متمايز منه. أما غير العربي[،] فهو الذي "يُشيّئ" العربي، ويعتبره موضوعًا. يستطيع المفكر العربي أن يتحدث عن العقل "الأوروبي" أو "الأمريكي" أو "الهندي" أو "الياباني" أو "الصيني"، ولكنه لا يستطيع الحديث عن العقل "العربي" لأن الذات لا تنقسم في اللحظة نفسها إلى ذات وموضوع. وبالاستبطان تستطيع أن تكتشف عروبتها إذا كانت عربية. ويستطيع المفكر غير العربي أن يُشيّئ العقل "العربي" لأنه يصف موضوعًا مُغايرًا له لا يعيشه، وليس جزءًا منه. وببعض التهكم يوصف الأعرابي بأنه صانع الوطن العربي. فرؤية العربي الثقافية هي رؤية الأعرابي البدوي، وجمعها الأعراب الذين يصفهم القرآن بأنهم أشد كفرًا ونفاقًا. [يحيل "حنفي" هنا إلى كتاب «تكوين العقل العربي»، ص. 75-95، أيْ إلى فصل «الأعرابي صانع "العالم" العربي»]». وينبغي ألا يخفى أنّ كلام "حسن حنفي" هذا أقرب إلى التهرُّب بدافع الكسل الفكريّ منه إلى التبيُّن عملا بواجب الاجتهاد النقديّ! إذْ لو صحّ أنّ المرء لا يستطيع مطلقا أن ينظر إلى ذاته كموضوع خارجيّ، لصار في وُجوده مجرّد "أنًا" مُنْطوٍ على نفسه فيما يُشبه "الحُلْم"، ولجاز بالتالي أن يكون كلامُ صاحبنا نفسِه في كل مكتوباته «أضغاث أحلام» لا حقيقة لها أو فيها. وهكذا، فكلامُه المذكور آنِفا فيه من السُّخْف بقدر ما فيه من التّمحُّل. وبالجُملة، فليس تحته كبير طائل، اللّهُم إلا وَضعُه صفة "العربيّ" - في تسمية «العقل "العربيّ"»- بين مُزدوجتين تحفُّظا منه عليها ومن دون أيِّ تعليل واضح ودقيق!
7- يذهب "عبد الإله بلقزيز" (فصل «في نقد العقل النظري: المفاهيم والفرضيات»، ضمن كتاب «العقلانية والنهضة في مشروع محمد عابد الجابري»، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 2012، ص. 115-132) إلى أنّ «العقل العربي» الذي يَقصده "الجابري" في نقده ليس «"مقولة فارغة ولا مفهومًا ميتافيزيقيًّا ولا شعارًا أيديولوجيًّا للمدح أو الذّمّ"، وإنما هو "جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، مجال إنتاجها وإعادة إنتاجها" [تكوين العقل العربي، ص. 70]». ويَشرح "بلقزيز" كلام "الجابري" هذا بقوله: «إنه، إذن، جملة الآليات المعرفية التي بواسطتها يعي الأشياء، وهي (أي الآليّات) كناية عن مفاهيم تَصْدُرُ عنها معرفته بتلك الأشياء» (ص. 129). ثُمّ يُواصل مُتسائِلا: «وقد يكون السؤال البديهي هو: كيف تكوّنت لديه تلك المفاهيم والآليات المعرفية، وكيف أصبحت حاكمةً لوعي "كل عربيّ"؟». ونراه يُجيب بقوله: «إنها تكوّنت - في ما يرى الجابري- داخل الثقافة العربية: كمنتوج من منتوجاتها، وكدينامية من ديناميات التفكير فيها. إن هذه الثقافة هي "الإطار المرجعي للعقل العربي"، ففي معطياتها يجد هذا العقل محدّداته. ولمّا كانت هذه الثقافة قد "تشكلت ككيان ثُبِّتَت أركانُه وتعيَّنتْ حدودُه واتجاهاته خلال الفترة المعروفة في تاريخ هذه الثقافة ب"عصر التدوين"..."، فقد "ترسخت في الذهن العربي طُرق في التفكير تشكّل في ترابطها وتفاعلها مع مفاهيم ذلك العصر ما ندعوه هنا ب"العقل العربي" [تكوين العقل العربي، ص. 70-71]». ويَلِي هذا قول "عبد الإله بلقزيز" مُستنتِجًا: «وعلى ذلك، فإن العقل العربي هو "البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين" [تكوين العقل العربي، ص. 70 ؛ وقام "بلقزيز" بتشديد عبارة «البنية الذهنية الثاوية»]، البنية التي ما زالت - حتى اليوم- تعيد إنتاج نفسها في الوعي العربي، وذلك في جملة الأسباب التي تحمل على نقد العقل العربي في نظر الجابري.» (ص. 129-130). ويَستنتج "بلقزيز" مرة أخرى فيقول: «ليس المقصود بالعقل العربي - في خطاب الجابري- جملة المنتوج المعرفي المتحصِّل في تاريخ الثقافة العربية، وإنما آليات المعرفة الحاكمة للتفكير داخل هذه الثقافة، أو منظومة المفاهيم والتصورات الخلفية التي يجري التفكير في الأشياء بمقتضاها. أما أن يكون العقل عربيًّا، فليس لخاصيةٍ متفردة - سلبية أو إيجابية- في العرب، ولا لكون الأمر يتعلق ب"ماهية" تُميِّز الفكر عندهم، وإنما لأن محدِّدات ذلك العقل تكوّنت داخل الثقافة العربية، وفي نطاق شروطها المعرفية والتاريخية الخاصة. [...]». ويُمكننا أن نَخلُص، مع "بلقزيز" في شرحه لكلام "الجابري" حول مقصوده ب«العقل العربيّ»، إلى أنّ "العقل" يَتحدّد بصفته «طريقة التّفكير» وليس بما هو "فِكْر" أو «إنتاج فكريّ». لكنْ يبدو أنّه قد غاب عن "عبد الإله بلقزيز" أمران يَجعلان تسمية "العقل العربيّ" إشكاليّةً تماما: أوّلُهما أنّ جعل "العقل" نتاجا للتاريخ الثقافيّ الخاص بقومٍ يَقتضي خُصوصيّته وليس شُموليّته ؛ وثانيهما أنّ تحديد "العقل" بصفته «آليّات معرفيّة» تتمثّل في مجموع "المفاهيم" و"المبادئ" البانِية للوعي يَجعلُ "تخصيصه" بالنِّسبة إلى "الثقافة" و"التاريخ" - المُحدَّدَيْن بصفتهما عربيَّيْن (و، بالتالي، وصفه هو أيضا بأنّه «عقل عربيّ»)- يَقُود إلى مواجهةِ مُشكلةٍ حقيقيّةٍ: هل "المفاهيم" و"المبادئ" المُحدِّدة للعقل خاصّةٌ على نحو قوميّ و/أوْ ثقافيّ أمْ أنّها عامّة وشامِلة بفعل 0شتراك أفراد النوع البشريّ (أو بنُزوعهم إلى الاشتراك) في "العقل"؟ هل مفاهيم "الزمان" و"المكان" و"السبب" و"الغاية" ذات خُصوصيّة بالنسبة إلى كل فكر وثقافة أمْ أنّها مفاهيم كُليّة في مبادئها الأساسيّة تماما مثلما هي مبادئ "المُماثَلة" ("أ" هي نفسها "أ") و"المُبايَنة" ("أ" بخلاف "ب") والفصل بين قيمتي الخبر (إمّا صادق وإمّا كاذب)؟ وطرح هذين الإشكالين هو الذي يكشف أنّ الإصرار على تبرير تسمية «العقل العربيّ» يُعبِّر، في الواقع، عن 0لتباس منهجيّ ومعرفيّ أكثر ممّا هو إنجاز نقديّ أو علميّ! وبقاءُ مثل هذا الالتباس هو وحده الذي يُمكن أن يسمح بالغفلة عن أنّ تلك التسمية لا ترقى إطلاقا إلى مُستوى "المفهوم" في تجرُّده وعُمومه و0تِّساقه.
8- لا تَتجلّى آثارُ ما فعله "الجابري" باستعماله تسمية «العقل العربيّ» كما تتجلّى في كثير من الأعمال التي حَذت حذوه فأخذ أصحابُها يَتحدّثون دون أدنى حرج عن «العقل العربيّ» أو «العقل الإسلاميّ» وحتّى عن «العقل المُسلم». ولعل من الأمثلة النموذجيّة، بهذا الصدد، ما نجده لدى "سعد حسن كموني" في كتابه «العقل العربي في القرآن» (المركز الثقافي العربي، ط 1، 2005) و"علاء هاشم مناف" في كتابه «نظرية العقل العربي: الرؤية والمنهج "في سلّم الحضارات"» (دار التنوير، ط 1، 2011). إذْ أنّ المُؤلف الأوّل عَمِل على تحديد مَلامح «العقل العربي» بالاعتماد أساسا على «نص القرآن» بصفته نصا أدبيّا يُمكن للقارئ أن يَدخُل معه في علاقة تَلقٍّ. ولا يستطيع المرء إلا أن يندهش كيف أن "سعد كموني" لم يَتساءل - على 0متداد أكثر من 300 صفحة- عن علّة وصف "العقل" ب"العربيّ" وليس "الإسلاميّ"؟ ولماذا لَمْ يَصِحّ في فهمه الجمع بين الصفتين («العقل العربيّ-الإسلاميّ» أو «العقل الإسلاميّ-العربيّ») على الرغم من أنّ «نصّ القُرآن» - الذي أُنزل «بلسان عربيّ مُبين»- إنّما يُخاطب «النّاس أجمعين» لكي «يُسلِموا للّه ربّ العالمين»؟ إنّه لمن العجيب جدًّا أن يكون "سعد كموني" قد سعى - بوعي أو من دُونه- إلى التّدليل قرآنيًّا على دعوى "الجابري" في فصل «الأعرابي صانع "العالَم" العربيّ» (تكوين العقل العربي، الفصل الرابع، ص. 75-95) على الرغم من أنّه أبَى إلا أن يُغيِّب "الجابري" وكتابَه باستثناء إحالةٍ يَتيمة إلى «بنية العقل العربي» (هامش 1، ص. 136)؟! أمّا "علاء هاشم مناف"، فيُجسِّد في كتابه المذكور «خطاب 0للَّغْوى» حينما يَرتدي لَبُوس الخبط العشوائيّ الذي يُراد له أن يبدو تنظيرا فلسفيّا في خِضمِّ التّسيُّب المُستشري كتابةً وطباعةً. وهل يَحتاج المرء بعدَ هذين المثالين لتأكيد أنّ ما أراد "الجابري" أن يظهر به بصفته فضيلةً معرفيّةً أو عِلْميّةً قد صار بين أيدي من أصابتهم عَدْواهُ (أو بَلْواهُ) فضيحةً فكريّةً وخُلقيّةً بامتياز؟! لقد صار من الصعب تماما تتبُّع غوائل "0للَّغْوَى" كما يَأتيها الذين 0بْتُلوا بإرسال الكلام بلا قيد ولا شرط ومن دون أن يأخذوا بالحسبان أنّ ما يُرسلونه عواهنَ تَتْرَى سيَتلقّاه لا مَحالة رقيبٌ عتيدٌ هُنا أو هناك، وَلاتَ حينَ ندمٍ!
9- إنّه إذَا كان لا بُدّ من 0ستعمال تسمية «العقل العربيّ»، فإنّه يَلزم على الأقل وضعُ اللفظَيْن معا بين مزدوجتين أو وحدها صفة "العربيّ" لإبراز التحفُّظ بهذا الشأن ولتقييد هذه العبارة حتّى يُمنَع أيِّ 0نزياح نحو الإطلاقيّة. ولا يبدو شديدَ الصعوبة أن يُدرك المرءُ أنّ "0لعقل"، في أيِّ 0ستعمال يُراد له أن يكون حقيقيّا ودقيقًا، لا يَصِحّ أن يُخصّص بصفة "العربيّ" تماما كما لا يَصحّ أن يُخصّص "الإنسان" بها، لأنّ هذا هو نفسه ذاك في 0نطباقه على ما هو نوعيّ في الوُجود والفعل البشريين. وقد يَكفي أن يُعرَف أنّه لم يَجرُؤ أيُّ فيلسوف معروف أو عالِم حُجّة على تصنيف كتاب يَحمل في عُنوانه لفظ "العقل" (Reason/Raison) مُخصَّصًا بصفةٍ قوميّةٍ/ثقافيّةٍ كما فعل "محمد عابد الجابري" و"محمد أركون". ولعلّه من المُفيد، هُنا، أن يُشار إلى أنّ هذا الأخير في المقدمة الجديدة (عام 2008) التي كتبها لكتابه «الفكر العربيّ» (la pensée arabe) ما إنْ أتى على ذِكْر «العقل الغربيّ» (la Raison occidentale) - كموضوع لدراسة نقديّة فكَّر في القيام بها- حتّى أُهْرِع إلى وضع صفة "الغربيّ" بين مُزدوجتين (Critique de la Raison «occidentale») ؛ لكنّه لم يُكلِّف نفسَه فعل الأمر عينِه حينما أتبعها بصفة "الإسلاميّ" محمولةً على 0سم "العقل" (la Raison islamique)، وهو الأمر الذي يُؤكِّد أنّ الرّقابة الذاتيّة تفرض نفسها كُلّما أحسّ الكاتب أو المُفكِّر بأنّ سهامَ النُّقّاد لن تُخطئه ولن تأخُذَها رأفةٌ به إنْ هو تَجاوَز حُدود "المُتعارَف" من دون أن يَبْسُط عليه ما يَكفي من الأدلّة المُعلِّلة أو المُسوِّغة. ومن المُؤسف أنّ الحال في مجال التداوُل العربيّ الإسلاميّ ليست كذلك، مِمّا يُشجِّع على فُشُوِّ "0للَّغْوَى" تخريقًا وتلفيقًا.
10- يَنبغي أن يَتبيّن، على ضوء ما سبق، أنّ التّشبُّثَ بلفظ "0لعقل" مقرونًا إلى صفة "0لعربيّ" لا يقوم على أساس "إپستمولوجيّ" كما يُزعَم، بل يَستند بالأحرى إلى أساس "إديولوجيّ" مُضمَر. ذلك بأنّ عبارة «0لفكر 0لعربيّ» لا تَقْرَع سمعَ المُتلِّقي العربيّ مثلما تَقْرَعُه عبارة «0لعقل 0لعربيّ»، ليس فقط لأنّ العبارة الأُولى مُبتذلةٌ ومُستهلكةٌ إلى حدٍّ ما، وإنّما لأنّ الثانية تُقدِّم "0لعقل" بصفته مُستنَدًا للفعل ومَركَزا للفكر تماما كما هو منظور إليه من قِبَل عامّة النّاس. ف"0لعقل" مَطْلبٌ وموضوعٌ ذُو 0متياز بشكل لا يكاد يُضاهى، ممّا يجعل أيَّ عملٍ نقديٍّ يَنْصبّ عليه (أو يقوم بٱسمه) موضوعا للحُظوة والاحتفاء بما لا قِبَل لغيره به. لا غَرْوَ، إذًا، أن يكون "الجابري" قد مال إلى لفظ "0لعقل" ففضّله على "0لفِكْر" بدعوى أنّه أدلّ منه على معنى «0لأداة 0لمُنتِجة». لكنّ ظُهور أنّ لفظ "0لعقل" لا يَتفرّد بهذا المعنى وأنّ إيرادَه مُقترِنًا بصفةِ "0لعربيّ" يُغرِقُه في "0لخُصوصيّة" الثقافيّة والقوميّة بِما يُؤكِّد - يا لَلمُفارَقة!- أنّ معنى «0لأداة 0لمُنتِجة للفِكْر» لا يَستقلّ بنفسه عن معنى «0لمُحتوى 0لفكريّ 0لمُنتَج» ما داما كلاهما محكومان، في ظن "الجابري"، بحتميّة "0لتاريخ" و"0لثقافة" اللّذين يَتحدّدان بصفة "0لمُكوِّن" الحقيقيّ ل"0لعقل" نفسه! ومن البيِّن أنّ كل هذا يَسير بخلاف ما أراده صاحبُنا وما حاول مُسايَرتَه فيه كثيرٌ من قُرّائه ونُقّاده الذين لم يَظهروا على عُمق السُّخْف في تسمية «0لعقل 0لعربيّ» أو لم يستطيعوا تبيُّن مدى التّهافُت النظريّ والمعرفيّ للخطاب الذي بُنِيَ عليها.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.