سَبَق أنْ تناولتُ بالنقد عُنوانَ كتاب الجابري «تكوين العقل العربيّ» في مَقال تمهيديّ («نحو قراءة نقديّة ل"تكوين العقل العربي"»)، ثُمّ 0ستعرضتُ مُحتوَى مُقدِّمته وشكلَها وأبديتُ عليهما عدّةَ مُلاحَظات في مقالٍ من جُزأين («في نقد مقدمة "تكوين العقل العربي"» أولا وثانيا). ومن البيِّن أنّ هذه المَقالات الثلاثة ليست سوى مَدخلٍ لعملٍ منهجيّ مُفصَّل يَتعلّق بتناوُل أبرز فُصول الكتاب الذي يُفترَض أنّ المَقاصد الأساسيّة في المشروع الفكريّ للجابريّ مُتضمَّنةٌ فيها. ولهذا، فمُحاوَلتي في نقدِ فكر المرحوم "الجابري" لم تَخْطُ بعد أكثر من خطوة أُولى في طريق طويل ومُتشعِّب. وفي هذا الإطار، سأوُاصل العمل بتناوُل الفصل الأوّل من الكتاب المَعْنيّ في عدّة أجزاء مُتسلسلة بعناوين مُختلفة تُشير، إجمالا، إلى مُحتواها. يَأتي الفصل الأوّل («عقل... ثقافة») ضمن القسم الأوّل من كتاب "الجابري" الذي يَحمل عُنوانًا أساسيًّا «العقل العربي... بأَيّ مَعنى؟» وعُنوانًا فرعيًّا «مُقارَبات أوليّة». ويُمكننا، في لحظةٍ أُولى، أنْ نُلاحظَ أنّ الأمر يَتعلق بفصلٍ أوّليٍّ يُحاوِل فيه المُؤلِّف بيان ما يَقصده بتسمية «العقل العربيّ» وما يُبرِّر، في نظره، 0ختيارَها بدلا من التّسمية الشّائعة «الفكر العربيّ». ولأنّه فصلٌ يَدخُل ضمن «مُقارَبات أوّليّة»، فهو يُقدِّم الإطار العامّ لعمل "الجابري" المُتعلِّق بنقد «العقل العربيّ». كما نستطيع، في لحظةٍ ثانيةٍ، أن نُلاحظ أنّ عُنوان هذا الفصل («عقل... ثقافة») يَتكوّن من 0سمين مُنكَّرَيْن بينهما ثلاث نُقط للحذف. وإذَا كان تَنْكيرُ الاسمين المُفرَدَيْن ("عقل" و"ثقافة") يَدُلّ على قصدِ عدم التَّعْيين و، بالتالي، التّعميم فيهما، فإنّ دلالة نُقط الحذف تبقى مُلتبسةً: فهل المحذوف، الذي تُشير إليه، يَتعلق بأداةِ "وَ" للعطف الوَصْليّ («عقلٌ [وَ] ثقافةٌ») أمْ بأداةِ "أوْ" للعطف الفَصْليّ («عقل [أوْ] ثقافة»)؟ وما دلالة هذا الحذف؟ هل هو إضمارٌ لشيءٍ يُدرَكُ ضمنيًّا من خلال تأليف ألفاظِ العُنوان أمْ هُو إشارةٌ إلى شيءٍ لا يُمكن أن يُدرَكَ معناه الحقيقيّ بمجرد إظهاره عن طريق اللّفظ فيَنبغي، إذًا، طلبُه من وراء الرَّسم الذي يَجعل اللفظ نفسه لا يُمثِّل شيئا وإنّما «يُحيلُ إلى غيره» أو «يَتعلّق بِما سواه»؟ وهل قَصْدُ صاحبنا كان فعلا يَتحدَّد على هذا النحو أمْ أنّه لم يَكُنْ يَتجاوز الدّلالة على صُعوبةِ تحديد العَلاقة بين مفهومي "العقل" و"الثقافة"؟ وهل علاقة "العقل" ب"الثقافة" أهمّ من غيرها من العلاقات (بالطبيعة، بالكون، بالمجتمع، بالتاريخ) على النحو الذي يُوجب الاقتصار عليها كما لو كانت هي العلاقة الأساسيّة المُحدِّدة ل"العقل"؟ كل تلك أسئلةٌ تُطرَح 0نطلاقا من الكيفيّة التي وُضع بها عُنوان الفصل الأول («عقل... ثقافة») الذي يَشتمل على أربع فقرات كُبرى مُرقَّمة أو، أحسن، "فُصَيْلات" (تصغير "فَصْل") غير مُتساوية كميًّا: أوّلُها فُصَيْلٌ في نحو أربع صفحات (ص. 11-14)، وثانيها في نحو صفحتين (ص. 14-17)، وثالثها في نحو ثلاث عشرة صفحة (ص. 17-29)، ورابعها في نحو ثلاث صفحات ونصف (ص. 29-33)، ثُم فُصَيْل ختاميّ (غير مُرقَّم) في نحو صفحة (ص. 33-34)، فهوامش الفصل أخيرًا في صفحتين تقريبا (ص. 35-36.). وعموما، فالفصل الأوّل بهوامشه يَقع في نحو خمسةٍ وعشرين صفحةً. وسنعمل، في هذا المقال، على تناوُل الفُصيَل الأوّل منه (ص. 11-14) الذي يَضُمّ إحدى عشرة فقرة مُتباينة الطُّول. ولتسهيل هذا التّناوُل، فإنّنا سنَأتي بنصِّ كل فقرةٍ (مثلا: § 1، أيْ فقرة أُولى)، ثُم نُتبِعُها بمُلاحظاتنا النقديّة (§ 1. 1، أيْ مُلاحَظة أُولى على الفقرة الأُولى) التي ستَهُمّ الشكل والمُحتوى كليهما. وبالنظر إلى طُول المقال وصعوبةِ نشره مرّةً واحدةً، فسيُقسَّم إلى جُزأين يَشمل أوّلُهما أربع فقرات ويَضُمّ ثانيهما الفقرات السبع المتبقية. § 1- «ليس ثمة شك في أن عبارة "العقل العربي"[-] التي جعلناها [عنوانًا] لهذا الكتاب[-] ستثير في ذهن القارئ، الفاحص لما يقرأ، أكثر من سؤال: هل هناك عقل "خاص" بالعرب، دون غيرهم؟ أوليس العقل خاصية ذاتية للإنسان، أي [إ]نسان، تميزه و"تفصله" عن الحيوان؟ وهل يتعلق الأمر، [و؟] من جديد، بذلك التمييز الذي أقامه بعض المستشرقين والمفكرين الأوروبيين في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بين "العقلية السامية" ("التجزيئية"، "الغيبية") و"العقلية الآرية" ("التركيبية"، "العلمية") [[أمْ]] أن الأمر يتعلق هذه المرة [أيضًا] ب"سرّ" جديد من "الأسرار" التي لا يفتأ العرب المعاصرون يكتشفونها في [أ]نفسهم، ويقرأون فيها عبقريتهم وأصالة معدنهم؟». § 1. 1- وضعتُ، في هذه الفقرة الأولى، عبارة «التي جعلناها [عنوانًا] لهذا الكتاب» بين عارضتين لأنّها إضافيّة وبَيانيّة ولأنّ فعل "ستُثير" يَرتبط بلفظ "عبارة". ووُضِعَ لفظا "عنوانًا" و"أيضًا" بين معقوفين لأنّهما قد صُحِّح فيهما "التّنوين" بنقله من الآخر إلى الحرف قبله المُحرَّك أصلا بالفتحة (وهكذا سيكون الأمر في ما يأتي بعد من الألفاظ التي يظهر فيها "التنوين" والتي تُوضَع بين معقوفين). ووُضعتِ "الهمزة" بين معقوفين ([أ] أو [إ]) في كل لفظ حيث صُحِّحتْ. ووُضع، في السؤال الثالث، «واو العطف» بين معقوفين داخلهما «علامة السُّؤال» لأنّه "واو" أُتِي به حشوًا («وهل يتعلّق الأمر، من جديد، بذلك التمييز الذي...»). وفي السؤال الرابع، وُضعتْ "أمْ" بين معقوفين مُزدوجين لأنّ الأصل كان فيه نقطتان متتابعتان قبل «علامة السُّؤال» تلك، وهما النقطتان اللّتان لا معنى لهما إطلاقا في علامات الوقف المُتعارَفة عالميّا. ولأنّ هذا السُّؤال يَتضمّن التخيير بين شِقّيْن، فإنّه لا داعي لوضع «علامة السُّؤال» بعد كل واحد منهما، فهو سُؤال واحد (من شِقّيْن) حقُّه أن تُوضَعَ «علامةُ سُؤالٍ» واحدةٍ في آخره ؛ § 1. 2- يُؤكِّد "الجابري"، في هذه الفقرة، أنّ تسميةَ «العقل العربيّ» ستُثير أكثر من سُؤال في ذهن القارئ (القارئ الذي لا يَتوانى في فحص ما يَقرأ فحصا نقديًّا والذي لا يَجدُر به أن يَتلقّى كل كلام سَلْبيًّا من دون أيِّ تساؤُلٍ أو 0عتراضٍ). لكنّ السُّؤال الذي يَفْرِض نفسَه قبل الأسئلة الأربعة التي أوردها صاحبُنا إنّما هو: ما حقيقةُ "0لعقل" قبل أن يَتحدَّد بصفته "عربيًّا"؟ ولأنّ "الجابري" لم يَطْرح هذا السُّؤال (و، رُبّما، لم يَتصوَّر وُروده في ذهن القارئ) ولم يُجب عنه 0بتداءً فكأنّه بأسئلته تلك لا يفعل شيئا سوى أن يُبْعِد عنه ذهنَ القارئ وأن يَتفاداه، بالتالي، بما هو سؤال أساسيّ شائكٌ حقًّا ومُحرجٌ فِعْلًا. ويَنبغي، هُنا، أن يكون بيِّنًا أنّ أيَّ تعليل (أو تبرير) لصفةِ "العربيّ" المُسنَدة إلى "العقل" لا سبيل إليه ما لم يُحدَّدْ معنى "العقل" عُموما وقبل تخصيصه بأيِّ صفة أُخرى (كالصفة التي تجعله «خاصيّةً ذاتيّةً للإنسان»). فهل يَصحّ أن يُوصف، مثلا، "الإنسان" بأيِّ صفةٍ قبل تحديده في حقيقته بما هو إنسان؟ وهل كونُ القارئ الذي يَتلقّى عبارة «العقل العربيّ» يَنقاد إلى التساؤُل عن سرِّ الجمع بين هذين اللّفظين لا يفعل ذلك إلا لأنّه يُريد أن يُبرَّر له 0قتران ثانِيهما ("العربي") بأوّلهما ("العقل") لتسليمه ببداهةِ هذا تسليمًا؟! § 1. 3- سُؤالُ «أوَلَيس العقلُ خاصيّةً ذاتيّةً للإنسان، أيِّ [إ]نسان، تُميِّزُه و"تَفصِلُه" عن الحيوان؟» لا يُنتظَر جوابُه- بالنِّسبة إلى مُعظم من يَتلقونّه- إلا ب"بَلَى" ليس فقط لأنّه قد 0شتهر بين النّاس أنّ "0لعقل" خاصيّةٌ مُميِّزة ذاتيًّا (أيْ "جوهريًّا") للإنسان، بل لأنّه صِيغَ على نحو يجعل المسؤول يَنقاد إلى إقرارِ ما يَتعلّق به النفيُ كأنّ البداهةَ تَقتضي ألّا يُتصوَّر إنكارُه أو التّشكيك فيه. فهل "0لعقل" يَتحدّد، في الواقع، كخاصيّة ذاتيّة/جوهريّة للإنسان على النحو الذي لا يُتصوَّر تحقُّق وُجود الإنسان إلا بها أمْ أنّه مجرد "عَرَض" مشروط في تحقُّقه و0ستمراره بجُملةٍ من الأسباب المُحدِّدة (طبيعيّة و0جتماعيّة وثقافيّة)؟ إنّ طرح السُّؤال على هذا النحو يُنبِّه على أنّ صياغة "الجابري" له لم تكن إشكاليّةً بما يَكفي، وإنّما 0عتقاديّة جدًّا إلى الحدِّ الذي جعل صاحبَنا يُوافق «الحس المُشترَك» في 0دِّعائه 0متلاك كل إنسان نصيبه من "العقل" (كما أكّد "ديكارت")، وبالقدر نفسه يَتواطأ مع «الحس المُشترَك المُتعالِم» في 0نزعاجه المعروف من الإقرار بأنّ "0لعقل" إذَا لم يكن «صفةً عَرَضيّةً» للإنسان فلا أقل من أن يكون «إمكانًا ذاتيًّا مُشترَكًا» بينه وبين "الحيوان" (أو بعض أنواعه)! § 2- «لقد كان يمكن تفادي مثل هذه التساؤلات لو أننا استعملنا كلمة "فكر" بدل كلمة "عقل". [إ]ننا في هذه الحالة سنكون قد وفرنا على [أ]نفسنا [إ]ثارة مثل هذه القضايا التي لا تدخل في دائرة اهتمامنا أو[،] على الأقل[،] لا نريدها [أنْ] تمارس علينا [أيّ] توجيه في ما نحن بصدد الخوض فيه. بيد [أ]نه لو فعلنا ذلك[،] لساهمنا في إعطاء [قارئ عنوان] الكتاب فكرة أبعد ما تكون عن مضمونه الحقيقي. ذلك [أ]ن كلمة "فكر"، [خصوصًا] عندما تقرن بوصف يربطها بشعب معين كقولنا "الفكر العربي" أو "الفكر الفرنسي" [... إلخ؟]، تعني[،] في الاستعمال الشائع اليوم، مضمون هذا الفكر ومحتواه، أي جملة الآراء والأفكار التي يعبر بها، ومن خلالها، ذلك الشعب عن اهتماماته ومشاغله، و[أيضًا] عن مثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية وطموحاته السياسية والاجتماعية. وبعبارة [أ]خرى[،] [إ]ن "الفكر" بهذا المعنى هو و"[الإديولوجيا]" اسمان لمسمى واحد. وهذا بالضبط [أ]حد [أ]نواع الخلط الذي نريد تجنبه والتنبيه عليه منذ البداية.». § 2. 1- في هذه الفقرة الثانية، صُحِّحتِ "الهمزةُ" في أكثر من لفظ (إنّنا، أنفسنا، إثارة، أنْ، أيّ، أنّ، أخرى، إنّ، أحد، أنواع). ووُضعتْ، في الجملة الثانية، عبارة «على الأقل» بين فاصلتين لأنّها إضافيّةٌ وبيانيّةٌ بعد "أو". كما وُضعتْ، في الجملة الثالثة، فاصلةٌ بعد "ذلك" لأنّ فعل "ساهمنا" جواب للشرط الامتناعيّ ب"لو" (لو فعلنا، لساهمنا...) ؛ وحُذِفتْ، في الجُملة نفسها، «سابقةُ التعريف» ("0لْ") من 0سمِ "0لْقارئ" و«لامُ 0لإلصاق» ("لِ") من 0سم "عُنوان" 0ستبعادًا للرّكاكة البادية في التَّرْكيب الأصليّ («... ساهمنا في إعطاء [القارئ لعنوان الكتاب] فكرةً...») الذي قد يُوحي بأنّ "القارئ" يقع عليه فعل "0لإعطاء" فيُصيِّرُه "مُعطًى" ل"0لعُنوان" خصوصا أنّ "0لمفعول" (فكرةً) أتى مُؤخَّرًا وغير مشكول! وفي الجملة الرابعة، وُضعت بين معقوفين «نُقط الحذف» واللفظ المُختزل "إلخ" الدّال على وقفِ التّعداد وبعده «علامة السُّؤال» للإشارة إلى أنّ الجمعَ بين «علامة الحذف» و«علامة وقف التّعْداد» تكرارٌ لا فائدة منه لأنّهما يُؤدِّيان معنًى واحدًا (السكوت عن أقوال أُخرى). وفي الجملة نفسها، وُضعت فاصلة بعد لفظ "يَعني" لأنّ عبارة «في الاستعمال الشائع اليوم» إضافيّة تَفْصِلُ فعل "يعني" عن مفعوله "مضمونَ". ووُضعتْ، في الجملة الأخيرة، فاصلةٌ بعد لفظ "أُخرى" لأنّ الأمرَ يَتعلَّق بعبارةٍ إضافيّةٍ ؛ في حينٍ وُضِعَ لفظُ "الإديولوجيا" بين معقوفين لأنّه صُحِّحتْ همزتُه وأُزيلتْ منه «ياءُ المدّ» بعدها ؛ § 2. 2- يرى "الجابري"، في هذه الفقرة، أنّه لو 0ستعمل لفظ "فكر" بدلا من "عقل" لتفادى كل التساؤلات المُثارة حول تسمية «العقل العربيّ»، ولتَجاوَز الاشتغال بالقضايا المُتعلقة بحقيقة "العقل" في طبيعته الجوهريّة أو تعيُّنه الواقعيّ. لكنّ 0ستعمال لفظ "فِكْر" كان سيُؤدِّي، في ظنِّه، إلى إعطاء القارئ فكرةً أبعد ما تكون عن مضمون الكتاب لأنّ الاستعمال الشائع لهذا اللفظ (كما في قولهم "الفكر العربيّ"، "الفكر الفرنسيّ") يَجعلُه يدل على معنى «0لمضمون/0لمحتوى (الفكريّ)» المُتعلِّق بجُملةٍ من "المُكوِّنات" أو "المُعطيَات" التي تَتمثَّلُ في «الآراء والأفكار التي يُعبِّر بها، ومن خلالها، شعبٌ ما عن اهتماماته ومَشاغله، وأيضًا عن مُثُله الأخلاقيّة ومُعتقداته المَذهبيّة وطُموحاته السياسيّة والاجتماعيّة». وبهذا المعنى يصير - حَسَب ظنّ "الجابري"- "الفكرُ" و"الإديولوجيا" 0سْمَيْنِ لمُسمًّى واحد. ولتجنُّب مثل هذا الخلط، 0ختار صاحبنا 0ستعمال لفظ "عَقْل" بدلا من لفظ "فِكْر" ؛ § 2. 3- قد يبدو هذا التعليل - الذي قدَّمه "الجابري" للتمييز بين لفظيْ "فكر" و"عقل"- مُناسبًا ومُقنعًا. لكنْ يبقى أنّ لفظ "الفكر"، في 0ستعماله الفلسفيّ بالخصوص، ليس مُبتذلا بالكيفيّة التي ظنّها المُؤلِّف. ألا يدل لفظُ "الفكر" على معنى "الاستدلال" الذي يُعَدّ - بما هو 0نتقالٌ من معلوم إلى مجهول- أدلَّ شيءٍ على "0لعقل" في 0ستعماله النظريّ؟ أليس "الفكر" بصيغته العربيّة ("فِعْل") دالًّا على "السيرورة" (فهو، إذًا، «0سْمُ فِعْلٍ») التي يَأتيها "المُفكِّر" في إنتاجه لِما عدّه "الجابري" مجرد «مضمون/مُحتوى»؟ كيف يَغيب عن صاحبنا أنّ هذا التمييز الذي أراده يُمكن أداؤُه في العربيّة بالتَّفْريق بين لفظ "فِكْر" (جمعه "أفكار") و"فِكْرة" (جمعها "فِكْراتٌ" أو "فِكَرٌ") تماما بخلاف الظنّ الشائع الذي يجعل "أفكار" جمعًا ل"فِكْرة" والذي وافقه صاحبُنا من دون تبيُّن؟! وهل حقًّا لفظ "عَقْل" أنسبُ من "فِكْر" في الدّلالة على معنى "الأداة" أو "الآلة"؟ وكيف يكون "الفكر" مُساويًا ل"الإديولوجيا" في الحين نفسه الذي يكون "العقلُ" مُجرَّدًا منها ومن كل «مضمون/مُحتوى» 0عتقاديّ أو مذهبيّ؟! § 3- « ذلك، لأن ما سنهتم به في هذا الكتاب ليس [الأفكار؟] ذاتها، بل الأداة المنتجة لهذه [الأفكار؟]. والحق [أ]نه وراء ذلك التداخل بين ["الفكر"] و["الإديولوجيا"] يقوم تداخل آخر هو من صميم مفهوم "الفكر" نفسه: تداخل بين ["الفكر"] كأداة ل[إ]نتاج [الأفكار؟]، و["الفكر"] بوصفه مجموع هذه [الأفكار؟] ذاتها، وهو تداخل تعكسه كثير من اللغات، ومنها اللغة العربية المعاصرة [هامش أول]. [إ]نه تداخل يشير بكل وضوح إلى أن هذا التمييز الذي نقيمه نحن اليوم بين ["الفكر"] كأداة و["الفكر"] كمحتوى، تمييز مصطنع [تمامًا]، مثلما هو مصطنع ذلك التمييز الذي كان الفلاسفة القدماء يقيمونه بين ["العقل"] و["المعقولات"][، إ]ذ كانوا يعنون ب"العقل": القوة المدركة[،] وب"المعقولات": المعاني المدركة... ومع ذلك، وعلى الرغم من اقتناعنا بأن ["الفكر"] وحدة لا تتجزأ، إذ ليست هناك قوة مدركة معزولة عن مدركاتها، ف[إ]ن التمييز بين ["الفكر"] كأداة و["الفكر"] كمحتوى ضروري لنا، مثلما كان التمييز بين ["العقل"] و["المعقولات"] [ضروريًّا] بالنسبة للقدماء [؛] ولكن مع هذا الفارق، وهو [أ]ننا حينما نلح على ضرورة هذا التمييز فنحن [إ]نما نصدر في ذلك عن اعتبارات منهجية[،] ليس غير. أما فلاسفة القرون الوسطى[،] فلقد كان الشاغل الذي جعلهم يلحون على التمييز بين ["العقل"] و["المعقولات"] [شاغلًا] [ميتافيزيقيًّا] بالدرجة ال[أ]ولى (هل العقل مفارق أو غير مفارق، هل للمعقولات وجود موضوعي مستقل أم [أ]نها مجرد [أ]سماء؟ [[إلخ]]).». § 3. 1- وُضعت، في هذه الفقرة الثالثة، عدّة كلمات بين مُزدوجتين ومعقوفين ("الفكر"، "الإديولوجيا" ، "العقل"، "المعقولات") لإبرازها. ووُضعت كلمةُ "أفكار" مرتين بين معقوفين مع «علامة السؤال» للدلالة على أنّها ليست الجمع المطلوب الذي يُبرِز الفرق بين "الفِكْر" بما هو «أداة مُنتِجة» و"الفِكْر" بما هو «مُحتوًى مُنتَج». ووُضع، في آخر الفقرة، اللفظ المُختزَل "إلخ" بين معقوفين مُزدوجين لأنّه في الأصل كان مسبوقا بتَيْنِكَ النقطتين المُتتابعتين اللتين لا معنى لهما في علامات الوقف المُتعارَفة عالميًّا ؛ § 3. 2- لفظ "أفكار" ليس سوى جمع لمُفردِ "فِكْرٌ" (مثل "فِعْل/أَفعال"). وكونُ لفظ "فِكْرٌ" 0سمَ فِعْلٍ من "فَكَرَ/يَفْكِرُ" يُوجب جَعْلَه أدَلَّ من غيره على معنى «الأداة/الوسيلة المُنتِجة» التي أراد "الجابري" إبرازَها وتمييزَها، في حين أنّ «المُحتوَى الفكريّ» الذي يُعَدّ مُنتَجًا من قِبَل تلك «الأداة/الوسيلة/الآلة» ليس سوى "الفِكْرَة" كجَمْعٍ، أيْ "الفِكَر" (أو "الفِكْرَات"). ولأنّ "الجابري" لم يَنتبِهْ إلى هذا، فقد ظنّ أنّ العربية لا تُميِّز بين "الفِكْر" (جمعه "أفكار") و"الفِكْرة" (جمعها «فِكَرٌ/فِكْراتٌ»)، بل زَعَم أنّها في هذا مثل اللُّغات الأخرى ؛ فدَلَّ بذلك على جهله أو تجاهُله لا فقط لكون العربيّة تُميِّز بين "الفِكْر" و«الفِكَر/الفِكْرات»، بل أيضا لكون اللُّغات الأُخرى مُماثلةً لها في هذا التمييز (نجد في الفرنسيّة كلمتيْ "pensée" و"idées"، وفي الإنجليزيّة كلمتيْ "thought/thinking" و"ideas"، وفي الإسبانيّة كلمتيْ "pensamiento" و"ideas"، وفي الألمانيّة كلمتيْ "Gedanke/Denken" و"ideen") ؛ § 3. 3- يضع "الجابري"، بعد قوله «ومنها اللغة العربية المعاصرة»، الهامش الأوّل حيث نقرأ: «نقول: "اللغة العربية المعاصرة"، ونحن نقصد اللغة التي بها نكتب اليوم ونقرأ والتي تُغنيها الترجمة كل يوم. أما اللغة العربية المعجمية[،] فليس فيها مثل هذا التداخل الذي نتحدث عنه. ف"الفكر" في الاستعمال القديم الذي تحتفظ لنا به المعاجم كان [مقصورًا] على فعل التفكير وليس على مضمون الفكر، الشيء الذي كان يطلق عليه القدماء [أ]سماء [أ]خرى مثل آراء، ومذاهب، وأقاويل.». وبِغَضِّ النظر عن مدى صحّة دعوى الانقطاع الكُلِّيّ بين العربيّة المُعاصرة والعربيّة القديمة، نُلاحظ أنّ فحوى هذا الهامش في الوقت نفسه الذي يُريد بها "الجابري" تعزيز مُدَّعاه عن أفضليّة لفظ "عَقْل" على "فِكْر" إنّما نجدها تُلْقي بظلالٍ من الشكّ عليه ؛ إذْ ما دام لفظُ "الفِكْر" يَدُلّ في 0ستعماله الأصليّ على «فِعْل 0لتّفكُّر/0لتَّفْكير» أفلا يجعله هذا نظيرًا للفظ "0لعقل" في دلالته على «الأداة المُنتِجة للْفِكَر»؟! ألا يَكفي شاهدًا أنْ يَرِدَ في أهمِّ مُعجم حديث 0ستعادة التعريف الشّائع للفِكْر في مجال التّداوُل العربيّ بأنّه «إعْمالُ العقل في المعلوم للوُصول إلى معرفةِ مجهولٍ.» (المعجم الوسيط، ط 1، 1960)؟! ثُمّ هل صحيحٌ أنّه لا تداخُل بين مَعْنيَيِ "الفِكْر" (كأداة ومُحتوى) في الاستعمال المعروف حتّى لو لم تَحْفَظه المُعجمات؟! § 3. 4- يُعلِّل "الجابري" تفضيلَه كلمةَ "عَقْل" على "فِكْر" بأنّ هُناك تداخُلًا، من جهة، بين "الفِكْر" و"الإديولوجيا" و، من جهة أخرى، بين "الفِكْر" ك«أداة لإنتاج "0لْفِكَر" (وليس "0لأفكار")» وبين "0لْفِكْر" ك«مجموعة من 0لْفِكَر». ولكنّه يَغفُل عن أنّ لفظ "عَقْل" نفسَه لا يَسْلَم من هذا التّداخُل إلى حدِّ أنّ لفظ "معقول" (بصيغة "مفعول" ك"مُنتَج") 0سْتُعملت ولا تزال بمعنى "عَقْل" حتّى إنّ المشهور بين اللغويِّين أنّ "مَعقُول" 0سمٌ بمعنى "0لمَصدر" (أيْ «0سْمُ فِعْلٍ» على غرار "عَقْل")! والأدهى من هذا أنّ صاحبَنا نَسِيَ، في المُقايَسة التي أقامها بين «0لفِكْر-0لأداة» و«0لفِكْر-0لمُحتوَى» وبين «0لعقل-0لقُوّة المُدرِكة» و«المعقولات-المَعاني المُدرَكة»، أن يَتبيّن أنّ السبب في تمييز الفلاسفة قديمًا بين "العقل" و"المعقولات" إنّما هو كونُ لفظ "العقل" يَتداخل فيه مَعْنيَا «القُوّة المُدرِكة» و«المَعاني المُدرَكة»! ولو أنّه فَعَل، لأدركَ أنّ التَّمييز يجب أن يكون، بالأحرى، بين «[0لعقل]-0لقوّة المُدرِكة» و«[0لعقل]-المَعانِي المُدرَكة»، أيْ أنّ "0لعقل" يَتحدَّد - في آن واحد- بما هو «أداةٌ عاقِلةٌ» و«موضوعٌ/مُحتوًى معقولٌ» على النّحو الذي لا يُعطيه كلفظ أيَّ 0متيازٍ على لفظ "فِكْر" الذي يَتحدَّد - حسب ظنِّ "الجابري"- بالكيفيّة نفسها (تداخُل «0لفِكْر-0لأداة» و«0لفِكْر-0لمُحتوى»)! غير أنّ كون لفظ "فِكْر" هذا يُمكن التَّمْييز فيه - على الأقل في العربيّة- بين "0لفِكْر" بما هو، أوّلا، «0سمُ فِعْلٍ» (و، من ثَمّ، «0سم سيرورة») وبما هو، ثانيا، «0سم هيئة» (أيْ صيغة "فِعْلة" كما تَتمثّل في لفظ "فِكْرة" الذي يصير، بالتالي، دالًّا على «0سم كيفيّة حُدوث 0لفِعْل فيما يَقع عليه»، أيْ بالضبط «نِتاجُ فِعْل 0لفِكْر» الذي هو «مجموع 0لفِكَر/0لفِكْرات») يَسمح باستعمال لفظ "0لفِكْر" بمعنى «فِعْل أو سيرورة إنتاج 0لفِكَر/0لفِكْرات» الذي يَتميّز عن «نِتاج هذا 0لفعل/0لسيرورة» كما يَتمثّل في «فكرةٍ ما» أو «مجموعةٍ من 0لفِكَر/0لفِكْرات». ولو ثَبَت هذا، لكان الذين 0ستعملوا تسميةَ «0لفكر 0لعربيّ» (كما في عناوين الكُتب التالية: «الفكر العربي في عصر النهضة» [1962/1968] ل"ألبرت حُوراني"، و«الفكر العربي ومركزه في التاريخ» [1922/1972] ل"دي لاسي أوليري"، و«تجديد الفكر العربيّ» ل"زكي نجيب محمود" [1971]، و«مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» [1971] ل"طيب تيزيني"، وكتاب «الفكر العربي» ل"محمد أركون" [1975]) قد وُفِّقوا إلى ما لم يُوفَّق إليه "الجابري" الذي طلب التّميُّز المُصطلَحيّ فلم يُفْلِح في مَسعاه! § 3. 5- يَعترف "الجابري" بأنّ التّمييز بين «0لفِكْر-0لأداة» و«0لفِكْر-0لمُحتوى» ليس سوى «تمييز مصطنع تماما، مثلما هو مصطنع ذلك التمييز الذي كان الفلاسفة القدماء يُقِيمُونه بين "العقل" و"المعقولات"». وعلى الرغم من هذا، يُثْبِتُ 0قتناعَه بأنّ «الفكر وحدةٌ لا تتجزأ، إذْ ليست هناك قُوّة مُدرِكةٌ معزولة عن مُدرَكاتها». لكنّه يرى ضرورة ذلك التّمييز لاعتبارات منهجيّة فقط. لكنّ المُشكلة ليست في الضرورة المنهجيّة القاضية بالتّمييز بين «0لفِكْر-0لأداة» و«0لفِكْر-0لمُحتوَى»، وإنّما هي في إرادة فَرْض لفظ "0لعَقْل" بصفته أنسب من لفظ "0لفِكْر" للتعبير عن ذاك التمييز على الرغم من ثُبوت إمكان الوُصول إلى الغرض نفسه باستعمال لفظ "0لفِكْر" وتفادي الالتباس المطروح بشأن تسمية «العقل العربيّ»! § 3. 6- يُؤكِّد "الجابري" أنّه يَصدُر في إلحاحه على التّمييز بين «0لفِكْر-0لأداة» (أيْ، في ظنِّه، "0لعقل") و«0لفِكْر-0لمُحتوَى» (أيْ، في زعمه، "0لإديولوجيا") عن موقف منهجيّ (وإپستمولوجيّ) بخلاف فلاسفة العصر الوسيط الذين كانوا، في نظره، يَصدُرون عن موقف ميتافيزيقيّ (هل "العقل" مُفارِقٌ أمْ مُباطِنٌ؟ وهل للمعقولات وُجود موضوعيّ وخارجيّ أمْ أنّها مجرد أسماء لا أعيانَ لها؟). ويَنبغي أن نَتبيّن في إلحاح "الجابري" هذا مُفارقتيْن كُبريَيْنِ: الأُولى تتعلّق بأنّه إذَا سلَّمنَا بأنّ "0لعقل" هو الأداة المُنتجِة للفِكْر وبأنّ "0لفِكْر" يَتداخل مع "الإديولوجيا"، فمِنْ أين يَأتي هذا «0لفكر-0لإيديولوجيا»؟ ألا يكون مصدره هو "0لعقل" نفسه في 0نفلاته من عِقاله في بعض مُنتجَاته؟! وإلّا، فإنّ مصدرَه " هو 0للَّاعقل" على النّحو الذي يَجعلُه، هو أيضا، أداةً مُنتجِةً للفِكَر! وبالتالي، لا يعود "0لعقل" مُتفرِّدا بصفة «الأداة المُنتِجة»، بل يَصير مُشترِكا فيها مع "0للّاعقل"، مِمّا يَطرح معايير تفضيل "0لعقل" على "0للّاعقل" بصفته وحده الذي يَستحقّ صفة «الأداة المُنتجة» فيكون أحقّ بأن يُهتمّ به منهجيًّا ومعرفيًّا (أو "إپستمولوجيّا" كما يُفضِّل صاحبنا)! والمُفارَقة الثانية أنّ التّمييز بين «موقف منهجيّ-إپستمولوجيّ» و«موقف إديولوجيّ-ميتافيزيقيّ» يَفترض أنّ «ما هو منهجيّ-معرفيّ» لا ميتافيزيقا فيه، وأنّ «ما هو إديولوجيّ-ميتافيزيقيّ» لا منهج ولا معرفة فيه. فهل القول بأنّ "العقل" هو الأداة المُنتِجة للفكر قولٌ منهجيٌّ ومعرفيٌّ خِلْوٌ تماما من كل 0عتقاد ميتافيزيقيّ حتّى مع ظُهور 0شتراكه في تلك الصفة مع "0للّاعقل"؟ وهل التّمييز القديم بين "العقل" و"المعقولات" لا أهميّة منهجيّة أو معرفيّة له رغم كونه يُمكِّن، على الأقل، من طرح إشكال التمييز بين «القُوّة المُدرِكة» و«المَعاني المُدرَكة»؟ وكيف يُمكن تفسير وَ/أوْ تعليل وحدة "0لعقل" ومركزيّته كأداةٍ لإنتاج الفِكْر فقط من الناحية المنهجيّة-المعرفيّة إذَا كان وُجود التّعدُّد والتّفاوُت في الأفكار والفِكَر يجعل "العقل" يَتجاوز طبيعتَه نفسَها فيَصير، حينما يَتعلّق الأمر ب«الفِكْر/الإديولوجيا»، "ما بعد" أو "ما وراء"، أيْ بالتّحديد "ميتافيزيقا"؟! § 4- «إن التداخل الصميمي بين ["الفكر"] كأداة و["الفكر"] كمحتوى واقعة لا جدال فيها. و[إ]ذا [أ]خذنا بعين الاعتبار واقعة أخرى لا جدال فيها كذلك وهي أن الفكر[،] سواء بوصفه [أ]داة للتفكير [أوْ] بوصفه [الإ]نتاج الفكري ذاته، هو [دومًا] نتيجة الاحتكاك [مع؟] المحيط الذي يتعامل معه، المحيط الاجتماعي الثقافي خاصة، سهل علينا [أ]ن نتبين مدى [أ]همية هذا المحيط في تشكيل "الفكر" كأداة ومحتوى [معًا]، وبالتالي أهمية خصوصية المحيط الاجتماعي الثقافي في تكوين خصوصية الفكر. وهكذا، فالفكر العربي [مثلًا] هو عربي، ليس فقط لكونه تصورات أو آراء ونظريات تعكس الواقع العربي [أوْ] تعبر عنه بشكل من أشكال التعبير، بل [أيضًا] لأنه نتيجة طريقة أو أسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات، منها الواقع العربي نفسه بكل مظاهر الخصوصية فيه.». § 4. 1- وُضِعتْ، في هذه الفقرة الرابعة، كلمةُ "الفكر" بين معقوفين لأنّه أُضيفت إليها المزدوجتان لإبرازها. ووُضعتْ، في الجملة الثانية، «علامة السُّؤال» بعد لفظ "مع" الذي وُضع بين معقوفين لأنّ الاستعمال المشهور يجعل "0حتكَّ" فعلا يَتعدّى ب"الباء" خصوصا أنّ عبارة "الجابري" تَتضمّن «الاحتكاك مع» و«التعامل مع» متجاورين! § 4. 2- يُؤكِّد "الجابري"، في هذه الفقرة، أن التداخُل الصميميّ بين «الفكر-الأداة» و«الفكر-المحتوى» ثابتٌ في الواقع على النحو الذي يستبعد إنكاره تماما. وهذا معناه أنّ التمييز بينهما لا يَتجاوز الضرورة المنهجيّة. وبالتالي، فليس من الواقعيّ في شيء أن يُفرَض لفظ "العقل" بصفته الوحيد الكفيل ببيان أو أداء ذلك التمييز كما يُريد صاحبنا! § 4. 3- يُؤكِّد "الجابري" أنّ "الفِكْر" - سواء أكان أداةً مُنتِجة (أيْ "عقلا") أمْ مُحتوًى مُنتَجا (أيْ "إديولوجيا")- يَتحدّد دائما بأنّه نتيجةٌ للاحتكاك بالواقع المُحيط (خصوصا الاجتماعي والثقافي منه)، مِمّا يُسهِّل تبيُّن مدى أهميّة الوسط المُحيط في تشكيل "الفِكْر" كُلّه. ويَترتّب على هذا، في نظره، أنّ خصوصية "الفكر" إنّما هي 0نعكاسٌ لخصوصيّةِ المُحيط الاجتماعيّ والثقافيّ الذي يُكوِّن "الفِكْر" أو يُنتِجه. لكنّ تأكيدَ علاقة "الفِكْر" بمُحيطه الاجتماعيّ والثقافيّ لا يَترتّب عليه بالضرورة جعلُ خصوصيّة "الفِكْر" تابعةً لخصوصيّةِ مُحيطه لأنّه من الثّابت أنّ «مجال الفكر» له 0ستقلاله النِّسبيّ عن «مجال الواقع» (الماديّ والثقافيّ)، وإلا فإنّ إطلاق القول بتبعيّة "الفِكْر" في خصوصيّته لمُحيطه الاجتماعيّ والثقافيّ ليس سوى 0ستعادة لنظريّة "الانعكاس" الزّائفة التي لم تَقُم «البنيويّة-التكوُّنيّة» إلا على أنقاضها! § 4. 4- إذَا تَبيّن أنّ "0لفِكْر"، عموما، ليس مجرد 0نعكاس للواقع المُحيط سواء أكان ماديًّا أمْ ثقافيًّا، فإنّ خُصوصيّته لن تكون تابعةً كُليّا لخصوصيّةِ مُحيطه الاجتماعيّ والثقافيّ. ولهذا، فإنّ قول "الجابري" بأنّ «الفكر العربيّ» - بما هو مجموعة من التّصوُّرات أو الآراء والنظريّات- يَعكس تماما «الواقع العربيّ» أوْ يُعبِّر عنه لا يَستقيم، خصوصا حينما يُريد تعليلَه بأنّه «نتيجة طريقة أو أسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات، منها الواقع العربي نفسه بكل مظاهر الخصوصية فيه.». ومن البيِّن أنّ "الجابري" لا يقول بأنّ "الفِكْر" كُلَّه تعبيرٌ 0نعكاسيٌّ عن خصوصيّة الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ إلا لكي يَتأتّى له القول بأنّ «0لفِكْر-0لأداة» (أيْ "0لعقل") هو أيضا تعبيرٌ عن خصوصيّةِ مُحيطه الاجتماعيّ والثقافيّ ولكي يُبرِّر، من ثَمّ، 0ختيارَه تسمية «العقل العربيّ» كأنّ «ما هو عربيّ» من النّاحية الاجتماعيّة والثقافيّة "يَنْعكس" بالضرورة في «0لفِكْر-0لمُحتوَى» و«0لفِكْر-0لأداة» كِلَيْهما فيَجعلُهما مُحدَّدَيْن بصفتهما "عربيَّين" أيضا، أيْ أنّ تسمية «0لعقل 0لعربيّ» تصير تعبيرًا منطقيًّا عن خُصوصيّةٍ طبيعيّةٍ قائمة في الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ للإنسان العربيّ. ولعلّه يَكفي أن يَتبيّن المرءُ مَأتى هذه النتيجة لكي يَظهر على بُطلان 0ختيار "الجابري" لتسمية «0لعقل 0لعربيّ» التي لا تستلزم فقط خصوصيّة «العقل» في الثقافة العربيّة، بل تستلزم أيضا تعدُّد العُقول وتغايُرها بتعدُّد وتغايُر المُحيطات الاجتماعيّة والثقافيّة التي تُكوِّنها، مِمّا يُؤدِّي إلى 0متناع المُقايَسة والمُقارَنة بين ما يُسمّى «العقل العربيّ» وأيّ عقل آخر! وأشدّ من هذا، سيَمتنع حتّى الاقتباس من ثَمرات «الفكر الغربيّ» كما فعل "الجابري" في بِنائه لفكره بخُصوص «العقل العربيّ» حُكمًا عليه ونقدا له! § 4. 5- لو ثَبَت أنّ "الفِكْر" مجرد 0نعكاس لواقع 0جتماعيّ وثقافيّ ذي خصوصيّة، لصار «الفِكْر-الأداة» نفسُه (أيْ "العقل") مُبتذَلا إلى الحدّ الذي يجعله مجرد تابِع (وخادِم) للواقع الذي يَتجاوزه ويسبقه، بل لَلَزِم أن يَتساوى أعضاءُ مجتمع وثقافة مُعيَّنَيْن في «الفِكْر-المُحتوَى» (أيْ "الإديولوجيا"). لكنّ المعلوم أنّ ّ"العقل" بالنسبة إلى "الواقع" يُعَدّ مبدأ حاكِمًا ومعيارًا مُتعاليًا مهما تَكُنِ العلاقات الضروريّة التي تَشدّه إلى مُحيطه الاجتماعيّ والثقافيّ. ومن المعلوم، أيضا، أنّ «الفِكْر-المُحتوى» يَعرِف من التنوُّع والتحوُّل والتناقُض ما يجعل فكر الشخص الواحد أشدَّ خُصوصيّةً بالنِّسبة إلى مُحيطه الاجتماعيّ والثقافيّ. وفضلا عن هذا كله، فإنّ ثُبوت علاقة "الفِكْر" الوُثْقى بالخيال والأهواء يجعله "يُكوِّن" الواقع و"يَبْتنيه" بالقدر عينه الذي يُكوَّن ذهنُه أو فكرُه بالنسبة إلى شُروط ذلك "الواقع". [email protected]