السفياني نائبا ثانيا لرئيس مجموعة الجماعات الترابية طنجة تطوان الحسيمة للتوزيع    الجزائر.. محامي صنصال يعلن مثوله أمام وكيل الجمهورية اليوم الإثنين    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز 'بوينغ 787-9 دريملاينر'    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر        العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    جماعة أكادير تكرم موظفيها المحالين على التقاعد    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة        لماذا تحرموننا من متعة الديربي؟!    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    النفط يستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين بدعم من توترات جيوسياسية    الأمن الإقليمي بسلا… توقيف شخصين للاشتباه في تورطهما في حيازة وترويج المخدرات والمؤثرات العقلية    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    ياسمين بيضي.. باحثة مغربية على طريق التميز في العلوم الطبية الحيوية    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    نقابة: مشروع قانون الإضراب تضييق خطير على الحريات وتقييد للحقوق النقابية    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    جمعية تنتقد استمرار هدر الزمن التشريعي والسياسي اتجاه مختلف قضايا المرأة بالمغرب        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    المحكمة تقرر تأخير محاكمة حامي الدين في قضية آيت الجيد وتأمر باستدعاء الشاهد خمار الحديوي (صور)    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    "الكونفدرالية" تتهم الحكومة ب"التملص" من التزاماتها بعد تأخر جولة شتنبر للحوار الاجتماعي    رياض مزور يترأس المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بالعرائش    مخاض ‬في ‬قطاع ‬الصحة..‬    الاشتراكي الموحد يرحب بقرار اعتقال نتنياهو ويصفه ب"المنصف لدماء الشهداء"    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..        الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    بسبب ضوضاء الأطفال .. مسنة بيضاء تقتل جارتها السوداء في فلوريدا    انطلاق حظر في المالديف يمنع دخول السجائر الإلكترونية مع السياح    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في نقد مقدمة «تكوين العقل العربي»(1/2)
نشر في هسبريس يوم 10 - 08 - 2012

تمتدّ مقدمةُ كتاب «تكوين العقل العربي» على ثلاث صفحات وسطرين (ص. 5-8) وتتألّف من إحدى عشرة فقرة. إنّها مُقدِّمةٌ كُتبتْ بالدار البيضاء في شباط/فبراير 1983 من قِبَل "محمد عابد الجابري" بصفته حينذاك أستاذًا في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.
وفي المدى الذي تُعَدّ مُقدِّماتُ الكُتب المُؤسِّسة مُهمّةً إلى الحد الذي تستحق الشرح والتعليق (مثلا، مُقدِّمة «نقد العقل الخالص» لكنط ومقدمة «ظاهريّات الرُّوح» لهيغل)، فإنّه يَنبغي النّظر في مُقدِّمة كتاب «تكوين العقل العربي» للجابري لا فقط بشرحها والتّعليق عليها، بل أيضا بالتّبيُّن النقدي في مُحتواها وشكلها. فماذا يقول مُحتوَى هذه المُقدِّمة؟ وما أهميّتُها في عَرْض موضوع ومنهج "الجابري" في «نقد العقل العربي»؟ وما مدى الاتِّساق الشكليّ والمنطقيّ في تأليف الأجزاء المُكوِّنة لها؟
بَحْثًا عن أجوبةِ تلك الأسئلة، سنستعرض الفقرات الإحدى عشرة في مقدمة كتاب "الجابري" مع إبداء جُملةٍ من المُلاحَظات النقديّة حولها. ويَجدُر التّنبيه، هُنا، إلى أنّ كلام "الجابري" سيُوضَع دائما بين علامتيِ 0لتّنصيص/0لِاقتباس («...») وأنّ علامة الفقرة مع الرقم الذي يَلِيها (§ 1) تُشير إلى الفقرة (§ 1، أيْ الفقرة الأُولى)، في حين أنّ الأرقام التي تَلِي تلك العلامة المُرقَّمة تُشير إلى مُلاحَظاتنا النقديّة (§ 1. 1، أيْ المُلاحَظة الأُولى على الفقرة الأولى). ويَنبغي، أيضا، الانتباه إلى أنّ كل ما وُضِعَ بين معقوفين ([...]) إنّما هو مُضافٌ إلى النّص الأصليّ إمّا لتصويبه (مثلا في: [أنْ]، [إنّ]، [أوْ] [الإ] أُضيفت الهمزة التي لم تكن في الأصل) وإمّا لإبراز لفظ أو تعبير سيَأتي التّعليق عليه في ما يَلِي من مُلاحَظات.
وعموما، فإنّ 0نتباه القارئ يجب أنْ يَتركّز بالخصوص على العَلاقات القائمة (أو المُقامة) بين النّص كبناء لُغويّ مكتوب وبين مُحتواه الدّلاليّ والفكريّ الذي لا يَنفصل عن شكله وبنيته. ولهذا، فإنّ أيَّ مُلاحَظةٍ مهما بَدَتْ تافهةً (مثلا: التدقيق في علامةٍ للوقف أو التّنبيه على خطإ شائع) لم يُؤتَ بها جِزافًا أو مَجّانًا، وإنّما أُبْدِيتْ بصفتها تَهُمّ كتابةً أراد لها صاحبُها (أقصد المرحوم "محمد عابد الجابري") أنْ تكون فكريّةً ونقديّةً بشكل مُتميِّز ومُميِّز، مِمّا يَستدعي التّشدُّد في المُحاسَبة والمُساءَلة إلى أبعد حدٍّ.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ نقد مقدمة كتاب "الجابري" (وكذلك ما يَلِي من فُصوله) ستُنشَر في أجزاء مُتسلسلة لتعذُّر سَوْقها في مقال واحد ولتفادي ما فيها من طُول لن يساعد، بالتأكيد، المُهتمِّين على قراءتها ومُتابَعتها بيُسْرٍ. ولا يخفى، كذلك، أنّ نشرَ هذا النقد في أجزاء قد يَتسبّب في إفقاده شيئا من الاسترسال المطلوب لكي يَتمكّن القارئ، في كل مرة، من إدراك الاستدلال في تعالُق أجزائه وتكامُلها. ومن البديهيّ أنّ لكل شكل كتابيّ حُدودَه المُلازِمة التي يجب أخذُها بالحُسبان حتّى لا يُطالَب، بما هو كذلك، بإعطاء أكثر ممّا يُمكنُه.
§ 1- يقول "الجابري": «يتناول هذا الكتاب [موضوعًا] كان يجب [أنْ] ينطلق القول فيه منذ [مئة] سنة. [إنّ] نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة. ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى، ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن. وهل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟» ؛
§ 1. 1- وُضِعَ لفظُ "موضوعًا" بين معقوفين لأنّ التّنوين فيه كان على "الألف" وحقُّه أنْ يُوضعَ على "العين" الحامِلة أصلا لحركة "الفتحة" التي صارت مُضاعفةً بفعل كون 0سم "موضوع" نكرةً. وهذا خطأ شائعٌ في كتابةِ وطباعةِ العربيّة يَحسُن تصويبُه. كما وُضعتْ "أنْ" و"أنّ" بين معقوفين لأنّه أُضيفتْ إليهما "همزة القطع" التي لا مُبرِّر لحذفها إلا السهو أو الكسل. ووُضع لفظ "مئة" بين معقوفين لأنّه حُذِف منه "ألف المدّ" وَفْق قرار مجمع القاهرة الذي وصّى بكتابته من دُونها كما يُنطَق وبخلاف الإملاء القديم (مائة). ويَجدُر الانتباه - فيما يَأتي- إلى أنّ كل لفظ وُضع بين معقوفين قد صُوِّب إملاؤُه أو أُضيف إلى الموضع حيث هو أوْ أُبرِز للتّحفُّظ منه ؛
§ 1. 2- يَجب التّنبيه على أنّ علامات الوقف (فاصلة، نُقطة، علامة السُّؤال، إلخ.) وردت في الكتاب - على غرار مُعظم المطبوعات العربيّة- مَفصولةً عن الحرف السابق لها ومتبوعةً بفراغ يَفصلها عن أوّل حرف في الكلمة التالية، في حين أنّ القاعدة في الرِّقانة الحديثة تَفرِض عالميًّا أن تُكتَب مُباشرةً بعد الحرف وأنْ يَتبعها فراغٌ (هناك 0ستثناء خاص بالفرنسيّة يجعل النقطة-الفاصلة ونقطتي التفسير وعلامتي السُّؤال والتأثُّر يَسبِقُها ويَعقُبها فراغ). ولقد 0لتزمتُ، هنا، بهذه القاعدة في نقل نص "الجابري" وعَمِلتُ على تصحيح كل ما وَجب تصحيحُه ؛
§ 1. 3- نُلاحظ أنّ كونَ الجُملة الثانية، في هذه الفقرة الأُولى، تَأتي تعليلا للجُملة الأُولى يَفْرض 0ستعمال "لِأنّ" بدلا من "إنّ" (التي كُتِبتْ بدون همزةٍ تَحتيّةٍ!): فما كان يجب أن ينطلق القول في موضوع الكتاب قبل مئة سنة إلا (لأنّ) نقد العقل في ظنّ "الجابري" يُعَدّ جُزءًا أساسيًّا من كل مشروع للنّهضة. لكنّ كونَ هذا العليل - كما سيَأتي بيانُه بعدُ- واهٍ هو الذي جعل "الجابري" يُخفي أداتَه ويَأتي بدلا منها بأداةِ التّأكيد "إنّ" كما لو أنّ مجرد التّأكيد اللّفظيّ يَقُوم مَقام التّدليل المنشود!
§ 1. 4- يَفترض "الجابري" أنّ «نقد العقل» يجب أنْ يَسبق «بناء النّهضة». لكنّه لم يَنتبه، هُنا، إلى أنّه يُصادِر على المطلوب: فالعقل النّاهِض الذي يَستطيع أن يُمارِس النّقد على نفسه لا يُمكن أن يَسبق النّهضة التي هي نِتاج لاحق له. وإلا كيف غاب عنه أنّ أعمال «نقد العقل» في التاريخ الأُروبيّ (بيكون، ديكارت، إسپينوزا، لُوك، ليبنتس، هيُّوم، كنط) لم تأتِ إلا بعد قُرون من عصر النّهضة الذي يُحدَّد بين القرنين 13م و15م؟! وهل نهضةُ اليُونان قديما ونهضة اليابان حديثا قد سَبَقها مثل ذلك النقد حتّى يجب أن تُسبَق نهضةُ العرب والمُسلمين بمثله؟! أليس 0نعكاس "العقل" على نفسه تأمُّلا ونقدًا بمثابة نتيجةٍ لتحقُّق النُّهوض؟! بل ألا يُمكن أن يَنهض السّاقط من دون أن يَلُوم نفسه ولا أن ينتقد عقله؟!
§ 2- «كان المفرض إذن [أنْ] يكون هذا الكتاب مجرد حلْقة في سلسلة طويلة، من الكتب والأبحاث، تمتد على مدى [مئة] عام. وفي هذه الحالة[،] كان سيستفيد [حتمًا] من الأعمال السابقة له: يتعلم منها ويتجنب تكرار أخطائها ويجتهد في إضافة لبنة إلى صرحها[.] وإن هو شعر بأن هذا الصرح في حاجة إلى تفكيك وإعادة بناء، وكان له من الطموح ما يكفي، أقدم على تدشين خطاب جديد في موضوع، لا نقول: "جديد"، بل متجدد.» ؛
§ 2. 1- كان من المفروض بِناءً على ما قدّمه "الجابري" وسلَّم به. لكنّه لن يكون هكذا إذَا ظهر أنّ 0فتراض ضرورة «نقد العقل» قبل أيِّ نُهوض إنّما هو أمرٌ إشكاليّ إلى أبعد حدٍّ. وإنّه لكذلك، خصوصا أنّ "الجابري" (كما بَيَّنا في المقال السابق) يَعتبر "العقل" موضوعًا لنوع من "0لتّكْوين" الذي يَنصبُّ عليه من خارجه والذي يُنْشِئُه ويُقِيمه: فكيف سيَتأتّى، إذًا، لعقلٍ هذه حاله أنْ يَنتقد نفسَه في ظل شُرُوط السُّقوط والانحطاط التي يُفترَض فيها - لو صدَّقنا "الجابري" في 0فتراضه الضمنيّ- أنْ "تُكوِّنه" كعقل ناهِض؟!
§ 2. 2- من البيِّن أنّ ذلك "الوُجوب" - الذي ظنَّه "الجابري" في أصلِ «نقد العقل»- ليس لُزوما منطقيًّا أو عقليّا يُرتِّب أمرًا على آخر، ولا هو ضرورة واقعيّة وتاريخيّة تَفرِض أن يَسبِق «نقدُ العقل» كل عمل نهضوي بصفته سببا فيه أو شرطا له، وإنّما هو بالأحرى تعبير عن رغبةٍ في نفس صاحبنا هي التي جعلته يَتوهَّم أنّه لا بُدّ أن يكون مُلْزِمًا لغيره كما لو كان واجبا أخلاقيّا مُنزَّهًا عن كل غرض، في حين أنّه مجرد 0دِّعاء فِكْرَوِيّ (أو، إنْ شئتَ، إديولوجيّ) يرى أفضليّةَ «نقد العقل» في تجريده المِثاليّ على «العمل بالعقل» في تجسيده الحسيّ المُلتبس كما هو عموما في واقع المُمارَسة البشرية ؛
§ 2. 3- يُوحي "الجابري" في الجملة الأُولى من هذه الفقرة بأنّ كتابَه («تكوين العقل العربي») غير مسبوق، في هذا المجال، بشيء ذي بال، وبأنّ كونَه في ظنِّه يُدشِّن خطابا جديدا يجب أن يَشفع له فيما قد يقع فيه من أخطاء. غير أنّ هذا الإيحاء يَدُلّ على إرادةٍ لإثباتِ الذّات كأنّ صاحبه له قَدْرٌ من الطموح أكبر من سابقيه أو مُعاصريه على النحو الذي قد يَكفي لجعله أقدر على الاجتهاد منهم في هذا المجال!
§ 3- «ولكن واقع الحال، الآن، عكس ما كان يجب [أنْ] يكون[.] والنتيجة هي أننا في عملنا هذا لا نعاني فقط [من] غياب محاولات رائدة وأخرى متابعة ومدققة، بل نعاني، [و!] بدرجة أكثر، [من] آثار هذا الغياب وانعكاساته على الموضوع ذاته. لقد [تمّ] خلال [المئة] سنة الماضية [تكريس] تصورات وآراء و"نظريات" حول الثقافة العربية بمختلف فروعها[،] مما رسَّم قراءات معينة لتاريخ هذه الثقافة، قراءات استشراقية [أوْ] سلفية أو [قوموية] أو [يسراوية] تُوَجِّهُهَا نماذج سابقة، [أوْ] شواغل [إ]ديولوجية ظرفية جامحة، مما جعلها لا تهتم إلا بما تريد أن "تكشفه" [أوْ] "تبرهن" عليه. ولما كان العقل العربي الذي نعنيه هنا هو العقل الذي تكون وتشكل داخل الثقافة العربية، في نفس الوقت الذي عمل هو نفسه على [إ]نتاجها و[إ]عادة [إ]نتاجها، فإن عملية النقد المطلوبة[، أو] على الأقل كما نريدها [أنْ] تكون، تتطلب التحرر من [إ]سار القراءات السائدة واستئناف النظر في معطيات الثقافة العربية الإسلامية بمختلف فروعها، دون التقيد بوجهات النظر السائدة.» ؛
§ 3. 2- في هذه الفقرة الثالثة وَضَعتُ، في الجملة الأولى منها، نقطةً بعد "يكون" بدلا من الفاصلة التي كانت موجودة في الأصل، لأنّ الكلام هنا تامّ. ولأنّ فعل "عانى" يَتعدّى إلى مفعوله مُباشَرةً («عانى المرءُ الشيءَ» ؛ «هو يُعانيه»)، فهو لا يحتاج إلى أداة التّعديَة (أو "حرف الجر") "مِنْ" بخلاف ما ورد في الجُملة الثانية من هذه الفقرة في موضعين خُضوعا للاستعمال المغلوط الشائع. وفي الجملة الثانية نفسها وَضعتُ علامةَ التأثُّر (!) بعد "واو العطف" بين معقوفين في القول الإضافي "بدرجة أكثر" لأنّه لا حاجة إلى أداةِ العطف ("وَ") ما دام القول قد أُضيف بين فاصلتين لتغيير جِهةِ فعل "نُعاني". ووضعتُ فعل "تَمّ" وفاعلَه "تكريس" بين معقوفين لأنّ الأمر يَتعلّق بصيغةٍ ركيكةٍ وفاسدةٍ لأداء معنى الفعل المَبْنيّ للمجهول (الصواب أنْ يُقال: «لقد كُرِّست، خلال المئة سنة الماضية، تصورات وآراء و"نظريات"...»). وهناك أكثر من موضع صُحِّحتْ فيه الألفُ همزةَ قَطْعٍ من تحت أو من فوق ("أنْ"، "أوْ"، "إديولوجية"، "إنتاج"، "إعادة"). ووُضعَ لفظا "قَوْمَوِيّ" و"يُسْرَاوِيّ" بين معقوفين لأنّ النَّسب فيهما باللاحقة "وِيٌّ" مغلوطٌ على الرغم من شُيوعه. ولقد كان "الجابري" مِمّن يَتوهّمُون أنّ لاحقةَ "وِيٌّ" تُؤدِّي معنى "المُبالَغة" أو معنى قَدْحيًّا مثل "التّظاهُر" و"التّكلُّف". والحقّ أنّ النَّسبَ بلاحقةِ "وِيٌّ" عاديٌّ تماما (يَدَوِيٌّ، لُغَوِيٌّ، مِئَوِيٌّ، سَنَوِيٌّ، إلخ.)، في حين أنّ معنى "المُبالَغة" يُؤدَّى بلاحقةِ "انِيٌّ/انِيّةٌ" (شَعْرانيٌّ/شَعْرانيّةٌ، لِحْيانيّ/لِحْيانيَّةٌ، رُوحانيٌّ/رُوحانيّةٌ و، بالتالي، عَقْلانيٌّ/عَقْلانيّةٌ، قَوْمانيٌّ/قَوْمانيَّةٌ، إلخ.). أمّا معنى "التّظاهُر" أوْ "التّكلُّف"، فيُؤدّى بالاشتقاق من صيغة "تَفاعَل" أوْ "تَفعَّل" أو "تَفعْلَل" (مثلا: "تَياسَر"، فهو "مُتياسر"، أيْ «تَظاهر بالانتماء إلى "اليسار"» ؛ و"مُتسلِّف" بمعنى «يَتكلَّف الانتماء إلى السَّلَف» ؛ و"مُتأسلم" بمعنى «يَتظاهر بالانتماء إلى الإسلام أو بتمثيل حقيقته»، إلخ.). وأخيرًا، فلفظ "إِسار" (0سمُ فِعْلٍ من "أَسَرَه" بمعنى "قيَّده" أو هو «ما يُقيَّدُ به الأَسير») وَرد بهمزة فوق "الألف" وليس تحتها كما هو الصواب!
§ 3. 2- بِما أنّ ما يجب ليس بالضروة نِتاجا لواقع الحال، فإنّ ما كان يجب لا يُتصوَّرُ في وُضوحه ووُجوبه إلا بالنِّسبة لمن نَسِيَ أنّ "الماضي" - بِما هو شيءٌ تَمّ و0نْقضى- لا يُمكن أن تُستحضَر حقيقتُه أو تُعاش إلا تخيُّلا أو توهُّمًا. ولهذا، فلو كان يجب - بفعل ضرورة واقعيّة- أن يُشْرَع في «نقد العقل» قبل العمل على النُّهوض كما ظنّ "الجابري"، لَمَا 0نْتَظر الأمرُ أن تَظهر الحاجةُ إليه فيما بعد. وإجمالا، فمن السُّخف أن يَبْنِي المرءُ على شيء لم يَتحقَّقْ من قبل ويرى أنّه كان يجب أن يَتحقَّق حتّى يَتِمّ له ما يُريد هو وليس ما أراده سابقُوه ؛
§ 3. 3- حديثُ "الجابري" عن مُعاناته في عمله بسبب غياب مُحاوَلاتٍ في النقد سابقة له يُعَدّ 0دِّعاءً باطلا: فٱبتداءً من كتاب «الإسلام وأُصول الحُكْم» (1925) ل"علي عبد الرازق"، وكتاب «في الشعر الجاهلي» (1926) ل"طه حسين"، ورُباعيّة "أحمد أمين" («فجر الإسلام» [1928]، «ضُحى الإسلام» [1933-1936]، «ظُهر الإسلام» [1945-1953]، «يوم الإسلام» [1952])، وكتاب «تاريخ الفلسفة في الإسلام» (أصله الألمانيّ في 1901 وترجمته الإنجليزيّة في 1903 وترجمته العربيّة في 1938) ل"دي بور"، وكتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة» (1944) ل"مصطفى عبد الرازق" ؛ ومُرورًا بكتاب «مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي» (1947) وثُلاثيّة «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» ل"علي سامي النشار"، وكتاب «فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحيّة» (أصله الفرنسيّ في 1948 وترجمته العربية في 1967) ل"لويس غرديه" و"جورج قنواتي"، وكتاب «مَصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخيّة» (1956) ل"ناصر الدين الأسد"، وكتاب «نقد الشعر عند العرب حتّى القرن الخامس للهجرة» (الأصل الفرنسي في 1956 وترجمته العربية في 1991) ل"أمجد الطرابلسي"، وكتاب "الفكر العربي في عصر النهضة» (الأصل الإنجليزيّ في 1962 وترجمته العربية في 1968) ل"ألبرت حُوراني"، وكتاب «الفكر العربي ومركزه في التاريخ» (الأصل الإنجليزيّ في 1922، وترجمته العربيّة في 1972) ل"دي لاسي أوليري"، وكتاب «تاريخ الفلسفة الإسلاميّة» (أصله الفرنسيّ في 1964 وترجمته العربيّة في 1966) ل"هنري كُوربان" ؛ و0نتهاءً بكتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» (1967) ل"عبد اللّه العروي"، وكتاب «الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق» (1968) ل"إبراهيم مدكور"، وكتاب «مَناهج العلماء المسلمين في البحث العلميّ» (الأصل الإنجليزيّ في 1968 وترجمته العربيّة في 1983) ل"فرانز رُوزنتال"، وكتاب «تجديد الفكر العربي» (1971) ل"زكي نجيب محمود"، وكتاب «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» (1971) ل"طيب تيزيني"، وكتاب «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» (1978-1979) ل"حسين مروة"، وكتاب «نظرة جديدة إلى التراث» (1979) ل"محمد عمارة"، وكتاب «أُسس التقدم عند مفكري الإسلام» (1979-1980) ل"فهمي جدعان". فهذه أكثر من عشرين مُحاوَلة أتت في مجال إعادة كتابة تاريخ الفكر العربيّ/الإسلاميّ قبل عمل "الجابري" (بعضها كُتِب قبل ولادته بعُقود!). ليس هُناك، إذًا، غياب للمُحاوَلات الرّائدة إلا بالمعنى الذي يُخوِّل إثباتُه لصاحبنا أن يَجعل كتابَه («تكوين العقل العربي») غير مسبوق في أصالته وجدّته. وهذا أمرٌ لا يُمكن التسليم به إلا بعد التدليل المُفصَّل على أنّ المُقارَنة بينه وبين تلك الأعمال السابقة تُرجِّح كِفَّته كعمل أصيل وجديد في مُحتواه ومنهجه. وإنّ عدمَ قيام "الجابري" بمثل هذا التّدليل لإغفالٌ منه غير بريء بالمرّة. وأكثر من هذا فإنّنا نجده، في معظم الأحيان، يُغيِّب مَصادرَه الحقيقيّة التي ليست، في جُزء كبير منها، سوى أعمالِ سابقيه التي ذُكِر آنِفًا أهمُّها. أليس غريبًا ألا يَذكُر "الجابري"، في «تكوين العقل العربي»، من تلك المَصادر الأساسيّة سوى سبعة (أحمد أمين، دي بور، مصطفى عبد الرازق، علي سامي النشار، غرديه وقنواتي، هنري كُوربان، حسين مروة) على الرغم من ثُبوت معرفته بها و0عتماده عليها منذ أعماله الأُولى؟!
§ 3. 4- لو سلَّمنا للجابري قولَه بغياب مُحاوَلات رائدة سابقة لعمله، فكيف يُستساغ حديثُه التّالي عن أنّ المئة سنة التي سبقت عمله كُرِّست فيها تصوُّرات وآراء ونظريات حول الثقافة العربيّة؟ ما مصدر هذه القراءات إنْ لم يكن وُجود مُحاوَلات كثيرة ومُتتابعة سابقة لعمله؟!
§ 3. 5- حُكم "الجابري" على القراءات السّابقة (الاستشراقيّة أو القومانيّة أو المُتياسرة) بأنّها قراءاتٌ تُوجِّهها نماذج سابقة ألا ينسحب على قراءته هي أيضا؟ فإذَا كانت تلك القراءات مُتحيِّزةً جغرافيّا (النظر من "الغرب" إلى "الشرق") أو قوميّا (النظر في حُدود الانتماء القوميّ) أو مذهبيّا وحزبيّا (النّظر من موقع "اليسار" كانتماء وحركة)، فكيف أمكنه أن يَطَّرِحَ النّماذج السّابقة؟ ما هو المُنطلق الفعليّ الذي 0تّخذه فمَكَّنه من التّخلُّص من المُسبَقات سواء أكانت جُغرافيّة وتاريخيّة أمْ قوميّة و0جتماعيّة أمْ حزبيّة ومَذهبيّة؟ ما هو المَوقع الذي 0ستوى فيه "الجابري" منهجيّا ومعرفيّا فجعله يَنظُر من دون مُسبَقات أو شواغل ظرفيّة أو 0هتمامات مَصلحيّة؟ هل حقا نستطيع أن نَطمئنّ إلى أنّ "الجابري" في قراءته لا غَرَض له سوى النّقد المعرفيّ الخالص؟ ومتى كان "المعرفيّ" لا دَخَل ل"الاعتقاديّ" أو "العَمَليّ" فيه؟
§ 3. 6- يقول "الجابري" بأنّ القراءات السّائدة لا تهتمّ إلا بما تُريد أن تكتشفه أو تُبرهن عليه. لكنْ، هل يكون الاهتمام في القراءة بشيء آخر غير "الاكتشاف" أو "البرهنة" إذَا كان العلم نفسُه لا يَتحرّك إلا بهذين الاهتمامين؟ وما الذي يُمكن لقراءةٍ ما أن تُريده إذَا لم تهتم لا بالاكتشاف ولا بالبرهنة؟ أهُو إعداد وصفات جاهزة للاستعمال في النِّضال السياسي باسم الحداثة والعقلانيّة؟
§ 3. 7- حَدّد "الجابري" «العقل العربيّ» بأنّه «ذاك الذي تكوَّن وتَشكَّل داخل الثقافة العربيّة والذي عَمِل هو نفسه على إنتاجها وإعادة إنتاجها». وهو، هُنا، إنّما حدَّد "العقل" بوصفه عربيّا ولم يُحدِّده بما هو "عقل". ومعلوم أنّ "العقل" لا يُعَدّ مُشترَكا إنسانيّا إلا لأنّه يَعلُو على التّحديد الخُصوصيّ في صلته بالأقوام والثّقافات وكل المُحدِّدات الظرفيّة والنِّسبيّة الأُخرى. ولهذا، فإنّ صفة "عربيّ" المحمولة على "العقل" لا يكفي في تسويغها أن يُقال إنّ الموصوف يَتحدّد بها لأنّه "يَتكوّن" و"يَتشكّل" داخل ثقافة مُعيّنة تُسمّى "عربيّة"، إلا أنْ يَفقد "العقل" صفته الكُليّة والعامّة!
§ 3. 8- نُلاحظ أنّ "الجابري" 0ستعمل فِعْلَيْ "تَكوَّن" و"تَشكَّل" (وليس "كُوِّن" و"شُكِّل") لتحديد علاقة ما يُسمِّيه «العقل العربيّ» ب«الثّقافة العربيّة». ورَتّبَ على هذا الأمر أنّ النقد المُراد - على الأقل من قِبَله- يَتطلَّب التحرُّر من إِسار القراءات السّائدة و0ستئناف النظر في مُعطيات «الثقافة العربيّة/الإسلاميّة» بكل فروعها دون التقيُّد بوجهات النظر السائدة. وكأنّ "الجابري" في الوقت نفسه الذي يُصرُّ على تعيين "العقل" في خُصوصيته العربيّة يُريد لعقله الخاص ألّا يَتحدّد بصفته كذلك، أيْ ألّا يكون مجرد "عقل" خاضع لما هو سائد ومُهيمن داخل «الثقافة العربيّة»! وإذَا كان النُّزوع إلى الانفكاك من إِسار ما هو سائد ومُهيمن يُمثِّل جوهر عمل الإنسان ككائن مُتحرِّر ومُجتهد، فكيف يُمكن أنْ يَتأتّى 0نفكاك «العقل العربيّ» من التّحدد وَفْق القراءات السّائدة في ثقافته وهو يَتحدّد أصلا بصفته «يتَكوَّن ويتَشكَّل داخل نفس الثقافة التي يُنتجها أو يُعيد إنتاجها»؟ وهل يُوجب التّحرُّر من القراءات السائدة 0ستئناف النظر في مُعطيات «الثقافة العربيّة» من دون توظيف أحسن ما أعطته تلك القراءات بصفتها جُزءًا لا يَتجزّأ من كيان «العقل العربيّ» نفسه؟ وكيف السبيل إلى التّعامُل مع مُعطيَات «الثقافة العربية/الإسلاميّة» من دون الوُقوع، بهذا القدر أو ذاك، تحت تأثير قراءةٍ أو تقليد معين؟ هل يُمكن الشروع في القراءة من دون 0كتساب نوع من القُدرة على القراءة، نوع هو نتاجُ تَلَقٍّ مُحدَّدٍ داخل نظام تلك الثقافة؟ وكيف يكون «العقل العربيّ» قد تكوّن وتشكّل داخل «الثقافة العربيّة» في الوقت نفسه الذي كان يُنتجها أو يُعيد إنتاجها؟ أين تبتدئ حُدود هذا "العقل" بصفته عربيّا وأين تنتهي في علاقته ب"الثقافة" التي تَتحدّد هي نفسها بأنّها "عربيّة"؟ لعل الفصل الأوّل من كتاب «تكوين العقل العربيّ» يَحمل في ثناياه أجوبةً وافيةً عن هذه الأسئلة ؛
§ 4- «ومن هنا المهمة المضاعفة التي يطمح هذا المشروع إلى تدشين العمل فيها: استئناف النظر في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية من جهة أولى، وبدء النظر في كيان العقل العربي وآلياته من جهة ثانية. وهكذا انقسم هذا المشروع إلى جز[أ]ين منفصلين ولكن متكاملين: جزء يتناول "تكوين العقل العربي"، وجزء يتناول ["بنية العقل العربي"] [؛] الأول يهيمن فيه التحليل التكويني[،] والثاني يسود فيه التحليل البنيوي.» ؛
§ 4. 1- يرى "الجابري" أنّ ثمّة مُهمّةً مُضاعَفةً يَطمح مشروعُه إلى "تَدْشين" العمل فيها: من جهة، "0ستئناف" النظر في تاريخ «الثقافة العربيّة/الإسلاميّة» ؛ ومن جهة ثانية، "بَدْء" النظر في كيان «العقل العربيّ» وآليّاته. ونُلاحظ أنّه في الوقت الذي يرى في عمله "تدشينًا" لشيء غير مسبوق، يَعترف ضمنيّا بأنّه في مُهمّته الأُولى إنّما "يَستأنف" عمل النظر في تاريخ «الثقافة العربيّة/الإسلاميّة» ؛ لكنّه في مُهمّته الأُخرى يُريد أنْ "يَبدأ" نظرًا غير مسبوق، نظرًا يَنصبُّ على "كِيان" و"آليّات" ما يُسمِّيه «العقل العربيّ». وبيِّنٌ أنّ إرادتَه "تدشين" و"بدء" شيء جديد تماما تَصطدم في الواقع بوُجود أعمال سابقة لا يُمكن إنكارها (اُنظر: § 3. 3)، مِمّا يجعل المُهمّة الأُولى في مشروعه مجرد "0ستئناف" لأشياء موجودة سَلفًا بأكثر من معنى (وُجودها، مثلا، داخل نفسه بشكل غير واعٍ). فالنّظر في تاريخ «الثقافة العربيّة/الإسلاميّة» لم يَبتدعه، بالتأكيد، "الجابري". وبالتّالي، فقولُه إنّه في مشروعه يَطمح إلى "تدشين" العمل في ذلك المجال لا مُبرِّر له سوى الادِّعاء. وأمّا زعمُه أنّه "يَبدأ" النّظر في "كيان" و"آليّات" ما يُسمِّيه «العقل العربيّ»، حتّى لو صحّ فيَبقى لا بِدْع فيه إلا بما هو موضوع نافلٌ ما كان لمن سَبَقه إلى النّظر في تاريخ «الثقافة العربيّة/الإسلاميّة» (وبَلْه مَنْ عَمِل على إنتاجها) أن يَأتيه بتلك الكيفيّة، لأنّ النظر في "العقل" كآليّات ووظائف كان من صميم الاشتغال بالثقافة في المجال العربيّ/الإسلاميّ ؛
§ 4. 2- تمييز "الجابري" في مشروعه بين جُزأين مُنفصلين ومُتكاملين قد يُقبَل عموما كخيار منهجيّ. لكنّه، في العمق، ليس سوى سُوءِ فهمٍ منه للتّطوُّر الذي حصل في الفكر المُعاصر. إذْ أنّ هيمنةَ «التحليل البنيويّ» (كنَمذجة صُوريّة ووصفيّة تَكفُل "تَوْضيع" الأشياء المدروسة) خلال النصف الأول من القرن العشرين سرعان ما أدّى إلى الوعي بحُدود هذا النوع من التّناوُل الذي كان يُغلِّب "البنية" (كنسق عَلاقيّ) على "التاريخ" (كصيرورة جَدليّة) إلى حدِّ تغييب هذا الأخير وقَتْل «الذات الفاعلة»، تماما بخلاف ما كان سائدًا قبل ذلك في إطار الدِّراسات التاريخيّة التي أدّت هي أيضا إلى بُروز إشكال "التّاريخانيّة" (إعطاء الأولويّة ل«التاريخ الحَدَثيّ» كسَببيّة مُهيمِنة يُلْغي إمكان "العِلْم" كمعرفة نظريّة كُليّة و، أيضا، إمكان "العمل" كفعل قاصِد). ولهذا، فإنّ الانفتاح على "التاريخ" من جديد لا يَسمح بفصله عن "البنية"، وإنّما يُوجب الجمع بينهما في مُقارَبة بنيويّة وتاريخيّة في آن واحد، مُقارَبة تُعطي الأسبقيّة منهجيّا للتحليل البنيويّ (كدِعامة للتّوصيف الموضوعيّ) وتستكمل التّناوُل بتحليل تكوُّنِيّ (كأفُق للتّفسير والتّعليل)، ممّا يجعل هذه المُقارَبة تُسمّى بالأحرى «بنيويّة-تكوُّنيّة». ذلك بأنّ لكل بنيةٍ تاريخًا يَكشف تكوُّنَها وتطوُّرَها ؛ لكنّ هذا "التكوُّن" و"التّطوُّر" هو نفسه ذُو طبيعة بنيويّة مُتجذِّرة ذهنيّا ونفسيّا وراسخة سُلوكيّا و0جتماعيّا. فلا مجال، إذًا، للفصل الحادّ بين "البنيويّ" و"التكوُّنيّ" ("تكوُّنيّ" وليس "تَكْوينيّ" كما شاع و0ستعاده "الجابري" من دون تبيُّن).
§ 5- «لنلق نظرة خاطفة على هذا الجزء الأول مع الإدلاء بالتوضيحات اللازمة. يضم هذا الجزء قسمين: الأول مقاربات أولية، فهو شبه المدخل والمقدمات، والثاني تحليل لمكونات الثقافة العربية وبالتالي لتكوين العقل العربي ذاته. لقد كان من الضروري البدء بمقاربات أولية نحدد بواسطتها ومن خلالها تصوُّرنا العام للموضوع: ماذا نعني ب"العقل العربي"؟ ما علاقته بالثقافة العربية؟ ما طبيعة "الحركة" في هذه الثقافة وكيف يتحدد زمنها؟ ثم كيف نفصل في مشكلة البداية: بداية تشكل العقل العربي والثقافة التي ينتمي إليها؟ وإلى أي إطار مرجعي يجب ربطهما به؟ [...] يتعلق الأمر إذن بتحديد الموضوع ورسم معالم الرؤية التي نعتمدها، مع التعريف بمضمون بعض المفاهيم الإجرائية الموظفة في البحث[.] وقد استغرق الكلام في هذه المسائل الفصول الثلاثة الأولى.» ؛
§ 5. 1- في هذه الفقرة الخامسة، ورد في الجملة الأخيرة 0ستعمال نُقطتين مُتتابعتين (..). ومن المعلوم أنّ علامات الوقف لا تشتمل إلا على النقطة المفردة (.) والنُّقطتين المُتراكبتين (:) وثلاث نقط (...)، حيث تُفيد النقطة تمامَ الكلام ولُزومَ وقفٍ طويل بعد نهاية الجملة، وتُفيد النُّقطتان المُتراكبتان (:) التفسير أو بداية 0قتباس أو تعداد، في حين تُشير ثلاث نقط إلى "الحَذْف" (تُسمّى "نقط الحذف"، وهي فقط ثلاث لا غير). فما معنى النقطتين المُتتابعتين؟ هل يَتعلّق الأمر بوقفٍ مُضاعف؟ وكيف يكون ثمّة وقفٌ مُضاعَف بعد نهاية الجُملة؟ إنّها عادةُ كثيرٍ من الكُتّاب في العربيّة أن يَضعوا نقطتين مُتتابعتين كُلّما عَنَّ لهم أن يَضعوهما تفاديًا لِما يُوجبه الاجتهاد في ضبط كلامهم المكتوب بوضع علاماتِ الوقف بشكل مُناسب يُساعد على تبيُّن العلاقات الدلاليّة والمنطقيّة بين الأقوال والجُمل. ولهذا، لا يَستعمل نقطتين مُتتابعتين إلّا من جَهِل أو تَجاهل لُزوم التّمييز بين وظائفِ علامات الوقف المُختلفة (فاصلة، نقطة، نقطة-فاصلة، إلخ.). وإنّه لمن المُؤسف أنْ يكون "الجابري" هو أيضا قد 0ستسلم - بالخصوص في «تكوين العقل العربي» رغم أنّه في طبعته الحادية عشرة!- لتلك العادة السّخيفة. ولقد صوَّبتُ الموضعين الموجودين في الجملة المُشار إليها بوضع ثلاث نُقط للحذف بين معقوفين ([...]) لأنّ الأمر يَتعلّق بحذفٍ في تعداد أسئلة، وبوضع نقطة (.) بعد كلمة "البحث" لتمام الكلام. وكذلك سأفعل، فيما بعد، مع التّنبيه على أنّ كل موضع وَردت فيه هاتان النقطتان المُتتابعتان وصُوِّب ستُوضع علامةُ الوقف البديلة بين معقوفين مُزدوجين ([[.]]) ؛
§ 5. 2- مشروع "الجابري" في «نقد العقل العربيّ» يضم جزؤُه الأوّل (الذي يُمثِّله كتاب «تكوين العقل العربي») قسمين: قسم أوّل بمثابة مُقارَبات أوليّة أو مدخل ومقدمات (تشمل الفُصول الثلاثة من الكتاب)، وقسم ثانٍ هو تحليل ل«مُكوِّنات الثقافة العربيّة» و، من ثَمّ، ل"التكوين" المُتعلِّق ب«العقل العربيّ» ؛
§ 5. 3- يرى "الجابري" أنّه كان من الضروريّ البدء بمُقارَبات أوليّة لكي يُحدِّد بها تصوُّره العامّ للموضوع من خلال الإجابة عن أسئلة مثل: ما الذي يَعنيه ب«العقل العربيّ»؟ وما عَلاقة هذا "العقل" ب«الثقافة العربيّة»؟ وما طبيعة "الحركة" في هذه الثقافة؟ وكيف يَتحدّد زمنُها؟ ثُمّ كيف يُمكن الفصل في مُشكلة البداية؟ ما بداية تشكُّل كل من «العقل العربيّ» و«الثقافة العربيّة» التي يَنتمي إليها ذلك "العقل"؟ وما الإطار المرجعيّ الذي يجب أنْ يُربَطا به (أو، بالأحرى، أنْ يُوضعا فيه)؟
§ 5. 4- الإجابة عن تلك الأسئلة تَتعلّق بتحديد الموضوع الذي يَتناوله "الجابري" في كتابه وبرسم مَعالم الرؤية المنهجيّة التي يَعتمدها بالخصوص من خلال تعريف مضمون المفاهيم الإجرائيّة المُوظَّفة في بحثه. فكيف كانت إجابة "الجابري" عن تلك الأسئلة المطروحة؟ وهل يَتَّضح تصوُّره للموضوع على ضوئها؟ وما مدى 0عتماده على رُؤية منهجيّة مُؤسَّسة معرفيّا وفلسفيّا؟ وما هي المفاهيم الإجرائيّة التي وظَّفها في بحثه؟ وهل أفلح في تحديد مُحتواها الدّلاليّ بكل دِقّة ووُضوح؟ كل هذه الأسئلة يُنتظَر الجواب عنها في ثنايا القراءة النقديّة للفُصول الثلاثة من كتاب «تكوين العقل العربي».
(يُتبع)
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.