فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على الطاهري ولشهب وهاني
نشر في هسبريس يوم 08 - 06 - 2010


أنقذونا من هذا العبث؟
" بين النطق و الصمت برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء "
النفري
و أنا أتابع ما نشر عن الفقيد محمد عابد الجابري على موقع "هسبريس" ، أذهلني كثيرا ما كتبه كل من :
1 - عادل الطاهري : ماذا تبقى من الجابرية ؟
2 - نور الدين لشهب (صاحب عمود "داخل سوق راسي") : ماذا تبقى من الجابري؟
3 - إدريس هاني ( صاحب عمود "تحت الشمس"): رحيل مفكر .
لقد أحسست ، عند قراءة ما كتبه هؤلاء الإخوة الثلاثة ، إلى أي حد يمكن أن نسئ ، بالقلم - وربما من حيث لا ندري - إلى مفكر عظيم من طراز الجابري ، و إلى أي مدى يمكن أن نعبث بمفكر – بهذا الحجم – حتى قبل أن تجف تراب قبره . وقد أحببت ا ن أدلي ببعض الملاحظات حول ما كتبه هؤلاء رغبة مني في تنوير القارئ الكريم والارتقاء بأفكارنا و أقلامنا إلى مستوى عال بعيدا عن الفقر المعرفي المدقع و الانحطاط في التصورات الذين أصبحا يطبعان حياتنا الفكرية الغارقة في التسطيح و التبجح بالمصطلحات الجوفاء .
"ماذا تبقى من الجابرية" ؟ "ماذا تبقى من الجابري" ؟ سؤالان لا مبرر معرفي أو تاريخي لطرحهما ، و لا مسوغ نظري لوضعهما على الأقل على المدى المنظور و المتوسط .
ا – عادل الطاهري و "ماذا تبقى من الجابرية" ؟
قد يتبادر لذهن القارئ - عند قراءته لعنوان هذا المقال - بان كاتبه سيتعرض بالنقد و التحليل لتيار يصطلح عليه بالجابرية تشيع له تلامذة الجابري فراحوا يقلبون أطروحاته و آراءه على وجوهها المتعددة ، شرحا و تفسيرا و تأويلا و إضافة بل و ربما تطويرا ، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للشافعية أو الاشعرية أو الديكارتية أو الماركسية أو الفرويدية ... وقد يتبادر إلى ذهنه – إذا ما قرأ كتاب " نحن و التراث " – بان الكاتب سيقدم مشروع قراءة نقدية لفكر الجابري أسوة بما فعله هذا الأخير بخصوص فكر ابن خلدون ... لكن لا شئ من أفق انتظار القارئ هذا سيتحقق .إذ سيصاب القارئ بخيبة أمل كبيرة و سيصطدم بفقر معرفي وقصور نظري لا مثيل لهما عند قراءته لنص المقال .فعادل الطاهري لم يقدم تعليلا نظريا يسوغ له طرح هذا السؤال ، و إنما اكتفى فقط بالإشارة إلى انه صاغه على غرار تساؤل الجابري - في آخر بحث له في كتاب " نحن و التراث " – "ماذا تبقى من الخلدونية " . وبعد أن تحدث في مقاله عن أشياء لا علاقة لها بمضمون السؤال سيفاجئنا في السطور الأخيرة بجواب تقريري يقول فيه أن "ما تبقى من الجابري ليس ما فعل و لكن ما لم يفعله " ، و بان " تحقيق النهضة العربية هو ما تبقى من الجابري فقط . فلنظل أوفياء للنهضة إذا ." بهذه العبارات الفارغة من كل معنى يعبث السيد الطاهري بفكر الجابري . وهو لم يتجن على فكر الرجل فحسب بل اخطأ في فهم مقاصد مقال قصير له يكاد لا يتجاوز 23 صفحة ، فكيف به أن يلم بمشروعه و بكل ما كتب في مختلف المجالات حتى يتسنى له إصدار مثل هذه الأحكام المجانية و المجانبة لكل صواب وتعقل ؟ .
وبما أن الأفكار تتميز بأضدادها فسيكون مناسبا توضيح قصد الجابري – بإيجاز - بتساؤله عن ما تبقى من الخلدونية .إن الجابري - في مقاله المشار إليه آنفا - أراد أن يبلور مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون ، معللا ذلك بما يكفي من المنطق و الوضوح ، و مستعرضا مبررات طرحه لسؤاله و مدققا في التأويلات و الاستنتاجات التي انتهى إليها .
يبتدئ الجابري بحثه بتوضيح قصده باصطلاح الخلدونية الذي لا يعني به " تيارا فكريا محددا نشأ مع ابن خلدون و استمر إلى يومنا هذا " ، و لا يقصد به " فكر ابن خلدون بمجمله كما احتفظت لنا به مؤلفاته " ، كما لا يقصد به " مجمل الدراسات الحديثة و المعاصرة التي تناولت فكر ابن خلدون ككل أو كأجزاء " ، وإنما يعني بالخلدونية مشروعا " ظلت تحمله مقدمة ابن خلدون ، لعدة قرون ...دون أن يجد من يواصل التفكير فيه لتطويره و اغنائه و تحقيقه " . وعلى هذا الأساس فان الجابري يعني بما تبقى من الخلدونية " العناصر التي تنتمي إلى الخلدونية... و التي ما والت تحتفظ – بشكل أو آخر- بإمكانية الحياة معنا نحن أبناء الوطن العربي " الآن .
وقد دلل على هذا الرأي بتحليل دقيق – و هو المتخصص في ابن خلدون – مبينا فيه تداخل الجوانب الذاتية و الموضوعية في إشكالية ابن خلدون ، ومبرزا التناقض الذي ذهب ضحيته المشروع الخلدوني و العوائق الابستمولوجية التي تكبله و المسكوت عنه فيه . فابن خلدون أراد أن يؤسس علما جديدا (علم العمران) " يضع نفسه خارج المنظومة الأرسطية ، وفي ذات الوقت يستقي من نفس المنظومة مفاهيمه المنطقية و أرضيته الابستمولوجية " . فالشئ الجديد الذي كان يحمله المشروع الخلدوني "هو طموحه إلى بناء منهج و تصور جديدين للتاريخ " و لكن هذا الطموح النظري ظل أسير الفكر الأرسطي (بمنطقه و جهازه المفاهيمي) الذي كان يبسط سلطته المعرفية على العالم القديم (منذ بزوغ الفلسفة الأرسطية و حتى فجر النهضة الأوربية) .
لقد اجتهد ابن خلدون في إيجاد مبررات لعلم العمران داخل المفاهيم الأرسطية و التصورات المرتبطة بها التي كانت مرجعا لكل منهج أو معرفة تريد أن تلتمس لنفسها مشروعية علمية . لكن الشئ الذي لم يعه هو أن علمه الجديد الذي بشر به في مقدمته كان يتطلب جهازا معرفيا لم يستطع إنشاءه هو ولا احد من معاصريه . وما دام الفكر الحديث قد حقق قطائع متواصلة مع المنظومة الأرسطية فان تطوير الفكر الخلدوني رهين بتحريره من عوائقه وإعادة بنائه على أسس جديدة .
وهكذا يخلص الجابري إلى أن " ما تبقى من الخلدونية اليوم شيئان متناقضان : طموحها و عوائقها الابستمولوجية ". و بان الخلدونية " لا يمكن أن نحققها نظريا إلا إذا ألغيناها واقعيا " . وبعبارة أوضح " يجب أن نتجاوز بالتحليل و النقد الخلدونية كواقع حضاري ما زال يكبل مجتمعنا ، لنحصل على الخلدونية كنظرية مستقبلية تخطط لنهضتنا ". و لن يتأتى لنا هذا إلا إذا حررناها من عوائقها المشار إليها سابقا و " جعلناها ترى في حاضرنا نحن ما لم تكن تراه في حاضرها هي . انه البعد الاقتصادي في الصراعات الاجتماعية في الوطن العربي الذي يجب رصده وراء النزاعات الطائفية و التحركات العشائرية ، في الماضي و الحاضر" .
بهذا المعنى يمكننا أن نفهم قصد الجابري بعبارته " إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه و ليس ما أنجزته " ، باعتبار أن إشكالية ابن خلدون ما زالت معاصرة لنا و قابلة للاندماج في اشكاليتنا التي نعيشها الآن .
وإذا كان هذا هكذا فهل يعقل أن نتحدث عن ما تبقى من الجابرية ؟ و هل نمتلك أدنى مسوغ نظري أو واقعي لطرح مثل هذا السؤال ؟
ملحوظة:لم يطرح الجابري سؤاله المتعلق بما تبقى من الخلدونية إلا بعد معاشرته لابن خلدون و ما كتب عنه لمدة تفوق 10 سنوات ، و بعد مرور 10 سنوات أخرى من صدور أطروحته " العصبية و الدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي " التي نال بها أولى دكتوراه دولة في الفلسفة بالمغرب . والتي اتبعها ببحث آخر يحمل عنوان :" ابستمولوجيا المعقول و اللامعقول في مقدمة ابن خلدون ".
ب - نور الدين لشهب و "ماذا تبقى من الجابري" ؟
يوحي هذا العنوان ، نظريا على الأقل ، بأن فكر الجابري فيه أشياء ميتة أو انتهى زمنها ، و أخرى ما زالت قابلة للحياة بين ظهرانينا . و بان السيد لشهب سينكب على إبراز ما تم تجاوزه في فكر الرجل ، و ما لم يعد قادرا منه على مواكبة التطورات و الأحداث التي تشهدها مجتمعاتنا في عصرنا هذا . و في المقابل سيبين لنا الجوانب المتبقية منه .
لكنه لم يقم بأي شئ من هذا على الإطلاق . فهو سيطلق لقلمه العنان ليصول و يجول في كل ما لا يمت بصلة للموضوع ، مصدرا العديد من الأحكام الملتبسة بعبارات ملتبسة و مفككة من قبيل : " اجتمع في الجابري ما تفرق في غيره ... يجتمع فيه الكاتب و الصحفي ... كما أن قراءتنا لهذا المفكر ممتعة و تمنحنا الإشباع الدلالي و المعنى الحقيقي الهارب منا ... حيث يعرج وهو يناقش قضية معينة تشغل العقل العربي على النحو و البلاغة و الشعر و التصوف و الفقه و علم الكلام وأصول الفقه والتفسير مع إقحام المناهج الحديثة ... ". لقد أوردت هذه الفقرة على طولها ، مسقطا العديد من العبارات الزائدة التي لن تؤثر على قصد الكاتب ، وسأقتصر على إبداء بعض الملاحظات بخصوصها - دون الدخول في مناقشة خطاب يطبعه التفكك والفراغ المعرفي – لان بيت القصيد هنا هو تقديم نماذج من العبث الفكري الذي أضحى سيد المواقف في حياتنا الثقافية :
-لا يبين لنا السيد لشهب في هذه الفقرة ما الذي يجتمع في الجابري .
-لا يحدد ماهية الإشباع الدلالي ولا المقصود بالمعنى الحقيقي الهارب منا .
-ناقش الجابري العديد من قضايا العقل العربي دون أن يطرق الحقول المعرفية التي عددها صاحبنا آنفا . بل يوحي هذا الأخير للقارئ بان الجابري يخبط خبط عشواء في عالم الفكر و يصول و يجول في كل فروع المعرفة بدون ضوابط و لا هدى ولا منهج منير.
-يتحدث عن إقحامه للمناهج و ليس عن توظيفها .
لكن اغرب ما قرأته في المقال هو جوابه عن السؤال الذي طرحه في العنوان ، حيث يقول :" لقد تبقى من محمد عابد الجابري مشروعه النقدي في بنية العقل العربي، مشروع سيبقى عمرانا باذخا، وعلما ينتفع منه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، مشروع بنية العقل العربي هو ملكية تم تحفيظها بقراءته في القرآن الكريم ".
ولا أخفيك أيها القارئ الكريم بأنني حرت كثيرا أمام هذه السطور الثلاثة – وهي السطور الوحيدة التي لها صلة بالموضوع – وبأنني حشدت كل طاقاتي الذهنية ومصادري المعرفية لعلي استطيع أن اهتدي إلى فهم ما لمضمونها ، أو أن استوعبها على علاتها ، لكن دون جدوى . وسأفصح لك عن استغرابي و حيرتي من خلال النقط الآتية :
-عندما يقول تبقى منه مشروعه النقدي في بنية العقل العربي ، وإذا ما علمنا بان مشروعه النقدي يتكون من رباعيته الشهيرة (1 تكوين العقل العربي 2 بنية العقل العربي 3 العقل السياسي العربي 4 العقل الأخلاقي العربي ) ، فأي بنية يقصد صاحبنا : الجزء الثاني من مشروعه الذي يحمل هذا الاسم أم بنية العقل العربي التي يتحدث عنها الجابري في هذا الجزء ؟. وبمعنى أوضح هل مشروع الجابري يوجد في الجزء الثاني (الذي هو كتاب بنية العقل العربي) أو في بنية العقل العربي التي هي موضوع هذا الجزء؟
-و حتى لو افترضنا جدلا بان ما قاله لشهب صحيحا ، فكيف يستقيم المنطق بالقول بوجود مشروع الجابري (الرباعية) في جزء واحد ، وبوجود المشروع في بنية العقل العربي كما حدد مفهومها الجابري نفسه ؟ و أي معنى يمتلك صاحبنا لمفهوم البنية ؟.
-لا يقف الالتباس عند هذا الحد بل يزداد عندما يتحدث هذه المرة عن مشروع بنية العقل العربي وليس عن مشروع الجابري في بنية العقل العربي . بل ستجف الأقلام ويرفع العقل و نضيع بالكامل في الهذيان والعبث حينما يضيف لها عبارة جديدة قائلا : " مشروع بينة العقل العربي هو ملكية تم تحفيظها بقراءته في القرآن الكريم " .
ج - إدريس هاني : رحيل مفكر. نموذج التفكير الغارق في التبجح اللغوي واللامعنى
لم أجد ثمة وصف يمكن أن انعت به إدريس هاني سوى انه كاتب يمر بعبارات وجيزة ، و مستغلقة ، و غير معللة ، على أفكار وأطروحات العديد من المفكرين أمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون و غيرهم . وبما أن المقام هنا لا يتسع لمناقشة ما جادت به قريحته في حق الجابري ، فإنني سأكتفي فقط بإيراد 15 نموذجا من تبجحه اللغوي وشطحاته الغرائبية على الورق . وللقارئ واسع النظر.
1 - اليوم سيصبح نقد العقل العربي منتجا كلاسيكيا .
2 - عبت فيه(يقصد الجابري) غلوه في تقطيع التراث وجرف المعرفة بجارفة الأيديولوجيا.
3- كان مشروعه ردة فعل مساوية في المقدار معاكسة في الاتجاه لتاريخانية العروي.
4- قدر المغرب أن يكون الجابري منتجا لاستفزاز أيديولوجي عروي ، كما سيكون طه عبد الرحمن منتجا لاستفزاز أيديولوجي جابري.
5- فهو المزاج المغربي (يعنى به عدم التفات مثقفينا إلى نقادهم و عدم اهتمامهم بهم ) الذي أضرّ بالفكر والسياسة والدين وجعل المعنى يتلاشى في مصارع العلماء.
6- نافح عن الديمقراطية ودافع عن تراث الغلب ليعود ويمارس نقده خارج خطاطة نقد العقل العربي.
7- أراد الجابري في نهاية المطاف أن يتحرر من سلطة مشروعه ولعله فعل ذلك على استحياء لكنه ذهب ضحيته ، لأنه حافظ على مشروعه من الخرم وحافظ على قدسية ملحمته الكلاسيكية.
8- بعد أن أنهى الجابري ملحمة نقد العقل العربي مع نقده لمنظومة القيم العربية ، تحرر من نقد العقل العربي ودخل في تجربة أكثر تحررا ، إذ بدا أكثر جرأة على التراث.
9- كانت آراؤه لاسيما ما تعلق منها بالقرآن الكريم انتهاكا وخرما لمشروع نقد العقل العربي.
10- كان الجابري سلفيا محافظا في مشروع نقد العقل العربي .
11- هذا التكامل بين محنتين: محنة ابن رشد ومحنة ابن حنبل التي تسند المحاولة المذكورة ، وربما حبك منها الباحث تراجيديا التراث المطلوب تغليبه في هذا التوزيع والتشطير والتجزئة القطائعية التي اكتست عنده طابعا ليس إجرائيا فحسب بل تعدت لتصبح قطيعة أنطولوجية داخل التراث .
12- لم تكن المحاولة نقدية جذرية بل كانت تجزيئة وتغليبية بامتياز.
13- لقد غرق الجابري في التراث بعد أن حاول تقطيعه إلى خيارات.
14- كنت أرى انعداما في التناسب بين دعوته للنهضة وقسوته على التراث الآخر.
15- فمقتضى الكتلة التاريخية يناقض تغليب تراث على آخر . ومطلب النهضة آبي لإعمال وسيلة الاستئصال النظري للمختلف.
ملحوظة :
وبما أنني عجزت تماما عن استيعاب مضامين ما كتبه السيد إدريس هاني ، فإنني اطلب منك أيها القارئ الكريم - إذا ما كنت تمتلك قدرات غير معهودة عند البشر في الاستيعاب و إمكانيات تحليلية استثنائية – أن ترفع بعض اللبس والقتامة عن هذه المتاهات اللغوية .
د - خلاصة :
ليس قصدي هنا تنزيه الجابري عن أي نقد . فهذه اكبر إساءة يمكننا أن نلحقها بفكر الرجل و بمشروعه النقدي . وليس في نيتي الدفاع عنه ، لأنه ترك فكرا بلغ من القوة في المنطق والحجاج ، و العمق النظري والوضوح المنهجي والثراء المعرفي والوعي الإيديولوجي ... ما لا يحتاج معه إلى مدافع . و لكنني أحببت فقط تنبيه بعض حملة الأقلام إلى وزر الأمانة العلمية والمسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتقهم اذا ما تعلق الأمر بالحديث عن مفكر أو تقديم أفكاره أو نقد أطروحاته .الشئ الذي يفرض عليهم القراءات المتأنية و المتعمقة لنتاجه مع ضرورة التزام الموضوعية و الوضوح المنهجي و الابتعاد عن إطلاق الكلام على عواهنه .
لقد قضى الجابري زهاء نصف قرن من البحث الذؤوب المتواصل في العديد من الفروع المعرفية . و كان يعطي للبحث العلمي ما يستحق من عناية منذ وقت مبكر من حياته و نضجه الفكري .إذ انفق أكثر من 10 سنوات في معاشرة مقدمة ابن خلدون وما كتب عنها شرقا و غربا ، أي قبل نيله أولى دكتوراه دولة في الفلسفة سنة 1970 (تحت عنوان " العصبية و الدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي). وكان قد قرأ المقدمة لوحدها أكثر من عشر مرات ، وكان يحفظ منها - عن ظهر قلب- فصولا بكاملها ، وقرا كتاب العبر الضخم ، ناهيك عن كتابات العرب و المستشرقين عن ابن خلدون قديما و حديثا ، و عندما كان بصدد تهيئ كتاب عن ابن رشد اكترى منزلا بمدينة افران و اعتكف فيه لمدة شهر ، هذا إذا ما أغفلنا الكثير من الإشارات -التي صرح بها أو بقيت طي الكتمان – التي تشهد له بالنفس الطويل في البحث وقراءاته المتجلدة و المتبصرة للذين تعامل مع نصوصهم (سواء كانوا قدماء أم محدثين ، عربا أم غير عرب ) .
وإذا كان هذا هكذا ، فكيف يجوز لنا أن نعبث بفكر هذا الرجل الذي لم تنجب الثقافة المغربية ، بل العربية، مثيلا له في العصر الحديث و المعاصر؟ و هل يحق لنا أن نصدر أحكاما على فكره و نحن لم نقرا كتبه كلها أو بعضها ، أو ربما لم ننكب على قراءة ولو كتاب واحد بأكمله ؟ و حتى لو افترضنا أننا قرأنا كتبه كلها أو بعضها ، فهل قرأناها قراءة الدارس/الباحث المتبصر المحترس من السقوط في حكم جاهز ، أم قرأناها كما لو كنا نقرأ رواية فننخرط في الصراعات القائمة بين شخوصها و نتيه في الأحداث التي تعج بها ؟ .
إن فكر الجابري ما زال يقرأ بعيون ما قبل الجابري . و الانتقادات التي وجهها هذا الأخير للقراءات العربية الحديثة و المعاصرة للتراث أو الغرب أو الواقع العربي الإسلامي مازالت أسيرة لرؤية سلفية ، أي ترتكز على سلف معين ، سواء كان هذا السلف ليبراليا أو ماركسيا أو دينيا ... و" الفكر العربي الحديث و المعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية " ، و الآليات الذهنية والبنيات اللاشعورية و الأطر المرجعية التي توجه تفكيرنا – و التي كشف عنها الجابري في مشروعه الفكري بالنقد و التحليل الرصين – ما زالت قائمة و لم يتم تجاوزها . بل لا نجانب الصواب إذا ما قلنا بان فكر الجابري يتحدى الواقع العربي و مختلف مستويات التفكير فيه ، ويتجاوز معاصريه . فقد قال و منذ سنة 1980 في مقدمة كتابه " نحن و التراث " : " إننا نعتقد بان الدعوة إلى " تجديد الفكر العربي" أو " تحديث العقل العربي" سيظل مجرد كلام فارغ ما لم يستهدف ، أولا و قبل كل شئ ، كسر بنية العقل المنحدر إلينا من عصر الانحطاط ، و أول ما يجب كسره – عن طريق النقد الدقيق الصارم – هو ثباتها البنيوي ... إن تجديد العقل العربي يعني ، في المنظور الذي نتحدث فيه ، إحداث قطيعة ابستمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط و امتداداتها إلى الفكر العربي الحديث و المعاصر ."
كلمة أخيرة :
إني ادعوك أيها القارئ الكريم إلى أن تتعامل مع أي مفكر- و ليس الجابري فقط – متحررا من كل حكم جاهز و من كل نظرة مسبقة . وذلك حتى تستطيع أن تكون رأيا مستقلا و مبنيا على أسس متينة و بشواهده القرائية . فإذا كانت آفة الأخبار رواتها ، فان آفة الأفكار نقادها . فأنت قد تتفق مع بعض المفكرين في أرائهم كلها أو بعضها ، وقد ترفضها جملة و تفصيلا ، و قد تتركها – إن شئت - " للنقد القارض للفئران" ، و لكن ليس قبل أن تتكرم بمعاشرتهم حتى وان كانوا أفظاظا غلاظ القلب .
و ليسمح لي الإخوة الثلاثة إن بدر مني ما قد تضيق له صدورهم ، فهم لم يفعلوا سوى أنهم استحثوا قريحتي النقدية و فكوا عقدة من لساني . و كل ما قلته في حقهم لا يخرج عن باب واجب الاحترام للقارئ .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.