التقرب من المشروع الفكري والفلسفي للمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري من خلال كتبه أمر، والتقرب إليه من خلال أحد طلبته أمر آخر، لأنه يكشف عن العديد من الأشياء والصفات للمفكر المغربي الراحل، الذي يعد موته خسارة للفكر المغربي خاصة وللفكر العربي عامة.الباحث الفلسفي عبد الصمد تمورو، أستاذ الفلسفة وتاريخ وفكر وحضارة الإسلام بكلية الآداب بالرباط، تحدث في هذا الحوار مع "المغربية" عن الخصال العالية للمفكر الجابري، وعن رصانته العلمية. وقال إن أحسن تكريم له هو خلق مركز للتوثيق والدراسات الفكرية يحمل اسمه، وتخصيص لقاءات وندوات حول فكره خلال الموسم الجامعي 2010 -2011، وإطلاق اسمه على الدورة المقبلة للمعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، لأن ذلك أقل تكريم لأكبر منتج للكتب نشرا وتداولا في المغرب والعالم العربي. ودعا الإيسيسكو إلى خلق جائزة إسلامية تحمل اسم الجابري، لأنه بهذا الشكل يمكن لنا تخليد اسمه، والوفاء لروحه. ماذا يمثل لك المفكر الراحل محمد عابد الجابري؟ ** أولا أترحم على المفكر الكبير. عند وفاة أي شخص نذكر مآثره، لكن مع الأستاذ الجابري فالمسألة أكبر لأنه يتجاوز الجانب الإنساني إلى جانب العطاء الفكري، وغنى إنتاجه. ما يمكن أن نحتفظ به هو جوانب متعددة، لذلك فمن الصعب الحديث عن الجابري في نقط محددة. الذي ألاحظه هو أن رحيل الجابري يفرض علينا أن نقترب من فكره أكثر من أشياء أخرى. أولا نفتخر في المغرب بوجود مفكرين مثل عبد الكبير الخطيبي ومحمد عابد الجابري رحمهما الله. إضافة إلى الفضائل الإنسانية، التي تتجلى لدى الجابري في التواضع والحكمة والرزانة والصبر والعصامية وأخلاق عالية، والنقاء والشفافية، والصراحة، التي حافظ عليها رغم انغماسه السياسي، تميز رحمه الله بالأبوية، التي عامل بها طلبته وباحثيه، والرقة وحسن الاستماع والصبر الطويل. ونظرا لمساره الطويل لا يمكن أن ننعت الجابري بسوء، فحينما كان يحاور، كان يحاور بهدوء ولا يصل إلى الشتيمة أو القذف، بل كان يحارب الجهل والإدعاء، ثم مسار سياسي نحتفظ له فيه بمساهمات نظرية كبيرة في إثبات وثائق حزبية وسياسية، ومواقف مشرفة طوال حياته، لدرجة أنه ينطبق على الأستاذ الجابري وصف "الحكيم"، الذي أطلقه سقراط، لأن الحكمة تعني الجمع بين النظر والتفكيروحسن السلوك، أما الفلسفة فهي فقط النظر. إذن ففي الأستاذ الجابري تتجسد هذه الإنسانية والحكمة. أما الجانب الآخر، الذي يميز الجابري، فهو القضايا التي آمن بها وكيف دافع عنها، وهنا نقف عند قدرة التمكن لديه. فالجابري لا يطلق الكلام على عواهنه، بل يتحدث بكل دقة، وانطلاقا من مرجعية عميقة، فحتى من سولت له نفسه مجادلته، ما عليه إلا أن يتسلح بالمعرفة، لأنه دون ذلك لن يتمكن من مناقشته. ما يميز الجابري هو طريقة عمله، التي ترتكز على الجدية والصرامة العلمية، والنتائج الفكرية المهمة التي يتوصل إليها. باعتبارك أحد طلبة الراحل الجابري، فما هي الذكريات التي تحتفظ بها له؟ ** أولا الأستاذية، فدروس الجابري كانت حدثا في حد ذاتها، وكان لي الشرف أن أكون طالبا لديه، وأن أناقش عدة أبحاث أمامه وبتوجيه منه، وفي مرحلة أخرى، كنت زميلا له، وأول درس تطوعت لتدريسه تعويضا للأستاذ الجابري في سنته الأخيرة. فلي الشرف أن أنتمي إلى المجال الفكري نفسه مع الأستاذ الجاري، وهو حضارة وفكر الإسلام، وإلى شعبة الفلسفة، وجامعة محمد الخامس بالرباط، وميدان التدريس، إضافة إلى أشياء أخرى ذات طابع سياسي وقومي. المنهجية التي اعتمدها الجابري هي الصرامة العلمية، والرجوع إلى النصوص. ويمكن القول بأن الجابري يأتي في المرحلة الثالثة من تعامل المسلمين والعرب مع تراثهم،والمرحلة الأولى هي مرحلة المقاربة بالإصلاح والنهضة، والتساؤل عن أسباب تأخر المسلمين، التي انطلقت ابتداء في القرن السابع عشر، وفي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت أجوبة عدة مفكرين حول طريقة الإصلاح، والوحدة العربية والإسلامية، ثم جاءت مرحلة الرجوع إلى هذا التراث عن طريق توثيقه وتحقيقه وإخراجه ونشره، وهذه كان المشرق سباقا فيها، لأسباب متعددة، المرحلة الثالثة هي مرحلة الدراسة والبحث، وهنا يدخل مجموعة من المفكرين مثل: محمد أركون، وعلي أومليل، والطيب تيزيني، هناك من درسوا للتعريف، وهناك من درسوا لبحث في أطروحة، وتخصصوا في مفكر أو مفهوم، ولكن الجابري أتى لإنضاج هذه المرحلة، بتقديمه لمشروع كيفية التعامل مع التراث، وهذه هي المسألة القوية في مشروع الجابري. لماذا الرجوع إلى التراث؟ وما هي أهدافه ومكوناته؟ وهنا قام مجموعة من المفكرين، خاصة الجابري، الممثل الأكبرلجيله، بما قام به كلود ليفي ستراوس في معالجته لمفهوم الثقافة، الذي قال إن لكل بلد ثقافته الخاصة، وليست هناك هرميات، بل يجب البحث والتعرف على تلك الثقافات. الشيء نفسه قام به الجابري مع العقل، الذي ليس عقلا محصورا على فترة معينة، بل هو عقل يرجع إلى ما قبل الإسلام، لذلك يعود إلى اللغة وإلى التاريخ. فما قام به في نقد وتحليل وإبراز مكونات العقل العربي، هو ما قام به كلود ليفي ستراوس في مفهوم الثقافة، طبعا مع فوارق كثيرة في المنهجية، وفي العمل الميداني، الذي اشتغل فيه الجابري على النصوص مباشرة، لأنه لم يكن يكتفي بالدراسات حوله، بل هو الذي يقوم بتلك الدراسات، وأظن أن ذلك هو المنهج الصحيح. قد نختلف مع الجابري حول أفكاره أو النتائج التي توصل إليها، لكن طريقته في البحث متميزة ومهمة، لأنها فتحت المجال للبحث وتدعيم البحث العلمي حول التراث، والتساؤل حوله. اعتقد لزمان أن التراث هو الماضي، لكن الحضارة العربية الإسلامية هي من الحضارات التي يعتبر ماضيها جزء من حاضرها. رغم أهمية القضايا التي اشتغل عليها الجابري في التراث ونقد العقل العربي، وحول فهم القرآن الكبير، هوجم بشكل كبير حتى من طرف مفكرين منهم جورج طرابيشي والطيب تيزيني وغيرهما، وحتى داخل المغرب من طرف عبد الله العروي وطه عبد الرحمان وآخرين، وكان هناك سجال كبير حول أعماله، وكان الجابري يرد عن البعض منها، ويصمت عن الكثير، فكيف تفسر هذا الأمر؟ ** أي مشروع يحتم بالضرورة أنصارا ومعارضين، لكن ما لا نقبله هو التطرف والتهجم المجاني. هذا مرده إلى اختلاف النتائج، التي توصل إليها الجابري عن غيره من الدارسين، والجابري يقبل النقاش فيها، والدليل هو أنه يعيد تنقيح كتاباته، فكتاب "نحن والتراث" طبع عشر مرات، وفي كل طبعة تجد أشياء جديدة وأخرى منقحة، لأن الجابري لم يكن راضيا تماما عما كتبه. النتائج والحصيلة التي توصل إليها الجابري تحتمل النقاش، لكن ما لا يحتمله هو طريقته في الاشتغال والمراجعة والعودة إلى النصوص، التي يمثل فيها الجابري خير نموذج للبحث العلمي. قوة الأستاذ الجابري هي فتح مجالات التفكير، ومجالات المنهجية، أما النتائج، قد نتفق أو نختلف على جزء منها. والنقطة الأخرى هي حينما تكتب بغزارة، فلا بد أن يتقبله البعض بالقبول والبعض الآخر بالرفض، لكن الجابري لا يكتفي بإعلان رفضه هكذا، كما يفعل البعض، لكنه يعلل عدم موافقته، ولم يصل قط إلى رفض أي مشروع، بل يدخل في نقاش معه. لكن الجابري لم يرد على جورج طرابيشي الذي أصدر كتابا بعنوان "نقد نقد العقل العربي" وقال إن المفكر المغرب كرر ما أنتج سابقا، فلماذا صمت عنه مثلا؟ ** الجابري رحمه الله قال إنه احتراما لمفكرين لهم مشاريع مغايرة له، فهو لن يرد عليهم. ولا ننسى أنه في مرحلة معينة كانت النظرة الماركسية هي المهيمنة، لكن الجابري جمع بين النظرة الماركسية، التي تهتم بالمجتمع والحركية التاريخية وإنتاج الناس للأشياء، وبين النظرة البنيوية، والتفكيكية، والتحليلية، والنقدية. فمشروع الجابري أغنى من ناحية المنهج، بينما الموضوع المدروس هو نفسه، فقط هو أضاف منهجيات متكاملة، وأنا شخصيا لا أتفق معه في بعض الأشياء وكتبت حول ذلك، لكنني أتبع المنهجية نفسها، وهي السؤال المطروح على هذا التراث، وعلى القضايا اليومية، ولا ننسى أن الجابري اهتم باليومي، حيث كتب عن التعليم في المغرب، والتربية، والإصلاح، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والتاريخ، ومشروع الدولة، والعديد من المفاهيم التي نحن بحاجة إلى تفكيكها مثل مفهوم العقل، والحرية. ما هو مفهوم العقل؟ إنه بكل بساطة آليات اشتغال مجموعة إنسانية في لحظة ما بوسائلها، قد تنتج حضارة أو لا تنتجها، ولكن المهم أن لكل أمة آليات للتفاعل مع ماضيها ومع مكوناتها وهويتها، مع المعاني والدلالات. فالجابري هنا تساءل عن العقل العربي وعن مكوناته. أين يمكن أن تضع المشروع الفكري للجابري ضمن المشروع الفكري المغربي والعربي؟ ** بالنسبة للعالم العربي أظن أنه ستكون خلال العشر سنوات المقبلة دراسات معمقة حول مشروع الجابري، لأنه بعد رحيله سيعاد النظر فيه، وأتمنى أن يتوجه هذا المشروع النقدي لتحليل منهجية العمل، وليس الوقوف عند النتائج، لأن المنهجية مهمة جدا ويجب تطويرها. أما بالنسبة للمغرب فيجب أن نجعل هذا البحث امتدادا لروح الجابري، هذا الامتداد يجب أن يكون ميدانيا وعمليا. ولدي مقترحات في هذا الإطار، أولا خلق مركز للتوثيق والدراسات يحمل اسمه، وتخصيص لقاءات وندوات حول فكره خلال الموسم الجامعي 2010-2011، وإطلاق اسمه على الدورة المقبلة للمعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، وهذا أقل تكريم لأكبر منتج للكتب نشرا وتداولا في المغرب والعالم العربي. هذا إضافة إلى خلق جائزة الجابري للدراسات الإسلامية، وإطلاق اسمه على أحد شوارع الدارالبيضاء، وعلى إحدى قاعات أو مدرجات الكليات والجامعات بالمغرب، ودعم الدرس الفلسفي والتعليمي بالمغرب، لأن الجابري دافع عن تدريس الفلسفة باستماتة بالمغرب، ثم خلق جائزة إسلامية، وهنا أتوجه للإيسيسكو لتتبنى هذه الجائزة. وبهذا الشكل يمكن لنا تخليد اسم الجابري، والوفاء لروحه. وما أتمناه، بما أن الجابري خلق فرصا للتفكير، هو أن نجعل فكره وموته فرصة للتفكير، وأن نخلق فضاءات للتفكيرفي مشروعه، وكذا في المواضيع التي تطرق لها. لكن في ظل الوضع المزري للبحث العلمي، واستشراء ظاهرة جحود ونكران الباحثين المغاربة لبعضهم البعض، هل تعتقد أن كل ما اقترحته يمكن أن يتحقق؟ ** كل هذا ممكن شريطة أن يكون مؤسساتيا، وأن تسهر عليه جهات مختصة. الغريب، أيضا، هو أن المفكرين "المتنورين" المغاربة يتجاهلون بعضهم البعض، فعبد الله العروي مثلا لم يكن يلتقي بالجابري ولا يعترف بمشروعه، فهل هذه الممارسات غيرالفكرية صحية؟ ** هذا النوع من الممارسات ليس قاصرا على الساحة الثقافية والفكرية المغربية، ففي فرنسا مثلا كانت هناك صراعات بين دريدا وفوكو، وآرون مع سارتر، وغيرهم، وهي صراعات كانت ذات طابع شخصي، ولكن ما نحتفظ به لفوكو أو دريدا ليس صراعاتهما، بل إنتاجاتهما، وهذه هي النقلة النوعية التي يجب أن تسود في الساحة الثقافية المغربية، وأن تعطى الأولوية للبحث العلمي. فهذه هي الروح التي دافع عنها جميع المفكرين، فسقراط لم يطالب لا بدولة ولا بملكية، بل أتى لمراجعة المفاهيم والتعريفات والأفكار المسبقة، وأظن أن الجابري سار في الاتجاه نفسه. رغم أهمية مشروع وأطروحات الجابري، ونظرائه المغاربة والعرب، فلم يكن لهم أي تأثير على مستوى الساحة السياسية العربية، ولا على مستوى القرارات؟ ** هنا تطرح وضعية المثقف، ويجب أن نعترف أن الساحة الثقافية العربية، ومن ضمنها المغربية تهتم ب "الفقاعات الثقافية"، وتعلي من شأنها، وتقدم البعض منها على أساس أنه مفكر أو خبير، هذا مع العلم أن ذلك كله مجرد موضة، ينتهي صاحبها بانتهائها، فيما يظل الفكر الرصين حاضرا حتى ولو انتقل صاحبه إلى دار البقاء. حينما قرأت ارتسامات مجموعة من المفكرين بعد رحيل الجابري، وجدت أنها كلها احتفظت للجابري بإنتاجه الفكري، وإسهاماته القيمة في تطوير الفكر العربي. فإذا استطعنا الرفع من مستوى نقاشاتنا، وكتاباتنا، وحواراتنا، فإننا بكل تأكيد سنحقق تحولا كبيرا على مستوى الاشتغال. طبعا فالساحة الثقافية المغربية تنقصها الكثير من الأشياء، والجامعة، أيضا، تعرف صعوبات في التفكير والإنجاز والكتابة. هناك في المغرب كثير من الأشياء مضادة للفكر ومساعدة على الجهل، وعلى الثقافة السريعة، والأحكام الجاهزة، بينما المعرفة والعلم يتطلبان الرصانة والدقة. كان بإمكان الجابري أن يصدر كتابا كل شهر، ولكنه كان يأخذ وقته في البحث والتدقيق، لدرجة أن بعض الكتب وصلت إلى عشرسنوات في الإنجاز. هل للمجتمع صبر للاستماع إلينا؟ أظن أن صبره ضعيف بقدر كبير، ومع ذلك يجب أن نعترف بأننا ننتظر اعتراف الآخر الأجنبي بالمغاربة، لنهتم بهم، أو حصولهم على الجوائز خارج المغرب، أو على أوسمة، أو ترجمة أعمالهم، تجعلنا نهتم بهم. وهذا مؤسف جدا، فأن ينكر بلد أبناءه ونخبته، فهذا في حد ذاته، مصاب كبير. كلامك هذا جعلني أتذكر حادثة مؤلمة وقعت للجابري سنة 2006 فور إعلان اليونسكوعن تكريمه في اليوم العالمي للفلسفة، حيث أعلنت مجموعة من الجمعيات الأمازيغية عن احتجاجها على هذا التكريم، هذا مع العلم أن الجابري أمازيغي الأصل، كما كانت هناك معارضة من بعض المفكرين المغاربة، الذين لجأوا إلى أساليب غير معرفية، مما جعل المغرب يفقد كرسي اليونسكو في الفلسفة، فما هي قراءتك لهذه الأحداث؟ ** كنت من المدافعين لدى اليونسكو لخلق كرسي الفلسفة بالمغرب، وفعلا كانت هذه المشاكل وتعثر إنشاء هذا الكرسي، بسبب الحزازات الشخصية، والكثير من القيل والقال. لكن بالنسبة للغة فالجابري له وجهة نظر محترمة، لأنه يعتبر أن اللغة العربية أحد مكونات لحمة القومية العربية، لأن الوطن العربي يجب أن يكون جزءا مهما وفاعلا في الثقافة الإنسانية وفي إنتاج الفكر الإنساني عموما. فالجابري دافع عن العربية انطلاقا من انتماءه إلى هوية أكبر من الهوية الوطنية المحدودة، وهذا لا يعني أنه لا يستمع إلى الآخرين، وأنه ليس مطلعا على ما يوجد في المغرب من مكونات أمازيغية، بل كان يدعو إلى أن تغتني وألا تتصارع مع المكونات الأخرى، لأن تصارعها يوقف إمكانيات الوحدة والبناء والتنمية. والمثال الذي أمامنا هو الوحدة الايطالية والألمانية، والأوروبية، ووحدة الولاياتالمتحدة الأميركية، بل إن الاتجاه العام للإنسانية هو الوحدة. العالم العربي عاش ويعيش التمزق، ولهذا لم يكن لمفكرمتزن كالجابري ومؤمن بالقضية العربية، أن يدافع عن التمزق، فهو في عمقه كان مع الوحدة الترابية، ومع وحدة المغاربة، ورد الاعتبار للمغاربة، وكان مع القومية العربية، ومع القضايا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ولهذا يجب أن نحترم هذا الرأي، وتكريم الجابري، لم يكن تكريما لأمازيغي، أو لمغربي، بل تكريم لمفكرعربي إسلامي. أظن أن تلك المعارضة على تكريم الجابري كانت متطرفة جدا، وظلمت الرجل، ورغم ذلك لم يرد عليها، وقبل الميدالية بعد أن طلبنا منه ذلك بإلحاح. وتاريخ الجابري مع الجوائز معروف، فهو لم يكن يسعى وراءها، بدليل أنه رفض العديد منها، كما رفض العديد من المناصب. أظن أن الرد الكبير للجابري على كل ذلك هو مشروعه الفكري، الذي تجاوز الهوية أو اللحظة الظرفية، أو الصراعات الشخصية، وأصبح يتبناه كثير من المفكرين خارج الوطن العربي، وآخر ترجمة لأعماله كانت إلى اللغة التركية. فهل الأتراك اهتموا بالجابري لأنه ينتمي إلى فكيك؟ لا لقد اهتموا به لأنه ينتمي إلى الوطن العربي، وله بصمة في البحث الفكري العربي. ما الذي يميز الجابري عن نظرائه من المفكرين المغاربة، مثلا عبد الله العروي؟ ** الجابري يلتقي مع الكثير من المفكرين في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في الهوس بالتاريخ، فالعروي، وأومليل، والخطيبي، كانت لهم هموم تاريخية، ويجتمع بهم أيضا، في الاهتمام بابن خلدون، كما يلتقي مع العديد من المفكرين المغاربة في الفكر الفلسفي، والاهتمام بالعلوم الإنسانية، وبتاريخ الحضارات والأفكار، وأظن أن الاهتمام بهذه الميادين، ترفع المثقف إلى درجة المفكر. أما الاهتمام بالقضايا اليومية، فتجعل من الإنسان رجل الميدان أو رجل السياسة، أما الاهتمام بتاريخ الأفكار والفلسفة والفنون والآداب واللغة، فترفعه إلى درجة التنظيروالتفكير. أما اختلاف الجابري عن نظرائه المفكرين، فيتجلى في كونه متمكنا من النصوص القديمة أكثر من الآخرين، واهتمامه بالتاريخ ما هو إلا أداة، فيما يظهر لدى الآخرين هو عمل داخلي وتخصصي. الجابري يلتقي معهم في الاهتمام بالمفاهيم، ولكنه يختلف عنهم في النتائج المتوصل إليها، هذا ناهيك عن كونه الوحيد، الذي درس نشأة ومكونات الفكر العربي الكلاسيكي، أما العروي فقد اهتم بتاريخانية الحضورالإيديولوجي ابتداء من القرن التاسع عشر، بينما المدة التي اهتم بها الجابري، تبدأ من الجاهلية وتمتد إلى الوقت الحالي، أو على الأقل إلى ابن رشد. فالمجال الذي اشتغل عليه الجابري أكبر من مجالات الآخرين، فهذا اختلاف أساسي وكبير. مشروع العروي أكثر شجاعة سياسية وفكرية، لأنه يطرح قضايا القرن التاسع عشر والعشرين. اعتبر العديد من الباحثين أن ما أتى به الجابري في كتاباته هو تعويض عن الارتجاج، الذي يحدثه العروي بأسئلته الطاغية والقلقة، فهل كتابات الجابري اليقينية تشعربالاطمئنان؟ ** الجابري فعلا يشعرنا بالاطمئنان، لأنه يقدم مشروعا، وهذا الأخيرلا بد له من ثوابت، ومع ذلك فالأسئلة التي يطرحها الجابري كبيرة جدا، وأكبرمن جيله، وهو اعترف بذلك، واعتبر أنه يدرس نماذج فقط، رغم موسوعيته. مشروع الجابري هو مشروع أجيال، ولذلك قلت إنه يجب خلق مركز للاستمرار في مشروعه. هل خلف الجابري طلبة باحثين ساروا على نهجه، حتى يظهرالمركز الذي تنادي به؟ ** سأحاول أن أتحدث بلباقة عن الأجيال، التي كونها الجابري، مع احترامي للجميع. هناك مجموعة من الباحثين الذين اهتموا فقط بالجانب المونوغرافي، أي التأريخ ومتابعة ظاهرة معينة، أو مفكر ما. والنوع الثاني حاول خلق مشروع خاص به، وهذه الفئة هي التي نجدها في أساتذة الفلسفة، الجيل الذي أتى بعد الجابري. وهناك باحثون أو مريدون للجابري، وهي تستحق كل الاهتمام، والمركز، يمكن أن يضمهم، ويساهموا في فتح النقاش حول أعماله، وإتمام مشروعه. هل استطاع الجابري بمعية نظرائه خلق مدرسة فلسفية بالمغرب؟ ** نعم، وهذا لا أقوله لوحدي، بل يقوله من هم خارج المغرب، الذين يعترفون للمغرب بخلق مدرسة فلسفية، بل اتجاهات فلسفية حقيقية. ووقفت شخصيا في البلدان الغربية، على اهتمام الأجانب ومتابعتهم للتجربة الفلسفية المغربية. هناك اعتراف كبير بالدرس الفلسفي المغربي من طرف الجميع، وهذا لم يأت من فراغ، لأن المدرسة المغربية تهتم بالمفاهيم، والمنهجية، كما أن لها إنتاجات فكرية، ثم لا ننسى أن تدريس الفلسفة متقدم بالمغرب. الجابري وغيره جعلوا اللغة الفلسفية تحيى في المغرب. رغم ما قلته فنحن لا نلمس ذلك على أرض الواقع، بدليل إخفاق المنظومة التعليمية بالمغرب؟ ** هناك إخفاقات، وإذا نظرنا إلى البعد التاريخي، فما حققه المغرب خلال الأربعين سنة الماضية، هو إعادة إنتاج الجامعة، وجعل الفكر مرتبط بالشغل، وجعل الثقافة مسألة متداولة، وجعل العلم مسألة متداولة. طبعا هناك اجتهادات وإخفاقات، ولكننا لم نصل بعد إلى مستوى بعض الدول التي يعيش فيها المفكر من أعماله، وينتج دون أن ينتسب إلى الجامعة. فعندما نصل إلى الدرجة، التي تجعلك صفة العالم والمفكر، تعيش بشكل مريح ومستقر.