بعد رحيله صبيحة يوم الاثنين الماضي، ووري جثمان فقيد الفكر والسياسة المغربيين محمد عابد الجابري الثرى بعد ظهر أول أمس بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء. إذ شيعته إلى مثواه الأخير عشرات الشخصيات من عالم السياسة والثقافة والفكر والإعلام... في جو من الحزن والأسى ممزوج باستحضار روح الفقيد ومساره العلمي والفكري، ووري المفكر المغربي محمد عابد الجابري الثرى بعد ظهر أول أمس في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء. وقد شيعته إلى مثواه الأخير العشرات من الشخصيات السياسية والفكرية والحزبية والثقافية والإعلامية، بالإضافة إلى محبيه وتلامذته من المنتمين إلى شعبة الفلسفة في بعض الجامعات المغربية، الذين جاؤوا إلى مقبرة الشهداء لإلقاء نظرة الوداع على الرجل الذي شغلهم بفكره سنوات طويلة. وسط هذا الحشد الغفير، وفي جو من الخشوع الإيماني وارتفاع الحناجر بقراءة القرآن الكريم، شيع الجابري، مخلفا وراءه أسى عميقا استشعرته جميع الفعاليات، التي حضرت مراسيم الدفن في مقبرة الشهداء. إذ أجمعت على اعتبار رحيل محمد عابد الجابري، الذي وافته المنية بشكل مفاجئ يوم الاثنين الماضي في بيته، خسارة فادحة بالنسبة للجامعة المغربية والساحة الفكرية العربية في زمن تعتبر فيه الجامعة المغربية في أمس الحاجة إلى أمثاله. لعل من أبرز اللحظات المؤثرة خلال مراسيم الدفن ما قام به أحد عناصر الشرطة. فما إن خرج جثمان الراحل من مسجد الشهداء حيث تمت صلاة الجنازة، وبلغ الموكب الجنائزي القبر، حتى انتصب الشرطي ورفع يده اليمنى، ثم وضعها على صدغه مؤديا التحية العسكرية للراحل إكبارا له واعترافا بمكانته وقيمته الفكرية، حيث ظل على حاله حتى اكتملت مراسيم الدفن وقراءة سورة «يس». وقد حضرت تيارات سياسية وثقافية وإعلامية مختلفة جنازة الراحل، التي أقيمت بعد صلاة الظهر في مسجد الشهداء، اعترافا بالسنوات الطوال التي قضاها الراحل منكبا على البحث العلمي والتأمل الفكري والنضال السياسي. إذ تبادلت الجموع الحاضرة العزاء، حيث كان التأثر بهذا الرحيل باديا على الوجوه، خاصة على زملائه من الأساتذة الجامعيين، الذين ذرف بعضهم الدموع من شدة التأثر لفقدان وفراق رجل اعتبره الجميع طاقة وشعلة فكرية لم تنطفئ أبدا حتى غيّبها الموت بشكل مفاجئ. وقد ظلت الجموع، التي حجت إلى مقبرة الشهداء بالبيضاء قبيل الظهر بساعات، تنتظر أذان صلاة الظهر تحت أشعة الشمس الحارقة لإقامة صلاة الجنازة. كانت خلالها تتبادل أطراف الحديث حول مناقب الرجل ومحاسنه وصفاته وفضله على الجامعة المغربية. كان الجميع ينظر إلى ما خلفه الرجل بعين الإكبار. لم ينتبه البعض إلا وجثمان الراحل ينقل في موكب جنائزي كبير إلى قبره الواقع على مقربة من المسجد، وفي مقدمته أبناؤه وأقرباؤه وبعض المسؤولين والزعماء السياسيين والمثقفين، إلخ. وقد بدا حضور رجالات الفكر والثقافة، في بداية الأمر، طاغيا على الشخصيات السياسية، حيث لم تسجل مراسيم التشييع حضورا سياسيا، باستثناء حضور بعض أعضاء حزب الاتحاد الاشتراكي أمثال اليازغي ولشكر والحبيب المالكي، بالإضافة إلى محمد الساسي، عن الحزب الاشتراكي الموحد، وعبد الإله بنكيران، عن حزب العدالة والتنمية. فيما أثار غياب الكاتب العام لحزب الوردة عبد الواحد الراضي أسئلة عديدة بين الحاضرين. وقد كان من المشيعين لجثمان الراحل مستشار جلالة الملك محمد معتصم، الذي تلا رسالة تنعي الفقيد، إلى جانب العديد من المسؤولين الحكوميين من بينهم وزير الاتصال خالد الناصري ووزير الدولة محمد اليازغي ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق والوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان إدريس لشكر ووزيرة الثقافة السابقة ثريا جبران. في حين كانت الأحزاب السياسية ممثلة في جنازة الجابري بالعديد من الوجوه من بينها عبد الرحمان اليوسفي والحبيب المالكي ومحمد الأشعري وعبد الإله بنكيران ومحمد الساسي وأحمد العراقي وصلاح الوديع، بالإضافة إلى بعض مدراء الجرائد المكتوبة والإعلاميين، الذين حجوا إلى مقبرة الشهداء لتغطية الحدث. كما شهدت جنازة الجابري حضورا مكثفا لثلة من المثقفين المغاربة وتلامذة الأستاذ الراحل في مقدمتهم زملاؤه في شعبة الفلسفة من بينهم محمد المصباحي ومحمد وقيدي وعبد الإله بلقزيز، وكذا بعض الأساتذة الجامعيين الذين تتلمذوا على يد الجابري، بالإضافة إلى طلبة شعبة الفلسفة في كليات الآداب بالرباط والدار البيضاء ومدن أخرى. غير أن مراسيم الجنازة سجلت غياب وزير الثقافة بنسالم حميش، لكن وزارته كانت ممثلة في الجنازة بمدير مديرية الكتاب حسن نجمي. وبمواراة الجابري إلى مثواه الأخير، تكون عائلته الصغرى والكبرى قد فقدت منارة من المنارات العلمية الشامخة، التي أغنت الفعل الفكري والسياسي في المغرب خلال القرن الماضي وبداية الحالي. إذ اعتبر زميله محمد المصباحي أن «حضوره كان طاغيا شاملا في كل المناحي والمباحث»، باعتباره «منارة للتنوير والحداثة، كان مناضلا سياسيا». شهادات محمد المصباحي افتقدنا المرحوم محمد عابد الجابري كثيرا لأن حضوره كان طاغيا وشاملا في كل المناحي والمباحث. كان منارة للتنوير والحداثة، كان مناضلا سياسيا. كان الجابري، في المجال المعرفي، قادرا على الجمع بين النظر والعمل، بين السياسة والفلسفة. ولكنه عندما أحس أن دهاليز السياسة ربما تحد من انطلاقه وإشعاعه وأثره في الجمهور، أو من خدمة الفلسفة، فضل الانغماس في الفلسفة والكتابة فيه. فحبب الفلسفة لكل الطبقات والفئات، مخترقا حدود المغرب نحو كل الآفاق والقارئين بالعربية والكاتبين بها أو غيرهم. فقد لاحظت حضوره القوي والمؤثر في تركيا وإيران وإسبانيا وفرنسا وألمانيا. كان رحمه الله شعلة وطاقة تنويرية فقدناها في هذا الظرف الذي نحن فيه في أمس الحاجة إليه وإلى أمثاله. كان رحمة الله عليه رجلا تربويا. إنه مربي الأجيال استطاع بأسلوبه الأخاذ وعبارته الفاتنة أن يؤثر في الأصدقاء والأعداء، والمحبين والخصوم. كان كذلك مقداما ورائدا يفتح الملفات الجديدة في المعرفة والفكر والدين والإيديولوجيا، حيث قدم للأجيال اللاحقة مشاريع جديدة للبحث والتأمل والتفكير في المجتمع. حسن طارق هذا يوم حزين بالنسبة للفكر التقدمي في المغرب، وبالنسبة للفكر التنويري. فمحمد عابد الجابري هو رمز وعلم من أعلام مدرسة فكر النهضة المغربية، الفكر التقدمي الديموقراطي. فقد كان له مشروع ورؤية لاستنبات القيم الكبرى للحداثة والعقلانية والحوار والنسبية والتفكير العلمي، وقيم التقدم داخل التربة العربية الإسلامية. عابد الجابري هو لحظة من اللحظات الكبرى للفكر العربي المعاصر. طُرحت عليه إشكاليات كبرى فقدم جوابا هو أقرب ما يكون إلي المدرسة في مزاوجة بين الذات والهوية والقيم الكبرى للإنسانية. وعلى المستوي المغربي هو لحظة تزاوج بين الالتزام الفكري والعمل السياسي والنضالي، وهو وجه من الوجوه المشرقة للحركة الاتحادية، هو عنوان الالتزام الثقافي والسياسي للمثقف، وجزء من الذاكرة الثقافية والسياسية للمغرب المعاصر، لا يمكن أن نمر على ستين سنة الماضية من حياتينا السياسية والثقافية دون ذكر هذا الاسم الشامخ. محمد وقيدي يرحل محمد عابد الجابري والعزاء لذويه ولجميع أصدقائه وزملائه وخاصة المشتغلين بالفلسفة. لقد مكنني مساري التكويني والمهني كأستاذ في الثانوي ثم في التعليم العالي من معايشة الجابري لمدى طويل، وأنا أعرف كل كتاب كتبه الجابري وكل فكرة وكل أطروحة قدمها الجابري لأننا كنا جميعا نتابع هذه الأطروحات بكل حماس، ونتابع صداها داخل المغرب وخارجه. الآن هذه الأطروحات هي في كتب الجابري. ولكن بالنسبة لنا نحن فقد فقدنا فيه الأستاذ والصديق الذي جمعتنا به مناسبات كثيرة ومتعددة، وكنا نحمل له كما كان هو يحمل لنا كل المودة والمحبة والتقدير وكنا نلقى منه التشجيع. لقد قام محمد عابد الجابري بعمل كبير سيدوم أثره على مدى زمني طويل لأن أطروحاته تظل قابلة للنقاش ولو بعد وفاته. مصطفى بوعزيز محمد عابد الجابري منارة علمية كبيرة، مفكر من عيار عالمي، يمتاز بمجموعة من الصفات، أولاها الصفة الإنسانية، فهو رجل حافظ على روابطه العائلية والقبلية بفكيك، ونحن ننتمي إلى نفس المنطقة. وفي هذا الإطار أسجل البعد العصامي في عمله. كان دائما يبذل جهدا وبه ينتج المعرفة والأفكار. يمتاز بلغته التواصلية، وتجربته الكبرى في الصحافة أعطته هذه القدرة. وكمفكر يمتاز بامتلاكه لمنظومة فكرية أثارت وتثري نقاشا متواصلا. وكما نعلم فقيمة كل مفكر ليس في عدد أتباعه ولكن فيما تثيره أفكاره من نقاش، والجابري أثار نقاشات كثيرة لا عبر الكتاب الفلسفي المقرر في السبعينيات في المدرسة مع المرحوم السطاتي ولا في وجهة النظر التي قدمها حول اللقاء الممكن ما بين الوطنيين التقدميين وبين الإسلاميين، وأيضا في كتاباته الأخيرة حول القرآن وشرحه. محمد الشيخ رزئ الفكر العربي في وفاة معلم الأجيال الأستاذ محمد عابد الجابري. وللرجل على الفكر العربي ألف فضل وفضل. ليس أدناه تجديد النظر في مسألة الصلة بالتراث. ثم إن العديد من «التائبين» عن الفكر التكفيري، من أبناء الخليج، إنما انفتح فكرهم في السجون بعد قراءة أعمال الأستاذ الجابري. هذا فضلا عن أن الرجل شكل استمرارا لتقليد عربي أصيل في صلة العالم بالسلطة، هو تقليد قول: لا، حين ينبغي فعل ذلك. ومخافة أن ينطبق علينا قول أحد قدماء الزهاد: «يكون الرجل بينهم فلا يلقون إليه بالا، فإذا ما صار في ذمة الله قالوا: كان فلان»، كان قد نظم الإخوة بشعبة الفلسفة ببنمسيك، منذ سنتين خلتا، يوما دراسيا حول فكر الأستاذ بحضوره، كما كانوا، قبلها بسنتين، قد نظموا زيارة إلى بيت الأستاذ رفقة طلبتهم، فتركوا الأستاذ للطلبة ساعتين من الزمن يسألونه عن مشروعه، وقد آل الأساتذة على أنفسهم، في تقليد إنساني بديع، إلا أن يتكلم الطلبة الذين عادة ما لا تتاح لهم فرصة الكلام- وأن يصمت الأساتذة. وكان ما كان بين الطلبة والأستاذ الجابري، مما لا يتسع المجال لذكره في هذا المقام. حسن نجمي نفقد برحيل محمد عابد الجابري أحد أركان الفكر المغربي الحديث ونحن نواريه التراب هذا اليوم كأننا ندفن عضوا من أعضاء جسدنا الفردي والجماعي، ففي الجابري المرجع المنير المضيء والبوصلة التي نسترشد بها في الطريق والأفق الفكري والمعرفي والأخلاقي والنضالي الذي انتسبنا وننتسب إليه. محمد عابد الجابري كان معلما كبيرا في الفكر وفي الممارسة السياسية، تعلمنا منه بكل روح التلمذة معنى أن نكتب ومعنى أن نفكر ومعنى أن نعقل الأشياء ومعنى أن ننصت لذواتنا وللآخرين. محمد عابد الجابري مشروع فكري تاريخي فذ بناه بذخائره ومخزوناته الشخصية وبمثابرته وتراكمه في الممارسة الثقافية والسياسية. محمد عابد الجابري من الصعب أن نصدق أننا نفقده اليوم كأنه اختطف منا، وهو بهذا يترك فراغا فادحا يصعب أن نملأه.