تصدير منهجي حضر مفهوم الكتلة التاريخية في فكر الأستاذ محمد عابد الجابري؛ كآلية فكرية تساعد على تفكيك المنظومات الإيديولوجية السائدة في الثقافة العربية؛ و ذلك باعتبارها منظومات مغتربة في الزمان و المكان؛ لا تربطها أية صلة بالواقع العملي؛ و هذا ما يجعلها تشترك جميعها في نفس آليات التفكير؛ رغم الاختلاف الظاهر على مستوى الخطاب . إن مفهوم الكتلة التاريخية؛ على مستوى مدلوله؛ يعتبر امتدادا لمشروع الأستاذ الجابري؛ هذا المشروع الذي يتداخل فيه الفكري بالسياسي بالتربوي؛ لكنه مشروع واحد على مستوى الآليات الفكرية المتحكمة فيه؛ مشروع يهدف إلى قراءة الخطاب العربي التراثي و الخطاب العربي المعاصر؛ من منظور ابستملوجي؛ يركز على طريقة إنتاج الخطاب. لقد آثرنا اختيار هذا المدخل في مقاربة مفهوم الكتلة التاريخية؛ لأن معظم القراءات التي تناولت هذا المفهوم عند الأستاذ الجابري؛ تذهب في اتجاه ربطه –بشكل ميكانيكي- بالمفكر الإيطالي (أنطونيو غرا مشي)؛ و ذلك من دون أي اجتهاد؛ في وضع المفهوم في سياقه العام ضمن مشروع الأستاذ الجابري؛ و هو مشروع يمتلك أسئلته الخاصة المرتبطة بالسياق الثقافي العربي؛ و هي أسئلة ليست بالضرورة مطابقة لأسئلة (أنطونيو غرا مشي) المرتبطة بالسياق الثقافي الإيطالي خاصة و الأوربي عامة. إننا يمكن أن نوافق هذا الاتجاه –تجاوزا- لكن إذا تعلق الأمر باستعارة الدالle signifiant (كتركيب لغوي/صورة صوتية) لكن لا يمكن علميا قبول استعارة المدلول le signifié (كفكرة/تمثل ذهني و ثقافي). و ذلك لأن التحليل العلمي لا يقبل الانتقائية في مقاربة المفاهيم؛ و لذلك يكون من الواجب ربط هذا المفهوم بالمشروع الفكري للأستاذ الجابري؛ مع التركيز على تقنية (تبيئة المفاهيم) التي اعتمدها الأستاذ؛ في تعامله مع الكثير من النظريات والمفاهيم . 1- الكتلة التاريخية.. من استعارة المفهوم إلى تبيئته حتى نعطي لمفهوم الكتلة التاريخية أصالته ضمن مشروع الأستاذ محمد عابد الجابري؛ يكون من اللازم على الباحث قراءة المفهوم؛ في ضوء الاجتهاد الفكري الذي قام به الأستاذ الجابري؛ سواء في قراءة الخطاب العربي التراثي أو في قراءة الخطاب العربي المعاصر؛ و في القراءتين معا؛ كان الأستاذ الجابري يسعى إلى البحث عن الوحدة ضمن التعدد؛ منطلقا في ذلك من فكرة محورية؛ مفادها أن الفكر العربي لم يصل بعد إلى صياغة منظومات إيديولوجية واضحة التباين؛ في علاقة بالممارسة العملية؛ و لذلك نجد هذه المنظومات ترتبط بنموذج (سلف) سابق؛ يمنعها من تحقيق استقلاليتها الذاتية . إن ما يمكن أن يوصف بأنه صراع إيديولوجي في الساحة العربية (..) إنما يعبر عن اختلاف السلطات المرجعية المعرفية التي تمارس هيمنتها على هذه الفئة آو تلك من فئات المثقفين العرب؛ أكثر ما يعبر عن شيء آخر له صلة حقيقية بالواقع العربي أو بالتطلعات الحقيقية للجماهير العربية. و في هذا الصدد يؤكد الأستاذ الجابري: و إذن فإن مقولة الصراع الإيديولوجي هي ذاتها من المقولات التي يجب إعادة النظر فيها داخل الساحة الفكرية العربية الراهنة. (1) إن مفهوم الكتلة التاريخية –إذن- يرتبط جوهريا؛ بإعادة النظر في مقولة الصراع الإيديولوجي؛ و ذلك من منطلق أن هذا الصراع لا يعبر عن الواقع العربي؛ كما لا يعبر عن التطلعات الحقيقية للجماهير العربية؛ بل هو صراع بالوكالة عن منظومات إيديولوجية تنتمي زمنيا و مكانيا لفضاء غريب عن الذات العربية المُنظرة و المُمارسة. و من هنا ازدواجية الاغتراب في التنظير و الممارسة؛ حيث يغيب الراهن العربي بإشكالاته و يتم تعويضه بنموذج (سلف) يتم اعتماده ك (شاهد) يُقاس عليه المشروع العربي (الغائب). إن في كل إيديولوجيا جانبا معرفيا (الموضوعي) و جانبا إيديولوجيا (الذاتي). الجانب الأول يعبر عادة عن الواقع الاجتماعي السياسي الثقافي؛ بمعنى أنه نتيجة تحليل لهذا الواقع؛ على هذه الدرجة أو تلك من الموضوعية و الروح العلمية؛ أما الجانب الثاني فهو يعبر عن المصالح و الرغبات و التطلعات. و بناء على هذا التمييز بين الذاتي و الموضوعي في مفهوم الإيديولوجيا؛ يخلص الأستاذ الجابري؛ إلى أن الجانب المعرفي (الموضوعي) في الايدولوجيا العربية العاصرة؛ لا يعبر عن الواقع العربي الراهن؛ لا يعكسه و لا يدخل معه في علاقة مباشرة أو شبه مباشرة؛ بل هو عبارة عن مفاهيم غير محددة و قوالب إيديولوجية مضببة؛ تجد إطارها المرجعي؛ الاجتماعي التاريخي؛ في واقع غير الواقع العربي الراهن (الواقع العربي في القرون الوسطى أو الواقع الأوربي في العصر الحاضر) . و هذا النقص المعرفي الذي تعانيه الأيديولوجية العربية المعاصرة؛ هو ما يرسخ الطابع الدوغمائي؛ ذلك لأنه عندما تكون وظيفة الإيديولوجيا في خطاب ما هي تعويض النقص المعرفي فيه؛ فإن أية معارضة و اعتراض على الأطروحات التي يدافع عنها؛ ستقابل من طرفه لا بالاحتكام إلى الواقع بل بالمزيد من التمسك الأيديولوجي بالإيديولوجيا؛ أي بالمزيد من الإمعان في عملية التمويه الأيديولوجي . (2) و لعل هذا هو ما عشناه لعقود؛ في مواجهة مشاريع إيديولوجية ليبرالوية يساروية مستلبة من طرف نموذج سلفي (غربي/شيوعي)؛ أو في مواجهة مشاريع إيديولوجية سلفوية قومجية مستلبة من طرف نموذج سلفي مرتبط بالماضي. و في جميع الحالات لم نكن بإزاء تشكلات إيديولوجية شرعية الولادة و طبيعية النشأة في علاقة بالواقع العربي؛ بل إزاء تشكلات إيديولوجية سلفية؛ و هذا ما اثر على الممارسة السياسية نفسها؛ و ساهم في خلق أنظمة سياسية معاقة؛ غير قادرة على استيعاب حقيقة الواقع العربي؛ و لذلك كان ملجؤها الأخير في كل مرة؛ ليس محاولة استيعاب التحولات؛ و لكن العمل على التحكم فيها؛ باعتماد آليات الاستبداد و التسلط؛ لكن النتيجة تكون عكسية في غالب الأحيان؛ حيث يخرج المارد الشعبي من قمقمه و يرمي بهذه الأنظمة و إيديولوجياتها السلفية المغتربة في مزبلة التاريخ. إن هذا التحليل الفكري؛ الذي يعود إلى مرحلة سابقة عما نعيشه اليوم؛ من تحولات جذرية في المشهد السياسي العربي؛ هذا التحليل الفكري يؤكد راهنيته بقوة؛ و في نفس الآن يبرهن على قدرة المقاربة الابستملوجية؛ على الكشف عما يعتري آليات التفكير من خلل يؤثر؛ في الأخير؛ على مستوى الممارسة العملية. و لعل الأستاذ الجابري بهذا التحليل؛ الذي يذهب في اتجاه اغتراب الخطاب الأيديولوجي في الثقافة العربية؛ و ما يشكله من خطر على مستوى الممارسة السياسية؛ إن الأستاذ الجابري بهذا التحليل؛ يكون على وعي تام بضرورة ربط التشكيلات الإيديولوجية في الثقافة العربية بالممارسة العملية؛ التي هي وحدها القادرة على بلورة منظومات إيديولوجية بطابع معرفي (موضوعي) قادر على التعبير عن الواقع الاجتماعي و السياسي و الثقافي ... إن الأستاذ الجابري عندما طرح الكتلة التاريخية؛ باعتبارها تجاوزا للمنظومات الإيديولوجية السائدة؛ لم يكن غافلا عن حتمية الصراع الإيديولوجي؛ كتعبير عن اختلاف المنظومات الفكرية و المشاريع المجتمعية؛ و لكنه دعا إلى تأجيل هذا الصراع؛ في انتظار أن تنضج التشكيلات الإيديولوجية في الثقافة العربية؛ في علاقة بالممارسة العملية؛ التي هي وحدها القادرة على فرز منظومات أيديولوجية حقيقية؛ تعبر عن التطلعات الحقيقية للجماهير العربية؛ و إلا سيظل الصراع الإيديولوجي فارغا من أي محتوى عملي؛ و هذا ما سيؤثر بشكل مباشر على الممارسة السياسية نفسها؛ حيث سنجد أنفسنا في مواجهة مشاريع مجتمعية غريبة عن الواقع العربي. إن مفهوم الكتلة التاريخية بهذا المعنى؛ يجد تفسيره ضمن المشروع الفكري للأستاذ الجابري؛ و خصوصا ما يرتبط برهان الاستقلال التاريخي للأمة العربية؛ و هو رهان قاد الأستاذ الجابري؛ مفكرا و سياسيا و مربيا؛ تنظيرا و ممارسة؛ و ذلك من منظور أن الثقافة العربية غير مؤهلة اليوم؛ لبلورة منظومات إيديولوجية واضحة و منسجمة؛ كما هو الشأن في أوربا؛ و هذا ما يفرض تأجيل الصراع الأيديولوجي على الأقل؛ إلى حين وضوح الرؤية؛ و ذلك سيكون أفضل من استهلاك الوقت و الجهد في صراع إيديولوجي بالوكالة؛ لا يستجيب لمعايير الواقع العربي. فإذا كان هناك في أوربا المعاصرة –الإطار المرجعي الأصلي لمقولة الصراع الأيديولوجي - قاعدة معرفية مشتركة بين الليبرالي و الماركسي؛ ترتكز على حد أدنى من العقلانية و النظرة العلمية؛ و بالتالي توحد نسبيا من نظرتهما إلى الواقع؛ و تجعل الخلاف بينهما منحصرا أو يكاد في نوع التأويل الإيديولوجي الذي يجب إعطاؤه للواقع المعطى؛ فإننا هنا في الواقع العربي نفتقد إلى الحد الأدنى من المعرفة العلمية الموضوعية بالواقع (..) الذي يجعل الصراع صراعا إيديولوجيا فعلا؛ وليس كلاما في الإيديولوجيات التي تعرض نفسها على الساحة. (3) قد يُعقب البعض؛ أن الأستاذ الجابري؛ في تنظيره للكتلة التاريخية؛ كان يمارس عنفا رمزيا على التيارات الإيديولوجية في الثقافة العربية؛ حينما يسعى إلى جمع المتناقضات في سلة واحدة؛ كما قد يعقب آخر؛ أن الأستاذ الجابري ذهب بعيدا في تجنيه على التشكيلات الإيديولوجية في الثقافة العربية؛ حينما يصفها بالقصور عن بناء تصورات إيديولوجية معرفية تنسجم مع الواقع العملي. لكن دعنا نؤكد؛ أن الأستاذ الجابري؛ في مشروعه الفكري لم يكن منشغلا بتحليل الخطاب في علاقة بالتيارات الإيديولوجية العربية؛ و لكن انشغاله الأساسي كان منصبا على تحليل آليات إنتاج الخطاب؛ و لذلك؛ فهو عندما يدعو إلى كتلة تاريخية تجمع تيارات إيديولوجية مختلفة؛ لا يسعى –في نظري- إلى ممارسة أي عنف رمزي على أي تيار إيديولوجي؛ بل قاده (حدسه الابستملوجي) في وقت مبكر إلى مكمن الداء الذي تعاني منه الممارسة السياسية في العالم العربي؛ و هو داء الاغتراب في منظومات إيديولوجية لم تنتجها الثقافة العربية في حاضرها؛ بل استعارتها؛ إما في علاقة بالماضي أو في علاقة بالحاضر الأوربي. و لعل هذا الكشف الابستملوجي المبكر؛ في قراءة الخطاب السياسي العربي؛ هو الذي نجده مبثوثا في كتابين أساسيين ضمن مشروع الأستاذ الجابري؛ يتعلق الأمر بكتاب (نحن والتراث) حيث دخل الأستاذ في حوار نقدي مع المناهج المعتمدة في قراءة التراث العربي الإسلامي . كما يتعلق الأمر كذلك بكتاب (الخطاب العربي المعاصر) حيث دخل الأستاذ في حوار نقدي مع الخطاب العربي الحديث و المعاصر في شكله النهضوي و القومي و السياسي و الفلسفي . 2- في نقد مناهج قراءة التراث العربي/الإسلامي في كتابه المؤسس (نحن و التراث)؛ سعى الأستاذ محمد عابد الجابري إلى نقد المناهج المعتمدة في قراءة المتن التراثي. فمن حيث التصور؛ حاول الأستاذ الجابري التخلص من القراءات الإيديولوجية للتراث؛ سواء من منظور سلفي أو من منظور ماركسي أو من منظور ليبرالي. و هذا ما فرض عليه ضرورة اختيار المنهج المناسب لهذه القراءة الجديدة للتراث. و قد كان ارتباط الأستاذ الجابري- منذ هذا الكتاب التأسيسي- بالمنهج الابستملوجي؛ باعتباره الأداة القادرة على تمكينه؛ من التعامل مع التراث خارج الإطارات الإيديولوجية السائدة . يصرح الأستاذ الجابري في المدخل العام للكتاب؛ بأن قراءته للتراث ستكون معاصرة؛ و هي معاصرة بمعنيين: من جهة تحرص على جعل المقروء معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية و المحتوى المعرفي و المضمون الإيديولوجي. و من هنا؛ معناه بالنسبة لمحيطه الخاص. من جهة أخرى تحاول هذه القراءة أن تجعل المقروء معاصرا لنا؛ و لكن فقط على صعيد الفهم و المعقولية؛ و من هنا؛ معناه بالنسبة لنا نحن.(4) و يشرح الأستاذ الجابري ذلك بقوله: " جعل المقروء معاصرا لنفسه معناه فصله عنا .. و جعله معاصرا لنا معناه وصله بنا.. قراءتنا تعتمد –إذن- الفصل و الوصل كخطوتين منهجيتين أساسيتين" (5) إن خطوة الفصل؛ تسعى إلى التخلص من "البطانة الوجدانية" التي ترتبط غالبا بالتقوقع الإيديولوجي؛ الذي يسعى إلى تحميل التراث ما لا يتحمل. و بذلك تكون خطوة أساسية للمرور إلى خطوة الوصل. باعتماد هذا المنظور؛ يعود الأستاذ الجابري للدخول في نقاش منهجي مع مجموع القراءات المقدمة للتراث في الثقافة العربية؛ و يصرح بداية بأن هذه القراءات كلها سلفية؛ لم تتخلص بعد من (البطانة الوجدانية) في قراءتها للتراث؛ بما يعنيه ذلك من غياب المقاربة العلمية و تعويضها بالمقاربة الإيديولوجية؛ التي تقرأ التراث؛ ليس كنص مستقل بذاته؛ و لكن كامتداد للتصور الإيديولوجي المعتمد في القراءة . بالنسبة للقراءة السلفية للتراث؛ فهي –حسب الأستاذ الجابري- قراءة لا تاريخية؛ و بالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث؛ هو الفهم التراثي للتراث . (6) بالنسبة للقراءة الليبرالية للتراث؛ فهي قراءة أورباوية النزعة؛ و ذلك لأن الليبرالي العربي ينظر إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحياه حاضر الغرب الأوربي؛ و لذلك فإن هذه القراءة لا تعدو أن تكون سلفية استشراقية. (7) بالنسبة للقراءة اليسارية؛ فهي تنتهي إلى سلفية ماركسية؛ و ذلك لأن الفكر اليساري العربي المعاصر؛ لا يتبنى المنهج الجدلي كمنهج للتطبيق؛ بل يتبناه كمنهج مطبق. (8) و حينما يسعى الأستاذ الجابري إلى الدخول في نقاش مع مجموع هذه القراءات؛ فهو يؤكد أنه لا يهتم بأطروحاتها؛ و إنما بطريقة التفكير التي تنتجها. و حينما يعتبرها موحدة؛ فهو يقصد وحدة آليات إنتاج الخطاب فيها لا الخطاب في حد ذاته؛ و هذه الآليات لا تعبر عن استقلال تاريخي للذات المفكرة؛ و لكنها على العكس من ذلك تؤكد على سلطة النموذج (السلف) الذي يتحكم في إنتاج المعرفة حول التراث . و هذا ما جعل هذه القراءات -حسب الأستاذ الجابري- تعاني من آفتين: آفة في المنهج؛ فهي تفتقد الحد الأدنى من الموضوعية. آفة في الرؤية: فهي تعاني كلها من غياب النظرة التاريخية.(9) 3- في نقد تيارات الخطاب العربي المعاصر إذا كان الأستاذ الجابري في كتابه (نحن و التراث) قد دخل في حوار نقدي مع مجموع القراءات المعتمدة في تلقي التراث؛ وخلص إلى كونها تجتمع عند الطابع السلفي على مستوى آليات إنتاج الخطاب؛ فإن قراءته للخطاب العربي المعاصر؛ لا تنأى بعيدا عن المقاربة الأولى؛ سواء في علاقة بالخطاب النهضوي أو الخطاب السياسي أو الخطاب القومي أو الخطاب الفلسفي. و ما يبدو واضحا؛ هو أن الأستاذ الجابري ركز كل اهتمامه على تحليل الخطاب؛ للكشف عن الآليات المتحكمة في إنتاجه؛ و ذلك في مقابل الانشغال بالتصنيفات الأيديولوجية التي تنتج هذا الخطاب؛ لكن حضور التشكيلات الإيديولوجية في الخطاب العربي المعاصر؛ سواء أكان نهضويا أم سياسيا أم فلسفيا؛ كان واضحا على مستوى التحليل. يقول الأستاذ الجابري عن قراءته للخطاب العربي المعاصر؛ بأنها قراءة تشخيصية؛ بمعنى أنها ترمي إلى تشخيص عيوب الخطاب؛ و ليس إلى إعادة بناء مضمونه؛ و ليس إلى إبراز الأعراض التي تشير إلى جوانب الجدة فيه. و يضيف الأستاذ الجابري: إن ما يهمنا من هذا الخطاب الحديث و المعاصر؛ ليس مضمونه الأيديولوجي؛ ولا محتواه المعرفي؛ بل كل ما يهمنا فيه هو كونه يحمل علامات العقل الذي ينتجه. (10) إنها القراءة الابستملوجية للخطاب العربي المعاصر (علامات العقل) و التي لا تهتم بالمحتوى المعرفي و لا بالمضمون الإيديولوجي؛ و لكنها تركز على الآليات المتحكمة في إنتاج الخطاب؛ و هي آليات موحدة بتمظهرات إيديولوجية متعددة؛ لكن هذا التعدد في القوالب؛ لا ينجح في التمويه عن المشترك بينها. إن مجموع أشكال الخطاب العربي المعاصر –حسب الأستاذ الجابري- تشترك في كونها ترتهن إلى نموذج سابق عليها (السلف) سواء كان هذا السلف موجودا في الماضي (النموذج السلفي) أو في الحاضر (النموذج الليبرالي و اليساري)؛ و هذا ما يفقدها استقلاليتها للانشغال بقضايا الراهن . " إنه عندما تكون السلطة المرجعية واقعة خارج الواقع و تقدم نفسها كأصل؛ أي كنموذج –سلف- فإن الفعالية الفكرية تكتسي شكل قياس فقهي؛ قياس الفرع على الأصل أو الغائب على الشاهد؛ و الشاهد هنا هو ما يقدمه النموذج السلف؛ أما الغائب فهو القضايا المستجدة . (11) هكذا يكون الخطاب العربي المعاصر بمختلف تشكيلاته الإيديولوجية واقعا تحت سلطة مرجع خارجي؛ و هذا يحول مجموع الخطابات الإيديولوجية السائدة إلى كوابيس و أوهام لا ترتبط بالواقع؛ بل تستمد وجودها من سلف موجود مسبقا؛ لكنه غريب عن مجال التفكير. و يستخلص الأستاذ الجابري بمنتهى الموضوعية العلمية؛ أن هناك غياب أية علاقة بين الفكر و الواقع في الإيديولوجيا العربية المعاصرة؛ مما جعل الخلافات النظرية و الإيديولوجية؛ لا نتيجة الاختلاف في تأويل الواقع و تفسيره؛ بل نتيجة اختلاف السلطة المعرفية المعتمدة كمرجع. و بعبارة أخرى فإن الخطاب العربي المعاصر لا يطرح قضايا الواقع الملموس؛ بل قضايا تقع خارج الواقع؛ قضايا مستعارة من النموذج –السلف- دوما. و بذلك تنحو الممارسة النظرية إلى ممارسة كلامية؛ في مفاهيم مجردة فارغة من أي محتوى واقعي؛ الشيء الذي يجعلها تنقلب إلى شكل من التضليل والتعتيم. (12) 4- من تفكيك آليات إنتاج الخطاب إلى نقد الممارسة العملية .. الكتلة التاريخية و رهان تأجيل الصراع الإيديولوجي سواء في علاقته بمناهج قراءة التراث؛ أو في علاقته بالخطاب العربي المعاصر؛ كان الأستاذ محمد عابد الجابري يسعى إلى تفكيك الخطاب العربي؛ للكشف عن الآليات المتحكمة في بنائه. و قد كان الأستاذ الجابري بعمله هذا؛ في نفس الآن؛ يبحث في المعيقات التي عرقلت توجه العالم العربي نحو العقلنة و الديمقراطية أي نحو الحداثة بتعبير أوضح؛ و هي معيقات لا ترتبط فقط بالواقع العملي؛ سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا؛ بل ترتبط جوهريا بالآليات المتحكمة في إنتاج الخطاب؛ و من ثم المتحكمة في الممارسة العملية . إن جوهر المشكل –حسب هذا التحليل- ليس بتاتا في التراث أو في الحداثة كخطاب؛ المشكل الحقيقي في آليات تفكيرنا في التراث و في الحداثة؛ إذا تم بناء هذه الآليات بناء علميا يستثمر منجزات البحث العلمي الحديث؛ يمكن أن نحل مجموعة من الإشكالات التي عرقلت مساراتنا على مستوى التفكير و الممارسة؛ و منها إشكالية التراث و الحداثة التي أخذت من زمننا الفكري و السياسي قسطا كبيرا؛ و خلقت أحلافا فكرية و سياسية متصارعة؛ بينما المشكل ليس في التراث كما ليس في الحداثة؛ لأنهما معا؛ ليسا منجزين منسجمين و مكتملين؛ بل كل مكون منهما؛ إذا خضع لآليات علمية في التفكير يمكن أن يصنع التقدم؛ و إذا خضع لآليات عقائدية دوغمائية؛ يمكن أن يصنع التخلف. عندما فكرت أوربا في تراثها بمناهج علمية حديثة؛ تحول التراث اليوناني/الروماني/المسيحي إلى قوة دافعة للنهضة الأوربية؛ و عندما جاء العرب و فكروا /مارسوا الحداثة الأوربية من منظور عقائدي دوغمائي؛ تحولت هذه الحداثة (بليبراليتها و يساريتها) إلى حجر عثرة في طريق التقدم و التطور؛ لأنها صنعت إنسانا معاقا مستلبا؛ لا يمتلك آليات علمية للتفكير و بناء الخطاب و تجسيد الممارسة. حينما طرح الأستاذ الجابري؛ مفهوم الكتلة التاريخية؛ كان متشبعا بهذه الروح الفكرية؛ و لم يكن سياسيا (بالمعنى العملي للسياسة). و لذلك يكون من التهافت الفكري؛ إفراغ هذا المفهوم من شحنته الفكرية؛ و التلاعب به في الساحات السياسية عربيا أو وطنيا (كما يفعل بعض أدعياء الفكر و الصحافة في المغرب). (13) عندما طرح الأستاذ الجابري هذا المفهوم لم يكن يساريا و لم يكن ليبراليا و لم يكن سلفيا؛ بالمعنى الأيديولوجي الضيق لليبرالية و اليسار والسلفية؛ لقد كان مفكرا منشغلا برهان الاستقلال التاريخي للأمة العربية؛ و لا يمكن تحقيق هذا الرهان في ظل ممارسة سياسية معاقة؛ لا تمتلك تصورات إيديولوجية يغلب فيها الموضوعي على الذاتي؛ و من ثم لا تمتلك مشاريع مجتمعية واضحة. إن السياسة التي تعتبر محرك الدولة و المجتمع؛ تعاني في العالم العربي من اغتراب على مستوى النظرية و من ثم على مستوى الممارسة. هل يمكن-إ ذن- اعتبار الكتلة التاريخية؛ حلا ناجعا لخروج من الإعاقة و الاغتراب الإيديولوجي/السياسي ؟ ألا تشكل الكتلة التاريخية خطرا –في حال تحققها- على التمايز الأيديولوجي في المجتمع؛ و من ثم فرض نموذج واحد باسم المصلحة العليا للوطن و الأمة ؟ كيف يمكن الجمع بين تشكلات إيديولوجية؛ تبدو متناقضة و متصارعة أحيانا ضمن كتلة واحدة؟ أليس هذا حلما جميلا لا مجال لتحققه على أرض الواقع ؟ هناك الكثير من الإشكالات التي تفرض نفسها على الباحث؛ عند الاقتراب من مفهوم؛ يتداخل فيه السياسي بالفكري كما تتداخل فيه الممارسة بالتنظير. لكن المدخل الأساسي لمقاربة هذه الإشكالات؛ هو مدخل فكري بالضرورة. نقول هذا لأننا على يقين تام؛ بما يمكن أن يصيب هذا المفهوم من تشوه؛ إذا تم الزج به في متاهات السياسة –بمعناها المصلحي الضيق- . إن الأستاذ الجابري؛ حينما طرح مفهوم الكتلة التاريخية؛ لم يكن يفكر في الواقع الحزبي؛ بقدر ما كان منشغلا بتأجيل الصراع الإيديولوجي داخل المجتمعات العربية؛ لأنه كان مدركا أن هذا الصراع لا يرتبط بالواقع العملي كما لا يرتبط بإشكالات الراهن؛ إنه صراع إيديولوجي مستورد؛ إما من الماضي و إما من حاضر الآخر(الغربي/الشيوعي) ؛ و من ثم خطورته على الوعي السياسي الرائج؛ الذي سيسقط حتما في استلاب aliénation سيعرقل أي تفكير في الإشكالات الحقيقية و الواقعية التي تعانيها المجتمعات العربية؛ و هي إشكالات تتجاوز مستوى صراع السلفي ضد الليبرالي و اليساري؛ إلى مستوى صراع جميع هذه الأطياف الإيديولوجية ضد الاستبداد و التسلط و الفساد داخليا؛ و ضد التحكم في القرار الوطني و استغلال خيرات الأمة و عرقلة مشروعها الحضاري خارجيا . و لا يمكن مواجهة هذه التحديات الخطيرة جدا؛ إلا عبر كتلة تاريخية تجمع كل الخبرات و الكفاءات بمختلف انتماءاتها الإيديولوجية؛ لبلورة مشاريع مجتمعية واضحة؛ تخدم مصالح الأوطان و الأمة. لقد كان الأستاذ الجابري على تمام الوعي؛ بأن المدخل الوحيد لبلورة مشاريع مجتمعية واضحة و قابلة الإنجاز؛ هو تأجيل الصراع الأيديولوجي؛ إلى حين تشكل منظومات إيديولوجية متباينة؛ لكنها مرتبطة بالواقع العربي الراهن و قادرة على معالجة إشكالاته. و من هنا يرى الأستاذ الجابري؛ أن في الواقع العربي الراهن بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية "حديثة" تجد تعبيرها الإيديولوجي في فكر "النخبة العصرية" وطموحاتها، وإن في الواقع العربي الراهن كذلك بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية "تقليدية" تجد هي الأخرى تعبيرها الإيديولوجي في فكر "النخبة التقليدية" و مخايلها. ومن هنا النتيجة الحتمية التالية: إن أي حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح، أسبابه الذاتية الداخلية وهي الأساس، إلا إذا انطلقت من الواقع العربي كما هو وأخذت بعين الاعتبار الكامل جميع مكوناته، "العصرية" منها و"التقليدية"، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منها و الأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد... صفوف المصلين. (14) و حينما يدعو الأستاذ الجابري إلى تأجيل الصراع الإيديولوجي؛ في الثقافة العربية؛ فهو في نفس الآن يدعو إلى الدخول في مراجعات إيديولوجية؛ عبر تغليب الجانب الموضوعي؛ باعتباره تحليلا علميا للواقع الاجتماعي السياسي الثقافي؛ على الجانب الذاتي؛ باعتباره نزوعا نحو المصالح و الرغبات و التطلعات. إن أي فشل في تحقيق هذه المراجعات؛ يعني بالضرورة؛ سيادة اغتراب إيديولوجي سيؤثر –لا محالة- على الممارسة السياسية؛ و بالتالي على الواقع العملي؛ اقتصاديا واجتماعيا و ثقافيا . على سبيل الختم إذا كان الأستاذ محمد عابد الجابري قد استعار مفهوم الكتلة التاريخية من المفكر الإيطالي (انطونيو غرامشي) على مستوى الدال؛ فإنه نجح في بلورة مدلول خاص للمفهوم؛ في علاقة بالفضاء الثقافي والسياسي العربي؛ كما نجح الأستاذ و بشكل باهر؛ في توظيف الابستملوجيا –بطريقته الخاصة- لتفكيك آليات بناء الخطاب في الثقافة العربية؛ و منه تفكيك الخطاب و نقد الممارسة العملية . و إذا كان الأستاذ الجابري قد خلص؛ من خلال ممارسته النقدية؛ إلى كون المنظومات الإيديولوجية في الثقافية العربية؛ تعاني قصورا ذاتيا؛ أدى بها إلى الاغتراب في الماضي أو في حاضر الآخر (الغربي/الشيوعي)؛ فإن دعوته إلى الكتلة التاريخية ليس حلا نهائيا لهذه المعضلة الفكرية؛ بل حل مؤقت؛ في انتظار نضج الممارسة العملية؛ لتكون قادرة على بلورة أنساق إيديولوجية؛ تستجيب لمعايير الواقع العربي زمنيا و مكانيا . و ذلك لأن العالم العربي –كغيره من أمم العالم- في حاجة إلى مشاريع فكرية و سياسية متنوعة المشارب و الأفكار؛ تساهم في إثراء الممارسة العملية؛ لأنه لا صلاحية دائمة لأي مشروع فكري أو سياسي؛ مادام الفكر البشري نسبيا في جوهره. (**) قدمت هذه المداخلة ضمن ندوة (مفهوم الكتلة التاريخية في فكر الجابري) التي نظمتها مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة. و التي تم تنظيمها يوم الاثنين 12 دجنبر 2011 برحاب المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط. الهوامش: (**) قدمت هذه المداخلة ضمن ندوة (مفهوم الكتلة التاريخية في فكر الجابري) التي نظمتها مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة . و التي تم تنظيمها يوم الاثنين 12 دجنبر 2011 برحاب المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط. 1- الدكتور محمد عابد الجابري- الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية-مركز دراسات الوحدة العربية – ط: 5- 1994 – ص: 201 2- نفسه - ص: 200-201 3- نفسه-ص: 201 4- الدكتور محمد عابد الجابر - ينحن و التراث: قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي – المركز الثقافي العربي- ط: 6 – 1993- ص:11-12 5- نفسه- ص: 12 6- نفسه – ص: 12 7- نفسه – ص: 14 8- نفسه- ص:15-16 9- نفسه- ص: 16 10- الخطاب العربي المعاصر- مرجع سابق- ص: 12-13 11- نفسه- ص:202 12- نفسه – صك201-202 13- أنظر: عبد الحميد جماهيري- عابد الجابري الناطق الرسمي باسم حكومة بنكيران – جريدة الاتحاد الاشتراكي – بتاريخ:16-12-2011 14- محمد عابد الجابري- مجلة اليوم السابع الفلسطينية الصادرة في باريس- ع: 26 أكتوبر 1987