كي، كان يجد امتداده الثقافي والفكري والسياسي في تطورنا الداخلي، فلقد كنا نعيش نفس الأسئلة وبقدر ما نفس التناقضات. ولذلك لا غرابة في أنه بعد حوادث 3 مارس، انتصب سؤال الديمقراطية أمامنا وبقوة ويقينا أن نتائج المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي والمقالات التي كتبها معلمنا الكبير في تفسيرها، وسجالاته دفاعا عن النهج الديمقراطي، شجعتنا على المضي الى الحد الأقصى في المراجعة النقدية التي قمنا بها وبتوازي مع ما كان يجري في الاتحاد. يصعب علي الكلام، ومشاعر الألم والفجيعة تخنقني لهول ما أصابنا بفقدان هذا المعلم العملاق، المناضل والمفكر، عابد الجابري. فكلما تأملنا في هذا «الغياب» إلا وزدت ألما وقلقا من هول «الفراغ» الهائل الذي سيتركه رحيله عنا. لقد شكل الراحل، بفرادة وسلاسة وغزارة إنتاجه، وحدة بصيرته، وارتباطه العضوي بهموم الناس وهموم أمته، «حزبا قوميا» قائما بذاته. إذ لا أحد من المفكرين، في ظني، علا صيته على امتداد الوطن العربي، علو صيته. ولا أحد، كان يجد فيه، القومي والإسلامي والماركسي، مخاطبه ومحاوره ومرافقه الدائم في كل همومه السياسية والفكرية، الوطنية والقومية والعالمية، التكتيكية والاستراتيجية، اليومية والتاريخية، مثلما كان عليه هذا المعلم الكبير عابد الجابري. لقد كان بالفعل «التركيبة الجدلية» لهم جميعا، وكان لهم بحق «المثقف العضوي» بامتياز. لقد طُلب مني أن أشارك وأقدم ما يقارب «شهادة» عن بصمات معلمنا الكبير على التطور الفكري والسياسي لجيل من اليسار، وخاصة منه يسار السبعينيات. لكن ضيق الوقت، لم يسمح لي بكتابة موسعة ومدققة وموثقة كلما أمكن. فما كان مني إلا أن أفرغت بعضا من ما بقي لي في الذاكرة وفي القليل من العناوين والكلمات. ولأن الموضوع هو أقرب الى الشهادة، فسيعذرني القارئ إن زجيت بنفسي قليلا في ذكر واقعتين شخصيتين جمعتاني مع معلمي الكبير، جاعلا منهما علامة فارقة في هذه الشهادة. وآمل من القارئ أن يأخذ شهادتي، كما هو مفترض مجرد قراءة من قراءات ممكنة ومتعددة لدى مناضلي هذا الجيل. ومادام الشيء بالشيء يذكر، كما يقال. فإن المجموعة التي كنت أنتمي إليها في جيل يسار السبعينات، كانت من صنف القراء «النفعيين» المتفتحين، الذين يأخذون ثمن أي مشروع فكري مايرونه نافعا لهم، ويتركون ما يخالف قناعاتهم. لم يكونوا بطبيعة الحال من أصحاب المشاريع الكبرى أو من المتعصبين لإحداها. رغم تبنيهم للإيديولوجيا الماركسية اللينينية. ولا هم كانوا من الأكاديميين الذين يهتمون بجوانب «تقنية» في التسلسل المعرفي لاختصاصاتهم، وقد لا يكون لهؤلاء تصور أيديولوجي شامل على غرار ما كنا عليه. إتياني بهذه الملاحظة له سياقه في شهادتنا، بالنظر الى الاهتمام الكبير الذي حدثته أطروحات العروي على الشباب اليساري وقتذاك. والحق في نظري، بصرف النظر عن أهمية وضرورةالنقاش الثقافي، أن أطروحات العروي لم تكن حينها بهذا الصدى الواسع لدى هذا اليسار إلا في بداية الثمانينات. ولازلت أذكر المناقشات المتحفظة التي أجريناها في مجلة أنفاس حول كتاب عبد الله العروي «الإيديولوجية العربية» المعاصرة والتي في مناخها المتحفظ ذاك أجرى الأخ «البردوزي» حوارا للمجلة مع عبد الله العروي في ضوء هذا الكتاب. المهم، أن هذه المقالة السجاليةلفقيدنا لقيت ترحيبا واسعا في صفوف هذا الجيل اليساري. لن أشرح هنا كل الأفكار التي استقطبت اهتمامنا في حينها، إلا أن واحدة منها على الأقل، فضلا عن الالتزام الماركسي «الأرثوذوكسي» للمقالة، كانت بلا ريب جاذبة لعقول الشباب، وبالتحديد تأكيد المقالة على أن التحديث والتقدم ينبعان من خلال النضال الشعبي الملموس والشامل من أجل تغيير نظام التبعية للاستعمار الجديد، ومن أجل إقامة البديل الاشتراكي، بما يحقق التحرر والمصالح الشعبية، وأن واجب المثقف هو الانخراط في هذا النضال الشمولي، السياسي الاقتصادي والاجتماعي الثقافي، لا الانعزال عنه. كان ذلك، في مقابل ما كنا نرى فيه وقتذاك نزعة ثقافوية نخبوية في الطرح الآخر. هل غير الفقيد هذه الرؤية السياسية النضالية للمثقف، بعدما انشغل بالكامل بالعمل الفكري؟ لعل الكثيرين ممن يكتبون عنه يعتقدون ذلك، وينشرحون له بنية مسبقة، بل منهم من أرجع الفضل في ثراء ودسامة إنتاجه النظري الأخير لحسنات انصرافه عن العمل السياسي الحزبي المباشر. ومنهم من جعل من هذا «الانصراف» «قانونا اجتماعيا» من صلب طبيعة «تقسيم العمل» بين المثقفين والعامة. فالسياسة في نظرهم تأكل العقول المفكرة، وتشغلهم وتلهيهم عن مهمتهم الوحيدة، ألا وهي الإنتاج الفكري والثقافي! مع أن الرجل لم يصرح يوما في كل كتاباته القديمة والأخيرة بمثل هذا الطرح، ولم يجعل من ابتعاده «النسبي» عن العمل الحزبي المباشر قاعدة مثلى لعلاقة المثقف بالسياسة وبالعمل الحزبي، بل كان يعتز بأن التدريس والسياسة والفكر لديه مجالات تتكامل مع بعضها ولا تتعارض في حياته العملية. ولا نحتاج لذكر عشرات الأسماء لمفكرين فطاحلة ومن عيار تاريخي، ومع ذلك كانوا ملتزمين ونشطاء سياسيين أو حتى قادة حزبيين. وكم آمل يوما أن يكتب أحد منا عن تأثير الممارسة السياسية في إنتاجات الراحل وحتى في تلك الأكثر تجريدا فكريا، فلاشك أنه سيكشف الكثير، ومنه، صقل العقل وتنمية النظر العقلاني الواقعي... خطورة ذلك الطرح «الانعزالي» أنه يؤدلج لوضعية اللاتسييس التي يعاني منها الأمرين مجتمعنا المغربي والعربي عامة. وخطورته في أنه يدعم «التفكيك المجتمعي» الجاري على قدم وساق في هذا الوضع المعولم. بينما كان المطلوب أن يكون عابد الجابري الذي لم يفارق السياسة فقط، ومواقفه الجريئة في كل القضايا والأحداث السياسية الساخنة شاهدة على ذلك، والذي لم يتخل قط عن حزبيته، حتى وهو في عز انشغالاته الفكرية كان على تماس دائم مع هموم الحزب ومعضلاته... قلت، بينما كان المطلوب والرجل على هذا النموذج أن يكون مثالا للمثقف العضوي الثوري الذي ينبغي أن يحتذى به... لم يسعفني الحظ أن أجالس هذا المعلم الكبير إلا قليلا. أذكر من هذا القليل، وبوجه خاص، لقائي به صحبة الأخ محمد المريني في باريس وفي بيت معلمة أخرى ثقافية ونضالية فارقت هذه الحياة، وكان من أعز أصدقاء الراحل، وهو الفقيد الباهي محمد. في هذه الجلسة، تحدث الأخ الباهي بنوع من الإطراء عن مقالة نشرتها وقتذاك في جريدة أنوال وفي عددها الثاني من سنة 1979 وتحت عنوان «الوعي الديمقراطي والوعي المتأخر». وفي هذه المقالة كانت آثار قراءتنا للعروي بارزة في «مقولة التأخر المجتمعي والتثمين الإيجابي للفكر الليبرالي التأسيسي، واسترجاع فكرة النهضة وإعطاء أهمية محورية لدور الثقافة» والتلميح للكتلة التاريخية... كانت هذه الصفات أول تعبير عن الوعي الجماعي الجديد الذي توصلت إليه منظمة 23 مارس بعد المراجعة النقدية التي قامت بها، والتي بدأناها في أعقاب فشل ما كان يسمى بحركة 3 مارس، وكذلك من خلال الجدل الذي تمخض داخل اليسار عن القضية الوطنية. كان رد الجابري في هذا اللقاء، والذي بدا عليه أنه قرأ تلك المقالة، وبعد الإطراء الذي أبداه الأخ الباهي، ردا جافلا الى حد ما وبما معناه «لقد قلنا ونبهنا الى ذلك مرارا وتكرارا»... سقت هذه الواقعة لأقول، إن الارتباط التاريخي لمجموعتنا بالاتحاد الاشتراكي، كان يجد امتداده الثقافي والفكري والسياسي في تطورنا الداخلي، فلقد كنا نعيش نفس الأسئلة وبقدر ما نفس التناقضات. ولذلك لا غرابة في أنه بعد حوادث 3 مارس، انتصب سؤال الديمقراطية أمامنا وبقوة ويقينا أن نتائج المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي والمقالات التي كتبها معلمنا الكبير في تفسيرها، وسجالاته دفاعا عن النهج الديمقراطي، شجعتنا على المضي الى الحد الأقصى في المراجعة النقدية التي قمنا بها وبتوازي مع ما كان يجري في الاتحاد.. الشيء الذي أثمر في الأخير الخط الديمقراطي المتميز الذي عبرت عنه منظمة العمل الديمقراطي الشعبي في إطار الشرعية القانونية. إن فضل المعلم في تعميق هذا النهج لفضل كبير، خاصة بعد قراءتنا لكتبه في الخطاب العربي المعاصر ووجهة نظر والمشروع النهضوي العربي. وأمهات مشروعه الفكري الخمس.. إلخ. وإذا أمكن لي أن أوجز هذا الدور في كلمات قليلة لقلت إنه: بيأ مفاهيمنا[في الحداثة والتحليل المجتمعي والديمقراطية] وقعدها على مادة تاريخية ومعرفية تحليلية غنية وصلبة. مرننا على التفكير في الواقع بالواقع، لا خارجه ولا فوقه. وبالتالي عودنا على التخلص من الاسئلة المزيفة، وعلى التمييز بين الرغبة والحلم الإيديولوجي، وبين السيرورة الواقعية الممكنة. وتّر انتباهنا لكل «الخصوصيات»دون الانغلاق على ما هو عام في التجربة الانسانية في عملية إخصاب وتلاقح وإبداع مستمرة. وأريد في هذه العجالة أن أقف عند قضية، أعتبرها هامة في بصمات المعلم على مسارنا الإيديولوجي، وهي إشكالية «الكتلة التاريخية». لقد كان الجابري أول من استعاد هذا المفهوم الغرامشي في حلبة التداول الإيديولوجي والسياسي. وإن لم يفصل فيه إلا بعد زمن ومن يقرأ الوثيقة التأسيسية لمنظمة العمل ومقالات جريدة أنوال في سنواتها الأولى سيجد اهتماما خاصا بهذه الإشكالية. وسيتولى الراحل بسط مفهومه عن الكتلة التاريخية في أكثر من مرة، مركزا على الشروط والأهداف التي تستوجب إقامتها بين التيارين الكبيرين في الساحة العربية، بتلاوينها المختلفة (الحداثيون والاسلاميون). وقد يلاحظ المهتم، أنه إذا كان المشترك بين الطرحين، تجنبهما للمعيار الطبقي، وهو الأساس في المفهوم الماركسي الكلاسيكي، باعتبار اختلاط الوضع الطبقي لدينا وعدم نضجه، وباعتبار أن الهدف هو التحرر من السيطرة الامبريالية مع إنجاز الدمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية، فإن ما كان يميز بين الطرحين، أن أطروحة الجابري ركزت على المعيار السياسي، بينما ركزنا في طرحنا آنذاك، إضافة للمعيار السياسي، على المعيار الايديولوجي كما هو في المفهوم الغرامشي الأصلي، أي أن الكتلة التاريخية ينبغي أن تكون حالة لإيديولوجية حداثية تغير جذريا في البناء الفوقي مع تغييرها للبناء التحتي. لكن هذا التميز في المفهوم في الواقع لدينا صوريا وشكليا. وبينما غاص الرجل بعيدا وعميقا في تأسيس هذه الإيديولوجية المشتركة بين التيارين المكونين للكتلة التاريخية، وهذا ما لا يستطيعه إلا مفكر وخبير كبير من عيار الراحل عابد الجابري. ونأتي في الأخير الى المأثرة الكبرى له علينا وعلى غيرنا. وهنا أيضا لابأس في هذه الشهادة من أن أذكر شيئا عن لقاء ثان مع الفقيد. كان ذلك في بداية الثمانينات عندما أقام منتدى «فكر وحوار» مناظرة كبرى، حضرها العديد من المفكرين العرب وتناولت موضوع التراث والسياسة. ولأني كنت عضوا في مكتب هذا المنتدى، فلقد أتيحت لي الفرصة لأكون مسيرا للجلسة التي سيتدخل فيها كل من الراحل عابد الجابري والمناضل الصحفي طلال سليمان من لبنان. وقبل هذه الجلسة، كنت قد قدمت أيضا مداخلة في الموضوع، ومن جملة ما قلته في تلك المداخلة المتواضعة، أني سجلت اعترافا صريحا بقلة درايتنا بالتراث العربي الاسلامي مبررا، ذلك، بأن رجال الفكر المختصين لم يتركوا لنا ذخيرة جيدة نعتمدها في ممارستنا السياسية. تسجيل هذا الاعتراف في نظري، كان يبين كيف كان اليسار التواق الى الحداثة والملتزم بخياراتها، يعاني في وعيه من غربة موحشة في ثقافته التراثية، والتي بدونها تبقى خياراته الحداثية فاقدة الجدوى والفاعلية. طوال تجربتنا اليسارية لم تتخذ مجموعتنا إطلاقا موقفا عدائيا أو استفزازيا من الدين. فلقد كنا على اطلاع جيد بالموقف الماركسي الأصيل في هذه المسألة، والذي يعطي كل الأولوية لنقد الشروط الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الأرض، لا للتطلعات الإنسانية الجائلة في السماء. وفضلا عن هذا الموقف الماركسي المبدئي، فنحن كنا واستمررنا من أبناء الحركة الوطنية الشعبية، ونعرف جيدا مكانة الدين الاسلامي في العمق المجتمعي وفي القعر الإيديولوجي لهذه الحركة. لكن هذا الوعي الصحيح في مبدئيته يبقى مع ذلك فارغ المحتوى في جوانيته. كان لابد أن يأتي عالم كبير من طراز عابد الجابري ليمتلئ هذا المحتوى بالمعرفة الحداثية الضرورية بتراثنا العربي الاسلامي. عديدون هم الذين انتقدوا هذا النهج التراثي النقد العقلاني الذي صال فيه وجال هذا المعلم الكبير، معتبرين إياه نهجا توفيقيا إيديولوجيا بالمعنى السلبي للكلمة. والحقيقة أنيي لا آبه كثيرا لمثل هذه الأحكام، وإن كنت أستفيد من بعض الانتقادات التي تصوب معلومة أو حكم قيمة قاسيا أصدره الجابري في هذه القضية أو تلك من معضلات البحث القيمي في التراث.. لأني واثق من أن «القطيعة» الإبستمولوجية إن كانت سهلة ومريحة على مستوى الذهن أو العقل، فهي غير ممكنة بعد على مستوى جدلية التاريخ الملموسة والواقعية. ولذلك تنطوي كل المناهج الفكرية المختلفة الراهنة على قدر من «التوفيقية» حتى ولو زعمت غير ذلك. لقد فتحت أمامنا اجتهادات عابد الجابري فضاءات ثقافية فسيحة تشدنا بقوة الى ثقافة هذا الوطن وهذه الأمة على امتداد تاريخ الحضارة العربية الاسلامية. والفضل يعود له في إعادة تنظيم شتات أفكارنا عن هذا التراث في الوجهة التي تقتضيها ممكنات النهضة العربية من جديد. لقد أصبح لدينا بما تركه الجابري، رفقة اجتهادات أخرى لمفكرين عرب حداثيين بحق، رصيد ومخزون فكري هائل، لم يعد أمامه مقبولا التذرع بشحة الذخيرة كما كنا عليه في بداية السبعينات. فلا عذر للممارسين وللمثقفين للاستثمار في جهلهم أو تجاهلهم للتراث الحضاري العربي الاسلامي، سوى أنهم الدليل القاطع على الاغتراب الفكري المضاعف، كنبتة وحشية من نباتات الهجوم الكاسح للأيديولوجية الرأسمالية المتوحشة. وأختم هذه الشهادة بكلمات أعتبرها وصية لنا من الراحل الكبير عابد الجابري «إنه لابد من الامتلاء بالثقافة العربية والتراث العربي الاسلامي عند الخوض في الحداثة الأوربية الحديثة وقضاياها وإمكانية تبنيها أو اقتباس شيء منها. فالامتلاء بالثقافة العربية الاسلامية، وهي ثقافتنا القومية، هو امتلاء الهوية، وبدون هوية ممتلئة بمقوماتها يكون الانفتاح على الثقافات الأخرى، خاصة المهيمنة منها، مدعاة للانزلاق نحو الوقوع فريسة الاستلاب والاختراق». وصدق من قال، معظم الناس يموتون والمفكرون الكبار يرحلون، لأن وصاياهم تبقى حية مع الأحياء. لابد من الامتلاء بالثقافة العربية والتراث العربي الاسلامي عند الخوض في الحداثة الأوربية الحديثة وقضاياها وإمكانية تبنيها أو اقتباس شيء منها