حين سمعت خبر رحيل أخينا الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري، لم أصدق. لم أصدق نفسي في الواقع كما ظل يحدث لي في السنوات الأخيرة، كلما رحل كبار أحببتهم وانتميت إلى أفقهم الفكري أوالإبداعي أوالنضالي أو الإنساني. ولعلها المضاضة نفسُها التي كان طعمها في اللسان مرٍّا، وكان وقعها على النفس انكسارٍّا كاتم النبرة عصيَّ الدمع، عندما رحل عبد الرحيم بوعبيد، وعندما رحل محمد باهي، وعندما رحل محمد القاسمي، وعندما رحل أخيرا الشاعر الكبير محمود درويش... وآخرون من الجغرافيا العربية، ومن خارجها أحيانا. تلك اللحظة العسيرة التي تستشعر فيها فراغ الكلمات التي تقولها لتعزي النفس، ولتقتسم الألم مع من تحبُّ، والتي تفقد فيها القدرة على قراءة بعض الكتابات التي يسارع إلى نشرها من يستسهلون الحدادَ ويرتجلون «الصداقات» مع الموتى. تلك اللحظة المُرّة التي تفقدُ فيها مرجعاً كما تفقد ذراعًا اتكأتَ عليها طويلاً، وتدفن فيها عزيزا كما تدفن فيها أحد أطراف جسدك. تلك اللحظة اليت ينزل فيها خبر الموت كحبّة البَرَد على لحمك فيشتعل كيانك كله. اللحظة الطويلة التي يتواصل فيها رنين الاسم الذي تفقده، فيظل يتردد صوته في أذنك، وتتراقص أمام نظرتك الأَسِيانة مجموع صُوَره، وصورك معه، والجلسات، والندوات واللقاءات، والأسفار، والعبارات، والنصوص، والمداعبات، والمواقف، والمنعطفات، والحوارات الفكرية، والحوارات الإعلامية، واللقاء الأَول، والمكان الأول، ثم اللقاء الأَخير، وآخر الكلمات، وآخر الإيماءات... سيتحدث الأصدقاء الحقيقيون عن محمد عابد الجابري، وسيتحدث زملاؤه وطلابه في الجامعة وفي الثقافة وفي الحياة، وسيتحدث عنه إخوته الصادقون الأصفياء في الحزب،سيتحدثون عن كثير من المشترك الرائع الذي اقتسموه معه، ولهم الحق في ذلك مثلما لقرائه الحق أيضا، فقد كان ملكا جماعيا لكل الناس، لأنه منح عمره كله وانتدب نفسه كلها للآخرين ولبلاده ولأمته العريضة من الماء إلى الماء، ومن ثم هذا الارتباك في أن لا تجد ما تقوله هنا والآن، وألا تجد ما تكتبه الأيام الأولى عقب رحيله. ينبغي أن ينتظر المرء قليلا قبل أن يجمع الأفكار والذكريات، ويراجع ا لصور والمشاهد، فالجابري فرد بصيغة الجمع، والجابري شخصية فذة مركبة الأبعاد، والجابري بالنسبة إليّ كان دائما - وسيظل - مرجعية وبوصلة وأفقا. تعلمتُ منه، وتتلمذتُ على فكره وخصاله، وخطوتُ بين يدَيْه، وأحسنتُ الصمت في حضرَتِه، حين كنت أجلس إليه وحين كنتُ أقرؤه، وتلبّستْني في الكثير من الأحيان حالتُه، وفكرته، ونبرته، ولغتُه، وغضبتُه، وسؤاله، وقلقُه، وأنَفَتُه، ومروءته، وعفّتُه... كان قدوةً لمن كان يحب أن يخطو في درب الحياة وحومات الفعل نزيهًا عفيفًا نظيفًا جريئًا. ولعنا أخفَقْنا، لعلّي أخفقتُ - لكي أكون دقيقًا، ولكي لا أَتحدث إلاّ عن نفسي في أفق صورته البهية الباذخة وأفق نموذجه الفكري والإنساني والأخلاقي - أخفقت في أن أتقلَّل كما تقلَّل هو، فقد كان الجابري مثالاً للتزهُّد الأخلاقي النادر. ولعله كان نابعًا من تربيته وتكوينه وعمق تجربته، وأساسا من قدرته على خلق التوازن الضروري بين الفكر والاختيار والأخلاق. والحق أن «الأخ عابد» - كما كنتُ أناديه دائمًا - كان يمثل نموذجَنا الأبرز، ليس فقط في اجتهاده الفكري، وإنما في أسلوب حياته أيضا، وإن لم نستطع أن نشيد لأنفسنا كما شيد لنفسه إيقاعًا خاصًا من حيث الانتظام في الانتاج الفكري، وفي الكتابة. لقد نجح رحمه الله في بناء مشروع فكري فذ لأن فكره كان نابعا من إيمانه العميق بقوة القضية التي نذر لها حياته. لم يكن ا لجابري يفكر ويكتب ليسترزق او ليبحث عن الأَضواء، أو ليمد صلاتٍ او علاقاتٍ. ولذلك، فقد شيَّد لنفسه، ولمشروعه الفكري، ولاجتهاداته ومواقفه مناعةً معرفيةً واخلاقيةً، خصوصا ضد تجاذبات الممارسة السياسية وإِغراء أو إِكراه مناطق ومواقع النفوذ. ولأَنه كان حاسما في حدود التزاماته النضالية والاجتماعية، بعد أَن أَعطى الكثيرَ الكثير، وخَبِر الأَشخاص والأَقوال والأَفعال والمراحل والمنعطفات، فقد فَرَض على نَفسِه طرازًا صارمًا من التفاعل والتعامل حتى إِنه لم يكن معنيًا دائمًا بما يقال او بما يصله من أَنواع من التهجم الرخيص أو نقد الصغار، وكان كبيرًا في حواراته و جدالاته الفكرية التي كانت تستدعي من مجادليه ضرورة الارتقاء الي رفْعته الفكرية والأَخلاقية. وبذلك، ربح وفرة من الوقت والجهد ليمنح لنَفْسًه ولمشروعه الفكري عدة منافذ كي يواصل كشوفه في خرائط التراث العربي الاسلامي وفي نقد الحداثة، وهو ما انتهى به في النهاية - كما كان الشأن بالنسبة لكبار فلاسفة العالم - إلى جرأة البحث والتأويل في عمق النص المقدّس. خطوة كبرى وثّابة خَتَم بها الجابري مشروع تفكيره ومسار حياته الغنية المثمرة، في مرحلة لا تخلو من الانحدار والرداءة وابتذال القيم. ولقد عرفنا كيف نقترب من أفقه الرحب، تلامذةً واخوةً وأبناءَ وأصدقاء ورفاق طريق، وعرفنا في حياته كيف ننصت، وكيف نتعلم،و كيف نقرأ، وكي نفكر، وكيف نكتب، وكيف نعفّ، وكيف نعفو، وكيف نغفر، وكيف نستدرك، وكيف نصحح،و كيف نتجاوز، وكيف نختلف، وكيف نرتب الاختلاف ونأتلف، وكيف نتسامح، وكيف نتأمل قارة التراث دون ان نكون ماضويين، وكيف نمضي إلى المستقبل بدون أن نكون مقطوعي الجذور.. فهل سنعرف الآن، و قد رحل عنا إلى الأبد متوَّجًا بالمجد والحب وروح الوفاء الصادق العميق، كيف نقترب من موته، أقصد من حياته الأخرى كنص معرفي، وكمرجعية استثنائية، وكأفق متجدد مفتوح لتفكيرنا ولنضالنا ولأخلاقنا؟ علينا الآن أن نعرف كيف ندخل إلى كاتدرائية فكره العالية، علينا أن نعرف كيف نرتقي إلى رفعته فلا ننزل. رحم الله أخانا عابد، وبلّل الله تُربتَه،و أَلحقنا به - حين يأتي النداء - صادقين، زَنقياء، مطهَّري العقل والنفس واليد والذيل. المشروع الفكري الضخم الذي اشتغل عليه الجابري وخصوصا المتعلق ب«نقد العقل العربي» الذي يضم أربعة مجلدات، جعل الجابري في قلب الحركة الفكرية العربية، الاسلامية والعالمية التي جعلت من قضايا التراث وإعادة قراءته منطلقا لفهم العقل العربي، الذي اعتبره الجابري «عقلا مستقيلا» لا يحتاج إلى الإصلاح والتجديد فحسب، بل إلى إعادة الابتكار! وأنه لا يمكن الاكتفاء بنقد الفكر، بل العقل العربي في كلّيته، إذ «لا نهضة فكرية ممكنة من دون تحصيل آلة إنتاجها، أي العقل الناهض». وقد انبرى العديد من المفكرين لمناقشة نظرية الجابري، وشهدت الساحة الفكرية العربية سجالات عديدة بهذا الخصوص، لكن يبقى أشهرها تلك التي خاضها المفكر السوري جورج طرابيشي الذي خصص حوالي عشرين سنة لمناقشة نقد العقل العربي والرد علىه، والتي اعتبرها المفكر السوري صادق جلال العظم أنها ذكرته بالمناظرة التاريخية «التي جرت بين الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب». ويفسر طرابيشي تخصيصه كل هذا الوقت والجهد للرد على مشروع الجابري عوض إنجاز مشروعه الشخصي لقراءة التراث الإسلامي بالقول: هذا المأخذ صحيح وغير صحيح في آن. فهو صحيح ما دام كل «مشروعي».. قد انحصر بنقد للنقد. ولكن هل فعلا ما فعلت شيئا سوى أن «رددت» على الجابري. لا أعتقد... فالواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، ولكن ليس محطة الوصول. فقد كف مشروعي عن أن يكون مشروعا لنقد النقد ليتحول أيضا إلى إعادة قراءة وإعادة حفر وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل. ويضيف طرابيشي «سحرت في أول الأمر سحرا حقيقيا بكتاب الجابري «تكوين العقل العربي». وقد كتبت عنه في حينه في مجلة «الوحدة» أنه ليس كتابا يثقف بل هو أيضا كتاب يغيّر، فمن يقرأه لا يعود بعد قراءته كما كان قبل قراءته. ومما آخذ طرابيشي على الجابري قوله إنه يوظف «الإبستمولوجيا في خدمة الإيديولوجيا. وهي إيديولوجيا متعصبة لما يسميه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية، وللبيان السني ضد العرفان الشيعي، وللإسلام السياسي في خاتمة المطاف ضد الإسلام الروحي. ولكن أنا مدين للجابري، ولأعترف بذلك، فقد اضطرني إلى أن أخضع نفسي قبل أن أخضعه هو نفسه لمراجعة حساب شاملة». غير أن المدافعين عن المشروع النهضوي الكبير الذي أسس له الجابري يرون أن معظم منتقديه، وعلى رأسهم طرابيشي اكتفوا بدراسة الفكر العربي ونقده من منطلق أنّ «الفكر» هو الذي ينصبغ بالخصوصية المحلية، فيما «العقل» واحد في الشرق والغرب ، في الوقت الذي قام فيه الجابري بنقض هذه البديهية، مبتكراً مصطلح «العقل المستقيل» وقد أثبت بذلك أنّه لا يمكن الاكتفاء بنقد الفكر بل العقل العربي في كلّيته. وفي لقاء له مع صحيفة الاقتصادية السعودية ، تعرض الجابري إلى سجالاته مع العديد من المفكرين، وقال بهذا الخصوص عن طرابشي :» طرابيشي استقبل كتابي» «نحن والتراث»» بحفاوة كبيرة، غير أن حادثة شخصية غيرت رأيه الفكري كليا تجاهي، ليؤلف لاحقا كتابا يقول في مقدمته «لقد سيطر الجابري على عرش الثقافة العربية ويجب إنزاله منه!!» وقد توقفت عند هذه الجملة ولم أجد ما يدعوني لاستكمال قراءة الكتاب». وكشف الجابري عن أنه كلم محمد أركون طالبا منه أن يشرف على أطروحة جورج طرابيشي للدكتوراه ليفاجأ لاحقا أن الأخير لا يحمل الشهادات العلمية الكافية لهذه الدرجة، وأنه يريد أن يحصل على الدكتوراه من خلال مناقشة مقالاته فقط!! في حين يعرج الجابري على المفكر محمد أركون مشيرا إلى أنه تعلم اللغة العربية متأخرا من خلال كتابات المستشرقين، وقال «اليوم أصبحت الفلسفة فلسفة نقدية وأنا كمعاصر أرى أن النقد الثقافي قد حل مكان النقد الأدبي» كما يرى الجابري أنه لا يعتبر نفسه صوتا مخالفا، ولا متوحدا، لاغيا إمكانية تأثره بخصومه الفكريين فيقول«أنا راض تماما عن نفسي، وعن نتاجي وعن نتائجه على الناس». ويضيف «التطور الثقافي يحتاج وقتاً خصوصا في المجتمعات الاستهلاكية على مستوى الفكر والذائقة، وعموما أشعر منذ فترة طويلة بتفاؤل موضوعي تجاه الواقع الثقافي، أجد قراء لي في كل مكان، وهناك الكثير من الشباب الذين يناقشونني ويقرأون ويكتبون لي، أعرف أن هناك من يختلف معي كما أعلم أنني لا أغرد منفردا.. وحتى إن فعلت ذلك فأنا أجد دائما من يغردون معي!!». هذا، وإن كان هناك من لا يزال يشكك في هذا الخطاب بل ويسعى إلى «الإطاحة» به كما في حال أحد أبرز ممثليه محمد عابد الجابري (1935 2010) الذي كان الأكثر حضورا في المشرق، ودون التغافل عن عبد الله العروي (1933 ) الذي كان قد سبقه من ناحية التأثير من خلال كتابه المزلزل «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» الذي اطلع عليه القارئ العربي، وضمنه المفكر العربي، من خلال «الترجمة العربية» (1970) التي سينقلب عليها العروي نفسه من خلال إقدامه، اللاحق، وبعد وفاة مترجم الكتاب، وعلى وجه التحديد العام 1995، على إعادة صياغة الكتاب. ودون التغافل أيضا عن محمد عزيز الحبابي (1922 1993) الذي كان بدوره قد لفت الانتباه إليه هناك في المشرق من خلال أبحاثه ذات الصلة ب«الشخصانية». إجمالا مع هؤلاء، ودون التغافل عن مؤسس «النقد المزدوج» عبد الكبير الخطيبي (1938 2009)، سيتم التخلص من «الهاجس السياسي الإصلاحي» الذي ظل مهيمنا، داخل الفكر المغربي، إلى حدود الستينيات. غير أن قراءة الجابري التحليلية، وللتراث بصفة خاصة، كانت الأكثر انتشارا وتداولا داخل الفكر العربي بتياراته وإشكالاته ونزعاته. بل إنه يمكن الزعم بأنه بعد مشروع «نقد العقل العربي»، لم يعد بالإمكان قراءة التراث كما كان يقرأ من قبل، بل ويمكن القول بأن الجابري هو الشخصية المثيرة بعد طه حسين (1889 1973) داخل الفكر العربي المعاصر أو إنه «طه حسين نهاية القرن» كما صنفه أحد أكبر «أعدائه» وهو جورج طرابيشي (مجلة «النهج»، العدد 47، صيف 1997، ص208). هذا، وتجدر الإشارة إلى أنه ليس طرابيشي بمفرده من يماثل بين طه حسين ومحمد عابد الجابري. وكنا قد سعينا إلى «دحض» هذه «المماثلة» في مقال لنا نشر، وتحت عنوان «بين طه حسين ومحمد عابد الجابري»، في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» (21 أبريل 1999). وفي الحق ثمة قامات فكرية كانت، ومن موقع قراءة التراث ذاتها، قد أثارت نقاشات حادة مثل أدونيس وصادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد... غير أن الضجة التي أثارتها كتب هؤلاء كانت تستجيب لموقف معين، وصدامي، من الدين أو كانت تستجيب لحدث سياسي معين. والمؤكد أن الاقتراب من مثل هذه المواضيع يؤهل المفكر أو الكاتب ليثير ضجة معينة أو ليثار حوله نقاش محموم بل وأن يتم تقديمه قربانا وسط حرائق الضجة. الجابري تمكن من أن يفتح نقاشا واسعا حوله من خارج هذه الدائرة وقبل أن يقدم على الكتابة في مجال «فهم النص القرآني» التي أثارت ردودا حادة وإن خارج المغرب فقط. ثم إن حجم الكتابات، والاتهامات أيضا، حول مشروعه، المعمّد ب»نقد العقل العربي»، لم يحظ بها، وحتى الآن، أي مشروع قرائي للتراث عدا نجيب محفوظ وفي مجال الإبداع الروائي. لقد دشَّن الجابري، وبمفرده، «عهدا قرائيا جديدا» ينم عن إبحار عريض في «قارة التراث». ومصدر ذلك طبيعة القراءة التي اعتمدها والتي تستند إلى مستندات معرفية وإيديولوجية. هذا بالإضافة إلى طريقة «الكتابة» التي سلكها في مشروعه النقدي الكبير. فكتاباته تعانق مضمونها بشكل مباشر ولا مجال فيه للزوائد. إنه ليس، وكما قال، وقبل أن يشرع في نشر مصنفات «نقد العقل العربي»، من أنصار «الكتابة في الكتابة». ولعل هذا ما يذكرنا بكتابة الخطيبي التي تمحي فيها الفواصل بين المقدمات والخلاصات بل تغدو الكتابة فيها جزءا من الفكر إن لم نقل هي الفكر ذاته. وربما أن الجابري، هنا، يقصد أيضا إلى العروي الذي يستند إلى منظور تحليلي قوامه التكثيف والاختزال لا التبسيط والتدرج. محمد عابد الجابري لا يتلذذ بالنقاش، وفي مقابل ذلك يسعى إلى صياغة أنساق مغلقة تنتهي إلى نتائج مغلقة تنتهي بدورها إلى نتائج محددة. من هنا نفهم اعتماد كتاباته أسلوب التدرج والتنسيق وبيداغوجيا التواصل. وهذا ما ساهم، ومن ناحية موازية، في تداول مشروعه وعلى نطاق واسع. والرجل كتب، وقاوم وجابه، على مدار زمني يزيد على أربعة عقود. كان من الصنف الذي لا يهدأ بالتعبير السارتري الآفل. وليس غريبا أن يعرف خطابه، وعلى امتداد هذه الفترة، تحولات لا يهمنا أن نبحث فيها الآن أو هو ما كنا قد سعينا إلى القيام بجزء منه في كتابنا «التراث والقراءة» (2002) الذي كرسناه للخطاب النقدي المعاصر بالمغرب والذي لا نخفي إفادتنا منه في هذا المقال. يهمنا أن نشير إلى أن مشروع «نقد العقل العربي» حظي بكم هائل من الكتابات التي ربما يصعب حتى على محمد عابد الجابري نفسه مواكبتها والإحاطة بها. فهي تتطلب عملا بيبليوغرافيا مستقلا أو مسحا لمكتبة شبه قائمة بذاتها. وقد كتبت عنه كتب مستقلة أنجز بعضها مفكرون مكرسون ولهم مكانتهم في خريطة الفكر العربي. هذا عشرات المقالات والدراسات المتفرقة في الصحف والمجلات والدوريات والكتب الجماعية. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى كتاب «هل هناك عقل عربي؟» لهشام غصيب (1993)، و»من الاستشراق الغربي إلى الاستشراق المغربي» لطيب تيزني (1996)، و»نقد العقل العربي في الميزان» ليحيى محمد (1997)، و»نقد العقل أم عقل التوافق» لكمال عبد اللطيف (1999)، والرؤى المختلفة» لسيار الجميل (1999)، و»الجابري بين طروحات لالاند وجان بياجيه» لمحمد مبارك (2000). ثم جورج طرابيشي الذي يفرض ذاته أكثر طالما أنه الوحيد الذي كرس لمشروع «نقد العقل العربي» مؤلفا ضخما جاء تحت عنوان «نقد نقد العقل العربي» وقد اطلعنا على ثلاثة أجزاء منه هي «»نظرية العقل» (1996)، و»إشكاليات العقل العربي» (1998)، و»وحدة العقل العربي الإسلامي» (2002). وهناك أيضا كتاب «الرؤية العرفانية في العقلية العربية» لفاطمة سامي فرحات (2002)، و»الكتلة التاريخية من غرامشي إلى الجابري وملاءمتها للبحرين» لعبد الله جناحي (2004)، و»الفكر الإمامي في نقد الجابري» لأحمد محمد النمر (2005)... وصولا إلى كتاب «التحليل والتأويل: قراءة في مشروع محمد عابد الجابري» لعلي المخلبي الذي هو من بين آخر الإصدارات حول الجابري (2010). هذا بالإضافة إلى الحضور المتميز للمشروع، والذي بلغ حد الهيمنة في أحيان، داخل كتب مثل «مداخلات» لعلي حرب (1985)، و»مذبحة التراث في العقل العربية المعاصرة» لجورج طرابيشي (1993)، و»تجديد المنهج في تقويم التراث» لطه عبد الرحمان (1994)، و»البنيوية وتجلياتها في الفكر العربي المعاصر» لإبراهيم محمود (1994)، و»قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر» لعلي حب الله (1998)... وكما حظي مشروع الجابري بمناقشات أخرى في كتب مثل «الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي» لمحمود أمين العالم (1986)، و»التراث والهوية» لعبد السلام بن عبد العالي (1987)، و»التراث بين السلطان والتاريخ» لعزيز العظمة (1987)، و»نقد العقلانية العربي» لإلياس مرقص (1987)، و»نقد النص» لعلي حرب (1993)، و»أسرى الوهم» لأحمد برقاوي (1996)، و»الفلسفة العلمية» لعبد القادر محمد علي (1997)، و»سلطة النص» لعبد الرحمان الهادي (1998)، و»قراءة نقدية في الفكر العربي المعاصر ودروس في الهرمينوطيقا التاريخية» لمحمود إسماعيل (1998) و»قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر» لعلي حب الله (1998)، و»ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر»للزواوي بغورة (2001)، و»جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد» لمحمد الشيخ (2005)... إلخ. هذا بالإضافة إلى من سعوا إلى «محاورة» الجابري مثل بنسالم حميش في «معهم حيث هم» (1988)، و أحمد برقاوي وأحمد ماضي وجمال مفرج... ]وآخرون] في «التراث والنهضة: قراءات في أعمال محمد عابد الجابري» (2004). وقد وجهت انتقادات كثيرة لمشروع صاحب «نحن والتراث» على رأسها مسألة «القطيعة» (أو «القطيعة المزعومة» كما ينعتها أحد منتقديه) التي يقيمها بين الفكر المغربي والفكر المشرقي بسبب من «عقلانية» الفكر الأول و»لاعقلانية» الفكر الثاني، و»تجاهل الشيعة» وإصراره على ربطها ب»الهرمسية»، وكذلك «تقوقعه في إطار التحليل الإبستيمولوجي»... إلخ. هذا بالإضافة إلى اتهامه ب»السرقة» من كتب عربية، وإحالته على كتب لم يقرأها و»سوء ترجمته بعض المفاهيم»... إلخ. من الجلي أننا أمام ركام هائل من الكتابات سعى بعضها إلى النظر في مجموع «العقل» الذي سعى الجابري إلى تتبع «تكوينه» ودراسة «نظمه المعرفية» و»مستوياته السياسية» و»الأخلاقية»، وسعى بعضها الآخر إلى الاكتفاء بموضوع واحد ضمن المواضيع أو الإشكاليات التي عالجها الجابري، وسعى بعضها إلى تتبع تأثير فلاسفة غربيين في المشروع أمثال فوكو وغرامشي ولالاند وبياجي. ومعنى ذلك أن المشروع فتح «أفقا» في الفكر العربي المعاصر، وسمح للبعض بأن يبرهن على أدواته المعرفية وعلى موقفه من التراث. وتلك هي عادة «النصوص القوية» أو «المشاريع الرائدة» التي لا يكف الجدل حولها. والأهم أن الكتابات السالفة في حاجة إلى «مراجعة هرمينوطيقية» تسعفنا على التمييز داخلها بين «التحليل» و»التفسير» و»التقويم» ومدى تمايز هذه العناصر التكوينية ومدى تداخلها في «فعل القراءة»، وكل ذلك في المدار الذي لا يجعلنا نتغافل عن البحث في «المستندات المعرفية» التي تسند هذه القراءات طالما أن جانبا كبيرا منها لا يخلو من «تحامل» و»تآمر» ل»الإطاحة» بمشروع الرجل. إن «أقوالا» من مثل «إن محمد عابد الجابري يمثل «عقبة إبستيمولوجية»، وإنه «من أبرز المفكرين المثاليين في الوطن العربي اليوم وأكثرهم خطورة أيضا لقدرته على النفاذ إلى عقل القارئ وإيقاعه بين شباكه السحرية المثالية»، و»إن مشروعه عبارة عن أحلام فكرية لا تمت إلى الواقع بصلة»، و»إنه يساير الاستشراق الاستعماري» بل «إنه أكثر استشراقا من بعض المستشرقين»، و»إنه يكتب عن العقل ولا يكتب به»... جميعها أقوال توجِّه الكتابة، بل وتعطّل «التحليل الصارم» لفائدة «التقويم النافر». وقبل ذلك تعكس نوعا من «التوتر» الذي يشوش على «التناص الموجب» الذي بموجبه تتضافر «تاريخية القارئ» مع «تاريخية المقروء»، مما يفضي إلى «تعطيل الحدث القرائي». غير أن ما سلف لا يفند البتة أهمية بعض الدراسات السابقة (كدراسة علي حرب ويحيى محمد...) التي أسهمت حقا في إثراء مشروع الجابري. هذا وإن كانت أغلب الكتابات قد ركزت على مشروع «نقد العقل العربي» دون أن تلتفت إلى ما سبقه من كتب غنية وقوية («العصبية والدولة» (1971( تعيينا بالنظر إلى النقاش الذي حظي به «نحن والتراث» (1980) والذي جعل الأنظار في المشرق تلتفت إلى صاحبه). كان من الجلي أن يفتح الجابري مثل هذا النقاش ولا لأنه قدم «قراءة معاصرة» للتراث سعت إلى «القطيعة» مع القراءات السائدة فقط، وإنما لأنه قدم، وعلى أرض «معركة القراءة» ذاتها، «نقدا لاذعا» للفكر العربي المعاصر يمينه ويساره على حد سواء بل ونعته، وبجرأة نادرة، ب»السلفية». وليس غريبا أن يتواصل الهجوم عليه حتى «في مماته»، ذلك أنه من الصنف المطلوب «حيا أو ميتا». غير أنه لا بأس من التمييز، هنا، بين «واجب التأويل» (والتعبير لإدوارد سعيد) الذي ينبغي أن نواجه به مشروعه وبما يخدمه ويؤسس بالتالي لنوع من «الفكر القرائي الاختلافي» وبين «مقصلة التأويل» (والتعبير لصبحي حديدي، هذه المرة) التي لا تفيد المشروع في شيء طالما أنها لا تتأسس، وابتداء، على أي «حس قرائي».