لقد فقدنا بغياب محمد عابد الجابري مناضلا واعيا، ومفكرا مجتهدا، ومربيا منفتحا على العصر. ويشهد مسار حياة الجابري على قوة عزيمته وتعلقه بالعلم والثقافة، وإخلاصه للنضال من أجل بناء مغرب ديمقراطي متحرر. ولاشك أن أبحاثه تشكل منطلقات مهمة تنير البحث والتفكير والتأويل، وتقدم للطلبة والأساتذة منطلقات قابلة للتطوير والتعميق. رحم الله محمد عابد الجابري وأسكنه فسيح جناته. محمد الأشعري: الدفاع عن قيم الحرية والتقدم في مسار الأستاذ عابد الجابري منذ طفولته الفيگيگية إلى انطفائه بمدينة الدارالبيضاء، علامات دالة تختصر مسارنا السياسي والثقافي. فقد كان المرحوم من المُربين الأوائل في المدرسة المغربية ومن مُؤسسي الدرس الفلسفي بجامعة محمد الخامس، ومن المؤسسين الأساسيين للحركة الثقافية الحديثة من خلال اتحاد كتاب المغرب ومجلة «أقلام» ومن خلال الجرائد التي أصدرها الاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مثلما كان من المناضلين الأولين الذين ربطوا بين قضايا المغرب العربي وقضايا المشرق، ومن المناضلين الأوائل كذلك الذين سعوا إلى إعطاء النضال الوطني في المغرب استراتيجية واضحة للدفاع عن حقوق الانسان وعن القضايا العادلة للطبقة العاملة وعن الديمقراطية وعن دولة الحق والقانون. في كل هذه العلامات نعثر دائما عن رجل منصت لنبض مجتمعه، منخرط في نضالات شعبه ومساهم جريء في تطوير التيار الاشتراكي التقدمي في بلدنا. ولقد أهله كل هذا ليعلب أدوارا طلائعية في إعلام الحزب وفي مؤتمراته الأساسية خصوصا المؤتمر الاستثنائي والمؤتمر الثالث. كما أهله ليكون ضميرا حيا في قيادة الحزب متشبثا بضرورة توجيه كل الجهود للدفاع عن القيم والمبادئ الأساسية ولتحقيق التحول الديمقراطي، بعيدا عن نزاعات التطاحن والانشقاق. وعندما وجد نفسه في وضع لا يسمح له بالاستمرار على هذا النهج، ابتعد عن العمل السياسي المباشر وانخرط في مجهود كبير للبحث، كان هاجسه الأساسي فهم الحاضر على ضوء البنيات الثقافية العميقة التي تُهيكل العقل العربي واجتهاداته. ولعل المغاربة جميعا سواء اتفقوا دائما أو اختلفوا في بعض الأحيان مع الأستاذ عابد الجابري، سيتذكرون من خلاله حضور المثقف في المجتمع وقيامه بدور طلائعي في الدفاع عن قيم الحرية والتقدم. كمال عبد اللطيف: شخصية في العقل والوجدان لازال الخبر مفجعا، ومازالت أشعر بكثير من المسافة بيني وبين الخبر. ولأن الرجل كان دائما يملك قدرة عجيبة على تجاوز الفواجع ، كيفما كانت فإنني أستطيع القول ، دون مجازفة إن عطاءات الأستاذ محمد عابد الجابري، بصمة ثلاثة عقود في الوعي والثقافة المغربية. فالجابري ، بدون منازع ، هو مؤسس الدرس الفلسفي في المغرب. ومن المعروف، أن هذا التأسيس لم يكن أمرا سهلا ، بل دفع الجابري إلى خوض معارك قوية مع المناهضين للثقافة العقلانية والفكر التاريخي في ثقافتنا. وهو أيضا ، مؤسس الدرس الفلسفي في الجامعة، منذ ستينيات القرن الماضي، وهذا التأسيس أيضا ، لم يكن متيسرا وخاض من أجله الجابري معارك متعددة مع الذين كانوا يرفضون التعامل مع مكاسب عصرنا الثقافية والمعرفية. وهناك أيضا، إن الجابري صاحب أطروحة في موضوع من الموضوعات التي تشغل مجال الفكر المغربي والعربي، أطروحة في موضوع نقد التراث، نقد العقل العربي، وهي أطروحة بصمة الفكر المغربي والعربي، بسمات خاصة وذلك أن هيمنة الموروث التقليدي كبل العقول والذهنيات ، وقد ساهم بنقده العقل العربي في خلخلة الموروث في جعل العقل العربي يلج أبواب الحداثة والتحديث. استوت أطروحة نقد العقل في مجلدات كبيرة، واشتغل من أجل بناءها عمره كاملا، ثلاثة عقود في قراءة التراث، قراءة جديدة، لكي لايظل امتيازا في يد التراثيين التقليديين. ولاشك أن هذه الأطروحة ، منحة الجابري، ومنحة حضوره الفكري المغربي والعربي مكانة خاصة. أمر آخر لاينبغي إغفاله ، عندما نتحدث عن الرجل، يتعلق بحضوره السياسي ، فقد كان الجابري، ملتزما ، سياسيا وثقافيا، حيث انخرط في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في منتصف السبعينيات ، وساهم مع الرعيل الأول من الوطنيين التقدميين في الجمع بين الفعل السياسي والفعل الاخلاقي، وظل وفيا لمشروع التحرر والتحرير. تحرير الانسان المغربي ، والمجتمع المغربي، من كل ما يمنعه من إعادة بناء ذاته في ضوء أسئلة الحاضر وطموحاته ، ولن يتجاوز طيلة حضوره السياسي الملتزم، القيم التي كان يدعو إليها بكثير من الاستماتة والاخلاص. لانغفل أيضا ، دوره التأسيسي في مجلة «الثقافة المغربية»، فقد كان مع مجموعة الأقلام منها المرحوم أحمد السطاتي ، والأخ الكبير محمد ابراهيم بوعلو ، وذلك في منتصف الستينيات، حيث كانت هذه المجلة تعكس روح التحولات التي عرفتها الثقافة المغربية ، وشكلت فضاءا لانعاش ثقافة العقل والالتزام والحرية. يمتد حضور الجابري في الثقافة المغربية ، في المدرسة ، في الجامعة، في النقابة ، في الحزب ، وفي الاعلام ليشكل شخصية متعددة الأبعاد. كان رجلا واضحا ، كانت طموحاته وخياراته معلنة، لايجامل ، ولايتردد ، يجتهد ، يكتب بدون ملل ، يدرس بدون ملل ، يشرف على الأطروحات ، ويشارك في اللقاءات العلمية، إلى غير ذلك من صور التعدد التي تمثلها شخصيته في العقل والوجدان. فهل بعد هذا ، نقبل ، أن ينقل إلينا ذات صباح خبر وفاته.. أنا لاأظن ذلك.. عبد السلام بنعبد العالي: صاحب «نقد العقل العربي» أمر واحد ربما كان المرحوم محمد عابد الجابري يأسف عليه وهو يرحل عنا، هو أنه لم يستطع أن يكمل مشروعه. مشروعه هذا لم يكن من السهل، ولا من الممكن، إكماله. لأنه لم يكن مشروع فرد بعينه، بل كان مشروع جيلين، مشروع«نا»... ذلك أن السي محمد لم يكن ليميز خلال حياته الفكرية، بين ما يخصه وما يخص«نا». هذا هو الانطباع الذي كان يتركه لديّ كلما سنحت لي فرص اللقاء به. كان يشعرني دوما أنه يحمل على كتفيه أثقالا أكبر من أن يتحملها فرد بعينه. لعل ذلك ما كان يدفعه نحو العمل، لا أقول المتواصل، وإنما اللامحدود. لا يمكنك أن تصادف السي محمد إلا منشغلا مشتغلا، وسرعان ما تجد نفسك متورطا في العمل معه وإلى جانبه. عرفت السي محمد أستاذا منذ أواسط الستينات. الميزة الكبرى التي كانت تميّزه هو أنه لم يكن ليشعرك، على الإطلاق، أن لديه علما يريد أن ينقله إليك، وإنما أنه على استعداد دائم لأن يتعلم معك. كان يشعرنا أن الأرض ما زالت خلاء، وأن علينا أن نؤسس الأمور من جذورها. بهذا المعنى يمكن أن نقول إن الفلسفة وتدريسها وتعريبها في المغرب أمور قامت على أكتافه. كان يعلم أن الأمور لن تكون، أول الأمر، على ما يرام. لكنه كان يدرك أتم الإدراك أن التأسيس لا يمكن إلا أن يتصف بالنقص وعدم الاكتمال، وأن طريق التأسيس شاق وعسير. لذا كنت تجده ينقض على الفرص كلما سنحت ليستثمرها من أجل ذلك التأسيس. في هذا الإطارعمل كل جهده لأن ينتزع تدريس الفلسفة من الأساتذة والمفتشين الفرنسيين، فقام بتهيئ أولى الكتب المدرسية لتدريسها. هذا الأسلوب نفسه هو ما اتبعه في تدريسه الجامعي وإشرافه على الرسائل والأبحاث. لم ينفك الأستاذ الجابري يشعرنا، خلال حياتنا الطلابية، أننا بصدد تأسيس جامعة مغربية، وأن الطريق ليست يسيرة، وأن علينا أن نحمل الجامعة، وشعبة الفلسفة بصفة خاصة، على أكتافنا. لذا وجدته متطوعا لتدريس مواد متنوعة ربما لا رابطة تربط بينها، اللهم الروح النضالية لذلك الأستاذ الذي يعرف أن عليه أن يتعلم وهو يعلم، وأن مفاهيم التخصص والتبحر آتية فيما بعد. وأن الوقت هو وقت زرع البذور. إلا أن زرع البذور لا يمكن البتة أن يتم من غير وعي تاريخي. لذا وجب علينا أن ننفتح على التراث، على تراثين: التراث العربي الإسلامي وكذا على التراث الإنساني، إلا أن كل تملك لما يسمى تراثا إنسانيا لا بد أن يتم عبر خصوصية هي خصوصيتنا. أحمد شراك: صور التعدد يعتبر غياب الفيلسوف المغربي الكبير محمد عابد الجابري عن هذا العالم خسارة كبرى بالنسبة للثقافة المغربية وللفلسفة المغربية المعاصرة؛ ذلك أن محمد عابد الجابري يعتبر بحق مكون أجيال من الكتاب والمثقفين المغاربة، بدءا من كتابه المدرسي في مادة الفلسفة لأقسام الباكلوريا بمعية محمد العمري وأحمد السطاتي، حيث تعلمت الفلسفة أجيال من المغاربة بواسطة هذا الكتاب الذي يعتبر فاتحة حقيقية في التفلسف المغربي، وكذلك من خلال كتبه حول التربية والتعليم والمسألة التعليمية التي يعتبر فيها مرجعا مؤسسا لفلسفة التربية والتعليم ببلادنا، ثم من خلال مشروعه النظري والفكري حول العقل العربي في مختلف تجلياته وتكويناته الإبستملوجية والنظرية والبلاغية واللغوية والسياسية، فضلا عن قراءاته العميقة والمؤسسة للمصادرالأساسية للثقافة العربية ونقصد بها القرآن الكريم. لعله غيض من فيض من الإنجازات الكبيرة للمرحوم محمد عابد الجابري. وفي هذا الصدد، نشير إلى أن غيابه عن هذا العالم هو غياب جسدي فقط. أما حضوره الرمزي الثقافي والفلسفي فسيمتد عميقا وطويلا في ثقافة الأجيال القادمة وأن رصيده الرمزي الواسع سيخضع لقراءات استعادية من طرف الأجيال القادمة، لأن الرجل معلمة بحق في تاريخ الفكر والفلسفة والثقافة المغربية، معلمة في التأصيل والإبداع والقراءة والتأويل والاجتهاد الثاقب. هذه بعض الكلمات التي تحضرني وأنا أتلقى هذا الخبر المفجع. رحم الله محمد عابد الجابري وأدخله فسيح جناته، ولأهله المقربين والبعيدين الصبر والسلوان. عبد الرحيم العطري: إنتاج الأسئلة الكبرى هل يمكن اختزال مسار مفكر وفيلسوف فوق العادة في بضع كلمات، يمليها شرط الشهادة، وشرط الرحيل الصادم والفجائعي، لهرم من أهرامات الفكر العربي؟ هل تسعفنا الحروف؟ فمحمد عابد الجابري -رحمه الله- من «الكبار» فعلا، الذين بصموا اللحظة الثقافية العربية بمنجز أصيل وقوي، يحاور الأسئلة والقضايا الكبرى، إنه مثقف ألمعي يشتغل من داخل مشروع فكري واضح المعالم، ويشتغل وينشغل، وهذا هو الأهم بإنتاج الأسئلة الكبرى، التي تتجاوز البدهي والاعتيادي. أذكر جيدا كيف قدمني إليه أستاذي محمد سبيلا ذات زمن تسعيني، بكلية الآداب بالرباط، وهو في الطريق إلى إمتاعنا بمحاضرة قيمة عن «المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية: محنة بن رشد ونكبة بن حنبل»، أذكره وهو يفتتح محاضرته بألق شعري نزاري، قال فيه «فكم من نبي ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء، وكم من رسول قتلناه، أيامنا كلها محن، و تاريخنا كله كربلاء». لقد كان محمد عابد الجابري مفكرا موسوعيا لا يقتنع بالإجابات السريعة، بل كان يتعب نفسه كثيرا بالبحث في تخوم المعنى، لهذا استلزم منه «نقد العقل العربي» سنوات طويلة من البحث والتنقيب والسؤال اليقظ والمتجدد، دونما مهادنة أو مواربة. لقد فقدت الساحة العربية، بل والعالمية، برحيله، مفكرا فذا علم الأجيال، في الجامعة وخارجا، أصول التفكير النقدي، ودعاهم إلى التحرر من السبات الدغمائي، وإلى إنتاج الأسئلة بدل اللهاث وراء الإجابات المتناثرة من حولنا، كانت مهنته ووصيته الدائمة هي التساؤل، والتحرر من سلطة اليقيني والمطلق. لهذا أعتقد أن الموت لن يغيب الجابري، لأنه سيظل حيا بيننا بأعماله القيمة وآثاره الطيبة، فقبل أن يكون الجابري المفكر والفيسلوف والأستاذ الجامعي، فهو «الإنسان» الذي لم يغادره الإنسان، والإبن الشرعي للمغرب العميق وتحديدا الذي لم تسرق منه المدينة بساطة وعذوبة المغرب الشرقي أو الشقي. فرحمة الله عليك أيها العالم والفيلسوف المتسائل.