نقاط التقاطع والاختلاف "" تجسد الباحثة نايلة ابي نادر في كتابها «التراث والمنهج بين أركون والجابري» ان الفكر العربي يعاند التغيير، مخالفا بذلك ابسط قواعد الطبيعة، وترى ان كل ما ينبض بالحياة معرض بفعل مرور الزمن للتبدل، ملاحظة ان الاشكالية التي شغلت الفكر منذ زمن ليس بقريب، والمتمحورة حول العلاقة بين العقل والنقل، لم تفعل فيها الايام الدائرة امرا يذكر. فهذه القضايا المحورية من وجهة نظرها بقيت على حالها مع تبديل طاول الالفاظ فقط. وتسجل في هذا السياق انه بدلا من الاشكالية التي طرحها الزوج العقل/ والنقل، صار هناك اشكالية التراث/ والحداثة. أو الشرق والغرب، أو اللامعقول/ والعقل. وكأن في عملية استبدال المصطلحات هذه حماية من الوقوع في التكرار والاكتفاء بالاجترار. وهذا يعني من وجهة نظر الباحثة ان كل الانهمام الفكري والقلق المعرفي منصبان عبر الاجيال في اطار ايجاد حل لمشكل مستعص يفوق القدرات الذهنية لدى البشر! لقد برزت في خضم المعارك المستعرة والمواجهات الملتهبة ، جهود ارادت ان تكسر طوق التكرار، وتحد من صلاحية القياس على «انموذج السلف»، ساعية قدماً نحو اعادة قراءة الماضي من منظور مغاير، ومحاولة الابتعاد عن الايديولوجي في اتجاه المعرفي. لقد عمل كل من محمد أركون ومحمد عابد الجابري في سبيل الكشف عن جذور التراث العربي الاسلامي في طبقاته المتراكمة وعن آلية اشتغال العقل الذي انتجه. وتقرر الدكتورة نايلة ابي نادر ان كل واحد سعى على حدة، من خلال اعتماد المنهج النقدي، الى تحديد مواضع الخلل في التعاطي مع هذا التراث، وابراز مكامن القوة والابداع فيه، مع الوعي بالفارق الزمني الذي يفصل اليوم عن الامس. من خلال هذه المقارنة تبين للباحثة ان الرابط الاساس الذي يجمع بين مفكرينا يكمن في هذين المصطلحين: التراث والمنهج. معتبرة ان مشكلة المنهج في قراءة التراث لدى أركون والجابري... انهما معا ارادا العمل في حقل التراث تنقيبا، وحددا الدخول في الحداثة هدفا. لكن بدا للباحثة في نهاية المطاف، ان ما جمع بينهما بالتحديد هو الذي فرق بينهما. فالاول، اي أركون، لم يضع حدا يؤطر حقل عمله داخل التراث، اذ اعتبر ان كل ما انتجه العقل العربي - الاسلامي شفهياً أو كتابيا، فلسفيا أو دينيا، يجب التوقف عنده والبحث في اسسه، مع الانتباه الى المسكوت عنه، واللامفكر فيه. اما الجابري فقد حصر عمله بالثقافة العالمة، كما انه وضع منذ البداية خطا احمر منع قلمه من تجاوزه، حاصراً بذلك اطار بحثه بالعقل العربي وحده وبما انتجه في اطار البيان والعرفان والبرهان، اذ ان العقل اللاهوتي لا يعنيه، وهو يعفي نفسه من اي مهمة تطاول الاصلاح الديني الذي لديه اربابه. هذا على صعيد التراث، اما على صعيد المنهج، أو الاداة التي استخدمها كل منهما لانجاز مشروعه فتسجل الباحثة ان الاختلاف فيه واضح. اذ ان قارئ نصوص أركون يبدو له ان المؤلف يعمل ويستكشف تباعاً ادوات حفره محاولا توظيفها في المكان المناسب، عندما تدعو الحاجة. وتؤكد ابي نادر في هذا المنحى ان المنهج يتبلور تباعاً عند أركون، وان الخطوة الاولى هي التي توجه الثانية أو تغير مسارها. بينما قارئ نصوص الجابري يشعر وكأن الخطوط العريضة قد رسمت مسبقا، والنتيجة قد حددت سلفا، لان الهف واضح في ذهن المؤلف منذ البداية. صحيح ان أركون والجابري توجها نحو التراث بحثاً، وحفرا، وتفكيكا، لكن من موقعين مختلفين، وبأدوات متباينة. لذلك، كان من البديهي ان تاتي النتائج مغايرة. فما يراه اركون ضروريا واساسا، اذ لا يجوز البدء بأي مشروع قبل انجازه - كنقد الفكر الديني على وجه التحديد - لا يجد الجابري نفسه ملزما به، بل ويقصيه من دائرة اشتغاله، مكتفيا بالجانب المعرفي. من هنا برز الخلاف على نقد العقل العربي ام العقل العربي الاسلامي. وترى الباحثة ابي نادر ان ما يضعه أركون في خانة الاتقاء والابداع والخروج من الاطر الضيقة،، يصفه الجابري بالظلامية والتخلف والانصياع الى احكام اللاعقل. فما يسميه أركون ب«المخيلة الابداعية العرفانية»، وما نتج منها من خطاب مميز، أفرز معجما لغويا وتقنيا خاصا، يحط الجابري من شأنه، ويضعه في اطار «العقل المستقيل» الذي تخلى عن مهامه خاضعا لألاعيب الرمز والخيال والمجاز. الباحثة ابي نادر تذهب الى ان ما يصوره أركون تجليا للانسية العربية في القرن الرابع الهجري، وللعقلانية المعبرة عن عطش الروح الى المعرفة والفهم، مع السجستاني ومسكويه والتوحيدي والعامري وغيرهم، يعتبره الجابري انتقاصا من مستوى التفكر العقلي، والتجريد الفلسفي لمصلحة المقابسات والأدبيات الشائعة. هذا التدهور في الانتاج الفكري قد اوقفه لاحقاً مفكرو المغرب العربي، وخصوصا كل من ابن رشد وابن خلدون. لقد ارادت الباحثة بعد ان قدمت لموضوعها بتحديد مفهوم النقد، لدى أركون والجابري، ان تفرد قسما لكل مفكر على حدة، عرضت فيه ابرز المفاصل النقدية التي تميز به مشروع كل منهما، وعمدت بعد ذلك إلى تحليل المسار النقدي الذي اتبعاه في مقاربة الفكر العربي الاسلامي، وكرست في القسم الثالث دراسة مقارنة، ابرزت فيها مكامن الفصل والوصل، وعملت على استخلاص النتائج التي توصلت اليها من خلال البحث. من دون ان تنسى الاشارة الى ان مشروع نقد الفكر العربي الاسلامي، ومسألة البحث في الخطاب الديني وفي كيفية تأويله شغلا حيزا كبيرا من الانتاج الفكري العربي المعاصر. نعم هناك العديد من المفكرين الذين انخرطوا في مشاريع نقدية طاولت العقل العربي المعاصر. وهناك العديد من المفكرين الذين انخرطوا في مشاريع نقدية طاولت العقل العربي كما النص الديني. وتذكر ابي نادر على سبيل المثال المحاولات التأويلية التي قام بها نصر حامد ابو زيد للخطاب الديني، والطروحات التي قدمها حسن حنفي من اجل بلورة موقف جديد من التراث القديم. كما اشارت الى العمل على تجديد المنهج في قراءة التراث «وتجديد العقل» لدى طه عبد الرحمن. ولم تغفل الجهود التي بذلها عبدالله العروي في مقاربة لايديولوجيا العربية المعاصرة/ وتسليط الضوء على العرب والفكر التاريخي. وذكرتنا ايضا بالمحاولة التي قام بها صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني، وايضا بالقراءات التي قدمها عبد الهادي عبد الرحمن «في توظيف النص الديني» من خلال البحث في سلطة النص، وفي عرش المقدس. كما ذكرتنا بسؤال هشام غصيب النقدي «هل هناك عقل عربي»، ولفتت انتباهنا الى مشروع الرؤية الجديدة للفكر العربي في العصر الوسيط الذي قدمه طيب تيزيني، والى دراسة الظاهرة القرآنية، والبحث في شروط النهضة اللذين أنجزهما مالك بن نبي. واذا عدنا الى ما كتبه أركون حول الازدهار الفكري والنمو الثقافي اللذين عرفهما القرن الرابع الهجري، نجد انه يشدد على الدور الذي ادته الطبقة البرجوازية في ذلك الحين، ما اسهم في توفير الاجواء الملائمة للنهوض والابداع. وهو يعلق اليوم على هذا الدور في حال اراد المسلمون اليوم دخول مرحل التقدم، والخروج من الركود والاكتفاء بالاستهلاك. لكن ايضا ان من يتابع احاديث أركون في الوسائل الاعلامية العربية ومحاضراته العديدة يجد انه يدعو على صعيد التطبيق الى العمل في سبيل التحرير كضرورة اولى ومهمة من اجل الدخول في الحداثة، فمن وجهة نظره ان تحرير الارض والشعب وخصوصا الارادة من شأنه ان يقود الفاعلين الاجتماعيين نحو بناء مجتمع حديث. لذلك يرى انه على الكفاح السياسي ان يأتي اولا لكي يتحقق في ما بعد النهوض الاجتماعي والاقتصادي. لكنه يرى انه لا سبيل الى البناء من دون الاعداد لارضية فكرية صلبة، والتأسيس لفكر نقدي يرتكز على الابحاث التاريخية التي تكشف جذور المأساة المسيطرة على المجتمعات العربية الاسلامية منذ زمن. من هنا نجده خلال الفترة الاخيرة يتحدث عن «الجهل المؤسس» الذي يعلم في المدارس الرسمية بعناية من قبل الدولة. انه ينتقد بشدة طرق التعليم أو التلقين غير المبني على اسس مغرفية متينة، ويرى في المقابل ان علوم الانسان والمجتمع من شأنها ان تسهم في محاربة «الجهل المؤسس» والحد من التعليم الجاهل الذي يفرض على التلاميذ. وفي هذا السياق ترى ابي نادر ان المسألة التربوية هي اليوم من ابرز ما يجب التصدي اليه من قبل المفكرين والباحثين وخصوصا المنشغلين بأمور التعليم والتربية، علمية كانت ام مدنية ام دينية. اذا كان هذا ما يدعو اليه أركون، فان الجابري يشدد من اجل الدخول في الحداثة على النهوض الاقتصادي، ويدعو في خاتمة نقده العقل السياسي العرب الى انشاء سوق عربية مشتركة تفتح الدول العربية على بعضها وتشهم في انعاش الوضع الاقتصادي. فمن وجهة نظره الاهتمام بالاقتصاد بامكانه ان يؤسس للنهضة المرجوة. الجابري يعتبر ان الوحدة الثقافية قائمة وذلك على خلاف الوحدة السياسية التي يجب العمل على تحقيقها عبر جهات وطنية وأنظمة حكم فدرالي او كونفدرالي. لكنه يعتبر ان الخطوة الاولى في سبيل تحقيق الوحدة العربية هي، «تصحيح الوعي بالوحدة»، والتفكير فيها من خلال وضع الدولة القطرية الواقعية، وما توصلت اليه من فشل، لكي يصار فيما بعد الى نفيها عن طريق تحقيق الديمقراطية. الباحثة ابي نادر تخلص الى القول انه تعددت الابحاث والمشاريع الفكرية الرصينة التي عملت على ادخال الفكر العربي الاسلامي المعاصر في الحداثة. كما كثرت الدعوات المنادية بتطبيق الديمقراطية وحقوق الانسان، وتنوعت السبل التي اقترحت انماطا من السلوكيات التحديثية، ناهيك بالخطابات السياسية التي تحمل في طياتها كما من المخططات الخمسية والعشرية التي تهدف الى النهوض الاقتصادي والاجتماعي ولكن... بعد كل هذا من البديهي ان نسأل لماذا لم ندخل بعد في الحداثة؟ ما هو تكوين هذه المملكة التي لا يتسع بابها للحضارة العربية الاسلامية المعاصرة، بينما نجده واسعا رحبا يستقبل العديد من الحضارات والامم؟ ماذا لو انه كان العكس هو المطلوب تحققه؟ لم لا تعمل هذه الحداثة على الدخول في باب الحضارة العربية الاسلامية المبنية على اسس معرفية وعلمية متينة. «التراث والمنهج بين أركون والجابري» صدر حديثاً عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت. الكفاح العربي