"النقد الذاتي" نص حاسم في تكون الفكر المغربي المعاصر يجد مكانه (ومكانته) جنباً إلى جنب مع النصوص الفاعلة في الفكر العربي المعاصر عامة نخلد هذه السنة الذكرى المأوية لميلاد المفكر وزعيم التحرير علال الفاسي رحمة الله عليه. وفي هذا الإطار ستنظم عدة تظاهرات ثقافية تلقي الضوء على مسار حياة الزعيم وعلى مراحل نضاله وعلى فترة مهمه من تاريخ المغرب قبل الحماية ومرحلة الكفاح الوطني من أجل التحرر وفترة مابعد الحماية والدور الذي لعبه الزعيم الراحل والحركة الوطنية في هذا الباب. وقد انطلقت هذه الأيام بالندوة التي نظمت يوم السبت 13 فبراير 2010 بمؤسسة علال الفاسي والتي شهدت حضور أعضاء مجلس الرئاسة واللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. وعدد كبير من المفكرين والمناضلين وزعماء الأحزاب السياسية. وقد افتتحت الندوة بالكلمة القيمة التي ألقاها الأمين العام لحزب الاستقلال ورئيس المؤسسة الأستاذ عباس الفاسي والتي رصدت فيها ملامح من حياة علال الفاسي المفكر والمناضل والإنسان. وقد قدمت خلال هذا اليوم عروض الأساتذة عبد الرحيم اونين حول الخطاب الكولونيالي المسيحي بالمغرب خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ودور الوطنيين في التصدي له والأستاذ سعيد بن سعيد العلوي حول الحركة الوطنية وهاجس التنظير، والدكتور عبد الهادي التازي حول التاريخ الدولي للمملكة المغربية في مائة سنة، وعرض للأستاذة ثريا برادة حول الوضع في المغرب في القرن التاسع عشر وعرض للأستاذ محمد العربي المساري حول العمل الديبلوماسي للحركة الوطنية المغربية. وسننشر أسبوعيا وتباعا هذه العروض انطلاقا من هذا الأسبوع حيث سننشر اليوم العرض الذي قدمه الدكتور سعيد بنسعيد العلوي حول الحركة الوطنية وهاجس النظرية وسننشر في الأسابيع القادمة بقية ا لعروض. I - هاجس النظرية في خاتمة "الحركات الاستقلالية في المغرب" تستوقفنا الفقرة التالية: »من الواجب علينا، وقد جلينا فضائلها، أن ننبهها إلى بعض مواطن النقص التي يجب أن نعمل على إتمامها. وأول هذه المواطن، في نظرنا، هو ما يرجع إلى تكوين النظرية - وأعني به ما يتعلق بخلق برنامج مفصل للنظام السياسي والاقتصادي الذي يجب أن يكون عليه المغرب وقت استقلاله«(). الخطاب في الكتاب المذكور موجه، كما هو معروف، إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية. والكتاب، كما هو معلوم كذلك، تقرير ضافٍ رفعه علال الفاسي للجامعة بطلب من أمينها في نهاية أربعينات القرن الماضي (1948). ومدار الحديث هو الحركة الوطنية المغربية ("فضائلها"، "مواطن النقص"، "النظرية") يلزم التنبيه إلى جملة أمور تتصل بصورة العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، وبحال العالم العربي خاصة ثم، بعد ذلك، بواقع المغرب والحركة الوطنية المغربية تحديداً في الفترة التي كان فيها تحرير الكتاب. ننبه إذن على جملة أمور نسوقها في عناصر أو عناوين حيث لا يتسع المقام لبسط القول فيها فنحن نشير، في إيجاز شديد إلى: - واقع العالم في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية في أوربا خاصة ظهور معسكرين قويين وإيديولوجتين متصارعتين (الرأسمالية/ الشيوعية) وانبثاق حرب جديدة سكت فيها صوت المدافع وخبت النيران فكانت الحرب الجديدة »حرباً باردة« بين المعسكرين. هذه الحرب الباردة، والصراع الإيديولوجي وقودها، ستتصل أربعين سنة بعد التاريخ المذكور 1948. - عرف العالم العربي، في مجمله، مخاضاً ثقافياً كان عنه خصوبة فكرية تجلت في ظهور كتابات عديدة تكتسي طابع التنوير، شحذ الوجدان العربي بوجوب معرفة التراث العربي الإسلامي مثلما كان من مظاهر هذه الخصوبة ظهور تيارات فكرية، لكل تيار ممثلون ومدافعون عنه بالكتابة الصحافية والسجال الفكري - نذكر من تلك التيارات ما يصح اعتباره بالفكر العربي الليبرالي الخجول والمتردد، والفكر الاشتراكي في تلويناته العديدة (الاشتراكية الطوباوية، الفابية، جراثيم نزعة اشتراكية عملية) دعاوى سلفية اختلفت في مدارس وتيارات. أما من الناحية السياسية فإن الفترة المذكورة شهدت، من جانب أول، بداية حركات تحررية ناجحة من جهة، مثلما شهدت نكبة فلسطين والدول العربية في السنة نفسها من جانب ثانٍ. قد تجدر الإشارة إلى أن حركة الإخوان المسلمين، في مصر، كانت قد بلغت غايتها من القوة في السنة السابقة، موضوع الحديث، السابقة على اغتيال زعيمها الشيخ حسن البنا. كل هذه التيارات الفكرية، في مصر وبلاد الشام أساساً، كانت لها أصداء في باقي البلدان العربية وبلدان المغرب العربي في عدادها بطبيعة الأمر. - أما في المغرب فإن العمل السياسي الوطني قد بلغ، في هذه الفترة، درجة عليا من التطور في السنوات القليلة التي أعقبت تقديم عريضة الاستقلال في 11 يناير 1944 - ثم إن تقديم الوثيقة ذاته فعل أتى بعد سيرورة طويلة من العمل السياسي في اللحظات التي ترمز إليها سنوات معلومة: 1930، 1934، 1936، 1937، 1944. غير أن الحركة الوطنية كانت تشهد، في المقابل، تطوراً أوصلها إلى حال الأزمة (أو المخاض) التي يتحدث عنها صاحب "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي". هناك ذكر ل"فضائلها" مثلما هناك حديث عن "مواطن النقص" وحديث، على نحو أخص، في الأمور التي تتصل بتكوين "النظرية". والحديث عن النظرية، والانشغال بها، يبرره سببان إثنان أحدهما معلن والآخر مضمر. فأما المعلن فهو التساؤل عن المغرب الذي تريده الحركة الوطنية المغربية بعد استعادة الاستقلال، الآن وقد بلغ النضال السياسي درجة من التطور كان عنها المجاهرة بطلب الاستقلال بعدما ظل العمل، خلال العشرين سنة السابقة، مطالبة بتطبيق الإصلاحات الموعودة وتذكيراً بها ورفعاً لسقفها. السؤال يتصل بمشروع المجتمع المراد تشييده، وبنظام الحكم الذي ترتئيه الحركة، والدولة التي تطمح الحركة الوطنية إلى العيش في كنفها بعد استعادة السيادة المنتهكة. وأما السؤال المضمر فيتصل بالوعي الذي يكون، بالضرورة، ملازماً لكل عمل سياسي لا عمل سياسي مسؤول، دون نظرية سياسية واضحة. لا عمل سياسي منظم دون وضوح نظري، وضوح في الرؤية. غني عن البيان أن الحديث عن الوضوح النظري وكذا الحاجة إليه يعبر، في العمل السياسي، عن أزمة والأزمة نتيجة طبيعية منطقية للحركة والتطور، نتيجة للفعل وللمقاومة معاً - لا ننسى أن لفظ "الأزمة" ينتسب، في الأصل، إلى القاموس الطبي!). الحديث عن النظرية يعبر، من جهة أخرى، عن نضج في العمل السياسي عامة وفي العمل الحزبي خاصة من أجل التوجيه والتأطير، وصياغة البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية - وبالتالي من أجل تحديد الأوليات وتعيين المراحل التي تقود إلى الأهداف المراد الوصول إليها. نقرأ في مقدمة "النقد الذاتي": »لقد دعوت في خاتمة كتابي "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" رجال هذه الحركات إلى أن يهتموا بتكوين النظرية ووضع البرنامج المفصل الذي يسهل علينا تحقيق الإصلاحات العميقة التي تنشدها أمتنا، متى تَمّ لها الاستقلال وظفرت بالحرية، حتى لا يقع لها من التبلبل ما يشككها في قيمة الكفاح الذي تبذله الآن بالنسبة لتقدمها وتحسن أحوالها«. ثم تقرأ، في الفصل الموسوم بإحاطة التفكير: »لقد ظلت الوطنية المغربية، منذ عهد بعيد، شيئاً غامضاً إلا فيما يرجع لمقاومة الأجنبي، ولقد كنا نرى في هذا الغموض سراً من أسرار قوتها، وقد يكون ذلك صحيحاً فيما مضى. أما اليوم، فيجب أن تمتاز الوطنية المغربية ببرنامجها الدقيق المفصل وأن تعلنه للأمة وتجمعها من حوله، وأن يكون للوطنيين قادتهم الاجتماعيون والاقتصاديون والروحيون إلى جانب قادتهم السياسيين«(). نحن إذن أمام هاجس قوي، هو هاجس التنظير أو طلب النظرية الواضحة في العمل السياسي وهو، كما قلنا، هاجس مشروع، منطقي وطبيعي. نود، في مساهمتنا هذه أن نعمل، جهد الإمكان، على فهم هذا »الهم النظري« وأن نتبين دلالته ومغزاه، لا في عمل وفكر الحركة الوطنية المغربية، في فترة حاسمة من مراحل تطورها، بل بالنظر إلى الفكر المغربي المعاصر في عمومه وفي مسيرته. II _ فرضيات ومنهج تلزمنا المنهجية العلمية الدقيقة بالكشف عن الفرضيات التي نصدر عنها، في قراءتنا لفكر الحركة الوطنية المغربية (في الفترة المذكورة)، كما تلزمنا بأسباب الدفاع عن صحة تلك الفرضيات. والفرضيات التي نتحدث عنها ثلاث نصوغها على النحو الموجز التالي: أ - الحركة الوطنية المغربية، من حيث مضامينها الفكرية وبناؤها النظري، بعض من كل أشمل هو الفكر المغربي المعاصر. ب - كل من الفكر المغربي المعاصر وفكر الحركة الوطنية مَرَّ بأطوار ومراحل، لكل مرحلة مكوناتها وموجهاتها مثلما أن لها منطقها الذاتي الذي تعمل بموجبه. بيد أن الفكرين يتداخلان ويتقاطعان في مستويات عدة. من ثَمّ يلزم القول إن الفصل بينهما يكون فصلاً بيداغوجياً محضاً، تفرضه ضرورة العرض والإفهام، بيد أن الفصل يصبح متعذراً في مستوى التحليل. ج - الفكر المغربي المعاصر هو بدوره بعض من كل أشمل، هو الفكر العربي المعاصر، فهو لا يفهم ولا يدرك إلا بإدراك إشكاليات وموجهات هذا الأخير. يمكن الكلام، في عبارة أخرى، عن الفكر العربي المعاصر في المغرب أو عن الفكر العربي المعاصر في تجلياته المغربية. ومعنى هذا القول الأخير هو الإقرار بأن هنالك، من جهة أولى، أرضية مشتركة يكون الصدور عنها، وإرثاً مشتركاً بين كل من الفكر المغربي المعاصر والفكر الأعم أي الفكر العربي المعاصر. وهو التسليم بأن هنالك، من جهة ثانية، تلوينات محلية تتصل بالجغرافيا والتاريخ والمكونات الذاتية المغربية. يقتضي الأخذ بالفرضيات المذكورة التنبيه إلى أن المعطيات المغربية (أو ما قلنا عنه إنه »التلوينات المحلية«) التسليم بوجود ثوابت، ظلت ملازمة لتاريخ المغرب منذ أول الفتح الإسلامي فهي لا تتبدل ولا تتغير. هذه »الثوابت« بدورها ثلاث: أ - علاقة عضوية بين العروبة والإسلام. هذه العلاقة العضوية تقوم على مبدأ وحدة بسيطة، وحدة تجتمع فيها مكونات معلومة هي الالتزام بالمذهب السني، على النحو الذي تقرره في الفقه والتشريع المالكية، والالتزام بالعقيدة الأشعرية، في مستوى العقيدة. فإسلام المغاربة، إسلام سني، مالكي، أشعري. ب - تضافر بين عنصرين إثنين متمايزين: الأمازيغ (= الساكنة الأصلية للمغرب) والعرب (= القوم المتصل وجودهم بالحضور الإسلامي للمغرب والقادمون في هجرات كثيفة). والعلاقة بين العنصرين هي علاقة تفاعل شديد بلغ درجة الانصهار منذ العهود المبكرة، وذلك في مستوى أول. وهي، في مستوى ثانٍ، علاقة اختلاف وتمايز. فأما المستوى الأول فهو في كل ما كان من الأمور متصلاً بالإسلام (= السنة، المالكية، الأشعرية)، وهذا من جهة العقيدة. وما كان متصلاً باختيار الملكية نظاماً في السياسة واعتبار العرش المغربي رمزاً يكون الاجتماع حوله واعتبارهما معاً تعبيراً عن الهوية المغربية. وأما المستوى الثاني فهو ذاك الذي يتصل بالثقافة والمكونات الثقافية _(= اللغات المحلية، العادات الاجتماعية، التقاليد القبلية، اللباس، الموسيقى، الطبخ وباقي التعبيرات الثقافية الأخرى). ج - اتصال الدولة في المغرب مع تبدل الأسر الحاكمة. أما نظام الحكم ذاته فقد ظل، مع اختلافات يسيرة لا تنال الجوهر، واحداً فكانت الدولة في المغرب على نحو ما كانت عليه في الدول الكبرى والأنظمة المستقرة في العصور السابقة على ميلاد الدولة الحديثة (أو الدولة في التصور الحديث لها). معنى ذلك أن السلطة المركزية، على النحو الذي هي عليه في الدولة الحديثة، لم تكن موجودة، فهي غير متصورة. وفي عبارة أخرى نقول إن الدولة في المغرب، طيلة المرحلة السابقة على الحماية، كانت تقوم في معادلة دقيقة، ضمن اتفاقات صريحة حيناً وضمنية حيناً آخر، بين سلطة الدولة في حاضرة الملك، وبين التجمعات القبلية الكبرى. ( يصح القول، من هذه الناحية، إن الجهوية الموسعة - على النحو الذي نجعل منه اليوم موضوعاً للنظر والتأمل - تعتبر من التقاليد المغربية - وبالتالي فإن فائدة أكيدة تكون في الرجوع إلى التاريخ المغربي قصد المساءلة والاستلهام). عن هذه الثوابت الثلاث كانت هناك معطيات فعلت فعلها في تكون الفكر المغربي (أو الفكر العربي المعاصر في المغرب) وهي، بدورها، تقبل الانتظام في مجموعات ثلاث: ما كان خلاصة للثوابت الثلاثة المتقدمة فكان الفكر المغربي ترجمة لها في تجليات مختلفة. وما كان متصلاً بأحدها فحسب، فهو تعبير عن قضايا مغربية صرف أو لنقل إنه ترجمة لما نعتناه بالتلوينات المحلية. وما كان، أخيراً، ثمرة القراءة التي قام بها المفكرون المغاربة، منذ بداية القرن العشرين، للفكر العربي المعاصر بمدارسه وتياراته. وقد يلزم أن نوضح فنقول: إن »القراءة المغربية« لفكر الحقبة التي يتواضع الدارسون على نعتها باليقظة أو »عصر النهضة« كانت قراءة »بريئة« إلى حد كبير، فهي لا تدرك الفروق والاختلافات الموجودة في المشرق العربي وفي بلاد الشام في حين أن المغرب، بل المغرب العربي برمته، كان خلواً منها. نقصد بذلك وجود عرب مسلمين وعرب غير مسلمين (أقباط، كاثوليك، مَوَارِنَة، أرثوذكس)، ووجود مسلمين سنة وآخرين شيعة. كذلك نجد أن المثقفين في بلاد المغرب ينظرون في الفكر العربي المعاصر فيعتبرونه فكراً واحداً، هدفه التنوير والتحديث وإشاعة قيم الحرية والتمدن والإصلاح والإشادة بالعقل. لذلك كان الكواكبي ومحمد عبده وطه حسين وسلامة موسى وشبلي الشميل، في أعين القراء المغاربة في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي كلاًّ واحداً مباركاً. قد نجد أن انفعالهم ببعض القضايا كان أكثر من انفعالهم بأخرى وأنهم، بصدد ثالثة، كانوا قليلي الاهتمام بل إنهم قد أشاحوا عنها بوجوههم. انفعل مفكرو الفكر المغربي المعاصر (في الفترة المشار إليها) بالفكر الوطني انفعالاً شديداً بلغ درجة عالية من التقدير بل والانبهار. وانفعل أولئك المفكرون مع عناصر غير قليلة من الدعوات الليبرالية والسلفية انفعالاً كثيراً، ولربما كانوا يخلطون بينها أحياناً، في حين أن الاحتفال بدعاوى الفكر القومي العربي ودعاة الجامعة الإسلامية كان قليلاً في جوانب، ويكاد يكون منعدماً في جانب آخر. III _ الفكر المغربي المعاصر وحضور الفكر الوطني لا نملك، في هذا المقام، إلا أن نجمل القول فيما فصلنا فيه الحديث سابقاً(). وصفوة القول عندنا في تطور الفكر المغربي المعاصر إن هذا الفكر مر بأطوار ثلاثة: - طور أول، بداياته الأولى ما تَمّ إنتاجه غب معركة إيسلي (1844) ثم، سنوات غير كثيرة بعد ذلك، ما كان يجد مصدره في هزيمة تطوان (1860).. يمتد هذا الطور الأول إلى زمن البيعة الحفيظية. - طور ثان، بدايته ظهور جماعة لسان المغرب، ونشر الدستور المغربي الأول() سنة 1908 وغاية هذا الطور نهاية أربعينيات القرن الماضي. - طور ثالث، بدايته في تقديرنا مع السنوات الأولى التي أعقبت استعادة الاستقلال، وقد نرى (في نظرة) في هزيمة يونيو، وما أعقبها في المغرب من أصداء، غاية تطوره.. وربما جاز (في نظرة أخرى) اعتبار نهاية العقد الثامن من القرن المنصرم نهاية له. ليس مطلبنا التوسع (ولا حتى لإيجاز القول) في طبيعة النصوص الفكرية المختلفة التي عرفها الفكر المغربي المعاصر في أطواره الأربعة، ولكنا نكتفي بالإشارة إلى أمرين، إبداء ملاحظتين. الأمر الأول (أو الملاحظة الأولى) هي أن الطور الثاني يعد من أكثر الأطوار خطورة وخصوبة (الحركة الوطنية المغربية تنتمي إلى هذه المرحلة انتماءً كلياً، منذ ظهور جماعة لسان المغرب، وما ترمز إليه من انبثاق فكر وطني تحديثي، حتى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين: بداية ظهور أزمة جديدة داخل الحركة الوطنية في المغرب). الملاحظة الثانية تتصل بالمنهجية في التأريخ للفكر وأحد مقتضيات تلك المنهجية هو الحكم بأن الفكر، (منظوراً إليه في استقلاله الذاتي النسبي عن البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) يخضع، من جهة التحقيب وتعيين الأطوار، إلى ظهور نصوص كبرى مؤثرة. تلك النصوص يصح نعتها بالنصوص الحاسمة. وكتاب "النقد الذاتي"، في هذا المعنى، يقبل لأسباب عديدة نعت »النص الحاسم« في تاريخ الفكر المغربي المعاصر. نود، في إيجاز وتركيز شديدين أن نذكر، في عبارات قليلة وفي تلميحات سريعة، جملة ملاحظات ضرورية. أولها أن الفكر المغربي المعاصر (في الطور الثاني) أفرز جملة مفاهيم وسلط الأضواء على جملة قضايا تتصل كلها، بكيفيات مختلفة، بالتجديد، والتحديث، والإصلاح، والوطنية، والتاريخ، والعقل ومكانته. وثاني الملاحظات أن أربعة من »قادة الفكر« كان لهم أبلغ الأثر في بلورة الفكر المغربي المعاصر في هذه المرحلة الثانية وهذا من جهة أولى. كما أن بصمات في تشكيل وتطوير الشعور الوطني ثم الفكر الوطني المغربي كانت بصمات قوية فاعلة. وثالث الملاحظات، ويصح اعتبارها الوجه الآخر للملاحظة السالفة، أن أربعة من »قادة الفكر« يتميزون في ذلك التأثير. فأما إثنان منهم فهم يتصلون بتقليد مغربي آخر، هو التقليد الشفوي (= تقليد الرواية والدرس المباشر الذي يستحوذ كلية فيقصي الحاجة إلى الكتابة والتأليف - وربما قد يلغيهما). والمقصود بالإثنين شيخان عالمان: أبو شعيب الدكالي (وقد كان حاملاً لدعاوى الحركة السلفية الكلاسيكية المشرقية في المغرب)، محمد بن العربي العلوي (وصفوة شباب الحركة الوطنية المغربية كانوا من تلاميذته ومريديه وجميعهم يدينون له بإذكاء الحس الوطني من جهة، وبالتنبيه إلى أخطار الانحرافات التي اتصلت بحركات الطرقية وما تحمله من إشاعة روح الخنوع، والتواكل السلبي، ومعاداة العقل، والعلم، والوسطية). وأما باقي الأربعة فقد كانا ممن حمل القلم فكتب في موضوعات ونبه على قضايا تتصل، بكيفيات مختلفة، بما أشرنا إليه من إذكاء الروح الوطنية، والحس التاريخي، والتحديث في شؤون التعليم، والاقتصاد ووجوب الإقبال على العلوم الحديثة. والإشارة عندنا إلى مولاي عبد الرحمن بن زيدان من جهة أولى، وإلى محمد بن الحسن الحجوي من جهة ثانية - مما عرضنا له في غير هذا المقام ولا يتسع المجال للقول فيه. IV _ النقد الذاتي: نص حاسم ينطبق نعت »النص الحاسم« على كتاب "النقد الذاتي" انطباقاً تاماً لأسباب معرفية وأخرى إيديولوجية. فأما عن الأسباب الأخيرة فنذكر أنا قد عرضنا لها مرات عديدة إذ كتبنا مرة في »اللحظة التاريخية لكتاب "النقد الذاتي"« وكتبنا قبل بضع وعشرين، جملة »ملاحظات أولية حول المضمون الثقافي للحركة الوطنية المغربية«()، فبسطنا القول في "النقد الذاتي" بحسبانه »البيان الإيديولوجي للحركة الوطنية المغربية« (ونحسب أن النعت الأخير يصدق عليه، وأن إجماعاً حول هذا اعتباره كذلك - وإن لم ينعته قبلنا أحد بهذا الوصف، فيما نعلم - إلى غاية السنة الأخيرة من العقد الخامس من القرن المنصرم). وأما عن الأسباب المعرفية فذلك لأن فحصاً للكتاب، من حيث موجهاته الأساس ومكوناته المعرفية، تبين لنا عن وجود أصداء وآثار قوية للفكر المغربي المعاصر في طوره الثاني، مثلما نجد ترجمة مغربية للدعاوى الليبرالية والسلفية الكلاسيكية والوطنية على النحو الذي راج في الفكر العربي المعاصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. وإذن فإن كتاب "النقد الذاتي" تركيب لإشكالات وقضايا الفكر المغربي المعاصر، في طوره الثاني، ومجاوزة لها نحو إشكالات وقضايا جديدة، يسير البعض منها في اتجاه التجديد الديني، والتحديث السياسي، والدعوة إلى التطوير الاجتماعي، ويثير البعض الآخر قضايا أخرى تتصل بمشروع المجتمع، بعد استعادة الاستقلال، وببناء الدولة الحديثة في المغرب. نعود، ثانية، فنقرأ في مقدمة "النقد الذاتي": »إنني أرجو أن يهتم كل واحد منهم بقراءة هذه الفصول بإمعان وتبصر، ويعمل جهده في إتمام ما ينقصها أو تنقيحه حتى تتوضح الأفكار التي نرمي إليها، وتتبلور الغاية التقدمية التي نسعى إليها (...) وإذا قُدِّر للنخبة المغربية أن تجتمع يوماً لتضع برنامجاً عاماً مفصلاً لكل فروع الحياة ومظاهر النشاط القومي في مغرب الغد، ووجدت في هذا الكتاب ما يدلها على سبيل تحقيق غايتها فسيكون ذلك خير جزاء على الجهد الذي بذلته«. ومطلب علال الفاسي حدوث الالتقاء بين الدعاوى التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة (فقلنا إنها مما يموج به الفكر العربي المعاصر) وبين مشروع المجتمع والدولة الجديدين في مغرب ما بعد استعادة الاستقلال. لذلك فإن "النقد الذاتي" يكون، متى اعتبرناه في جانب، تعبيراً عما بلغه الفكر العربي المعاصر في المغرب (أو في تجلياته المغربية) - فهو من ثَمّ تركيب ومجاوزة لأطروحات وقضايا الفكر المغربي المعاصر في الطور الثاني من أطواره. ومتى اعتبرناه، في جانب آخر، الترجمان الأمين لتوق الحركة الوطنية إلى صياغة النظرية الشاملة المناسبة لها. وحيث إن المقام لا يسمح بتطويل النَّفَس كما يقول متكلمة الإسلام فإنه لا مندوحة لنا من الاكتفاء بتلميحات وإشارات إلى جملة من القضايا التي يثيرها "النقد الذاتي" - قضاياها هي بمرتبة الأسس التي تنبني عليها إشكالات وقضايا أخرى. نختار من بينها أربع، ونوجز فنكتفي بالتدليل على عناوينها مستشهدين بشذرات من نصوص ننتزعها من "النقد الذاتي" انتزاعاً. أ - القضية الأولى التي شغلت فكر علال الفاسي، العالم، هي تلك التي تتصل بالدين ومكانته في الحياة الاجتماعية. ولا يجد صاحب "النقد الذاتي" حاجة إلى الحديث في الدين وأهميته، ولكنه يوجه الانتباه إلى أمر يتصل بالدين من جهة تسخيره في السيطرة على العقول والتضييق على النفوس إحكاماً لقبضة الخنوع والإخضاع والقهر. يعدد الفاسي مظاهر من الشعوذة والاستغلال الروحي وسيلة إلى السيطرة الشاملة فيكتب »إن هذه العقلية التي استولت على الشعب باسم الدين ما تزال قائمة في نفسه، وإن فئة من المغرضين اليوم أو غداً ليستطيعون أن يحولوها إلى مبادئ هامة أو أراء ليست أرفع من أراء أبي حماره وشبهه (...) يستطيع أن يحول هذه الأمة إلى شعب يقاتل في سبيل الطاغوت ويجاهد في سبيل البهتان«. يحذر صاحب "النقد الذاتي" من النزعات التي تتوسل بالسيطرة على النفوس، بدعوى تخليصها وتطهيرها على النحو الذي تبتغيه، أي من حيث هي تعمل على تجريدها من روح المقاومة »ومن الحق أن نعترف بأن للحركة السلفية التي عَلَّمَتْ فجر نهضتنا فضلاً عظيماً في إزاحة كثير من هذه الحجب وفي توجيه العقول إلى النظر والبحث وفي الثورة على عديد من الخرافات ورجالها«(). ب - السبيل الوحيد في معركة التصدي لدعاة الاستغلال الديني والهيمنة بتوسط الدعوة إلى الإغراق في الروحانيات وفي الامتثال الأعمى لدعاة »طرقها« يقوم في التنبيه على سبيل الإسلام على الحقيقة. والطريق إلى الإسلام على الحقيقة يكون - وكما يليق بالفكر المشبع بالدعوة السلفية الكلاسيكية - في التشبث بالعقل، والانتصار له، بل والإيمان به على النحو الواضح في الجمل التالية: »رفع الإسلام قيمة العقل، وحث القرآن على النظر والتبصر والاحتكام إلى الفكر الصحيح والعقل الرجيح في عشرات الآيات وجعله رسول الإسلام معجزته الكبرى ومناط دعوته. وهذا ما يجعلنا نؤمن بالعقل من غير تحفظ ونعتد به في تفكيرنا الديني الذي يجب أن يسير معه جنباً لجنب في كامل الاتفاق وغاية الانسجام«(). ج - هذا الإيمان بالعقل والاعتزاز به يوجه صاحب "النقد الذاتي" وجه الغرب لاقتباس ما كان مفيداً وإيجابياً دون تردد ولا خوف »فيجب أن نمضي قدماً مستنيرين بعقولنا التي لم تقيدها أسباب القلق المعاصرة لندرس كل ما في الغرب، مقتبسين ما هو صالح لانبعاثنا ونافع للعصر الذي نعيش فيه«(). في "النقد الذاتي"، في الباب الأول المخصص ل"مسائل الفكر" عموماً نجد خطاباً مماثلاً، يتكرر مرات عديدة ليكون تغنياً بالعقل وقرناً له بالحرية، »فمن الواجب أن لا نذهل نحن عن أصلنا الأساسي الذي هو الإيمان بالحرية والاعتزاز بالعقل ومقياسه الذي لا يبلى«. أما النقيض المباشر، ما يصح فيه القول إنه طريق الشقاء والاستعباد فهو كل ما يبعد عن العقل فيوقع صاحبه في »سعادة مصطنعة أو روحية منتحلة«. د - كل قضايا الفكر مع نبلها وعلو شأنها، ليس لها أن تصرف الناظر المتطلع إلى مشروع المجتمع الحديث، في مغرب ما بعد الاستقلال، المتشوق إلى بناء دولة الحرية والحق. وصاحب "النقد الذاتي" واضح أقصى درجات الوضوح الممكن في أحاديثه التي تتصل بالدولة ونظام الحكم في المغرب. المبدأ الأساس والقاعدة الأولى التي تأتي القواعد الأخرى لتكون لواحق لها وفروعاً منها ترتسم كما يلي: »مسألة النظام، بالمعنى الخاص للكلمة، لا تعرض في بلادنا ما دمنا ندين بهذين العاملين لأن وجود العرش الكريم كافٍ لتكوين المحور الذي قام ويقوم عليه نظامنا القومي. لكن لابد من إعطاء العرش وصاحبه القيمة الحقيقية التي يقتضيها العهد الجديد«(). أما القواعد التي تتفرع عن هذا المبدأ الأصلي فهي تتصل بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها ممارسة السلطة في "العهد الجديد" »يمكننا أن نعتبر أنفسنا، منذ الآن، في الاتجاه الملكي الدستوري وذلك يفرض علينا الالتفات إلى الذين سبقونا في هذا المضمار«. والالتفات المشار إليها يقتضي »تنظيماً حكومياً قائماً على الأسس الديمقراطية الصحيحة«. وليس لهذا التنظيم شكل مقبول إلا أن يكون الوزراء »منفذين لشؤون الدولة باسم جلالته، ولكن على شرط أن يتحملوا مسؤولية ما يمضونه من أعمال أمام جلالته، بصفته ولي الأمر، وأمام المجالس النيابية يوم يتم تحقيق ما نصبو إليه من نظام دستوري - بعد الاستقلال طبعاً«(). يتبع هذا الانشغال بأمر السلطة التنفيذية وطبيعة الممارسة فيها انشغال آخر يتصل بالحزبية والتنظيم الحزبي. وصاحب "النقد الذاتي" يبسط نظراً واضحاً، دقيقاً، في معنى الحزبية ودور الحزب وطبيعته وفي كيفية المراقبة. والطريف أن علال الفاسي يماثل الحزبية بالعصبية في معناها الخلدوني: »أصبحت الحزبية في سائر الأنظمة الديمقراطية وكأنها العصبية التي كانت من قبل في الاستناد للقبيلة أو الجماعة حسب تعبير ابن خلدون«(). ومن الطريف كذلك أن يسجل المرء أن أراء صاحب "النقد الذاتي" في التعددية الحزبية (في الاختلاف بين الاختيار الأنجلوسكسوني الذي يقوم على وجود قطبين كبيرين يتداولان على السلطة التنفيذية)، والنظام الجاري به العمل في دول أوربا الغربية)، أراء لا تخلو من راهنية ومعاصرة. النظام السياسي القائم »في فرنسا وفي بلجيكا يؤدي إلى وجود أحزاب متساوية في عدد الممثلين في البرلمان لا يمكن معها تكوين حكومة دائمة إلا بنوع من التوافق والتقريب. ولكن الواقع أن ذلك ليس ناشئاً عن تعدد الأحزاب وإنما هو عن اختلاف التقنية ونظام الانتخاب وتوزيع الدوائر«(). خاتمة يصح القول، في خاتمة ورقتنا هذه، إن كتاب "النقد الذاتي" يقبل - للأسباب التي أشرنا إليها - النعتين اللذين ارتأينا وصف الكتاب بهما. إنه - ولا نحسب أن تردداً يشوب قبول ذلك - البيان الإيديولوجي للحركة الوطنية المغربية في الدرجة العليا من تطورها ، تلك كان تقديم عريضة الاستقلال صيغتها العليا: "النقد الذاتي" إسهام في التأصيل النظري للحركة الوطنية المغربية وثمرة سيرورة فكرية - سياسية امتدت قروناً أربعة متصلة. وكتاب "النقد الذاتي"، من جهة أخرى، نص حاسم في تكون الفكر المغربي المعاصر يجد مكانه (ومكانته) جنباً إلى جنب مع النصوص الفاعلة في الفكر العربي المعاصر عامة. النعتان معاً، الحالان، وجهان لعملة واحدة. كذلك قضى منطق التاريخ في المغرب المعاصر، إذ امتزج مطلب التحديث بمطلب الاستقلال، وكان الانتصار للعقل والحرية نضالاً ضد الخرافة والشعوذة وما كان »روحية منتحلة«. () علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، دار الطباعة المغربية، تطوان، 1948، ص. 440. () علال الفاسي، النقد الذاتي، لجنة تراث علال الفاسي، مطبعة الرسالة، الطبعة الخامسة، الرباط، 1979، صص. 29-30. () أنظر: سعيد بنسعيد العلوي، الوطنية والتحديثية في المغرب، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997؛ سعيد بنسعيد العلوي، الفكر المغربي المعاصر وأطواره، الدرس الافتتاحي للموسم الجامعي 2009-2010، كلية الآداب - ابن مسيك، الدارالبيضاء. () كذلك ينعت دستور 1908 عند الحسن الثاني. أنظر: Hassan II, Le Défi, Albin Michel, Paris, 1976, p. 209. () سعيد بنسعيد العلوي، الوطنية والتحديثية...، سبقت الإشارة إليه. ()علال الفاسي، النقد الذاتي..، سبقت الإشارة إليه، صص. 53-54. () المرجع السابق، ص. 116. () المرجع السابق، ص. 99. () المرجع السابق، ص. 153. () المرجع السابق، ص. 154. () المرجع السابق، ص. 159. () المرجع السابق، ص. 160.