الوثيقة التي أطلقتها فعاليات اتحادية تضمنت مراجعات فكرية وسياسية عميقة، وتعيد تقييم الموقف من العديد من القضايا (المؤسسة الملكية، الإصلاح الدستوري، الكتلة الديمقراطية، توحيد اليسار، والتحالفات الأخرى والموقف من الإسلاميين ومسألة التنظيمات وقضية التيارات داخل الاتحاد الاشتراكي. ونظرا لأهمية الوثيقة خاصة في هذا التوقيت، ونظرا لما تضمنته من تحليلات ومواقف بخصوص الموقف من الحكومة؛ استمرارية ومعارضة، وكذا الأرضية النظرية التي استندت إليها الوثيقة للدعوة إلى إعادة بناء الموقف من الإسلاميين، نظرا لكل لذلك، تحاور التجديد أحد القيادات الفكريبة والسياسية التي أسهمت في إنتاج هذه الوثيقة الجماعية. ما هي الدواعي الحقيقية لإصدار هذه الوثيقة؟ هل يتعلق الأمر برغبة في إحداث مراجعة حقيقية داخل الاتحاد الاشتراكي تطال العديد من المفاهيم والمواقف؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون انتفاضة سياسية لتيار سياسي يعاني مظلومية فكرية وتنظيمية وسياسية داخل الاتحاد ويريد بهذه الوثيقة أن يحسن تموقعه؟ بدءا، ليت هناك مظلومية فكرية وتنظيمية وسياسية لتيار بعينه، ولا هي انتفاضة لذات التيار. صحيح أن كل طاقات ما كان يسمى بالمندمجين لم تستغل كما كان ينبغي، إلا أن هذا الوضع لا يتعلق بهم لوحدهم، بل إن طاقات الاتحاد الاشتراكي الكامنة وبأكملها لا تستثمر على أحسن وجه كما كان ينبغي لها. وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى الوضع التنظيمي الداخلي الذي كان عليه الاتحاد خلال هذه المرحلة وما يزال. الوثيقة إذن هي وثيقة جماعية من المندمجين وغيرهم، أي أنها وثيقة من صلب الاتحاد وموجهة إلى كل الاتحاديين بلا استثناء. وبغاية الحفاظ على الجدل الفكري والسياسي قائما وحيا داخل الحزب، ومن أجل الوصول إلى خلاصات جماعية مشتركة عن التجربة التي خاضها الاتحاد الاشتراكي في مرحلة الانتقال الديمقراطي، سواء في القضايا التي تناولناها بتركيز شديد، أو في القضايا التي تركناها تحت ضغط الاستعجال. وكل ذلك، لكي يكون الحزب على استعداد أفضل وأكثر متانة لمواجهة تحديات المرحلة القادمة. - نشرت الاتحاد الاشتراكي الطرف الأكبر من هذه الوثيقة، إلا أنها لم تنشر ما يتعلق بالمسألة التنظيمية وتحديد مسألة التيارات، في نظركم كيف تقرؤون هذا الشكل من التعاطي مع الوثيقة، وهل يعكس نشرها مستوى من الوعي داخل الاتحاد بضرورة تحريك النقاش الداخلي حول المراجعات التي تضمنتها الوثيقة دون طرح قضية التيارات؟ - أبدا، المسألة ليست بهذا الحجم على الإطلاق. فالوثيقة كانت معدة أصلا لتنشر في جريدة الاتحاد الاشتراكي. لكن لعوامل طارئة لا فائدة للقارئ في ذركها، لم تتوصل الجريدة إلا بالمسودة الأولى قبل تصحيحها وقبل طباعة الجزء الأخير منها والمتعلق بالمسألة التنظيمية، وعلى الأهمية الخاصة لهذه القضية في منظور الوثيقة. وهكذا، فلا لوم على الإخوة المسؤولين في الجريدة، فلقد نشروا ما توصلوا به، وبكل صدق وصراحة، فحرية الرأي داخل الاتحاد الاشتراكي مسألة مفروغ منها، بل كنا نشكو سابقا من حالة التسيب في إبداء الرأي المخالفة لقواعد النقد الأخوي الموضوعي. وأنتم ترون أن هذه الظاهرة السلبية التي كانت تملأ صفحات الجرائد الأخرى، غير الاتحاد الاشتراكي، ومن اتحاديين اتجاه اتحاديين آخرين، وخاصة ضد قيادات الحزب، وقد خفت إلى حد كبير، إن لم أقل، إنها انعدمت، وهذا تقدم تنظيمي هام لخلق أجواء الحوار الصحي والبناء. تضمنت الوثيقة نقدا قاسيا وصريحا للعديد من الممارسات والمسلكيات السياسية داخل الاتحاد، كما تضمنت مراجعات ثورية بخصوص العديد من المفاهيم، ألا يمكن اعتبار هذه الوثيقة بمثابة صدمة لالعقل الاتحادي ومحاولة إعادة تشكيله، بل وإعادة الاعتبار للإيديولوجيا داخل الاتحاد الاشتراكي، بعدما تضاءل الاهتمام بالشأن الفكري الثقافي تضاءل شأنه وأصبحت السمة البارزة لليسار هي التيه الإيديولوجي على حد تعبير الوثيقة؟ نحن من هذا العقل الاتحادي فلا صدمة بالتالي، وإنما هناك نقاش هام ومتواصل داخل الاتحاد الاشتراكي، بتمايزات الآراء فيه واختلافها أحيانا في هذه القضية وتلك، بل لقد صدر عن الحزب وثائق رسمية له بها من الحدة والقساوة على الذات أكثر مما احتوته الوثيقة في جوانب معينة. نعم، من أهم خصائص الطرح الذي جاءت به الوثيقة، أنه يحاول جاهدا إرجاع الاعتبار للإيديولوجيا في الحياة والعلاقات الحزبية الداخلية، وإرجاع المكانة التي ينبغي أن تحتلها هذه القضية في جبهات النضال الحزبي داخل المجتمع. فالبراغماتية السياسية بوجه عام قصيرة النفس، فضلا عن أنها فقيرة المضمون الفكري. وتنطبق هذه الحقيقة أولا وأخيرا على الأحزاب التي تطمح أن تكون اشتراكية. ولقد أعطتنا التجربة التاريخية للاشتراكية ما يكفي لكي نستخلص أن الاشتراكية لا تستولد تناقضات الإنتاج وحسب، بل لا بد لها من تحول فكري- ثقافي عميق في المجتمع. إننا نحاول أن نطبق في النهاية شعار التغيير بالمعرفة والناس، فلا تغيير بدون المعرفة وبدون الناس! دعوتم في الوثيقة إلى القيام بمراجعة نقدية تنظيمية شاملة، كما دعوتم إلى ضرورة الإقرار بتعددية التيارات داخل الحزب الاشتراكي، واعتبرتم ذلك المدخل الضروري لإطلاق دينامية حزبية جديدة تقوم على التنافس الفكري والبرنامجي بدل التموقعات الشخصية الحلقية والشكلية الحالية، هل تعتقدون أن الشروط الذاتية والموضوعية التي يعيشها الاتحاد تؤهله لقبول فكرة التيارات، وضمن أي رؤية؟ نقاش قضية التيارات ليس جديدا على الحزب، بل هو أقدم من اندماجنا نحن في الاتحاد الاشتراكي. واستؤنف هذا النقاش مرة أخرى في المؤتمر الأخير للحزب، وأعتقد أنه سيكون من القضايا الرئيسة في الندوة الوطنية التنظيمية التي سيعقدها الحزب في الأشهر القادمة تطبيقا لتوجهات وقرارات المؤتمر الوطني الأخير. إذن من هذه الناحية ليس هناك جديد كل الجدة، والأهم من كل ذلك، أن الحزب، لأنه خرج من أحشاء الحركة الشعبية ويعبر عنها، كان يعيش على الدوام على وجود تيارات متباينة بداخله، حتى وإن لم تكن مقننة تنظيميا. فتاريخ الحزب هو بقدر كبير تاريخ تفاعل تياراته الداخلية. ولا أرى في ذلك أي نقص أو عيب في هويته أو في دوره الاجتماعي والتاريخي. هكذا كان الاتحاد الاشتراكي (والاتحاد الوطني سابقا) في واقعه العملي المعايش. واليوم وأكثر من أي وقت مضى، ينبغي الرقي بهذا الواقع العفوي إلى واقع منظم ومفكر فيه. ومن المؤكد لدينا أن إقرار وتقنين تنظيم التيارات داخل الحزب سيكون مدخلا هاما لإطلاق دينامية تنظيمية جديدة ونوعية تخرج الحزب من ركوديته ومن رتابة تقاليد هياكله، فضلا عن أن هذه الدينامية ستعطي لديمقراطيته الداخلية أبعادا أخرى غير التموقعات الشخصية الراهنة الفقيرة بكل المعاني. ولا حاجة إلى القول إن هذه مجرد آلية، وإن كانت ضرورية لتحريك وتجديد مكينة الحزب، فإن حصيلتها في النهاية ستتوقف على مدى وعي المناضلين وعلى نوعية أخلاقهم وعلى كل المشروع الذي يعبر عنه الحزب في كل الميادين الأخرى. أكدتم في تقييمكم لتجربة الاتحاد الاشتراكي والقوى الديمقراطية بشكل عام، أنها دخلت الحكومة بدون تحليل معمق لاستراتيجية الانتقال الديمقراطي، ودون تثقيف مسبق لقواعدها وأطرها بما كان ينتظرها من احتمالات، وفي نفس الوقت اعتبرتم أنه من التبسيط والاختزال تعليق المعضلة السياسية التي تعيشها البلاد على الدستور أو المشاركة الحكومية، كيف تقرؤون إذن جوهر المعضلة السياسية؟ لم يكن من السهولة على حزب القوات الشعبية الذي كابد وجاهد وقدم تضحيات جسيمة وهو في المعارضة أن ينتقل هكذا وبيسر إلى موقع المسؤولية الحكومية؛ في ظل تلك الشروط السيئة المعروفة وتحت ضغط الوقائع السياسية والوطنية التي فرضتها. ولذلك، استهلكت القيادة الحزبية معظم وقتها وتحليلاتها أولا وأساسا في قبول المبدأ، أي تحمل المسؤولية الحكومية بكل ملابساتها والعمل على الإقناع به. لم تتح الفرصة للحزب لكي يطرح كل الأسئلة الممكنة على ما بعد المشاركة الحكومية، ما هي التكتيكات الواجب اتخاذها من قبل الحزب، وهو يتحمل المسؤولية في ظل شروط ليست كلها مناسبة اقتصاديا وماليا واجتماعيا ومؤسساتيا... لذلك وجدنا الحزب يقع في انتظارية شبه تامة حيث لم يعرف جيدا، وأقصد تنظيمات الحزب في مختلف القطاعات والجهات، كيف تتكيف مع الوضع الجديد، وكيف تحافظ على حيويتها وجماهيريتها، وتدافع في نفس الوقت عن منجزات الحكومة أمام رأي عام كان ينتظر الكثير من الاتحاد الاشتراكي فوق ما يسمح به الوضع الوطني نفسه. ولقد استغلت جيوب المقاومة هذه المفارقة ابشع استغلال في الصحافة وغيرها من الوسائل ومنها ترويج أطنان من الإشاعات الكاذبة في مجتمع تغلب عليه الأمية المعرفية والسياسية لتشويه صورة الاتحاد وقياداته لدى جماهيره الشعبية. نعم، المعركة كانت ضارية وكبيرة وظالمة.. والإشكالية نفسها، بل كانت أكبر وأكثر تعقيدا، بحيث ليس من الصواب اختزالها في الإشكالية الدستورية لوحدها، مع أنه كان بالإمكان أن تكون الممارسة الدستورية لنفس دستور ,1996 أفضل وأقرب لتأويل حداثي لمواده. والمسؤولية هنا مشتركة، وإن كانت متفاوتة، بين السلط الدستورية. ثم ينبغي ألا ننسى أن الواقعية الاقتصادية إذا صح هذا التعبير، ثقافة ضعيفة وضحلة. فإذا كان من المفهوم والمشروع أن تعبر الطبقات الشعبية عن حاجياتها الحيوية، فإنه من غير المفهوم أن تتحدث بعض النخب السياسية بلغة الرغبات والمتمنيات؛ متجاهلة أن إنتاجنا الوطني لا يساوي مثقال ذرة في موازين الدول المتقدمة نسبيا، وأن بنياته الإنتاجية أكثر هشاشة، وموارد الدولة أقل ميزانية من ميزانية شركة عالمية كبرى. وفي بلد حاجياته أكبر بكثير من إنتاجه...عدم استحضار هذه المعيطات الأولية يحول العديد من الخطابات إلى خطابات تمنيات شعبوية لا أكثر. ليس قصدي أنه ما كان أحسن مما كان ولا صراع اجتماعي وسياسي حول كل الاختيارات... أبدا.، وإنما غرضي أن استراتيجية الإصلاح الديمقراطي تتطلب منا التفكير جديا في المعطيات المادية الحقيقية لمشروعنا الاقتصادي الاجتماعي، لأن المراس الحكومي سيتكرر مرات ومرات، وعند الامتحان يعز المرء أو يهان، كما يقال. وباختصار شديد، إن المعضلة في نظري أكبر من إصلاح دستوري، وعلى الرغم من ضرورته الآنية. إن المعضلة بالأحرى في كافة بنيات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسة والثقافية والمؤسساتية. وأظن أن الورقة قد ألقت بعض الأضواء، وليس كل الضواء، على هذه الإشكالية. في موضوع الإيديولوجيا انطلقتم من ملاحظة كون التنظيمات السياسية التي لها تماسك داخلي قوي، وحضور جماهيري هي التنظيمات ذات التماسك الإيديولوجي وأن ضعف القوى الديمقراطية إنما جاء من قبل انحلال إيديولوجيتها الاشتراكية، هل تعتقدون أن الاشتراكية لا زالت تمثل الإيديولوجيا الوحيدة المتماسكة والقادرة على مجابهة التقليد بأفق فكري تاريخي واجتماعي مفتوح على النهضة والتقدم، وما موقع الرصيد الديني والثقافي ضمن هذه الإيديولوجية، وقد آخذتم على قوى اليسار أنها أهملت هذا الرصيد وتحاشت الخوض فيه؟ سأجانب الحقيقة إن زعمت أن النظرية الاشتراكية بخير وعلى أحسن حال، فبعد انتصار النظام الرأسمالي في العقد الأخير من القرن الماضي، وبعد التطورات التي عرفتها الإنسانية على المستوى المعرفي والعلمي والتكنولوجي، تراجعت وتخلخلت الاشتراكية كنظرية وكإيديولوجيا وكمشروع مجتمعي وإنساني متناسق. ومن الواضح أنني أتحدث هنا عن الاشتراكية في جانبها النظري البحث، لا عن وجود أحزاب اشتراكية في العالم لها حضورها ونفوذها السياسي، بل هي تكتسح مناطق جديدة كما هو الحال في أمريكا اللاتينية مثلا. وأنتم ترون، كيف أن النظام الرأسمالي العمالي يمر بأزمة خانقة وضعت العالم كله على حافة الإفلاس، ومع ذلك فهو يستمر مع تعديلات ومعالجات وقتية، وتبدل في موازين القوى العالمية بتعددية أوسع. وما ذلك إلا أن النظام الرأسمالي يتمتع بمرونة وعقلانية فائقين، وليس المشكل في أنه أعاد النظر نسبيا في دور الدولة وفي مسألة التأميم، فما كنت أصلا أعتبر أن هذه الإجراءات هي الاشتراكية، أو أن زمنها قد ولى نهائيا كما زعمت الرأسمالية المتوحشة في هذه العقود الأخيرة، بل المشكل أن الثقافة الاشتراكية تراجعت وأنها لم تستطع أن تقدم البديل الاشتراكي للنظام الرأسمالي العالمي القائم. لكن المشروع الاشتراكي نفسه في فلسفته وقيمه ودوافعه الاجتماعية، سيظل قائما ومحرضا على اكتشاف البدائل نحو التحرر الإنساني الجدري. فالتاريخ لا يعترف بقدرية أي نظام نهائي له فوق حرية الإنسان تطلعه للتحرر من كافة أشكال الاستغلال والاضطهاد والاستلاب، لأن الإنسان في نهاية التحليل هو صانع التاريخ. وفي هذا السياق، فلقد وجدت الاشتراكية في الغرب تراثا ثقافيا دينيا تحرر إلى حد بعيد من الجمود والتأويلات الظلامية، وكان ذلك بتكلفة باهظة، ولكنه تحرر من مواكبة لانتظامية اقتصادية واجتماعية وعلمية مناسبة. أما عندنا، فالاشتراكية ينبغي أن تأخذ بجد المسألة الثقافية والدينية في ظروف تاريخية مختلفة ومتزامنة. وفي هذا الصدد عليها أن تحرر من تلك الأحكام التبسيطية التي علقت بها، أو التي نسبت إليها جورا وزيفا. إن قراءة عميقة للتراث النظري الاشتراكي في هذا الميدان تخالف جدريا ما هو مشاع، وما استغله أعداؤها ضدها من مبتسرات شعاراتية عن جهل وعن سوء نية أيضا. ولا اظن أن المجال هنا سيسمح بمثل هذه المطالعة، لكنني أقول باختصار، إن الثقافة الدينية، إن هي تحررت من الجمود والتأويلات الرجعية ، وإن هي تشبعت بالروح الإنسانية والتاريخانية والعقلانية، فإنها تلتقي حتما مع التصور الاشتراكي وتندمج فيه. بخصوص الكتلة الديمقراطية، اعتبرتم أن ثمة إمكانية فعلية لوضع أرضية سياسية وإيديولوجية وتنظيمية موحَّدة في قواسم مشتركة، لكنكم اشترطتم لذلك القيام بمراجعة نقدية شاملة وجماعية وناظرة للمستقبل بكل تعقيداته وتحدياته، وقادرة على تجاوز العديد من الخلافات الراهنة، ماذا تقصدون تحديدا بهذه المراجعة؟ مراجعة أفكار أم تموقعات؟ مراجعة خط سياسي أم تموقعات شخصية؟ إعادة بناء التنظيمات المشكلة للكتلة أم مجرد توافقات جديدة؟ ربما قصدتم، بحسب عبارات الوثيقة الورادة في سؤالكم، وحدة تنظيمات اليسار في حزب اشتراكي موحد، وليس الكتلة الديمقراطية، لأن ما يجمع الكتلة الديمقراطية كقواسم مشتركة موجود، ولا يحتاج إلى اتفاق إيديولوجي، ولكنه يحتاج إلى تطعيم جديد بخلاصات مشتركة عن حصيلة تجربة الانتقال الديمقراطي في مجملها، وكذا تشكيل تصور سياسي مشترك للمرحلة القادمة. ويحتاج بالدرجة الأولى إلى استئناف عمل الكتلة ومواصلة نشاطها السياسي والجماهيري الذي أصابه الجمود والشلل بلا أي مبرر سياسي ومعقول سوى غياب الإرادة الكتلوية الفعلية لدى مكوناتها لطغيان الحسابات الحزبية الضيقة. من كان يصدق مثلا، أن حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي سيتوصلان، بعد كل الصراعات القديمة، وعندما توافرت الإرداة الجادة، إلى لائحة مشتركة في الانتخابات التشريعية. وما أدراك ما هي اللائحة المشتركة في الحزب الواحد اليوم، فبالأحرى بين حزبين كبيرين! إن استكمال البرنامج السياسي للكتلة مايزال قائما وضروريا. وإن أي نهج حزبي انفرادي اليوم، أو بعد الانتخابات التشريعية القادمة سيكون إضعافا للقوى الديمقراطية وليس لصالح التقدم الوطني عامة. أما تنظيمات اليسار، فلقد عبرنا في الوثيقة على أنه لا مستقبل لها إلا في حزب اشتراكي واحد وموحد، لأن تعدديتها في ظل العزوف الشعبي العام، هي تعددية غير مخصبة وغير منتجة. إذ لا يهمها أن يوجد بينها من خلافات سياسية آنية، ولا تهم الخلافات بحد ذاتها، بل المهم والحاسم أن تجد هذه الخلافات حركة شعبية تستقبلها وتستثمرها في دينامية سياسية أفضل. ولذلك، قالت الوثيقة، بأن كسب الأغلبية داخل الحزب الواحد الموحد هو اليوم أفضل طريق لكسب الأغلبية الشعبية مستقبلا. والقواسم المشتركة هنا ممكنة إذا ما أخذنا تعقيد الوضع كما هو عليه. واضح من خلال الصياغة للموقف من الحكومة، أن الوثيقة كتبت في سياق النقاشات التي سبقت العملية الانتخابية، مما يجعل ما تضمنته من بعض الأفكار متقادما؛ إلا إذا تم النظر إليه باعتباره يندرج ضمن تجربة النقد الذاتي، الآن بعد أن انتهت العملية الانتخابية وظهرت الخريطة السياسية بكل ملامحها وتفاصيلها، ما هو الموقف الذي ترجحونه من قضية المشاركة أو المعارضة عملا بالمبدئين اللذين جعلتهما الوثيقة بمثابة البوصلة الموجهة؟ الانتخابات الجماعية الأخيرة وما تلاها من استحقاقات، ليست هي العامل الحاسم في تقرير الموقف من الحكومة؛ استمرارية أو معارضة. وبالرغم مما ظهر على التركيبة البرلمانية من تقلبات وهشاشة في قوى الأغلبية الحكومية، في اعتقادنا أن الحكومة الحالية ينبغي أن تستمر بالرغم من كل هذه الظروف غير المناسبة، لأنه لا فائدة لدى الرأي العام الوطني من إحداث أزمة حكومية، خاصة وأن قضايا كبرى تهمه هي اليوم في جدول الأعمال، وأخص بالذكر إصلاح القضاء. عدا أن اصطناع أزمة من هذا النوع سيحدث شرخا كبيرا بين القوى الديمقراطية، وسيؤثر حتمنا على تحالفها وما سيأتي من استحقاقات قادمة، وقد يخلق أجواءا لا تتناسب مع الإرادة التوافقية من أجل إحداث إصلاح دستوري قريب. وعندما تتم الانتخابات التشريعية القادمة، وتتضح الخريطة السياسية الناتجة عنها، والوضعية الدستورية المصاحبة لها، آنذاك ينبغي طرح السؤال حول المشاركة أو عدمها في الحكومة، وفي ضوء استراتيجية واضحة ومفكر فيها جيدا، تستفيد من دروس التجربة السابقة، سواء من حيث الصلاحيات الدستورية والتنفيذية، أو من حيث التحالفات الصلبة لا الهشة كما كانت إلى اليوم، أو من حيث أولويات البرنامج الحكومي الجاذب والمستقطب والمعبئ للقوى الشعبية. انتقدتم في مقال سابق شعار الملكية البرلمانية الذي رفعه الاتحاد في بيانه السياسي للمؤتمر الثامن، واعتبرتم وقتها أن النقاش على مستوى الإصلاح السياسي والدستوري ينبغي أن يتم بعيدا عن اللغة المزايدة السياسية، وفي المقابل تؤكدون في هذه الوثيقة بأن السقف الدستوري واطئ لا يفسح المجال لمباراة برنامجية حزبية كاملة في تسيير شؤون الدولة، وأن ثمة حاجة إلى دستور جديد تتمتع فيه كل من المؤسسة الملكية، واعتبرتم أن هذه الإشكالية قابلة للحل دستوريا وسياسيا وعمليا كيف ذلك؟ لسنا ضد الملكية البرلمانية هكذا بإطلاق، لكننا نريد أن تكون شعاراتنا وخطواتنا مطابقة ومناسبة لحالة مجتمعنا ولخصوصية تطوره الديمقراطي. ولقد نوهت في ردي على سؤال سابق، أنه بالإمكان، حتى في ظل الدستور الجاري به العمل أن تكون الممارسة الدستورية أفضل مما جرى في الواقع العملي. ولمحت إلى أن المسؤولية تعود، ولو بتفاوت، إلى المؤسسات الدستورية بأجمعها. والمسألة في النهاية لها وجه سياسي إرادي، إما صوب المزيد من التحديث، وإما صوب المزيد من التقليد، ولو في الدستور الجاري به العمل. ولا حاجة بنا إلى التذكير أو التفصيل في ما جرى. أماوأن السقف الدستوري واطئ، ولا يسمح بالتنافس الحزبي إلى النهاية، أي إلى المحاسبة المؤسساتية والشعبية للحكومية ولبرنامجها الفعلي. فهذا ليس اكتشافا جديدا علينا، فلقد كنا على وعي به حين صوتنا إيجايا على الدستور الحالي، لكننا راهنا، في ظل الشروط والملابسات الوطنية آنذاك، على أن الإصلاح في ميادينه المختلفة، سيطلق دينامية سياسية وشعبية تعوض هذا الضعف، وتسمح باستدراكه في شروط أفضل. لكن هذا الرهان، والسياسة رهانات، لم يتحقق بالشكل الذي كنا ننتظره، رغم كل الإصلاحات المنجزة ولأسباب أوضحناها في الوثيقة، ومن ثم أصبح لزاما علينا أن نحرك من جديد هذه الآلية الدستورية، وبما أفصحت عنه التجربة نفسها. وكما جاء في الوثيقة، فإننا ما زلنا بحاجة إلى دور قوي للمؤسسة الملكية، ولكننا بحاجة أيضا إلى دور قوي لحكومة ذات شخصية سياسية مستقلة وذات سيادة فعلية. وأعتقد أن المطالب الإصلاحية الدستورية التي أبرزناها في الوثيقة تراعي هذا التوازن ولا تخل به. بخصوص الإسلاميين؛ الطريقة التي شخصتم بها واقع الطيف الحركي وخصوصيته، ومن ثمة طبيعة الموقف المفترض اتخاذه من كل حالة على حدة يطرح التساؤل حول دوافع هذا التحول والمراجعة في الموقف، هل يتعلق الأمر باستعادة موقف نظري كانت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بدأت التأصيل له مبكرا وتم استصحابه في تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أم يتعلق برغبة في إنهاء حالة التعامل السياسوي مع هذا الملف، وإعطاء الموقف أرضية نظرية صلبة؟ ثم هل تتصورون أن يكون لهذا التأصيل ما بعده على مستوى علاقة الاتحاد الاشتراكي ببعض مكونات الحركة الإسلامية؛ خاصة المشاركة منها في العملية السياسية؟ كل ما أشرتم إليه من موقف نظري كانت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بدأت التأصيل له مبكرا، وتم استصحابه في تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي كان صحيحا، ولكنه أصبح من الماضي، ولذلك لا يسعنا إلا أن نتحدث بما نحن عليه اليوم. إن رغبتنا الوحيدة هي في فتح نقاش وحوار هادئ حول موضوع له تداعياته الكبرى على مستقبل المغرب ومستقبل وطننا العربي عامة. لقد كنا من أوائل الداعين إلى دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع، وهذه القضية في صلب دمقرطة المجتمع وتحديثه. انظروا إلى المثال التركي، فلعله عبرة لمن يريد. إن ما يجري في تركيا اليوم، أكبر من مجرد إعادة تموقع لمصالح الدولة التركية، إنه يشير بالأحرى إلى أن تركيا، بعد عقود من العلمانية الفوقية ذات السيماء الاستبدادية بالضرورة، قد بدأت تجد توازنها الديمقراطي المصاحب لتوزانها الحضاري والجيوبوليتيكي. فلا العلمانية اجتثت ثقافة المجتمع الإسلامية (كما يخشى المتطرفون عندنا) ولا ثقافة المجتمع وهويته الحضارية الإسلامية انقضت على الحداثة (كما يخشى الآخرون). فلماذا إذن ستكون تركيا استثناء لا يتكرر!! في اعتقادي أن الحقائق الموضوعية ستفرض نفسها على الجميع، وكل ما أتمناه أن تكون الإرادات مصاحبة لها في الوقت المناسب ولصالح التقدم.