في خطب السياسيين وافتتاحيات الصحافة ومداخلات البرلمان وندوات الجامعة وبلاغات المجتمع المدني، ثمة مصطلح يبدو اليوم غير قابل للالتفاف، بلا مرادف أو يكاد ،إنه " تنزيل الدستور ". لقد انتبه محمد بوبكري في إحدى مقالاته إلى طبيعة الحقل الدلالي اللاهوتي الذي ينتمي إليه تعبير "التنزيل"، كما لاحظ محمد المدني أن المفهوم يحمل دلالات دينية وإيديولوجية. كيف إذن انزاح المصطلح من حقله الأصلي كلفظ قرآني له علاقة بالوحي والدراسات الفقهية "لعلوم التنزيل" إلى حقل التداول العمومي السياسي و الدستوري؟ هل نقول من جديد أن اللغة تظل إحدى أكبر رهانات الفعل السياسي؟ هل نعود لأقدم دروس العمران الخلدوني حيث اللغة (= الخطاب) السائدة هي لغة المنتصرين في السياسة كما في الاجتماع، في السلم كما في الحروب. في معجم السياسة ليس ثمة حياد في الكلمات، في السياسة كما في الآداب للغة مكرها وللكلمات سحرها، لذلك من يصنع اللغة ومن ينحت الكلمات هو من ينتج في النهاية "المعنى". ان الصراع السياسي ،هو صراع كذالك على اللغة،صراع داخل اللغة ،صراع باللغة و الكلمات. ان اللغة سلاح للسياسة و ساحة نزالاتها في ذات الأن،لتقرأ مرحلة سياسية يمكنك الاكتفاء بالمعجم، لتعرف بالبداهة من كان يملك " الكلمات"؟ قبل أن تعرفك كتب التاريخ عن من كان يملك السلطة؟ ولأن للكلمات تاريخ ومنشأ و ذاكرة، فالتنزيل كمصطلح وليد شرعي للحركة الإسلامية المغربية، أعادت استنباته كغيره من المصطلحات رغبة في بناء خطاب خاص بها يمنحها الاحساس بالاستقلالية الهوياتيه عن ما يمور به سوق التداول اللغوي/ السياسي المغربي، و يقيها "لوثة" خطاب "تغريبي"سائد. لقد ظل اليسار المغربي والقوى الديمقراطية موردا أساسيا لصناعة اللغة ونحت المفاهيم وبلورة الخطاب وكان ذلك دليلا إضافيا على هيمنة ثقافية بلا منازع، حيث طالما لجأ الفاعلون الآخرون إلى استعارة أجزاء من هذا الخطاب الذي تحول في كثير من اللحظات إلى جزء من المشترك العمومي. كان يكفي أن نذكر "الحزب السري" لنتذكر الأستاذ محمد اليازغي، كما يكفي أن نذكر "الأغلبية المخدومة" لنتذكر الأستاذ محمد بوستة ،يكفي أن نذكر " المنهجية الديمقراطية"لنتذكر بيانا"شهيرا"للمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي . وعندما جاء لصدارة المشهد السياسي زعيم اسمه عبد الرحمان يوسفي، لم تصبح الكلمات تولد فجأة في الارتجالات المثيرة للخطباء المفوهين ،بل أصبحت تنحت داخل نصوص مكتوبة على مهل، بروية الحقوقي الباحث عن الدقة والعمق، وبحرص السياسي الأصيل الهارب من الاجترار والتسطح ورداءة التشابه . لذلك قد يكون هو الزعيم الأكثر إثراء لمعجم السياسة المغربي. ربما هو فيكتور هيغو من قال "عندما تقع الثورات إنتبهوا للمعاجم". في المغرب لم تقع الثورة، لكن لا بأس من أن نفتح المعجم لنقرأ بعض كلمات الربيع الإسلامي الجديد ، و قليلا من الاستعارات القديمة لإبن المقفع حول التماسيح والعفاريت ... والبقية تأتي .