ثمة مسلمة غدت مبتسرة و مضطردة تكشف عنها الأيام بكل جلي و يؤكدها التاريخ المعاصر، تتمثل هذه البديهة في كون لأن أغلب المفردات و المفاهيم المتداولة في الغرب تُصبح مادة خامة عند المثقفين العرب يهضمها منا المتغربون و يعيدون إنتاجها ، فيكفي أن يعرف الغرب ضمن تاريخه الخاص نقاشا حول تصور مت حتى يندفع المثقف نحو اجترار أدبيات النقاش و يصوغ على هديها نظريات في الفكر و السياسة و الاجتماع و الاقتصاد ، يحدث هذا المضغ بدعاوى هيمنة العرب و تحكمه في المجالات المختلفة و تحت تخاريف " كونية القيم الغربية " التي تحولت إلى مرجع إيديولوجي يستقي منه المثقف المتغرب بضاعته الهجينة يزعم فيها الخلاص لأزمة العالم العروبي الإسلامي. و لعل الباحث في معظم كتب مثقفينا يجد حضورا طاغيا لمختلف المصطلحات المُؤدلجة التي أفرزتها تقلبات التاريخ الغربي بملابساته الداخلية ، على أن هذه الالتقاطات المعجمية بما تحملها من خلفيات لا تعكس قدرة المثقف العروبي على النقد و الغربلة بقدر ما تكشف على أحد أوجه الاستلاب الثقافي التي وصمت المثقف العروبي و ميزت مسيرته الأكاديمية ،فالمثقف " المعلمَن " لا يشعر بمدى خضوعه لنمط الاستهلاك القيمي الغربي و لا يملك الجرأة الأدبية على الاعتراف بهذه الحقيقية كما أنه قلما نسمع من أحدهم اعترافا بواحا بتبعيتهم الثقافية لمنظومة القيم الغربية بقدر ما نلمس كِبرا و تعاليا بالذات مستعملين في سبيل ذلك لغة خشبية جافة لا طائل منها تُحاول عبثا أن تدفع التهمة عنهم ، مدار رد التهمة أسطوانة مملة لا تكاد تخرج عم محفوظات نقد التراث و تحييد الدين و عقلنة التدبير السياسي و التحصن وراء "الحداثة" و" التنوير" و حقوق الأقليات و قيم مواثيق الحقوق " الكونية " و ضرورة تجديد الدين مع التطور و ثقافة المواطنة ... مفردات فجة لا يبرحها خطاب المثقف المتغرب ما دام يعيش وعيا مزدوجا بين تاريخه و تاريخ الغرب المشاكس و المهيمن في الفكر و الواقع ، لكن هل يبرر سيطرة هذا المارد الغرب ما نشاهده من فقر شديد في التحليل المستند إلى الذات لدى هؤلاء المثقفين ؟ هل يكفي أن تسود فئة ما لنشرعِنَ تبعية المنهزِم ؟ و لماذا أصبح المثقف بالذات ضحية التغريب و التشوه الثقافي ؟ لماذا كلما فتح المثقف العروبي عينيه عله كتاب أجنبي يحلل فيه ظاهرة ما حتى ينبري في الانتصار له و يصير ذيلا له في المضغ اللغوي ؟ هل يكفي أن تسود الكتب الأجنبية في مكاتبنا حتى نعلنها ولاء لمضامينها ؟ لماذا لم تتشوه فلسفة المعتزلة مثلا بمفردات تحليل الفكر اليوناني بنفس الحجم التي نلامسها عندنا الآن ؟. صخب فكري و هذيان ذهني يعيشه المثقف العروبي اللائكي يفترض في عالمه الخاص ما يراه السبيل الأمثل لتجاوز أزمة الحكم و استبداد الدولة ، يُحاول اللائكي أن يجعل نفسه محللا و فيلسوفا و مؤرخا ليقدم لواقع البؤس السياسي العروبي وصفات جاهزة مُعلبة تُخرِج العالم العروبي من أوصال التمزق الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي ، فهو إذ ينتحل عناوين الحلول من " الأستاذ الغرب " و يُكرس عقله المسكون بالأليكة لا يبالي بكساد بضاعته التي سممت عقول المنخدعين بالحل الاستيرادي و لا يأبه بالولاء الحضاري للغرب الذي ينحني له إجلالا و ذلا ، و إنما يواصل في الحفر حتى يصطدم بأحجار الواقع الصلب ، أحجار جعلت العديد من مثقفي العصر الحديث و الراهن يدركون أوهام الحلول المستوردة و يقفون على حجم المكر السياسي الذي أتى على شريحة كبيرة من المثقفين ، كما أن المثقف اللائكي إذ يمارس إعادة إنتاج الوصفات الجاهزة و يتعاطى " مخدرات " الانتحال المفاهيمي من " الأستاذ الغرب " و يسعى في سبيل ذلك إلى تكريس الهيمنة اللغوية التغريبية على الواقع المشهود له بالفراغ الإبداعي فإنه يضع نفسه كما لو أنه أحد أعمدة تبليغ طرق الخلاص و يطرح كتاباته كما لو أنها مشروع النجاة ، و الحال كما نعتقده أن الحطاب الثقافي اللائكي يمثل أحد أهم مشكلات النهوض و أبرز مسالك التشوه الفكري و القيمي التي تعيق تجديد الذات و التراث نظرا لمنسوب الحجب و الزيف الذي تمارسه معظم الكتب اللائكية حول التراث و التجديد و نظرا لكون معظم الدارسين للفقه السياسي من الأقلام المتغربة لم يكونوا أصلا متخصصين في قراءة التراث السياسي للأمة ( كتاب قبل السقوط لفرج فودة نموذج صارخ لمدى التشويه التاريخي لذاكرة الأمة السياسية ) ، فالعقل اللائكي لازال يتصور الدين كما يتصوره العقل الدهري الغربي و لا زال ينظر إلى النص كما ينظر إليه العقل المتمرد على الدين و لازال يفتعل الصراعات الوهمية داخل التراث بنفس الأدوات اللائكية دون أن ينتبه إلى واقع الاستيلاب الفكري الذي عصف بمثقفينا و حولهم إلى أليات و جماجم ناطقة باسم الأليكة الإفرنجية. إننا نرى في التدهور الفكري لدى قطاع من المثقين اللائكيين و الجمود النظري ( نقصد بالجمود النظري حال الترديد الألي لمفردات " الأستاذ الغرب " و النسج على إيقاع الفصل المفتعَل بين الدين كنظام و الدولة كأداة ) تحصيل حاصل نجم عن عدم القدرة على تحليل الذات و بناءها بناء ذات علاقة بالمجال التداولي ، فيكفي لباحث في مقالات اللائكيين حتى يقف على هشاشة التجديد التداولي و يدرك حجم الشرود الذهني في تناول قضايا التراث و التجديد في مسائل الساسة و الاجتماع و الاقتصاد و التاريخ من دون أن تتمكن من مقاربة الأزمة مقاربة تراثية نابعة من الذات ، لكن ما الذي يجعل المثقف اللائكي يشكل عقبة و جزءا من المشكلة ؟ ما الذي يتحكم بعقل المثقف اللائكي و هو ينظر إلى التاريخ و الواقع ؟ أليس من حق الإسلامي أن يعتبر الانتاج الفكري اللائكي عائقا ثقافيا يحول دون إكساب الأمة المناعة و القدرة على التصدي لكل أشكال التغريب الفكري و الأخلاقي ؟ ثم أليس من السذاجة الاعتبار بهذه الكتب المتمردة على الدين كفضاء قيمي و أصحاب معظمها يشهدون مراجعات و تراجعات في القناعات كلما زحف سن الشيخوخة عليهم ؟ أتستحق تلك المقالات قيمة مدادها ؟ لماذا لا يتفيد المثقف اللائكي من النتائج الهزيلة التي حصدها إبان المعارك الفكرية مع أنصار الذات و التجديد التداولي بدل العناد و الإصرار الجاف ؟ ( يُنظَر المناظرات التي عقدت بين فترات مختلفة بين الإسلاميين و اللائكيين و نترك القارئ النزيه حق الرأي في الحصيلة ، فاينظر مثلا مناظرة المفكر المستنير محمد عمارة مع زعيم التغريب الماركسي فؤاد زكريا حول موضوع أزمة العثل العربي ). إننا نرى استحالة فك الارتباط بين التغريب و الأليكة ما دام المثقف العروبي لازال يتغذى بوفرة على قمامات الفكر العبثي الوجودي أو على ترهات التحليلات الانطباعاتية حول الإنسان و الدين و الوجود يالشكل الذي نجده عند العديد من التُّبع العرب في ميدان السياسة و التاريخ ، و نحن إذ نرى وحدة التغريب و الأليكة لا نسعى من خلالها إلى طرح قضية العمالة الحضارية في حق من افتُتِنَ بقيم الغرب و أسس نظامه كما يحاول أن يستنتج من ذلك المثقف العروبي فيشرع بالثرثرة الكلامية الاستهلاكية بنعت الإسلاميين بضيقي الأفق ، فكما يؤكد العديد من أنصار التجديد الذاتي أن ثمة لائكيين وطنيين لهم تاريخ في صد الهيمنة الغربية إبان الاستخراب الإفرنجي و أن العديد منهم تحملوا في سبيل التراب السجون و شتى ألوان التعذيب لكننا نُعيد طرح جوهر المشكلة من أصولها و بذورها و نود أن نحلل أسباب التمزق الداخلي في الفكر و السلوك ، و إذ نتأمل في العقل اللائكي في علاقته بالدين نجده محكوما بعقدة المنظور الغربي للدين و مشحونا بحالات هيستيريا الإبعاد و الفصل مع الرفس مُسخرا في ذلك اللغة المجتثة التي أنتجتها كشوفات " العلوم الإنسانية " و موظفا لشتى مفردات مخلفات الفكر الدهري الغربي في صراعه المرير مع الفكر الديني كما تجلى في انحرافات الإكليروس . و مع شيوع التحليلات الدهرية المتسربلة ب"العلمية" أصبح في عالمنا العروبي إتقان التقليد و محاكاة الثرثرة الكلامية بضاعة المثقف اللائكي يقدمها متخمرة بسموم الدهرية إلى الجمهور الغارق في استبداد النظم فيلتقطها كما لو أنه ظفر بالحل السحري لأزمة الوجود ! . تستمر هذه اللغة الجافة في الدوران بين المثقفين و أطفال الثقافة فينظرون إلى التراث كخط أسود في تاريخ الأمة ثم تبدأ بعدها كتابات المحاكمات العلنية للتراث بين من يرسلها مادية فينقب في الأصول الطبقية ( النزعات المادية .ل حسين مروة مثال بارز للقراءة اللائكية المادية المؤدلجة للتاريخ ) و بين من يرسلها لائكية من داخل الدين نفسه فيقرأ الإسلام قراءة سطحية مبتدعة تحاول عبثا أن تجد لها مكانا في الفضاء الإسلامي ( كتاب الإسلام و أصول الحكم لعلي عبد الرازق مثال على نموذج الابتداع الديني للدين ) . بين هذا الفكر الحربي على الدين و بين الفكر الابتداعي تصول الأزمة الثقافية في عشاق الثقافة و تتشوه قيم الدين فتصبح غريبة و رجعية عند أنصار الحداثة اللائكية و أنصاف الثقافة ثم يُصرَخ في وجه الفقيه و تُصكُّ في حقه كل أشكال التخلف و الانحطاط فتجد من ينتصر للرشدية " العقلانية " و يُعادي عقل الفقيه الذي ارتبط بالدين و تحرك في نطاقِه التداولي ، و تجد من يُجمِع كل بلاوى التقهقر الحضاري على الزاهد العابد فيرسل شواظا من نار على الإمام المتصوف العابر للذات و العقل ، لماذا لم يستطع المثقف اللائكي الاقتراب من التاريخ و التراث من الداخل و البحث في مكمونات عقل الفقيه و هو يُجاري الأحداث و يتعاطى مع واقع مفعم بالتقلبات الشاذة ، لم يكد يطيق لغة الدين و قال الله تعالى و قال الرسول عليه السلام فتجفف عقله مثلما تجفف قلبه من الذكر و لا حول و لا قوة إلا بالله العظيم. إذا كان المثقف اللائكي في قرارة نفسه يعتبر الخطاب الجاف و اللغة الخشبية نتيجة انفتاحه على كتب التحليل اللائكي الغربي فأصبح يجاريها في الإيقاع البلاغي فهذا لا يعفيه من المسؤولية الثقافية التي ينبغي أن تتلاحم مع محيطها التداولية و لا يقد له امتيازات فكرية غير التقليد ما دام غارقا في التغرب ، فالمثقف اللائكي مأزال يتحرك في فضاء قيم الغرب و يحسب نفسه متحررا من الأسر الثقافي الغربي دون أن يلاحظ مدى ارتباط معجمه اللغوي بالواقع التاريخي الظرفي للغرب الإفرنجي . إننا نرى ازدواجية الايديولوجيات و تلاطمها في المحيط الواحد عائقا حقيقيا يحول دون إنضاج العقل الجمعي التداولي و يعيق إمكانات التحرر من القبضة الافرنجية ، فتحت دعاوى ضرورة الانفتاح على قيم العالم أصبح واقع،ا مُختبرا مبتذلا للإيديولوجيات الدهرية يعمل المثقف كوسيط للشحن و النفخ . إن اختيار المرء قطعة من عقله كما قال القدماء إذ لا براءة في حق من احترف التحليل الدهري و كرس حياته لأجل التنادي بما نادت به كتب اللائكيين في عصر ما يسمى بعصر " النهضة " و " الأنوار " ، و إذ نشدد النكير على ضرورة الاستقلال الثقافي في الفكر و السلوك عن الأطر الحضارية المغايرة لا نستهدف من وراء ذلك التشرنق على الذات و الانغلاق داخل " الأنا " و القطع مع قيم الآخرين و إنما نقصد بذلك التحلي ب " الشخصية الثقافية " في مواجهة أشكال الهيمنة المصطلحية الغربية التي تحمل معها القيم و أنماط العيش ، و نحن إذ نقرأ كتب الأقدمين لا يكاد يلمس أحد منا أي اغتراب في التحليل و التوظيف اللغوي بقدر ما تجد وحدة ثقافية تداولية رغم أشكال الاختراق اليوناني و حرمة الترجمات ، و هذا ما يعزز الاعتقاد بق,ة الاستقلال الحضاري للمسلمين على عِلاَّت نظام العض الذي أعاقَ المسيرة السياسية و حالَ دون إنضاج آليات التدبير السياسي للخلافة الصورية. لو نفذنا إلى عقل المثقف اللائكي لوجدناه يتصور المشروع الحضاري عبارة عن عملية التقاطية يحاول فيه إدماج بعض مكونات الذات الحضارية بالمشروع التحديثي المفصول عن المجال التداولي ، فهو عقل لازال يحلم بالنهوض العربي و الإسلامي على النمط الغربي الثائر على الدين و الفكر الديني و لازال يمارس تهجينا غريبا و عجيبا يجمع بين الفلسفة الإفرنجية في ميدان الإقصاء للدين و بين انتحال عناوين مستوحاة من الذات تُوهِم بمشروع جديد يقطع مع الاستبداد و حكم القهر و السيف ، و الواقع في نظرنا أن ثمة تناد قطعي بين الدعوات المتغربة للمثقفين اللائكين في مقاربتهم لطبيعة المشروع الحضاري و بين حقيقة البناء الحضاري الذي أصله الإسلاميون و حددوا له خصوصياته التي ينفرد به ( يُنظر كتابات محمد عمارة و سليم العوا و كمال أبو المجد و الشيخ عبد السلام ياسين و القرضاوي و البوطي و المسيري رحمه الله ....)، و يعود الفضل في كشف و تجديد النظر الحضاري إلى مجهودات الإسلاميين الذين تصدوا لعمليات المسخ الفكري و التشوه الثقافي الذي طبع العقل اللائكي في عقدته المستديمة مع الدين . على أن اللائكي المثقف و إن كان يدَّعي في أكثر من مرة حياده و عدم اعتراضه على الدين كرسالة روحية فإنه ما فتئ يخلط و يتخبط في التحليل و يستعير مناهج دهرية تختزل الدين في الشعائر التعبدية و تصرف عنه القيم السياسية و الاجتماعية ، و قد أصبح الآن واضحا لكل ذي عينين العداء السافر الذي يستبطنه المثقف اللائكي متسترا تحت خُدع الحياد و تنزيه الدين و حفظه من المنازعات و المصالح الذاتية ، كلمة حق يُراد بها باطل ، فمتى يدرك المثقف اللائكي أرضه و يحل عقدته مع الدين و يعود إلى الإسلام في مرجعيته العليا ينهلُ منه و يجدد به لا أن يجدده . أستغفر الله من حِبر جاف لا يرقق القلب انسجاما مع نغمة اللائكية و هيجان المثقف نحو قولبة قيمها في واقع المعطى الإسلامي نُلاحظ جليا هوَسا شديدا و تخبطا في تحليل المثقف للمشاكل التي أفرزتها أصلا نظام الجبر اللائكي ، فهو يبدأ نقاشه السياسي و التحليل الفلسفي بطرح أبجديات اللائكية و مسارها الطويل و يستعرض محاسنها في عيون عشاق أوهامها عبر محاكاة آلية و إسقاطات تنافي " العقل الناقد " لينتهي إلى ضرورة " الأنسنة " و تجذير التربية اللائكية في أنماط التفكير لحل الإشكالات البنيوية و التمزقات السياسية و إحلال ثقافة المساواة و احترام الآخر و تبني تعددية في كل شيء ... لا فائدة من اجترار لغة أصبحت مبتذلة و عديمة التأثير في " العقل الجمعي " للأمة تُسَوّقُ للاستهلاك الإعلامي و الحفظ البلاغي أكثر مما تُعبِّر عن تأصيل دقيق و شرح موضوعي لواقع الارتهان السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، لقد عوَّدتنا الكتابات اللائكية أسلوبا واحدا مُغلقا على نفسه منطوٍ على نظامه اللغوي المُنتَحَل لفظا و معنا من اللائكية/ الأم حتى ليحِسُّ القارئ المحترم و هو يقرأ لمثقف لائكي " مُزوَّر" أنه يقرأ لدهريٍّ خاض تجربة مريرة مع الدين ، يُعصِّرُ مُخه و يلوي لغته الهجينة بمصطلحات يحسبُ أنه قد جدَّدَ في الفكر العالمي و أتى بنظريات ثاقبة و ما هي إلا تقليديات جافة تُعبِّر عن أحد أوجه الأزمة الفكرية لدى مثقفينا . قد نستثني من هذا التكلف و الانتحال التحليلي بعض أقطاب الفكر الدهري الذين احتفظوا باللغة التداولية لكنهم سقطوا في فخ المضمون الفلسفي لللائكية و أصبحوا ذيولا تُبَّع للقيم الغربية التي اعتنقت الدنيا و طلَّقت الآخرة طلاقا بائنا : من هؤلاء طه حسين قبل أن يعود إلى رشده و يتصالح مع دينه و عقله و حضارته ( و نحن نجد ردود عميد الأدب مصطفى صادق الرافعي خصوصا في كتابه الموسوم ب"تحت راية القرآن " نموذجا فريدا للمثقف الناقد الأصيل ) و أيضا محمد سعيد العشماوي الذي احتفظ باللغة التداولية و انساق مع نزعات الفكر الدهري في علاقته بالدين ( و نحن نجد ردود المجدد محمد عمارة أبرز مثقف تداولي – بمفهوم طه عبد الرحمان - تصدى لتشوهات و مغالطات العشماوي التي سطرها في كتبه كَ " جوهر الإسلام " و " العقل في الإسلام " ، و يظهر بشكل جلي قدرة المثقف المستنير محمد عمارة في كتابه " سقوط الغلو العلماني " على نقد التقليد اللائكي و كشف أوهامه الداخلية ) ، و منهم أيضا فرج فودة الذي أبدع في اللغة و خانته القضية و أصبح رمزا للفكر الدهري يسمونه الدهرييون بشهيد الفكر، و لو كانت الشهادة تُنالُ بالبحوث الملفقة و التيه التاريخي و عدم التخصص لكان كل من هب و دب شهيدا يَكذِب و يُزوِّر فيُحسبُ شهيدا ! ما أروعه . و لستُ بحاجة إلى سرد كتب الردود حول افتراءاته التاريخية و منهجه العليل في التحليل ، و لمن أراد فليراجع " ما قبل السقوط و سقوط صاحبه" ل عبد المجيد صبحي و كتاب المفكر الوازن منير شفيق في " بين النهوض و السقوط " ... و للقارئ الكلمة. إذا استثنينا تلك الوجوه المحدودة التي حاولت اللعب بالكلمة و دغدغة العواطف فإننا لا نكاد نجدُ إلا شرودا غائرا و تباعدا سحيقا في اللغة التداولية و التحليل المنطقي لقضايا العصر من قِبَلِ من نصبوا أنفسهم مثقفين طوَّحُوا الكلمة الأصيلة و غرَّبُوا البلاغة و شردوا الفصاحة و غردوا خارج السرب ، مثقفون يعجنون الكلمات و يطرحون قماماتها في كتب جافة لا تسرُّ الناظرين البتة ، و لمن أراد الاستيقان فليقرأ كتب محمد أركون و كمال عبد اللطيف و عزيز العظمة و ورج طرابيشي و جمال البنا و علي حرب و نصر حامد أبو زيد ... كتب أصحابها طارت شهرة لكنها لم تحصد إلا التيهان الفكري و التمزق المرجعي و تشجيع قيم السفور و الانحلال ، و لا يفتنِنَنَّ أحد بخطاب المثقفين المُؤليَكين فينبري جهلا بخلفياتهم لينتصبَ شاهرا بأسلحة متصدئة ليدعونا إلى التعددية و قبول تأويلات الغير حول الدين و التاريخ و الحضارة ، فتحت عناوين الحريات الفكرية تنبتُ معيقات الوحدة المرجعية و تفتتُ أسباب النهوض الإسلامي بأوضاع المجتمعات المتعفنة بحالات البؤس الأخلاقي و الفساد الاستبدادي و الانحطاط الاقتصادي ، و بكلمة ، فتحت دعاوى " العقلية التقليدية المؤليكة " عوامل الانهيار. لكن مما يُبهرُ العقل و يصرفه عن حدود التحليل الحق أن اللائكيين و هم يمضغون ادعاءات اتهام الإسلاميين التداوليين بالماضوية و التقليد و الأصولية و عدم استخدام العقل النقدي على ضوء التحولات المعاصرة في الحضارة لا يأبهون لمنطوق تقليدهم الجاف و انحناءهم التعبدي لشيوخ " النهضة و التنوير" و جريان المحاكاة المبتَسرَة بشكل يوحي كما لو أنهم آليات ناطقة لا تحسن إلا الترديد و نحت المفاهيم و تطويل الإطنابات المعرفية و انتحال العناوين السياسية و التخفي وراء " الإسلام المعتدل " و " الحوار " و " قيم التعددية " ، يمارسون التقليد التغريبي في أعلى منسوبه و يطالبون الآخرين الكف عن التقليد ! و أيُّ تقليد أنجى و أسلم ؟ أن تلازمَ العقل الغربي الشارد و المفصول عن ذاكرته الدينية أم تُحاكي من ينتمي إلي ذات الحضارة و تحرَّك في إطارها ؟ قال الحبيب المصطفى عليه السلام: (( لتبعن سنة من كان قبلكم، باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر، حتى لو دخلوا في جحر ضب، لدخلتم فيه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال :فمن، إذا؟)). هذا ما يُلخِّصُ أزمة المثقف اللائكي في عقدتهِ المستديمة مع الدين و يحدد لنا جُلّ الصراعات الإيديولوجية التي تشهدها الساحة الفكرية خصوصا في شقها السياسي . على أن اللائكي و هو يحسبُ نفسه مجددا و مؤرخا و عالم سياسة مدنية لا يكاد يرى في غيره غير" الظلامية " و " الرجعية " و العودة للماضي و" النصوصية " ، فهو الحَكمُ و القاضي و المعيار انطلاقا مما استهلكه من ألفاظ و معان مؤَدلجة ، و نحن نرصد في كثير من الوقائع كيف يمارس العقل اللائكي أسلوب الابتزاز و التكفير الثقافي بعيدا عن ما يتبجحُ به من مبادئ قبول الآخر و تعددية الأفكار، فعلى سبيل المثال نتذكر كيف أجمعَ المثقفون اللائكيون في مصر على سحب وصف " المثقف " على المفكر المستنير عادل حسين إبان قومته الشجاعة على الإيديولوجية الماركسية و عودته عن اعتناق التحليل المادي الدهري للتاريخ و الحضارة ليجد رحابة الإسلام و منطقه البديع أوسع و أحكم من أن تهزها افتراءات فلول الماركسية و أطفال الفكر الليبرالي المتوحش ، حينما اختار هذا الفارس انحيازه إلى رؤية الإسلام في قضايا السياسة و الاقتصاد و الاجتماع تحرك اللائكيون في اتجاه اغتيال الثقافة و أبوا إلا كشف عن أحد أوجه اللائكية المتسربلة تحت عناوين الحرية و قبول الآخرين ، لعلها عُقدة لازمت هذا العقل و تحكمت في الذهنية الدهرية لتنعكس على مواضيع الزمن المعاصر في دنيا الفكر و السياسة و الاقتصاد ، يقول محمود سلطان في هذا الشأن : ( عندما أعرض أمين عام حزب العمل المصري المعارض الكاتب الصحفي الراحل عادل حسين عن الماركسية و اتجه نحو تبني وجهة النظر الإسلامية في الفكر و الاقتصاد و السياسة كان من المفترض أن يحترم دعاة التنوير في مصر رغبة حسين و اختياره، نزولا على إعلاء قيم حرية الاعتقاد ، التي يدَّعي التنويريون أنهم الحرس التقليدي لها ، غير أن إحدى المجلات المصرية الأسبوعية و الناطقة بلسان حال التنوير و التقدمية في مصر قررت طرد حسين من جنة الاستنارة ، إذ دأبَ صحفيو المجلة و كتابها على أن يطلقوا عليه لقب " مثقف سابق " ) ( يُنظر المنار الجديد ، 14 ربيع 2001 ص 86 ). لا أدرِ لِمَ لا يستفيد اللائكيون من الذين كانوا ينافحون عن شريعة اللائكية و كرّسوا أعمارهم لتثبيت جذور هذه النبتة الغربية ، لا أدرِ لُمَ تأخذهم العنجهية الفارغة و تحكمهم الأهواء كلما أُشير إليهم بنماذج المراجِعون عن قيم الأليكة و شواهد من انخدعوا ببريقها السَّرابي ، فبدل أن يلتزموا بمنطق العقل النقدي الذي يدَّعون امتلاكه في التحليل المنهجي و يبصروا خواتم معظم اللائكيين في شأن العلاقة بين الدين و الدولة تجدهم يستأنفون طريق ارتكاب الأخطاء القاتلة و يجترون معهم أسباب الشقاق الإيديولوجي . سبحان الله ! عِناد في عناد ، و لا يستدركن أحد بالاحتجاج علينا بكون هذا دليل على انفلات اللائكيون من أسر التقليد و بينة الاستقلال العقلي عن اجتهادات الآخرين ، فالعقلاء من البشر تُهذبهم التجارب و تردعهم تكرار الظواهر و تدفعهم إلى استنباط الحكم و العِبر لا إلى مزيد من التعنت الفكري و التسربل وراء حرية الرأي و تعدد الاجتهادات، و الحال أن اللائكيين في مجملهم ممن كانوا على قدر كبير من المطالعة السياسية و الفكرية عادوا إلى أصول الفكرة الإسلامية ليجعلوها العنوان الوحيد القادر على التصدي و مواجهة التحديات التي أفرزتها أنظمة الجبر اللائكية من اختلالات بنيوية طالت كل حقول الأنشطة الفكرية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية . نقولها بصوت مرتفع لأننا لا نرى بديلا عن الذات و لسنا بحاجة إلى عسكر الغير كما لسنا بحاجة إلى ثقافة الغير . و قد نعود في مقال آخر لبيان بعض التفاصيل في هذا الشأن بحول الله و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .