تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحكومة تصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    دراسة تؤكد انقراض طائر الكروان رفيع المنقار، الذي تم رصده للمرة الأخيرة في المغرب    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي حرب/ نقْد المثقّف أو أوهام النُخبة- مقدمة الطبعة الثاني نحو سياسة فكرية جديدة
نشر في أسيف يوم 25 - 11 - 2006

بعد صدور هذا «النقد»، وما أثاره من الجدل والاعتراض في الأوساط الثقافية، وجدتُ نفسي أنخرط في السجال، إما بدافع الردّ على الانتقادات المضادة، أو بقصد الايضاح وإلقاء المزيد من الإضاءة على مسائل الكتاب وقضاياه. وهكذا عدتُ إلى هذا المحور النقدي، من محاور تفكيري، أنشغل به وأكتب عنه على سبيل التوسيع والتطوير، أو الإغناء والإضافة. الأمر الذي جعلني أضيف، في هذه الطبعة الثانية، موادَّ جديدة إلى المحتوى الأصلي للكتاب، هي نصوصٌ اخترتها من بين مداخلاتي العديدة والمتفرقة، التي نُشرت في الصحف اللبنانية والعربية، سواء عبر المحاورة أو عبر المقالة والدراسة. وإذا كان لي أن أتوجّه إلى القارئ، بمناسبة هذه الطبعة الجديدة، على سبيل التصدير أو التقديم، فإني أجيز لنفسي بأن أقدّم قراءة للكتاب، أتحدث فيها عن ولادة الفكرة، وعن منطق «النقد» ومسوغه، أو عن أثره في قارئه، بقدر ما أتحدث عما استجد، عبر السجال، من قول حول وضعية المثقف وأزمته. ولادة الفكرةوباستعادتي لما حاولته، أجد أن الفكرة حول أوهام النخبة، قد انبجست وَسْط الأزمة، بقدر ما قُرئ «النقد» في غمرة الجدل حول هذه الأزمة. وكانت المحصلّة مساهمتي النقدية في النقاشات الواسعة والحامية التي كانت تدور وتتفاعل حول شؤون المثقف وشجونه على غير ساحة، سواء في لبنان أو في العالم العربي أو على المستوى الدولي. ففي أكثر من مكان، ثمة سجالٌ كان يدور حول وضعية النُخَب الثقافية: أفكارها ومشاريعها، نماذجها وصورها، مكانتها ودورها، مصداقيتها وفاعليتها. هذا ما كان يجري وما زال، خصوصاً في فرنسا حيث وُلد مصطلح المثقف، أو في العالم العربي حيث ازدهرت مهنة المثقف، بقدر ما هيمنت العقلية النضالية على الساحات الثقافية وعلى المعنيين بشؤون الفكر والمعرفة. وهكذا لم يختلق الكتاب المشكلة، بقدر ما حاول تشخيص الأزمة في ضوء الوقائع المباغتة. والمقصود بالأزمة فقدان المصداقية الفكرية والفاعلية النضالية، بعد تصدّع النظريات الشاملة المعتمدة في قراءة العالم، وبعد انهيار المشاريع الإيديولوجية والسياسية في ضوء التحولات المتسارعة على أرض الواقع المتحرك: فالشعارات المتداولة في الخطاب الثقافي، تحولت إلى أسماء على غير مسمياتها، أي تحولت إلى مطلقات خاوية أو إلى متعاليات هشة، بعد أن تكشفت محاولات الإستنارة والعقلنة عن عتماتها ولامعقوليتها، وبعد أن آلت مشاريع التقدم والتحرر إلى رجعيتها واستبدادها. وذلك هو المأزق الحرج في وضعية المثقف: انفجار العلاقة بين الدال والمدلول، ما جعل الأفكار الكبرى التي شَهَر المثقفون سلاح النقد من أجلها، تتحول إلى سلاح عاجز، مفلول، يرتد على أصحابه، ولا ينتج سوى ألغامه. هذا التشخيص للأزمة، حملني على إعادة النظر في العدة الفكرية للمثقف، كما تجسدت في شبكات الرؤية والتأويل، أو في نماذج التقييم والتصنيف، أو في معايير العمل والتنظيم، أي في كل ما يتصل بتصور المثقف لذاته ومكانته ومهمته، أو بعلاقته مع الغير والمجتمع والعالم، أو بمفاهيمه للحقيقة والحرية والعدالة والسلطة. تغيير وجهة النقد.وأنا اعترف بأنني فتحتُ النار على المثقف، بقدر ما أقدمتُ على فتح ملف المثقفين أمام النقد والمساءلة. بهذا المعنى عملتُ على زعزعة القناعات الراسخة، بقدر ما حاولت زحرحة المشكلة وإعادة صوغ الأسئلة; وسلّطتُ الضوء على المناطق المستبعدة من نطاق التفكير، بقدر ما تكلمت على العلاقات اللاديموقراطية والممارسات المعتمة داخل القطاع الثقافي وبين النُخَب المثقفة. هذا ما حملني على قَلْب الأولويات وتغيير وُجهة النقد: فبينما كان عمل النقد يتركز على الخارج والواقع، وجّهتُ سهام النقد إلى الداخل، أي إلى واقع المثقف، فكر وممارسة، أو خطاباً ومؤسسةً. وكانت ثمرة النقد صياغة الأفكار والمواقف على نحو جديد ومغاير، أو الانتهاء إلى بلورة أفكار ومفاهيم جديدة لقراءة الواقع وتشخيصه. وأياً ما كان الأمر، فما انطوى عليه نقد المثقف، سواء من حيث الرؤية والأطروحة، أو من حيث المنهج والطريقة، كان مثار النقاش والاعتراض، بقدر ما كان محط النظر والاهتمام. مثالات ذلك قولي في «النقد»: المثقف يشتغل ب حراسة الأفكار. ومعنى الحراسة التعلق بالفكرة كما لو أنها أقنومُ يقدَّس أو وثن يُعبد، على ما تعامل المثقفون مع مقولاتهم وشعاراتهم. مثل هذا التعامل هو مقتل الفكرة بالذات، إذ هو الذي وقف حائلاً دون تجديد العدة الفكرية واللغة المفهومية، بقدر ما جعل المقولات تنقلب إلى أضدادها في ميادين الممارسة ومجالات العمل. ذلك أن الأفكار ليست شعارات ينبغي الدفاع عنها، أو مقولات صحيحة ينبغي تطبيقها، بقدر ما هي أدوات لفهم الحدث وتشخيص الواقع. إنها حيلنا في التعقّل والتدبّر، للحياة والوجود، باجتراح القدرات التي تتيح لنا أن نتحول عما نحن عليه، عبر تحويل علاقتنا بالأشياء أو بِنَسْج علاقات مغايرة مع الحقيقة. وبقدر ما ننجح في تغيير أنفسنا وواقعنا، تتغير أفكارنا ذاتها، ذلك أن ما نصبو إليه أو ما نصير إليه يتغير بقدر ما نتغير نحن بالذات، بمعنى أن الهدف الذي نسعى نحوه، يتغير خلال المسعى نفسه، بما هو اشتغال على النفس والفكر. بهذا المعنى، يجري صنع الأفكار وإعادة ابتكارها، بقدر ما يصار عبرها إلى صناعة العالم وتكوين المشهد أو إلى تغيير الواقع ورسم المصائر. هذا شأن مقولة مثل العقلانية: إنها ليست فكرة تقوم بذاتها ولذاتها، بقدر ما هي صياغة، لتجاربنا وعلاقاتنا بالأشياء والأحداث، بلغة مفهومية لا تكون نهائية بل تخضع، باستمرار، للنسخ والتعديل أو للصرف والتحويل. ولذا ليس العقل عالماً آخر نفكر فيه ونهجر إليه، بمغادرة عالم اللامعقول، بل هو فهم اللامعقول وعقلنته. بهذا المعنى نحن نفكر في العقل ونتعقل من فرط لا معقوليتنا، ونمارس عقلانيتنا، لا بطرد اللامعقول، بل بخلق وسط مفهومي أو مجال تداولي هو نظام للوصل والفصل يتيح لنا تغيير علاقتنا بالعقل، بقدر ما يتيح إعادة ترتيب الصلة بينه وبين العالم اللامعقول أو المراد عقلُه. هذا أيضاً شأن الإستنارة: إنها ليست شعاراً ينبغي تبجيله والدفاع عنه، بقدر ما هي فسحة لممارسة حيوية التفكير، ينبغي خلقها وتوسيعها، على نحو متواصل، على سبيل العودة النقدية للفكر على ذاته، لمساءلة بداهاته أو فحص نتاجاته أو تعرية آليات اشتغاله.. بهذا المعنى ليست الإستنارة شمساً للحقيقة تسطع على العالم، بقدر ما هي تسليط الضوء، عبر النقد الذاتي، على كثافة التجارب وعتمة الممارسات أو على هوى العقل وخدع الخطابات. إنها كسر للقوالب الضيقة أو تفكيك للأبنية المعيقة أو تعرية للأوهام الخادعة. وأخيراً هذا شأن الحرية: إنها ليست مجرد هوام نتعلق به، لكي نتحرر من أنظمة الاستبداد، بقدر ما هي اندراجنا في هذا العالم بقواه وسلطاته، بأنظمته ومؤسساته، وذلك بالعمل على تغييره، عبر تفكيك نظام المعنى وأصول الحق أو مرجعيات القصد، لإعادة صياغة مسألة المشروعية، بما هي ترتيب أو تسويغ سلطة الواحد على الآخر. بهذا المعنى ليست الحرية معرفة قوانين الضرورة الثابتة للعمل بموجبها، بقدر ما هي كشف لما هو حادث أو عابر أو اعتباطي، فيما وراء البنى الكلية والمتعالية، وعلى النحو الذي يتيح للمرء استخراج إمكانات جديدة للتفكير والتعبير والتدبير. من هنا ليست الديموقراطية مجرد خيار نتخذه أو شعار نطرحه أو نموذج نطبّقه، بقدر ما هي انخراطنا في تجارب تاريخية أو في ممارسات سياسية، يتحول معها مفهوم الديموقراطية، بقدر ما نتغير نحن، ويتغير الواقع السياسي نفسه. ومعنى المعنى، هنا، أن المثقف التنويري والعقلاني والتحرري، ليس هو الذي يحيل الأفكار الخصبة التي أُنتِجت حول التنوير والعقل والحرية إلى مجرد معلومات يرددها على شكل محفوظات، وإنما هو الذي يقيم علاقة نقدية مع ذاته وفكره، على نحو يتيح له أن يتحول عما هو عليه، بإغناء مفاهيمه عن الحرية والعقلانية والاستنارة. ولذا، فإن الذي يصنّف نفسه في ملكوت العقل والحرية، لكي يطرد سواه إلى خارج هذا الملكوت، لا يحصد سوى الخرافة والظلام والاستبداد، على ما آلت إليه التجارب لدى الدعاة، في العالم العربي بنوع خاص. مسوّغ النقدهذا هو مآل نقد المقولات لدى النخب الثقافية ودعاة الإستنارة أو الحرية: فهم مآزق التفكير كما تتمثل في العجز عن تجديد صيغ العقلانية، أو في تراجع محاولات الإستنارة، أو في فشل التجارب الديموقراطية. من هنا كانت المقولة: المثقف بات أعجز من أن يقوم بتنوير الناس، إذ هو الذي أصبح يحتاج إلى التنوير، بنقد دوره وتفكيك خطابه عن العقل والاستنارة، وذلك بقدر ما تعامل مع فكرة التنوير بصورة غير تنويرية، أي على نحو أصولي أو إيديولوجي. بهذا المعنى لا يُعَدّ نقد مشروع التنوير تراجعاً عن الفكرة، بل يشكل محاولة لتفكيك آليات العجز، باستخراج إمكانيات جديدة للتفكير والعمل، تتيح الخروج من النفق أو الفكاك من المأزق. ومن هنا أيضاً كانت المقولة: مشكلة النخب الثقافية هي في نخبويتها بالذات. ذلك أن النخبوية، قد آلت إلى العزلة والهامشية، وأنتجت التفاوت والاستبداد، بقدر ما جسّدت الاصطفاء والنرجسية لدى النخب الثقافية. هذا لمن أراد أن يعرف معنى أقواله أو أن يكشف مبنى أفعاله وممارساته. هذا النقد لمفهوم النخبة، حملني على إعادة النظر في الدور النبوي الرسولي، أو الطليعي، الذي مارس المثقف من خلاله الوصاية على القيم العامة والمشتركة، المتعلقة بالحقيقة والحرية والعدالة، أو بالوطن والأمة والبشرية جمعاء. لم يعد بوسع المثقفين أن يلعبوا مثل هذا الدور النخبوي الذي وصل إلى مأزقه، بعد كل هذا الفشل النضالي والعقم الفكري. من هنا كانت مقولتي المثيرة للجدل والالتباس حول نهاية المثقف، كما عبَّرت عن ذلك في مقالاتي النقدية، اللاحقة لكتاب، أوهام النخبة. ومعنى القول، عندي، أن الممكن الآن، المجدي والمثمر، هو أن يعمل المثقف على تغيير صورته عن نفسه، بحيث يعيد ابتكاره لدوره. وفي هذا السياق بالذات تندرج مقولتي الأخرى حول المثقف الوسيط. هذا هو مؤدى المقولة القائلة ب «نهاية المثقف»، عند من يحسِن القراءة: تغيير علاقة المثقف بذاته ومهمته، بعد كل هذا الهُزال الوجودي والقصور المعرفي والسياسي، أي بعد الفشل في مهمة قود المجتمع أو البشر، نحو عالم أقل استلاباً أو أكثر تقدماً، سواء تعلق الأمر بقول الحقيقة أو بممارسة الحرية أو بتحقيق العدالة. فالأجدى أن يعمل المثقفون على التحرر من أوهامهم النخبوية، لإعادة صوغ المفاهيم المتعلقة بالتغيير الاجتماعي والعمل السياسي أو الإنمائي. إن المجتمع بكليته هو الذي يتغير ويُعاد إنتاجه، بالاشتغال المتواصل على نفسه، عبر قراءته لواقعه وتخيّله لذاته، وعلى نحو يتيح له تفكيك ما تنبني به أنماط الرؤية والتقييم، أو طرق التفكير والتقدير، أو أنظمة الإنتاج والتبادل، وبما يؤدي إلى تغيير علاقات القوة، عبر توسيع مجالات الحق، أو عبر تنمية مصادر الثروة، أو عبر تطوير وسائل المعرفة أو تقنيات الاتصال والنشر. وتلك مهمة يشارك فيها المجتمع بكل قطاعاته وفاعلياته، وبكل سلطاته ومشروعياته. أما أن تدّعي فئة، تسمي نفسها الطليعة الواعية أو النخبة المستنيرة، الاضطلاع بعمل التنوير والتحرير والتغيير، فتلك مهمة أثبتت فشلها ودفعت البشرية ثمنها جهلاً وتفاوتاً واستبداداً. الثقافة والسياسةفي ضوء ذلك يبدو من التبسيط والخداع والمثالية المفرطة، ادعاء أي فاعل اجتماعي، في أي قطاع مجتمعي، أنه ممثّل العقل، أو الناطق باسم الحقيقة، أو الوصي على الحريات والحقوق، أو المؤتمن على القضايا والمصالح، على ما يعتقد ويتصرف أهل الثقافة والكتابة أو أهل الإعلام والصحافة، بدعوى أنهم يشتغلون بإنتاج المعرفة ونشر المعلومة، أو بدعوى أنهم يمارسون النقد العقلاني والتفكير الموضوعي. مثل هذه المهام المعرفية والإعلامية، ليست مدعاة لأصحابها لمصادرة الحقيقة أو لمُمارسة الوصاية على الحرية والهوية والأمة. فإذا كان التلفزيون ليس مجرد أداة للاتصال والكشف والإشهار، وإنما له آلياته في ممارسة الحَجْب والإقصاء أو التلاعب، على ما يدّعي أهل الصحافة والثقافة، فإن الصحافة التي تشتغل بإنتاج المعلومة، تمانع من إنتاج المعلومات حول أوضاعها ومصالحها ومصادر تمويلها. وهذا شأن القطاع الثقافي، فإذا كان أهله يشتغلون بإنتاج المعرفة حول بقية القطاعات، أو بنقد
سائر السلطات، فإن للنقد سلطته وللثقافة أوهامها ومزاعمها، تماماً كما أن للصحافة حَجْبها، وللتلفزة أدوات هيمنتها. ولا عجب: فللمعلومة سياستها، وللمعرفة سلطتها، تماماً كما أن للحقيقة ألاعيبها واستراتيجياتها. بهذا المعنى لا أحد أَولى من غيره بممارسة النقد. ولا قطاع يمتلك المصداقية والمشروعية أكثر من سواه، تجاه القيم العامة، إلاَّ عند مرضى الحقيقة وسُذَّج العدالة، أو عند مجانين الحرية والهوية. فالأجدى أن يُمارسَ النقد العقلاني، المنتج والمثمر، داخل كل قطاع، وعلى نحو متبادل بين سائر القطاعات والمجالات. أما ادعاء النخب المثقفة، تمثيل العقل واحتكار الحقيقة، فهو وهم كبير، كان ثمنه عزلة النخب وتخلفها عن المجتمع، فضلاً عن انغلاق العقل وجمود الفكر. وإذا كان القطاع الثقافي، بجانبه الفكري على وجه التحديد، يعمل بخصوصيته التي هي إنتاج الأفكار والمفاهيم، فإن مشكلة المفكر تكمن في أفكاره بالذات، أي في مقولاته القاصرة عن الفهم والتشخيص، أو في مناهجه المعيقة للدرس والتحليل. ولذا، فإن مهمة المفكر هي تجديد عدّته المفهومية وأدواته المنهجية، تماماً كما أن مشكلة السياسي تكمن في سياساته العاجزة عن إيجاد الأجوبة والحلول للمشكلات المعقدة التي يولدها الواقع الاجتماعي. ولذا فإن مهمّته هي في تحديث الخُطط والبرامج أو في تفعيل الوسائل والإجراءات. ولا يعني عمل كل قطاع بخصوصيته الفصل الحاسم أو الاستبعاد المبتادل، بقدر ما يعني خلق مجال تداولي يتيح للعلاقة بين الثقافة والسياسة أن تكون منتجة وفعّالة. بمعنى أن يؤدي انفتاح المفكر على المجال السياسي إلى تغيير سياسته الفكرية، وبشكل يتيح له ابتكار إمكانيات جديدة للتأمل والتفكير، كما يؤدي انفتاح رجل السياسة على منتجات الفكر، إلى تغيير فكره السياسي وبصورة تتيح له اشتقاق إمكانيات جديدة للعمل والتدبير. على هذا النحو يمكن أن تنشأ علاقة تبادل مثمر وتفاعل خلاق، بحيث أن تغيير سياسة الفكر، يسهم في خلق واقع فكري تتغير معه العلاقة بالواقع السياسي، كما أن ابتداع ممارسات سياسية جديدة، يسهم في خلق واقع مجتمعي تتغير معه العلاقة بالأفكار.
مسؤولية المثقفهذا، على نحو الإجمال، ما حاولت القيام به في «أوهام النخبة»، وما تلاه من المُساهمات عبر المداخلات والحوارات، سواء عبر الشاشة أو عبر الصحافة. بالطبع كان بوسعي أن اختار الأسهل والأيسر في مواجهة المأزق، مستخدماً تجاه ما يحدث لغة الشكوى والصراخ أو الندب والتفجع أو الغضب والاستنكار. كان بوسعي الهروب إلى الأمام أو الاختباء وراء المشكلات أو القفز فوق المتغيرات، كما يفعل الذين قضوا أعمارهم الطويلة في النضال من أجل التغيير، فإذا بالمتغيرات تفاجئهم وإذا بهم يلومون الواقع وينفون ما يحدث. كان بإمكاني أن أتشبّث بلغتي القديمة ومقولاتي المستهلكة في قراءة التحولات ومواجهة التحديات، كما هو شأن الذين يقولون لنا: إنها الليبرالية الجديدة، أو هي الرأسمالية المتوحشة، فضلاً عن الذين يقولون بسذاجة أو بجهالة تخفي العجز والهشاشة: المثقف باقٍ رغم محاولات الذبح، على ما يصرخ المثقفون في فرنسا أو عندنا في البلاد العربية! من يفعل ذلك، يُسدل الستار على عقله ويسدّ منافذ فكره، أي يشدّ الوِثاق الممسك بالخناق، بقدر ما يقمع الأسئلة ويموّه المشكلة. فإذا كان ينبغي للمثقف، كفاعل اجتماعي أو كشاهد على ما يحدث، أن يتحمّل المسؤولية وأن لا يتخلّى عن المهمة النضالية، فهو مسؤول بالدرجة الأولى عن طرح الأسئلة على نفسه، بعد كل ما حصل من تعثر أو فشل أو إخفاق للشعارات والمشروعات، أي بعد كل ما مورس من الاستبداد والتفاوت والحَجْب، باسم الحرية والعدالة والحقيقة. والأسئلة كثيرة: لماذا تزداد الأمور سوءاً بعد طول النضال؟ أي لماذا تزداد الرأسمالية هيمنة وتوحشاً؟ لماذا يعجز الإرث الإشتراكي من لينين حتى الإشتراكيات المعاصرة عن إيجاد حلول لمشكلات البطالة؟ لماذا يزداد الفقر والتهميش مع اتساع مجالات الإنتاج ومصادر الثروات؟ لماذا يزداد التلاعب والتعتيم مع تطور وسائل النشر وتقنيات الاتصال؟ وبسؤال أقرب إلى مفهومه: لماذا نشهد انهيار المشاريع الإيديولوجية والنظريات الشمولية لدى أصحاب المشاريع النضالية؟ إشكالية المعنىلا تجدي هنا العقلية الإيديولوجية الخُلقية، التي تتعامل مع الواقع بلغة الصدمة والإحباط، أو بمنطق النفي ومسلك النّعامة. فالأجدى إعادة النظر في مفهوماتنا للعدالة والحرية والحقيقة. فلم تعد قضية العدالة تُختزل إلى مجرد التمسك اللفظي بالشعار المساواتي، بل هي تكمن في إعادة النظر بمُثُلنا الخاوية عن المساواة، في ضوء الواقع المجتمعي الذي لا ينتج سوى التفاوت والتفاضل. هذا شأن الاجتماع البشري: إنه بنية تفاضلية. وأما المساواة التامة بين الأفراد والأسماء في كل شيء وعلى كل صعيد، فهي وهم كبير مآله مزيد من الفقر والتفاوت والتمايز. ولا يعني ذلك التخلي عن مبدأ التساوي، بقدر ما يعني أن معنى المساواة، كأي معنى آخر، هو نظام للمفاضلة والترجيح. وحده ذلك يتيح له أن نفهم إشكالية المعنى، في مسألة العدالة. والمجدي في مواجهة هذا الإشكال هو العمل على تفكيك بنية المعنى وتعرية أسسه، للكشف عما يتأسس عليه من اللامعنى، وبصورة تؤدي إلى إعادة الترتيب والتوزيع والنشر للأولويات والثروات والسلطات. كذلك للحرية إشكاليتها: فالمرء لا يرغب في التحرر أكثر مما يرغب في التسلط. والأحرى القول: لكل رغبة آلياتها السلطوية، المادية أو الرمزية، أكانت رغبةً في الحرية والمعرفة، أو رغبة في الثورة والثروة. وهذا ما يدعو إلى إعادة صياغة العلاقة بين الحرية والسلطة، لأن من لا سلطة له لا حرية له. ومن هنا فإن اللغة الطوباوية حول الحرية، لا تنتج سوى الاستبداد، سواء من قبل دعاة الحرية، أو من قبل أُولي الأمر وأصحاب السلطة. وهذا شأن من يبحث عن مجتمع لممارسة حريته الكاملة: إنه يبحث عن مكان، متخيل أو واقعي، لممارسة استبداده. وحده ذلك يفسر لنا لماذا آلت مشاريع التحرير إلى أنظمة كُلانية أو فاشية. وأخيراً للحقيقة إشكاليتها، لأن ما من شيء من معايير الحد والتعيين أو من آليات القياس والتصديق، يخلو من ممارسات الحجب والاستبعاد أو من أفعال الكَبْت والإرجاء، سواء تعلق الأمر بالثقافة والصحافة، أو بالسياسة والسلطة. وهذا ما يحمل على صياغة جديدة ومغايرة لمسألة الحقيقة، بحيث لا يجري التعامل معها بمنطق المطابقة أو بعقلية اليقين القاطع والنظام المُحكم، بل تُعامل بحسب منطق التوليد والتحويل أو تُفهم بعقلية الخلق والإنتاج. بهذا المعنى لا تعود الحقيقة عبارة عن تصورنا للعالم على ما هو عليه، بل تصبح ما نخلقه من الوقائع أو ما ننتجه من الحقائق، عبر إنشاءات الخطاب ومؤسسات المعنى، أو عبر منظومات الرمز وتراكيب الخيال، أو عبر مركبات الفهم وأنساق المعرفة، أي تصبح إعادة تركيب للعالم أو إعاد تشكيل للواقع، بصورة تؤدي إلى تغيير جغرافية العقل وعلاقات القوة، بجوانبها الثلاثة، بوصفها علاقة معرفة أو علاقة ثروة أو علاقة سلطة. ومعنى المعنى فتح مفهوم الحقيقة، على المغاير والمختلف، أو على الهامشي والمنفيّ، أو على الضد والنقيض، بل على ما نحسبه الغلط أو الخطأ، أي على كل ما يستبعده خطاب الحقيقة بالذات. وأما الذين يعتقدون أنهم يقبضون على حقيقة الأشياء بمنظوماتهم اليقينية، فمآل اعتقادهم حصد الأوهام والأكاذيب، أو المغالطات والمفارقات، أو الفضائح والانتهاكات، كما هو مآل الأدلوجات، أكانت دينية أم علمانية، سياسية أم علمية. تحويل العقوللذا تبدو المهمة الآن إعادة صوغ الأسئلة في ضوء التحولات الجارية. فلا يمكن أن تحدث كل هذه التغيرات في جغرافية المفاهيم والقيم أو في خارطة القوى والصراعات، ثم نتحدث عن الصراع الطبقي، بلغة القرن التاسع عشر، وكأن شيئاً لم يحدث. لا بدّ من فتح نار الأسئلة على المقولات المتحجرة والمناهج القاصرة والثنائيات العقيمة. فليس السؤال الآن: ما العمل؟ بل ماذا يحدث؟ لأننا إذا لم نفهم ما يحدث لن نسهم في صناعة الحدث؟ ولم تعد المشكلة أن ننادي بتغيير العالم، بل أن نعرف كيف يتغير ويتحول؟ لأننا إذا لم نعرف مدى التحولات التي طرأت على المشهد العالمي، أو مدى التغيرات التي أصابت المفاهيم والمعايير، لن نتمكن من المساهمة الفعالة في تغيير العالم. فالأحرى أن نُخضِع للمساءلة والفحص مقولاتنا وممارساتنا، لإجراء تغيير مثلّث، يطال أولاً مفهومنا للتغيير ذاته، إذ العالم يتغير الآن، ليس وفقاً لنماذجنا بل على نحو يفاجئنا; ويطال ثانياً صورتنا عن أنفسنا، إذ لا يُعقل أن يستمر المثقف في تقديم نفسه بوصفه يمثّل النخبة الواعية والمستنيرة أو المتقدمة، ممارساً وصايته على القيم والحقوق والحريات، في حين أصبح هو الآن الأقل فاعلية وحضوراً على المسرح، قياساً على بقية الفاعلين الاجتماعيين، كرجال الإعلام والأعمال، أو كمهندسي الحواسيب ومصممي الأزياء، أو كلاعبي الكرة ونجوم الطرب.. وأخيراً لا مهرب من إجراء فحص نقدي يطال شبكة المفاهيم التي يقرأ من خلالها المثقفون الأحداث، لأنه من غير المجدي أن نفهم العالم الآن ونشخص الواقع، بلغة قديمة وعُدَّة مستنفدة، فيما نحن ندخل في عصر جديد تتغير معه بنية الإنتاج ومحركات النمو، كما تتغير حقول الرؤية ومجالات الفعل والتأثير، فضلاً عن تغير أشكال الاجتماع ومنظومات التواصل، على ما نشهد الآن مع الدخول في عصر التلفزة والعولمة والأعلمة. وهكذا فما يمكن للمثقفين أن يفعلوه الآن بصورة مجدية، إذا أرادوا أن لا يضيفوا فشلاً جديداً أو لا يتكشفوا عن عجز جديد، هو أن لا يتصرفوا بوصفهم النخبة الواعية والمتقدمة التي تتقدم المجتمع، لكي تقدم له مشاريع للنهوض والتغيير، بل أن يعملوا على تغيير أنفسهم وتحويل عقولهم، لكي يلحقوا بالمجتمع الذي يسبُقهم في حركته وتحولاته، إذا أرادوا المساهمة في صنعه وتشكيله. سلطة المثقفمن هنا ليست مشكلتنا الآن، وبعد انهيار المشاريع الإيديولوجية للتغيير، أن نعلن تعلقنا الساذج بالعدالة، أو عشقنا الكاذب للحرية، أو دفاعنا الفاشل عن الحقيقة، أو ممارستنا العقيمة للاستنارة، فضلاً عن ادعاءاتنا الفارغة حول تمثيل الهوية والأمة. وإنما المشكلة أن نعمل على صياغة مفاهيم جديدة للحقيقة والعدالة، أو للحرية والاستنارة، أو للهوية والأمة، فضلاً عن السلطة والدولة والمجتمع، وهذه هي مهمة العامل في ميدان الفكر، والفلسفة بالتحديد: ممارسة الفكر النقدي، بنقد الأفكار والمقولات، وعلى نحو يحرر اللغة المفهومية من التهويمات الإيديولوجية والهوامات المثالية أو الأطياف النضالية. وهذا هو معنى القول: مشكلة المفكر هي في أفكاره: إعادة ترتيب العلاقة بالأفكار لنسج علاقات جديدة مع الواقع، من خلال شبكة جديدة من المفاهيم. ذلك أن المفكر هو فاعل فكري بالدرجة الأولى، بمعنى أنه يسهم في تغيير العالم بخلقه عالماً للفكر، ويقلب الأولويات بقدر ما يجترح منهجاً للتفكير، ويغير واقع السياسات بقدر ما يبتدع ممارسة فكرية جديدة أو يُبدع سياسة فكرية جديدة ومغايرة. هذا ما حاولته في نقدي للمثقف، وما رأيت أنه السبيل الأنجع، فكرياً وعملياً، للخروج من الأزمة: تفكيك الأوهام والهوامات للفُكاك من آليات العجز عن مواجهة الأزمات التي تتحول إلى مآزق خانقة، بقدر ما تُعيد إنتاج العُقم والهشاشة أو الهامشية. بهذا المعنى يشكل نقد المثقف محوراً من محاور تفكيري، ويدخل في صلب مهنتي وفي صميم عملي، كمشتغل في ميدان الفكر همّه انتاج أفكار جديدة، تتجدد معها أدوات الدرس والتحليل أو شبكات الفهم والتشخيص. في ضوء هذا الفهم لا يعود النقد موجهاً ضد المثقف، بقصد المحاسبة أو الإدانة، بقدر ما يصبح محاولة لفتح إمكانات جديدة، يخرج بها المثقف على غير ما هو عليه، سواء من حيث علاقته بذاته، أو بغيره وبالعالم، وبصورة تؤدي إلى إعادة ترتيب علاقات القوة بينه وبين رجل السياسة بشكل خاص، الأمر الذي يجعله يخرج مخرجاً أكثر غنىً وقوة، سواء على صعيد المعرفة أو على صعيد السلطة. مثل هذا النقد هو دفاع عن المثقف، عند من يعرف معنى النقد والكلام، لا عند من تسيطر عليه هواجسه النضالية أو عند من يستغرق في تهويماته الإيديولوجية، أي هو سعي لاستعادة المثقف سلطته بممارسته لفاعليته الفكرية، وذلك عبر إعادة صوغه لمفهومه عن السلطة، أو عبر إعادة ابتكاره لدوره. وهذا هو معنى القول: على المثقف أن يمارس سلطته: لا مجال لتغيير علاقات السلطة ما لم يتغير مفهومنا للسلطة نفسها. وهذه هي المهمة الأولى عند من يزاول مهنة التفكير: صوغ الأفكار من جديد في ضوء الحدث وفي أتون التجربة وعلى ساحة المراهنة، بصرف الأسئلة وزحزحة الإشكالات، أو بخلق المفهومات وابتداع الممارسات. وذلك هو الإمكان لاكتساب المصداقية الفكرية وممارسة الفاعلية المجتمعية. أثر النقدفي أي حال، أنا سعيد بما أثاره الكتاب من النقاش والجدل، أو بما لاقاه من النقد والمعارضة، سواء على الساحة اللبنانية أو على غير ساحة عربية، حيث استأثر باهتمام الكتاب والنقاد وأهل الفكر ورجال الصحافة، خصوصاً على الساحة السورية، حيث نال الكتاب النصيب الأوفر من الردود والمناقشات والتعليقات. من الطبيعي أن تختلف طرق التعامل معه وأن تتفاوت المواقف منه. هناك من لم يرَ فيه أي جديد، بل ثمة من لم يجد سوى الغلط والوهم، فضلاً عن الذين وجدوا فيه حرباً شعواء تشنّ على المثقفين. هذا شأن الذين تعاملوا معه بهواجس نضالية وعقلية جدلية، أو الذين استبدت بهم إرادة الإقصاء والاستبعاد، بسبب منطق التنافس والتزاحم، على الساحة الثقافية، من أجل ترويج السلع الرمزية، ما يعني أن بعض المثقفين يتسترون على ممارساتهم أو لا يعرفون معنى ما يقولون. هذه حال من لم يجد جديداً في الكتاب: إنه لا يرى وَسْط الرؤية نفسها، بحكم منطقه الصوري الاستدلالي، الذي شبَّه له أن بوسعه نقض مقولات الكتاب، غافلاً عن كون الأفكار هي وقائع فكرية تستقل عن قائلها، لكي تفعل فعلها وتترك أثرها وأصداءها. هذا شأن الأفكار الحية والخصبة: إنها تمتلك وقائعيتها وتمارس تأثيرها، حتى على الذين يعارضونها، بقدر ما تفتح حقلاً للأسئلة أو تخلق مجالاً للتداول، أو توفر مناخاً لممارسة حيوية التفكير. وأراني أستشهد هنا بما قاله سمير الزَبَن الذي هو من أشد المعارضين لمقولات الكتاب ونهجه. ومع ذلك فقد وجد أن له أهميته، لكونه «طرح أسئلة مربكة وقدم أجوبة هامة تحتاج إلى نقاش». وأهمية الفكرة تكمن فعلاً في كونها تشكل إمكاناً مفتوحاً يتيح إعادة التفكير، لاستيلاد
الأفكار وتحويل المفاهيم. مقابل ذلك هناك كُتَّاب وباحثون ومفكرون وصحافيون، استقبلوا الكتاب على نحو إيجابي. ثمة من قرأ فيه محاولة «تشخيص» لواقع المثقف، كما قال الروائي المصري سعيد الكفراوي. وثمة من وجد «جدَّة في الطرح والخطاب»، كما قرأه الكاتب اللبناني كرم الحلو. وثمة من وجد تركيزاً على «التجربة الوجودية»، كما قرأته الباحثة اللبنانية مارلين كنعان.. وهناك من اعتبره كتاب العام لسنة 1997، على ما كتب الطبيب اللبناني فؤاد مرعي. ومنهم من رأى بأن كتاب «أوهام النخبة»، وكتاب «صور المثقف» لأدوار سعيد كانا الأكثر إثارة للنقاش حول وضعية المثقف في عام 1997، كما لاحظ الدكتور رضوان السيد، الأكاديمي والمفكر المعروف. وهناك من وجد في الكتاب «نقداً جذرياً» لأنماط التفكير، على ما جاء في مقالة الباحث السوري تركي على الربيعو. ومنهم من وجد فيه محاولة للبحث عن «دور فعّال» للمثقف، كما قرأ مقولاته الشاعر اللبناني جودت فخر الدين. ومنهم وجد فيه محاولة ل «خلق واقع فكري جديد»، على ما جاء في مقالة للصحافي اللبناني معمّر عطوي. ومنهم من رأى فيه مدخلاً إلى «عمق أزمة الثقافة والفكر»، على ما جاء في قول الصحافي السوري علي ديّوب. ومنهم من رأى فيه «استثماراً موفقاً» لمنهج التفكيك، كما وجده الباحث اللبناني بول طبر. وأخيراً هناك من وجد أهميته في «عالمية» الطرح والمعالجة، وفي فتح آفاق واسعة تخرق حواجز الهوية، كما قال الصحافي المغربي صلاح صبيعة في مقالة له بالفرنسية. كل ذلك يشهد على ما تركه الكتاب بمنهجه وأطروحاته، منالأثر لدى الذين قرأوه، وبصرف النظر عن المواقف منه. فالعمل الفكري الجاد أو الهام، يخرج القارئ بعد قراءته، على غير ما كان عليه قبل أن يقرأه، إذ هو يفتح نوافذ للتفكير تسهم في تغيير الأفكار بالذات. على هذا النحو وصف الناقد صقر أبو فخر علاقته بكتاب «أوهام النخبة». وهو قدَّم قراءة مبتكرة وذكية للكتاب، إذ قرأ موت المثقف من خلال مقولة نقد المثقف، وذلك بالتوازي مع قراءتي، أنا نفسي، لكتابي، إذ أنني انتهيت في مقالاتي الشارحة لمقولاتي النقدية، إلى الكلام على «نهاية المثقف». أنهي هذه المقدمة، التي طالت، بالتساؤل: هل وقعتُ في ما حاولت تجنّبه؟ أعني الدفاع عن أفكاري والاشتغال بحراستها. تلك هي مفارقة العمل بعقلية المدافعة ومنطق البرهنة. فالأفكار الصحيحة أو التي تحاول التدليل على صدقها، لا تولّد سوء المفارقات أو التناقضات. ذلك أن الأفكار الهامة والخصبة، ليست مرايا للحقيقة، بمعنى أنها ليست صوراً تنسخ الواقع، أو نماذج أصلية جاهزة للتطبيق، وإنما هي شبكات تحويلية، أي قدرتها الخلاّقة على التوليد والتحويل، وذلك بقدر ما يجري العمل عليها لتغييرها أو لإعادة صوغها، وبصورة تتيح لنا أن نغير أنفسنا بقدر ما نغير بنية الفكر والعلاقات مع الواقع. الفكر مهنةً ودوراً من المثقف المنعزل إلى الوسيط الفاعلقوة الأفكارهذه المحاضرة منطلقُها ما أثاره كتابي «أوهام النخبة» في «نقد المثقف» من الردود والمناقشات الواسعة. ومع ذلك ليست المحاضرة مجرد ردّ على الردود، وإنما هي إعادة تفكير بشكل مكثف، في مجمل القضايا التي تناولها الكتاب، من أجل تسليط الضوء على مهنتي وميدان عملي، أو على منهجي وطريقتي في التفكير، والأحرى القول على ممارساتي الفكرية وخبراتي الوجودية. وأُعرب عن سعادتي في أن كتابي قد أحدث مفعوله واستدعى كل هذه الردود والتعليقات، سلباً أو إيجاباً، سواء من قِبل الكتَّاب والنقاد، أو من قبيل الباحثين والأساتذة الجامعيين.بالطبع ليس كل ما يثير الاهتمام أو السجال هو دليل على الجِدَّة والأهمية. فالعمل الفكري لا يستمد أهميته من جرأته المعرفية النادرة، ولا لأنه يتكلم بطريقة استفزازية على المسائل، أو لأنه يتطرق إلى قضايا حساسة وقوى سلطانية يخشى الناس من التطرق إليها. أهميته تكمن في قوة أفكاره بالذات، أي في ما ينطوي عليه من الجِدَّة والمغايرة، سواء في الطرح والإشكالية، أو في الحقل والرؤية، أو في المدخل والمعالجة. هذا ما يهب العمل الفكري أهميته: أن يطرح أسئلة حقيقية، أو يثير مشكلات هامة، أو يجدد في حقل النظر والتفكير، أو يستخدم طريقة فعّالة في السبر والمعالجة، أو يتكشف عن ممارسة فكرية مبتكرة. أما أنماط الاستدلال وسلاسل الأسباب وبناء الأنساق وأعمال التنقيب والتقميش وسواها من التقنيات، فإنها ينبغي أن تقود إلى هذه النتيجة، بحيث تجسد حيوية التفكير، وتنم عن القدرة على الخلق والتوليد للأفكار والمفاهيم. وعندها لا يهم إن كان الواحد يكتب مقالةً أو يؤلف كتاباً، ينشر في صحيفة يومية أو في مجلة علمية، وسواء كان يكتب في مقهى مفتوح أو في معقله الأكاديمي المعزول. فلربّ مقالة قصيرة تنطوي على جِدة في الطرح والتناول أو على صعيد الفهم وأداة المعرفة، في حين هناك كتب ودراسات مطوَّلة هي مجرد تراكم لمعارف لا تنطوي على جِدة في التفكير أو إغناء للمفهوم. إذن هذه هي الغاية والثمرة من أنشطتنا الفكرية ومجهوداتنا التأملية: أن نكون منتجين في ميادين عملنا ومجالات اختصاصنا. فلطالما دعونا، نحن أهل الفكر والعلم، في العالم العربي، إلى استخدام المناهج الصارمة في مباحثنا ودراساتنا، ولكن حتى الآن لا أحد منا توصل إلى اجتراح طريقة جديدة في التفكير، أو إلى استثمار المناهج المقتبسة بافتتاح فرع من فروع المعرفة. مما يشهد على أن دعاوينا وخطاباتنا هي غير منتجة، لا في الحقول والموضوعات ولا في المناهج والمفاهيم. وآية ذلك أننا نعتقد بأن المعرفة هي إنتاج تصورات مطابقة للموضوعات باستخدام مناهج جاهزة للتطبيق. في حين أن إنتاج المعرفة هو صيرورة تتغير معها العلاقة بين الأدوات والمعطيات، وفاعلية تركيبية يُعاد معها تعديل المناهج وإعادة تشكيل الموضوعات، بالتحرر من الأفكار المسبقة وكسر القوالب الجاهزة. بهذا المعنى لا إنتاج ولا ابتكار، إلاَّ بتحقيق ما هو غير مسبوق في أداة من أدوات المعرفة أو على صعيد من صعد الفهم أو على الأقل في سؤال من أسئلة الحقيقة. وهكذا فنحن نتكلم على التفكير الموضوعي أو نطالب بالبحث المنهجي، فيما المطلوب فتح موضوعات جديدة للتفكير، أو خلق بيئات للفهم تتيح للمنطق أن يفعل وللمناهج أن تُتثمر. من هنا فأنا اعتبر أن مهمتي الأصلية، هي أن أعمل بخصوصيتي التي هي مصدر الإحكام والصرامة، بحيث أفهم ما يجري أو أشخص ما يقع، ببلورة صيغة للحدث أو تقديم قراءة للواقع، على نحو يتيح لي أن أفسِّر ما يحتاج إلى تفسير مما يحدث ويستجد، أو مما يفاجئ ويصدم، أي مما نعتبره غير معقول أو غير مشروع أو غير منتظر. قراءة الواقعهذه المهمة تكتسب مشروعيتها في ضوء واقعين صارخين:أولهما أن المثقف المهتم بالشأن العام والمدافع عن القيم العامة، قد تغلَّبت عنده مهام النضال والتغيير على مشاغل الفهم والتفسير، فتحوَّل إلى مناضل فاشل، بعد انهيار مشاريع التقدم والتنوير والوحدة والحداثة، أو بعد فشل محاولات الدفاع عن الحريات والحقوق وبناء المجتمع المدني أو إحداث التغيير الديموقراطي. لقد عمل المثقفون بمقولة ماركس: الانشغال بتغيير العالم بدلاً من فهمه. فكانت ثمرة ذلك، أولاً، الجهل الفاضح بأحوال العالم وأوضاع المجتمعات، بدليل أن المثقفين هم دوماً أول من يفاجَأ ويُصدَم بما يحدث على أرض الواقع مما هو غير متوقع. وكانت نتيجة ذلك، ثانياً، الانخداع بالمقولة الماركسية، ذلك أن أهمية ماركس تكمن في كونه قدَّم قراءة جديدة للعالم وابتكر لغة مفهومية وخارقة في التعاطي مع الواقع وفي صوغه لمشكلات عصره. أما الواقع الآخر، فهو أن العاملين عندنا في حقول الفكر، على أهمية ما فكروا فيه وألَّفوه، منذ محمد عبده حتى محمد عابد الجابري، لم ينجحوا في افتتاح حقول للمعرفة أو في ابتكار أدوات مفهومية خارقة للحواجز اللغوية أو القومية أو الجغرافية. والأمثلة على ذلك كثيرة. نحن نتحدث عن فوكوياما، فننتقد نظريته حول «نهاية التاريخ» قائلين بأنها مقولة متهافتة لا قيمة لها على الصعيد الفلسفي أو العلمي. هذا ما نقوله ونعلنه،ولكن ما لا نقوله، وهو الأهم، هو أن مقولة فوكوياما قد اخترقت عقولنا وخطاباتنا من فرط أهميتها، بدليل أننا ننشغل بها ونشتغل عليها بالشرح والتفسير، أو بالرد والتعليق. أما ما نقوله عنها فهو مجرد ردود فعل لا توازي الفعل نفسه، أي مجرد خطاب إيديولوجي في منتهى الضعف والهشاشة. ولذا لم يتولّد عن نقدنا لفوكوياما فكرةٌ جديدة أو قراءةٌ مهمة للعالم تستأثر باهتمام أهل الفكر على الساحة العالمية. كذلك نحن عندما ندعو إلى تجديد الفكر، نطالب أحياناً، وربما غالباً، بتأسيس علم اجتماع عربي، فتكون النتيجة، عقم التفكير والفشل في إنتاج معرفة بالمجتمع، بل نعود إلى ما قبل ابن خلدون الذي أسهم في تأسيس علم العمران البشري والاجتماع الإنساني، إنطلاقاً من معطيات مجتمعية وتاريخية معينة. ولا عجب فالمعطى الذي يشتغل عليه أهل الفكر، يكون دوماً خاصاً أو مشروطاً، ولكن المعرفة به لا تخضع للتجنيس، بل تخص كل من يُعنى بشؤون المعرفة والفكر. ولهذا لم يظهر حتى الآن، في العالم العربي، عالم اجتماع كبير كابن خلدون أو دركايم، كبيار بورديو أو جورج بالاندييه. وهذا شأننا في موضوع السلطة. فما أكثر ما نخوض في هذا الموضوع، من دون التوصل إلى إغناء المفهوم أو إلى تجديد الفكر السياسي. بعكس ما نجد مثلاً لدى ابن خلدون أو ميكاّللي أو هيغل أو ميشال فوكو أو بيار بورديو. ذلك أن تجديد القول في مسألة السلطة، يفترض الدخول على الموضوع من مدخل جديد، أو استخدام طريقة مغايرة في التفكير، أو نَحْت مصطلح جديد في القراءة والتشخيص، على النحو الذي يتيح إعادة تشكيل الموضوع وإثراء المفهوم. بالطبع هناك معارف عن السلطة نقوم بتجميعها وتبويبها أو صوغها بعقل استدلالي أو في نَسَق منطقي، ولكن لا أفكار جديدة تتولّد عن تأمل تجارب سياسية غنية، أو عن تحليل مجالات وممارسات لم يجر التفكير فيها من قبل. وهذا أيضاً شأننا مع العولمة: إننا نتعامل معها بمنطق إيديولوجي نضالي، بوصفها آخر مراحل الاستعمار أو الشكل الأحدث للإمبريالية، على ما نقرأ في خطابات بعض المفكرين العرب. هذا في حين أن غيرنا يُخْضِع العولمة، بصفتها ظاهرة إعلامية، إلى الدرس والفحص، لكي يفتتح فرعاً معرفياً جديداً، على ما فعل ريجيس دوبريه في كتابه: «الميدياء»، أو علم الوسائط. وبالإجمال نحن نتحدث عن الغزو الثقافي، دفاعاً عن الهوية أو حرصاً على الأصالة. ولكننا لا نفعل بذلك سوى أن نشهد على جهلنا بالثقافة. ذلك لأن الثقافة الحية والفعالة، أي الخلاقة والمتنتجة، إنما تمارس حيويتها وفاعليتها بالتوسع والانتشار. وحده العاجز يفكر بالمحافظة. وثمرة المحافظة هي المزيد من العزلة والعجز، خصوصاً في هذا العصر، حيث تطغى وسائط الإعلام وتنتشر تقنيات الاتصال. أما المنتِج والقوي، فلا ينشغل بالمحافظة، بل يفكر بفتح مجالات جديدة أو أسواق جديدة للتواصل والتبادل. هذه هي حصيلة قراءتي لواقع المثقفين العرب على الجبهتين، جبهة النضال السياسي من أجل التغيير، وجبهة الإنتاج المعرفي في حقول التفكير: فشل في تحويل الواقع، هو عجز عن إنتاج علاقة جديدة بهذا الواقع، بقدر ما هو عجز عن إنتاج أفكار أو مفاهيم خصبة وخارقة حوله، وذلك هو المأزقژ(2). رهان التفكيرفي ضوء هذا الفشل العملي والهشاشة المفهومية، حاولت أن أفهم ما يقع مما هو غير معقول أو غير متوقع، بطرح أسئلة الحقيقة والواقع: لماذا نطالب بالوحدة ولا نحصد سوى الفرقة؟ لماذا تتراجع فسحة التنوير عما كانت عليه من قبل؟ لماذا يزداد التعصب الطائفي أو الاستبداد السياسي مع ازدياد الكلام على المجتمع المدني؟ لماذا بقي الكلام على الديموقراطية إسماً على غير مسمى؟ لماذا تأتي المعارضة إلى السلطة لكي تتراجع عن برامجها؟ لماذا يفشل التغيير بعد تغيير الحكومات والسياسات؟ لماذا تُترجم مشاريع التقدم تراجعاً وعجزاً؟ لماذا لا يحسن المثقف ممارسة الديموقراطية داخل قطاعه الخاص؟ كيف نفسر عزلة النخب المثقفة عن الناس والمجتمع؟ كيف نفهم أن المثقف يتصرف بوصفه يُعنى بكل ما يعني الناس ويهمهم فيما الناس لا يعنيهم كل ما يقوله المثقف ويهتم به؟ وهكذا فالوقائع الصارخة والحقائق المباغتة، المتمثلة في الفشل والإخفاق، قياساً على المهام الخطيرة والأدوار التاريخية المعلنة منذ
عقود، لا يمكن إلاَّ أن تشعل الأسئلة في العقل المفتوح على الحدث، من أجل تشخيص الواقع وقراءة ما يحدث بلغة مفهومية جديدة. هذه المهمة، عنيتُ محاولة الفهم والتشخيص، هي مهمة نقدية بالدرجة الأولى، يُصار عبرها إلى مساءلة البداهات ومراجعة الثوابت وتغيير العدة الفكرية، على نحو يتيح تجاوز الأسئلة الميتة والثنائيات العقيمة، أو تبديد الأوهام الخادعة والغشاوات الكثيفة، أو تفكيك المقولات الضيقة والقوالب الجامدة أو الأدوات القاصرة. هذا الشاغل بالذات هو الذي يقف وراء مجهوداتي الفكرية ويوجّه الممارسات النقدية التي أنخرط فيها على الساحة الثقافية، كما تجلى ذلك بشكل خاص في كتابي «أوهام النخبة». ففي هذا الكتاب سعيتُ إلى تفكيك الأوهام التي تستوطن عقول النخب المثقفة، حول الهوية والحرية والحداثة والحقيقة، فضلاً عن مفهوم النخبة نفسه، وذلك بقدر ما تبيّن لي أن هذه الأوهام تشكل عوائق تَحُول دون إسهام المثقف، والمفكر على وجه التحديد، على نحو مثمر وفعّال، سواء في تشكيل المشهد الفكري أو في تغيير الواقع الاجتماعي. بهذا المعنى للنقد، لم أدخل دخولي النقدي على المثقفين، لكي أتهم أو أدين الغير، ولا لكي أجلد نفسي أو أمارس مازوشيتي (تعذيب الذات)، بل لكي أغادر هامشيتي وأخرج من عجزي وقصوري. هذا هو النقد المنتج، على ما أفهمه وأمارسه: إنه ليس اتهاماً ولا نفياً، بقدر ما هو سبر إمكانات جديدة للفكر والقول، تتيج لي أن أمارس فاعليتي الفكرية أو سلطتي المعرفية أو مشروعيتي الثقافية. ولا ننخدعنّ بكلمة «تفكيك»، التي هي من أكثر المصطلحات التباساً. ذلك أن المسكوت عنه في الخطاب التفكيكي، هو إعادة التركيب والبناء، بحسب تفكيكي لمفهوم التفكيك. بهذا المعنى فنحن نفكك معنى لننتج آخر. هذا هو رهاني: أن أمارس حيويتي الفكرية، بأن أقيم مع فكري علاقة حرة ومفتوحة، حية ومتجددة، خصبة وفعالة، مثمرة وممتعة، وعلى نحو يُتيح لي في آن تغيير أفكاري وتحويل علاقتي بالواقع.مهمة التفكيرهذه الرؤية الأصلية التي تكشفت عنها تجربتي الفكرية، بوصفهاخبرة وجودية وصناعة للذات وصلة بالحقيقة، جعلتني أعيد التفكير في علاقتي بفكري من جميع جوانبها: عملي واختصاصي، مفهومي للأفكار وإشكاليتي الفكرية، دوري وفاعليتي الثقافية. وهذه نقاط يجدر بي شرحها وإيضاحها، ولعلَّ في ذلك ما يفيد أو يسلط الضوء على المنهجية في أعمالي الفكرية. لكل فرد مهنته وميدان اختصاصه. وهذا شأن العامل في ميدان الفكر، أي من يُسمَّى مفكراً أو فيلسوفاً على وجه التحديد(3): فهو صاحب مهنة كغيره من الناس. ومهنته هي الاشتغال بالأفكار وعلى الأفكار لتوليد أفكار جديدة، سواء في حقل التفكير أو في منهجه أو في عدته وأجهزته. إذن عليه أن يعمل بخصوصيته، لكي يكون منتجاً في ميدان اختصاصه. هذا أيضاً شأن الشاعر والروائي والفقيه والفنان والسياسي... بالطبع لكل واحد هويته الوطنية وخصوصيته الثقافية، كما لكل واحد خياراته الإيديولوجية ومواقفه السياسية. كلنا بهذا المعنى متجذرون في بيئاتنا وتراثاتنا. وكلنا منخرطون في صناعة الواقع أو لاعبون على ساحة الصراع الاجتماعي. وهذه حال العامل في ميدان الفكر والفلسفة. فهو ابن بيئة معينة وثقافة خاصة. وهو يكتب بلغة بلده أو قومه، وله بالطبع ميوله العقائدية وأهواؤه السياسية. ومع ذلك فمهمته الأولى ليست مهمة نضالية دفاعية. إنه ليس حارساً للوعي أو للهوية والعقيدة. بل هو الذي يشتغل على نفسه ويحسن توظيف تراثه لإبراز ميزته كمنتج للأفكار والمفاهيم. ولا يختلف الأمر في ميدان الشعر عنه في ميدان الفكر. فالشاعر الجيد ليس هو الذي يدافع عن قضية عادلة، بل هو الذي يكتب قصيدة جميلة، باستخدامه الكلام بطريقة جديدة، بديعة ومبتكرة. بذلك يخدم الشاعر لغته ويُغني ثقافته، كما يثري عالم الشعر والأدب جملة. وهكذا ليس المفكر من يناضل من أجل الدفاع عن قضية معينة، بل هو الذي ينتج فكرة خصبة لها فاعليتها في تفسير الظواهر وقراءة الأحداث أو في فهم المشكلات والأزمات. بهذا المعنى لا تمييز بين المفكرين من حيث جنسياتهم وانتماءاتهم. فالمفكر المبدع تخترقنا مفاهيمه، ولو كان ينتمي إلى بلد تقوم بينه وبين بلداننا علاقات صراع وتحديات. فنحن بالرغم من نضالاتنا ضد هيمنة الدول الغربية، ما نزال نتعيش على ما ينتجه علماؤهم ومفكروهم من المعارف والأفكار. بهذا المعنى إننا نحتاج إليهم بوصفهم منتجين للأفكار، لا بوصفهم مناضلين. طبعاً هنالك من يناضل معنا دفاعاً عن الحقوق والحريات، كما يفعل غارودي وتشومسكي، ولكن أخشى أن تخدعنا هذه المواقف، لأن أحوج ما نحتاج إليه هو أن نكون منتجين في علوم اللغة وفروع المعرفة. مثل هذا التعامل مع مهنتي وميدان عملي، يحملني على التخلّي عن عملية تجنيس الأفكار التي يلجأ إليها المثقفون العرب في محاولاتهم الفكرية، على ما تنبئنا بذلك عناوين الكتب والمشاريع القائلة بتجديد الفكر العربي أو بنقد العقل الإسلامي (أو الغربي)، أو الرامية إلى تأسيس علم اجتماع عربي أو الباحثة عن طريق للاستقلال الفلسفي. مثل هذه المحاولات، بما تحمله من محمولات إيديولوجية، قومية أو دينية، على الأفكار والعلوم والفلسفات، إنما تعرقل عملية الخلق والفتح والكشف، بقدر ما تغلِّب على الفكر إرادة الدفاع والنضال أو أوهام الهوية والعقيدة. فالمطلوب في النهاية تجديد أسئلة الفكر وحقوله أو أدواته وأنظمته، أياً كانت التجارب والمعطيات، وأياً كانت الخصوصيات والانتماءات. المطلوب هو أن يقدم أحدنا قراءة للعالم تكون على مستوى الحدث، أو أن يثير مشكلة وجودية تستأثر باهتمام كل من يقلقه أمر وجوده، أو أن يُنشئ علاقة جديدة مع الحقيقة تتيح ممارسة الوجود على سبيل الاستحقاق والازدهار. أما التفكير في علم اجتماع عربي، فإنه يُعيدنا إلى ما وراء ابن خلدون الذي بحث في العمران البشري والاجتماع الإنساني. وأما البحث عن طريق خاص نستقل به فلسفياً، فإنه عمل غير منتج لا جدوى من ورائه، لأن كل منهج فلسفي مبتكر، يغدو مُلكاً لكل من يُعنى بشؤون الفكر والفلسفة، بقدر ما يصدر عن خبرة وجودية أصيلة، يمارس عبرها كل فيلسوف علاقته بفكره بصورة حرة ومستقلة، فريدة وفذة، غنية وثمينة. على هذا النحو أمارس علاقتي بمهنتي: فمهمتي الأولى أن أفهم ما يحتاج إلى فهم، بإثارة أسئلة توقظ من السُبات، أو بصوغ إشكالية تلخص تحديات الواقع، أو بإحالة المعايشات والتجارب إلى صيغة عقلانية أو إلى لغة مفهومية. باختصار: أن أقدم أفكاراً تستأثر باهتمام الناس في سائر قطاعات المجتمع، على نحو يتيح لي أن أخرج من دائرتي الثقافية المغلقة، لكي أمارس سلطتي وفاعليتي في ميدان عملي وبيئتي الاجتماعية أو السياسية. بهذا المعنى ليست المهمة أن يدافع أحدنا عن الحقيقة والحرية في مواجهة السلطة السياسية، بقدر ما هي إنتاج أفكار جديدة تغتني بها أو تتغير معها مفهوماتنا للحقيقة والحرية والسلطة والسياسة. ومن لا يكون منتجاً، يصبح عالة على مجتمعه، أو يتحول إلى مناضل فاشل أو إلى مجرد مُبشِّر أو مُروِّج. أما المفكر المنتج، فهو الذي يطور تجربته ويغني ثقافته، بقدر ما يثري عالم الفكر والمعرفة. وهو الذي يخرج من قوقعته العقائدية ومعسكراته الإيديولوجية، لكي يعيد تشكيل هويته على نحو خلاّق ومثمر، أو لكي يمارس خصوصيته الثقافية بصورة عالمية. بهذا المعنى ليس المفكر من يدافع عن تراثه وهويته أو وطنه، وإنما هو الذي يحول تراثه وخصوصيته ووطنه إلى أرض لاستنبات الأفكار الخصبة والمفاهيم الخارقة. إشكالية المفكروتعيين المهمة هو الذي يملي صوغ المشكلة: فمن يشتغل في ميدان التفكير، وتكون مهمته إنتاج الأفكار، ومشروعيته تمثيل سلطة أهل الفكر، فإن إشكاليته تكمن في أفكاره بالدرجة الأولى، أي تتجسّد في مأزق الأفكار نفسها، أو في عجز المقولات عن تفسير ما يحدث. ولهذا فالذي يمارس علاقته بفكره بصورة حية وخلاّقة، ليس هو الذي يحرس أفكاره من الوقائع المباغتة، بل هو الذي يدخل على مقولاته بطرح أسئلة الواقع والحقيقة، لكي يفهم ما يحدث مما لم يكن بالحسبان: لماذا يحصد دعاة التنوير اللامعقول؟ أو لماذا ينفجر العقل الكلاسيكي؟ أو لماذا لم يستطع المفكرون العرب تجديد حقول الفكر وأدواته؟ أو لماذا لا يحسن أهل التفسير سوى الاختلاف على المعنى المراد تفسيره؟ أو لماذا لا تطبَّق الأفكار إلاَّ لكي تنتهك؟ أو لماذا لم تجعل الأفكار الجميلة والشعارات النبيلة العالم أقل وحشة وبؤساً وأكثر عدلاً وأمناً؟ إنها فِكرانية الأفكار التي تُحيل العالم إلى عقائد مغلقة وعقول مفارقة، أو إلى نظريات مثالية وكليات متعالية، أو إلى أدلوجات حديدية وأنظمة كُلاَّنية. بهذا يتحول عالم الفكر إلى معسكرات عقائدية وسجون إيديولوجية. من هنا خطورة الفكر وأهميته في آن: فهو يحجب بقدر ما يكشف، ويقيّد بقدر ما يطلق قوى أو يحرر مصائر. وعلى ذلك لا مفرّ لمن يفكر بصورة حية وتنويرية من الارتداد على أفكاره لمساءلة مقولاته وإعادة النظر في بداهاته وثوابته. وهكذا فمشكلة المفكر ليست مع الواقع ولا مع السلطات السياسية أو الدينية، بل مع الممتنعات من داخل الفكر. هذا ما تشهد به التجارب الفكرية الكبرى من أفلاطون حتى الشيرازي، ومن ديكارت حتى ميشال فوكو. فمشكلة أفلاطون وفلاسفة اليونان كانت تفسير وجود ما يوجد: لِمَ كان وجودٌ ولم يكن عدم؟ ومشكلة الفارابي كانت: كيف ينتج الواحد والكامل عالم الكثرة والنقص؟ ومشكلة الشيرازي تمثلت في فهم وجوه العلاقة بين الحق المتعالي والخلق المحايث. ومشكلة ديكارت هي إيضاح الطريقة الصحيحة التي تقود العقل إلى معرفة الحقيقة الموثوقة. ومشكلة كنط هي إيجاد المسوغات المفهومية للمعرفة التجريبية. أما مشكلة ميشال فوكو، فهي التفكير في المشكلات نفسها. من هنا تركز جهده على عمل الأشْكَلَة، الذي يجعل علاقة المرء بالرغبة والسلطة والمعرفة مثاراً للسؤال والفحص. بهذا المعنى يبدو تاريخ الفكر بوصفه تاريخاً للإشكاليات، وتبدو الفاعلية الفكرية بمثابة فاعلية نقدية تتجلى، كل مرة وفي كل فلسفة، بعودة المرء على أفكاره لصوغ إشكاليته من جديد. هذه هي مهمة المفكر أياً كان انتماؤه، وأياً كانت همومه وقضاياه: أن يحيل معايشاته وتجاربه ومجمل علاقاته بالغير والعالم إلى إشكالية فكرية أو إلى صيغة عقلانية أو إلى مركبات مفهومية. وفي هذا السياق بالذات يندرج قولي: إن مشكلة المفكر هي مع أفكاره. أما المشكلات التي يواجهها أهل الفكر مع السلطات والأنظمة، فهي مشكلات خارجية، سطحية، من وجهة نظر فكرية، بقدر ما تتعلق بالممنوعات أو المحظورات. طبعاً تنتصب هنا مشكلة حرية التفكير من سقراط إلى سيبنوزا، أو من ابن رشد إلى نصر حامد أبو زيد. ومع ذلك فأنا أرى أن هذه المشكلة هي مشكلة نضالية تتعلق بالجرأة الفكرية أكثر مما تتعلق بالجدة الفلسفية أو الفكرية. فمشكلة ابن رشد كانت إيجاد صلة مفهومية بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية. من هنا كان اشتغاله على مصطلح «التأويل» على نحو جديد ومبتكر، تحوّل معه إلى مُركَّب مفهومي فرض نفسه على الساحة الفلسفية، عبر «فصل المقال» الذي احتل موقعه الهام بسبب وقائعيته الفكرية. أما نصر حامد أبو زيد فإن أهمية عمله الفكري لا تكمن في جرأته على القول بأن النص القرآني هو نتاج لواقع العرب والثقافة العربية في العصر الجاهلي، لأن مثل هذا القول لا يضيف جديداً إلى الفكر. الأحرى أن نبحث عن الأهمية الفكرية في تحليلات أبو زيد لآليات النص القرآني في إثبات تفوقه أو تثبيت سلطته، وهو أمر لم يستلفت نظر الذي اتهموه أو أدانوه. وهكذا فالأهمية تتأتّى من مصداقية الأفكار وقوة المفاهيم. من هنا فإني أذهب إلى عكس ما يتوقعه معظم المثقفين، الذين يفاجأون دوماً بما هو غير متوقع، لأقول من باب أَوْلى أن تكون مشكلة المثقف في أفكاره بالذات. لأنه إذا كان الواقع يصدم، فعلينا أن نغير أفكارنا. وإذا كانت السلطة تزداد عنفاً واستبداداً، فالأجدى أن نعيد النظر في مفهومنا للسلطة. وإلاَّ كيف نفسر أن المثقف المطالب بحرية التعبير في مواجهة السلطة المستبدة، يمارس السلطة على نحو أكثر استبداداً في قطاعه أو عندما تُتاح له فرصة استلام السلطة السياسية؟ ! بكلام آخر: إن المثقف الذي يمثِّل سلطة أهل الفكر، يقاوم السلطة، بالعمل على فرض سلطته المعرفية بالذات. فإذا كانت مجابهة السلطات قد فشلت، وإذا كانت
مشاريع التحرير السياسي والاجتماعي قد تعثرت، فما يمكن فعله هو تغيير مفاهيمنا للحرية والسلطة والمجتمع، بالعمل على تفكيك المفاهيم السائدة والتصورات الرائجة، لتعرية ما تنطوي عليه من الهوامات والتهويمات. فنحن فشلنا في الدفاع عن الحرية في مواجهة السلطة، لجهلنا بالسلطة والحرية، أي بقدر ما تصورنا إمكان ممارسة الحرية بلا سلطة. وهكذا علينا إعادة التفكير في عدتنا المفهومية، بذلك نشكل سلطتنا، بقدر ما ننتج معرفتنا، ونغير الواقع، بقدر ما نغير فكرتنا عنه، باختصار: نعيد رسم علاقات القوة، بقدر ما نعيد تشكيل جغرافية العقل وخارطة المعنى. حلول فكريةإذا كانت مشكلة المفكر هي مع أفكاره، فالحلول ينبغي أن تكون فكرية، والمعالجات تتم على مستوى الفكر بالذات. ومعنى ذلك أن من يشتغل على الأفكار وبالأفكار، لا يفسر فشل فكرة أو انهيار مقولة أو تراجع عقيدة من خارجها، بردها مثلاً إلى الظرف التاريخي، كالوضع الاجتماعي أو الحالة الاقتصادية. قد تكون هذه مهمة عالم الاجتماع أو الاقتصاد. وأما المفكر فهو يقلب الآية، ليعيد النظر في الفكرة ذاتها، أو في طريقة إدارتها وكيفية التعامل معها، في ضوء الوقائع المستجدة على أرض الممارسة. إن الأفكار هي علاقتنا بالواقع، كما أن الواقع هو ثمرة هواماتنا وتهويماتنا. فإذا فشلت التجارب الديموقراطية، لا ينبغي أن نضع الملامة على الواقع. الأجدى إعادة النظر في طريقة التعاطي مع الديموقراطية أو في مفهوم الحرية، لأن الديموقراطية مورست بصورة استبدادية، بقدر ما استبدت بنا فكرة الحرية، أو بقدر ما تعاملنا مع صيغة الديموقراطية بطريقة أصولية أو بصورة دغمائية. وإذا فشلت محاولات العقلنة، فلأن العقلانيين قدَّسوا العقل وتعاملوا معه بصورة لاهوتية أو ما ورائية. ومن قدَّس شيئاً وقع أسيره أو ضحيته. من هنا فالعقلانيون حصدوا اللامعقول بقدر ما تعاطوا مع العقل بصورة غير مقعولة. على هذا النحو نفسه جرى التعامل مع مشاريع التقدم: فنحن تراجعنا فيما أردنا أن نتقدم، ليس لأن الظروف لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية لاستقبال أفكارنا، بل لأننا أردنا للواقع أن يتلاءم مع أفكارنا أو أن ينطبق مع مقولاتنا، أي لأننا انطلقنا من أفكار مسبقة أو نماذج كاملة أو نظريات جاهزة، حاولنا تجسيدها أو احتذاءها أو تطبيقها. ولا عجب: من ينطلق من فكرة مسبقة لكي يتقدم على أساسها، لا يحسن سوى التراجع عنها. ومن يعتقد بوجود نموذج كامل يمكن احتذاؤه، لا يحسن سوى طعنه والتقصير عنه. ومن يؤمن بأنه يمتلك نظرية أصولية صحيحة جاهزة للعمل والتطبيق، لا يحصد سوى الخطأ والانحراف، على ما تشهد علاقة التنويريين بالعقل، أو التقدميين بالاشتراكية، أو الليبراليين بالديموقراطية، أو الحداثيين بالعلمنة، أو الأصوليين بالإسلام. وهذا شأننا مع فكرة الوحدة: إن فشل مشاريع التوحيد لا يعود إلى الرجعية والإمبريالية، بل إلى تعاملنا مع مقولة الوحدة بعقل دغمائي مغلق ضد الأحداث والمتغيرات، أو بفكر أحادي تبسيطي يقوم على نفي الاختلاف والتعدد. في حين أن عمل التوحيد يحتاج إلى عقل تواصلي مفتوح على الآخر، وإلى فكر تركيبي يأخذ بعين الاعتبار تعقيد الواقع وملابساته، كما يحتاج إلى منطق تحويلي يقوم على الاعتراف بواقع الاختلاف والاشتغال عليه، لإنتاج صيغ وحدوية مُركَّبة من مجموعات أو مجاميع تنشأ بينها صلات التفاهم والتعارف، أو روابط التبادل والتفاعل. وبالإجمال إن تعثر الأفكار على الأرض، وصرفها بأضدادها، كما تشهد على ذلك التجارب مع الوحدة والديموقراطية أو مع العلمانية والإشتراكية أو مع الإسلام والمسيحية، مرده إلى أننا نتعامل مع الأفكار بوصفها ماهيات ثابتة أو طبائع بسيطة أو جواهر متعالية، أو نتعاطى معها بوصفها أصولاً صافية أو نماذج كاملة أو أطراً مسبقة. باختصار: إننا نتعامل مع الأفكار كتصورات مطابقة للواقع، ينبغي الأخذ بها لتطبيقها، فتكون النتيجة هذا التقصير والتراجع، أو هذا الجمود والتراوح، أو هذا الاستبعاد والإرهاب، أو هذا التبديد والخراب.. ولا غرابة: فالأفكار لا تنطبق على الواقع، إذ هي مجرد علاقة بالواقع تسهم في إنتاجه، والأحرى القول إنها هي نفسها وقائع. من هنا فإن الذي يشتغل بصناعة الفكر، إنما يعالج المشكلات بالتركيز على نقد بنية الثقافة وعادات الذهن، أو على كسر قوالب المعرفة ونماذج التصنيف، أو على تفكيك أنظمة الفكر وآليات العقل. وهنا تكمن خدعة ماركس(4) الكبرى المتمثلة بقوله: اشتغل الفلاسفة بفهم العالم فيما المطلوب تغييره. لقد اعتقد ماركس أنه قبض على قوانين التاريخ وحقيقة الاجتماع، عبر مقولاته ونظرياته، ولم يبق عليه سوى العمل والتطبيق، فكان الفشل الذريع للماركسية والإشتراكية. بالطبع إن الأفكار، بوصفها علاقة بالحقيقة، أو توتراً بين الأنا والعالم، تفعل فعلها في الواقع، ولكن لا على سبيل التطبيق، بل على سبيل التحويل. وما يتحول هو الفكر والواقع، عبر تغير الأقوال والخطابات أو الأبنية والمؤسسات، أي كل ما يتوسط بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والعالم. لا شك أن أفكار ماركس قد فعلت فعلها في تشكيل وعي فئات وشرائح ونُخب من الناس أسهموا في تغيير العالم. ولكن العالم لم يتغير طِبقاً لتعاليم ماركس، ولا طبقاً لما فهمه أتباعه من هذه التعاليم أو اعتقدوا به، بل تغير بخلاف ما فكروا فيه أو بعكس ما أرادوا له، بدليل أن العالم الذي صنعوه في الأنظمة الإشتراكية يختلف تمام الاختلاف عن تصورات ماركس. وليس ذلك لأنهم أساءوا فهم الإشتراكية أو تطبيقها، بل لأن الإنسان يغير أفكاره فيما هو يصنع العالم، ويعدل مقاصده فيما هو يسعى نحو أهدافه، ويخرج على خططه فيما هو يعمل على تنفيذها. من هنا لا أفكار موضوعية مطابقة ولا نظريات تطبيقية جاهزة. ثمة منظومة من الروابط والعلاقات هي في تغير مستمر. ثمة شيء يختلف عن ذاته باستمرار، باختلاف أنظمة العلامات ومنظومات التواصل، أو باختلاف المعالجات الفكرية والممارسات الميدانية. الفكرة والمعرفةكل ذلك يدعو إلى إعادة النظر في مفهومنا للفكرة، لكي نتحرر من وهم القول بوجود أفكار صحيحة مطابقة لموضوعاتها تمام التطابق. فالفكرة الهامة ليست هي التي تنطبق على الموضوع أو تعكس الواقع، وإنما هي التي تثير سؤالاً حقيقياً، أو تطرح مشكلة هامة، أو تفتح مجالاً للتفكير، أو تخلق لغة مفهومية. إنها مجرد إمكانية للتفكير أو للعمل، بمعنى أنها تتيح ممارسة حيوية التفكير، بقدر ما تتيح إنشاء علاقة جديدة مع الواقع. بهذا المعنى يمكن القول بأن الفكرة الهامة أو الخصبة تنتج الواقع بقدر ما تغدو هي ذاتها واقعة، وتسهم في تشكيل العالم بقدر ما تنشئ عالماً جديداً من الروابط والعلاقات. من هنا مشروعية التمييز بين المعارف العلمية والأفكار الفلسفية. فالمعرفة العلمية يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب، بالصحة أو الخطأ، بقدر ما ترمي إلى وصف الوقائع أو إلى إقرار الحقائق. أما الأفكار فإنها حقول للقراءة، أي أقوال تحتاج إلى التفسير والتأويل، أو أبنية وتراكيب تحتاج إلى التشريح والتفكيك. وهذا شأن الأفكار والمشكلات الفكرية عموماً، سواء تعلق الأمر بفكرة اُ أم بمقولة أنا أفكر إذن أنا موجود، بثنائية الماهية والوجود أم بإشكالية العقل والواقع. وهكذا فإن الفكرة الخصبة هي التي تشعل الأسئلة وتحض على التفكير. والمفهوم القوي هو الذي يخرق عصور المعرفة عامودياً وحواجز الثقافة أفقياً. الأمر الذي يحمل على إعادة النظر في إشكالية العلاقة بين المفهوم والواقع الذي يُحيل إليه. ليس المفهوم مجرد شاهد على الواقع. وفي المقابل ليست الوقائع مجرد مصداق للمفهوم. الأحرى القول إن المفهوم هو استراتيجية للتحويل تتغير معها العلاقات مع الأشياء. ولو أخذنا مقولة ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود، نجد بأن العالم لا يُفهم بعدها كما كان يُفهم قبلها. وذلك لأن هذه المقولة أنتجت علاقات جديدة بين الذات والفكر والوجود، بقدر ما أصبح الوجود يتأسس على الفكر، وبقدر ما أصبحت الذات فاعلاً على المسرح. ونحن إذ نتعامل الآن مع المقولة الديكارتية، لا نقول بأنها صحيحة أو خاطئة، بل نحاول قراءتها لممارسة حرية التفكير وتجديد القول، وذلك بالالتفات إلى ما استبعده ديكارت من نطاق تفكيره، فيما هو يفكر فيه أو ينطق به. وهذا شأن مفهوم «التفكيك». لقد خربط العلاقة بين المؤلف والمعنى أو بين النص والقارئ. لأن المعنى لم يعد من نتاج المؤلف وحده، بل أصبح ثمرة ما نقرأه في النص، أي ما يخفيه الخطاب فيما هو ينطق به، أو ما ينفيه فيما يؤكد عليه. بهذا المعنى من يقرأ النص، لا يبحث عن معنى جوهري أو عن قصد حقيقي، بقدر ما يشتغل على آليات إنتاج المعنى، أو يسهم في إنتاج معنى يختلف عنه باختلاف الكلام عليه. وهكذا فالمفهوم لا يقبض على حقائق جاهزة أو يتمثل جواهر مكنونة أو يشهد على وقائع قائمة. وإنما هو صناعة للحقيقة تتجسّد في قيام روابط جديدة بين الأشياء. وكل مفهوم يحتل موقعه الذي لا يحتله سواه، بتشكيله فسحة للقول أو زاوية للنظر أو مجالاً للتفكير أو حقلاً للقراءة والتشخيص. وهذا ما يمنح المفهوم قدرته على الصمود والبقاء، أي ليس لأنه تصور للعالم أو صورة عن الواقع، بل لأنه صيغة للحدث وتشكيل لعالم تنفتح معه علاقات جديدة ومغايرة مع الحقيقة. دور المفكربذلك تتغير مهمة المفكر والدور المنوط به على الصعيد الاجتماعي والسياسي. فإذا كان المفكر هو من يعمل في ميدان التفكير، ويشتغل بالأفكار، لكي ينتج أفكاراً جديدة، أو يصوغ إشكاليات فكرية مختلفة، أو يبتدع ممارسات فكرية جديدة; وإذا كانت الأفكار والمفاهيم هي استراتيجيات للتحويل أو طاقات على التشكيل، فإن دور المفكر هو أن يكون فاعلاً فكرياً بالدرجة الأولى، بخلقه بيئة للتفكير أو وسطاً للفهم أو مناخاً للحوار أو مساحة للتواصل والتعارف. بهذا المعنى يلعب المفكر دور الوسيط، لا دور القيادة أو النخبة أو الصفوة. وانطلاقاً من هذا المفهوم للمفكر، حيث تصبح علاقته بدوره على هذا النحو الاستراتيجي والتحويلي، أي فاعلاً بفكره ومفهوماته، مؤثراً بإشكالياته وممارساته الفكرية، ينبغي إعادة النظر بمجمل المهمات التي أُنيطت بالمفكر والفيلسوف، مثل دور الباحث والعالم، أو القاضي والمحقق، أو المعلم والقائد، أو المناضل والحارس. على هذا النحو صرتُ أفهم مهنتي وأتعاطى مع دوري:فلا أقول بأني باحث عن الحقيقة، إذ لا وجود لحقيقة جاهزة أو متحصّلة تنتظر من يفتش عنها ويقبض عليها بتصوراته المطابقة الدقيقة والموضوعية. الأحرى القول بأننا نصنع الحقيقة بقدر ما ندّعي الكشف عنها. ومن يعتقد بوجود حقيقة جاهزة، لا يحسن سوى الارتداد عن أهدافه وطعنها، كما يفعل الأصوليون، سلفيين وحداثيين، مع عصورهم الذهبية، النبوية أو التنويرية. هذا التغير في مفهوم الحقيقة، يتيح لي القول: أنا أصنع حقيقتي بخلق وقائع فكرية، أي بفتح مجالات للتفكير أو بإنتاج علاقات مغايرة مع الحقيقة. بذلك أسهم في تغيير واقعي والتأثير في بيئتي وعالمي. والأفكار لا تقوم في غياهب الفكر ولا في سماء متعالية، وإنما تتجسد في خطابات هي سلاسل من المنطوقات والشيفرات تحتاج دوماً إلى التأويل والتفكيك. بهذا المعنى لستُ أفلاطونياً أو سينوياً أو ديكارتياً، من حيث تعاملي مع نشاط الفكر. فالأفكار ليست جواهر من المعاني تؤلف عالماً مستقلاً بذاته، وإنما هي علاقتنا بالواقع والعالم. والمرء لا يفكر من غير جسده أو رأسه أو نصه. على ما هو شأن الرجل المعلّق في الفضاء عند ابن سينا، أو كما هو شأن الذات المفكرة عند ديكارت. فلا فكر ينعقد ولا معنى يتشكل ولا حقيقة تقرّ من غير الأصوات والعلامات والحروف، أو من غير الوسائط والأدوات والتقنيات. إن النصوص تستقل عن المؤلف في نهاية التفكير، بحيث تُقرأ كوقائع خطابية لها كيانها الخاص وحقيقتها الذاتية، وبصرف النظر عن مُراد المؤلف ومقاصده من وراء الكلام. ولكل نص هام راهنيته ومصداقيته، بقدر ما يستدعي القراءة ويحث على التفكير، أي بقدر ما يتيح لنا أن نقرأ ما لم يُقرأ من قبل. هذا عن النصوص المؤلفة من الحروف. ولكن تقنيات الاتصال تتيح اليوم تشكيل نصوص رقمية فائقة عبر الحواسيب، تتضاعف معها إمكانيات خلق الواقع وتشكيل العالم. بذلك تنفتح أمامنا علاقات جديدة تغير مفهومنا للواقع والحقيقة على نحو جذري. ولهذا لا أقول بأنني عالم أصف وقائع أو أعمل على تقرير
حقائق، بقدر ما أسعى إلى إنتاج فكرة أقرأ من خلالها الحدث، أو أُشكّل مفهوماً يغير علاقتي بذاتي وبالأشياء. بهذا المعنى لستُ كنطياً قائلاً بوجود أفكار متعالية أو مفاهيم محضة. فلا فكرة تخلو من تراكماتها الدلالية، ولا مفهوم يخلو من توظيفاته المجازية وشحناته الرمزية، بل كل فكرة هي شبكة من الصور والتمثلات، وكل مفهوم هو مركب من الأوهام والهوامات. من هنا فإن المفهوم لا ينطبق على الواقع. وإلاَّ لانتهى بانتهاء الواقع الذي يُحيل إليه. الأحرى القول بأن لكل مفهوم وقائعيته، أي قسطه من الحقيقة والوجود، بسبب منطقة الوجود التي يفتتحها أو حقل العلاقات الذي ينشئه، الأمر الذي يهب المفهوم قدرته على التراسل والانتشار. وهكذا فقوة الأفكار والمفاهيم لا تنبع من وضوحها وشفافيتها، بل من كثافتها وحدتها، من ثقلها ووقائعيتها، من كونها تحملنا باستمرار على إعادة الفهم من جديد، بتفكيك بنيات قائمة وتحويل علاقات مسيطرة. هذا هو عمل المركبات المفهومية: قراءة الحدث وصوغه، تشخيص الواقع وإعادة تركيبه، تفكيك البنيات وتحويل الروابط والعلاقات. مثل هذا الفهم للمفهوم يتيح لي أن أتحرر من مهمة المحقق أو القاضي. فليس المفكر والفيلسوف محققاً يتحقق من الوقائع، أو قاضياً يفصل بين الحق والباطل على طريقة ابن رشد أو ديكارت. إننا نتجاوز الآن مفهوم الحقيقة، التطابقي واليقيني، بقدر ما نتحرر من عقلية فصل المقال ومنطق المحاكمة والقطع، إذ الحقيقة ليست تطابق تصوراتنا عن العالم. إنها بالأحرى ما نصنعه وننجزه، ما نخلقه ونبتكره، أي ما نفتحه من المجالات والقطاعات، أو ما نُننْشِئُه من الروابط والعلاقات، أو ما نشكله من العوالم والفضاءات. ولذا لا أعدّ نفسي من أهل الشك، لأن الشك هو الوجه الآخر لليقين. وأنا لست باحثاً عن يقين معرفي مستحيل، بقدر ما أسعى إلى صوغ إشكال وجودي، بالانفتاح على الخطأ والريب واللامعقول وكل ما يتغذى منه عقلي وفكري. بهذا المعنى نُعيد الاعتبار للسوفسطائي في مواجهة أفلاطون، لا للقول باللاأدرية والفوضى المعرفية، بل لفتح الفكر على التعارض، والحقيقة على الخطأ. فالفكر هو توتّر بين الأنا والعالم، بين المقولة والحدث، بين الممنوع والممتنع، بين الواقع واللامتوقع.. بذلك نتحرر من منطق الجوهر والماهية، نحو فكر علائقي مفتوح دوماً على المجهول واللامعقول، أو على المستُبعَد واللامشروع، وبصورة تَؤُول إلى فتح مؤسسة الحقيقة على ما تستبعده بالذات، أي على الخطأ نفسه. إذ الخطأ هو مُنتِج للحقيقة، عند من يقرأ أفلاطون قراءةً مفتوحة لا قراءة وحيدة الجانب. ذلك أن السوفسطائيين لا يمثلون في الفكر الأفلاطوني الخطأَ الذي قهره سقراط بقوة حججه وسطوع براهينه، وإنما هم الوجه الآخر الذي جرى كَبْتُه واستبعاده، بفعل معايير للحق نسعى اليوم للتحرر منها، بفتح الحقيقة على التعدد والتعارض، أو على المجاز والاستعارة، أو على المفاوضة والمساومة، أو على المتاهة والحيرة، أو على الحدود والتخوم.. مثل هذا التغير في مفهوم الحقيقة، يفتح الإمكان لنَسْج علاقات مغايرة بين المختلفين والمتعارضين، تتيح اعتراف الواحد للآخر بحق الاختلاف ومشروعية المعارضة، لا لممارسة النفي المتبادل، بل للانخراط في عملية التمرس بالحوار وإتقان فن التواصل وخلق مساحات للتبادل. بذلك يكون الاختلافُ منتجاً، والمغايرةُ إبداعاً.. وأما الإدعاء بامتلاك مفاتيح الحقيقة والشريعة، فلا مآل له سوى الإقامة في القوقعة، والعَسْكرة وراء الأفكار والمقولات. ومن لا يقوم بدور معلّم الحقيقة، لا يدّعي بأنه بلغ رشده العقلي. فلا أحد يقبض على ماهية العقل أو يملك مفاتيح العقلانية الموضوعية.. وإنما نحن نعمل باستمرار على تفكيك أنظمة الفكر وقوالب المعرفة، للكشف عما تنطوي عليه من الآليات اللامعقولة والأساليب الدغمائية أو المعايير الاعتباطية. ولذا فإن العقلنة ليس طرد اللامعقول من دائرة العقل، بقدر ما هي دخول الفكر إلى المناطق التي تستبعدها العقلانيات السائدة والمسيطرة، من أجل تصيير اللامعقول معقولاً. بهذا المعنى لا أدعي بأني عقلاني صارم. جلَّ ما أطمح إليه هو تسوية علاقاتي مع أهوائي ولا معقولاتي، بإعادة التفكير فيما أقوله وأفكر فيه، لكي أكشف عن معنى الأقوال أو عن عتمة الممارسات، شاهداً بذلك على أنني بلغت رشدي الفلسفي لا العقلي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.