1-التقديم: منهج الاكتشاف. يعتبر الناقد رجاء النقاش،الذي فقدته الساحة الثقافية العربية يوم الثامن من شهر فبراير 2008 ،وهو في الرابعة والسبعين من عمره ( من مواليد شتنبر- سنة 1934) ، أحد الرموز البارزة في الحقل النقدي العربي ، نظرا للدور الذي لعبه في الميدان طيلة ما يزيد عن خمسة عقود ، وقد كان من بين جوانب ذلك الدور ، التبشير بالمواهب الشابة والأخذ بيدها ، وتقديمها للمتلقين .ولذلك استحق عن جدارة، تلك الأوصاف التي أطلقت عليه في الوسط الثقافي العربي ، مثل : المعلم ، ومكتشف المواهب ، ومطلق النجوم ، وصياد اللؤلؤ ، والجواهرجي ، ومجلي الذهب... وكلها أوصاف تحيل على الجهد الذي كان الناقد يبذله في العثور على المواهب ، كما تحيل على البصيرة الثاقبة التي تميز ما ينفع الناس عن الجفاء، وتحيل كذلك على المعدن الإنساني الأصيل الذي يفرح بالمواهب ويبشر بها ويتعهدها. فرجاء النقاش هو الذي قدم الشاعر عبد المعطي حجازي إلى القراء ، من خلال تلك المقدمة الطويلة الهامة التي كتبها لديوان حجازي الأول : " مدينة بلا قلب "، وهو الذي بشر بأدباء الأرض المحتلة: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي وغيرهم ، وكتابه "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة" أشهر من أن يتوقف الإنسان عنده . وهو الذي تحمس للروائي السوداني "الطيب صالح"، وهو بعد شاب، من خلال مقاله الشهير : " الطيب صالح، عبقري الرواية العربية" عن روا يته الأشهر :" موسم الهجرة إلى الشمال". وهو الذي واكب نقديا و إنسانيا نجيب محفوظ في مسيرته الروائية المعطاء ، وآمن بها قبل حصول محفوظ على جائزة نوبل بعقود.وكان يرى أن " عبد الوهاب البياتي شاعر عالمي يكتب بالعربية " ، ويستحق جائزة نوبل .وهو الذي كتب عن شاعر تونس العظيم ، أبي القاسم الشابي ، " شاعر الحب والثورة " كما أسماه ، إلى غير هؤلاء من أدباء ومفكري مصر والوطن العربي. وفي هذا الإطار ، إطار اكتشاف المواهب ، يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش ، في رسالة إلى النقاش ، قبيل وفاته : " نحن مدينون لك ، لأنك لم تكف عن التبشير النبيل بالمواهب الشابة ، وعن تحديث الحساسية الشعرية والدفاع عن الجديد الإبداعي في مناخ كان ممانعا للحداثة الشعرية..." (1) . والنقاش عندما يكتب عن موهبة أدبية حقيقية ،يتحمس لها ويغدق عليها من أوصاف الإشادة ما يجعل القارئ يتشوق إلى التعرف عليها وقراءة إنتاجها . لنستمع إليه وهو يتحدث ، مثلا ، عن "موسم الهجرة إلى الشمال" : " لقد أخذتني الرواية بين سطورها في دوامة من السحر الفني والفكري ، وصعدت بي إلى مرتفعات عالية من الخيال الفني الروائي العظيم (السوداني/ الطيب صالح ) ولم أكد أنتهي من قراءتها، حتى تيقنت أنني، بلا مبالغة، أمام عبقرية جديدة في ميدان الرواية العربية." (2) أو لنستمع إليه وهو يقدم السياب : " والسياب شاعر عظيم بكل معنى الكلمة ،لقد ترك وراءه ، رغم أنه توفي في الثامنة والثلاثين من عمره ، ثروة من الشعر الغزير الخصب الذي يجعل منه شاعرا من أعظم شعراء العربية منذ أقدم العصور إلى اليوم" (3)، ومثال ثالث للحماس الكبير للأدباء الذين يحب عملهم ، يقول النقاش : " إنني أعتبر يوسف إدريس واحدا من أكبر كتاب القصة القصيرة ، لا في الأدب العربي وحده ، بل في الأدب العالمي كله . ولا أخجل إذا وصفت يوسف إدريس بين رواد هذا الفن أمثال " موباسان " و " تشيكوف" و " سومرست موم " . وإذا نظرنا إلى الظروف الواقعية لفن القصة القصيرة في الأدب العالمي الآن، لوجدنا أنفسنا أمام حقيقة غريبة هي أن يوسف إدريس هو أكبر كاتب قصة قصيرة في الأدب العالمي المعاصر ، أي منذ الخمسينات إلى اليوم ( بداية الثمانينيات) " (4). ومما ساعد النقاش على التعريف بمكتشفاته وجواهره و إشراك قرائه العديدين في الاحتفاء بالمواهب والتحمس لها، اشتغاله في العديد من المنابر الصحافية و الثقافية الوازنة في مصر والوطن العربي، منذ فترة شبابه الأول، فقد كان مراسلا لمجلة "الآداب" البيروتية التي كان يرأس تحريرها الأديب الراحل سهيل إدريس، وهو طالب جامعي في كلية آداب القاهرة ، كما رأس ، بعد ذلك ، تحرير مجلة " الهلال" المصرية العريقة ، ومجلة "الإذاعة والتلفزيون " ومجلة "الدوحة" القطرية ، ومجلة "الكواكب" كما نشرت دراساتِه ومقالاته منابرُ أخرى بصفة منتظمة ، نذكر منها مجلة" الوطن العربي "ومجلة "المصور" ومجلة" وجهات نظر" ومجلة "دبي الثقافية " وجريدة " الشرق الأوسط" وجريدة "الأهرام"وغيرها.... إلى جانب هذا الاشتغال في الصحافة الثقافية، صدرت للنقاش العديد من الكتب النقدية الهامة، نذكر منها: - أدباء معاصرون. - أبوالقاسم الشابي شاعر الحب والثورة. - محمود درويش شاعر الأرض المحتلة. - في أضواء المسرح. - أدباء ومواقف. - صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر. - في حب نجيب محفوظ. - ثلاثون عاما مع الشعر و الشعراء. - قصة روايتين (ذاكرة الجسد ووليمة لأعشاب البحر). - نساء شكسبير . - " أولاد حارتنا" بين الدين والسياسة... وبما أن الكتابة النقدية لدى النقاش تتوخى التواصل مع شريحة عريضة من القراء عبر المجلة والصحيفة على الخصوص (جل دراساته نشرت في المجلات والصفحات الثقافية للجرائد قبل أن تصدر في كتب ) ، وبما أن الناقد كان يتعامل مع النصوص الأدبية التي يحبها ، ويرغب في أن يشرك القارئ في لذة الاستمتاع بها ، فإنه كان يعتمد في نقده على آليات وأدوات "بيداغوجية" كفيلة بإسعافه على الوصول إلى مبتغاه. وتلك الآليات هي التي سنحاول أن نتوقف عند بعضها في هذه الدراسة . وقبل ذلك، نشير إلى أن منهج النقاش في النقد ينهض على الموازنة بين الواقعي"ة الجدانوفية" ( نسبة إلى الناقد الروسي جدانوف) " التي لا تنظر إلا إلى المضمون دون اعتبار للشكل وجمالياته " ، وبين مدرسة الفن للفن التي " تحتفي بالشكل دون اعتبار للمحتوى والتي كان لها أعوان في العالم العربي يقودهم الدكتور رشاد رشدي ، وكان رجاء النقاش هو الهبة التي أرسلتها السماء لإنصاف المبدعين من طغيان هاتين المدرستين".(5) مدرسة النقاش النقدية إذن تهتم بالمضمون مثل اهتمامها بجماليات النص ، مع الابتعاد عن صرامة النقد الأكاديمي ، إنها " مدرسة في النقد الإنساني ، المدرسة التي اختارت أن تتعالى بوعي كامل على عملية النقد الصارمة بحدودها المدرسية ، دون إهمال للإضافات النوعية التي يطرحها النص الإبداعي، وذلك يتم عبر إطار لا يستطيع التخلص من البعدين السياسي والاجتماعي" (6). فمنهج النقاش النقدي إذن ذو بعد إنساني تتآلف فيه الأفكار مع العواطف ، ويتواشج ما هو فردي مع ما هو جماعي، ويتضافر فيه الشكل الجمالي مع الإطار المضموني . يقول الشاعر فاروق شوشة : " منهج رجاء النقاش يقوم على أفق إنساني رحب ، يمتزج فيه الفكر بالوجدان ، ويرى الظاهرة الثقافية في إطار مكوناتها وعناصرها الفردية والاجتماعية دون تزمت أو تعصب لنظرية ما ." (7) والبعد الإنساني في منهج النقاش هو الذي يجعله يحرص على معالجة النصوص الأدبية التي يحبها ، فيرفق بها وبأصحابها ، ويأخذ بيد القارئ ليسبر معه أغوارها ويذيقه من ملذاتها بواسطة " منهج العطف النقدي (حسب تعبير مي زيادة ) ، الذي وإن كان يقرأ الأعمال الأدبية والفكرية بعين الناقد الذي يمتلك أدواته بما يمكنه من وضع النص والكاتب في المكان الصحيح ، فإنه يتسم أيضا بالمحبة الغامرة ، وهو يلتقط بمهارة ، مكامن القوة والموهبة ، ويظل يرعاها و يرعى صاحبها مهما كان مغمورا إلى أن يشتد عوده وينهض ، كما يبحث في النص عن القيمة الإنسانية العليا التي تنعكس في الشكل والأدوات " (8). وعلى العموم فقد كان رجاء النقاش يعامل النص الأدبي معاملة العاشق للوردة، لا معاملة الجراح للجسد. فقد " جاء ليضع الوردة ( النص ) في مكانها ويسلط عليها الأضواء من كل جانب ، فتزداد جمالا وجلالا وروعة ، ثم يبدأ في رسم ملامحها ظلا فظلا ، ثم ينتقل بين ألوانها الزاهية ويعرضها ويجملها بكل الحب ، ثم ينتقل إلى عبيرها الخلاب و يجَمله إليك بحب ومودة، وتختلط مشاعر رجاء مع مشاعر المبدع، وتكاد لا تفرق بين من كتب النص ومن كتب عنه ، لأن المبدع قدم مشاعره، وقابله رجاء في منتصف الطريق ، ليكمل مسيرة هذه المشاعر ، وهنا كان التوحد بين الإبداع والنقد ليصل بك و إليك إلى حيث المتعة والجمال." (9) والنقاش نفسه يقول : " أنا من أبناء هذه المدرسة التي تؤمن بالجمال الفني والدور الاجتماعي للأدب والفن " (10) ، ويقول : إن منهجه هو " المنهج الذي يبحث وراء الجمال الأدبي عن قيم إنسانية تضيف إلى الحياة شيئا وتترك فيها أثرا من الآثار. وهذا المنهج، وإن كان يحرص أشد الحرص على الجمال الأدبي، فهو يحرص أشد الحرص على الوظيفة الإنسانية للأدب" (11). هذا المنهج الإنساني الجمالي الاجتماعي... المبدع يتوسل إليه ناقدنا ، كما ذكرنا، بآليات وأدوات "بيداغوجية" تهتم بالمتلقي والمبدع في نفس الآن . وهذا الهاجس البيداغوجي الذي نلمسه عند النقاش يذكرنا بمفكر مغربي مهووس ، هو أيضا ، بهم التواصل مع المتلقي ، وإن في ميدان مختلف بعض الشيء عن الميدان الأدبي .يتعلق الأمر بالكاتب المغربي المعروف : محمد عابد الجابري ، خصوصا في مقالاته الصحفية ودراساته في سلسلة " مواقف " . ولا يعني التوسل بالآليات البيداغوجية ،التعالي على القارئ، أو ممارسة الأستاذية على المبدع ، إطلاقا .إن الهدف تواصلي في المقام الأول ، ويرمي إلى أن يجعل المتلقي يتلمس مواطن الجمال في النص الأدبي المنقود. 2 - الوضوح وجمالية الأسلوب : أولى آليات النقاش البيداغوجية في نقده ، هي السهولة والوضوح والبساطة وجمال الأسلوب.فما دام الهدف هو إشراك القارئ ( والمبدع أيضا ) في تذوق جمال النص الأدبي والالتذاذ بمباهجه ومسراته، فإن السبيل إلى ذلك ، لن يكون باستعراض النظريات المعقدة ، واصطناع المصطلحات الرنانة ، والأساليب المستغلقة الغامضة ، وإنما بالاتكاء على اللغة البسيطة ، والألفاظ السهلة الواضحة، والتعابير الجميلة المفهومة من القارئ العادي ، دون السقوط في الضحالة والسطحية . يقول الناقد صبري حافظ: "كانت موهبة رجاء النقدية التي تتسم بعمق البصيرة والقدرة على التحليل النقدي الذي يتميز بالبساطة والعمق معا، هي التي جعلته علما على نوع من النقد الأدبي الذي يتسم بالسلاسة وجماليات البساطة دون التضحية بالعمق والتحليل وأحكام القيمة " (12). ويقول الناقد جابر عصفور: " ظل النقاش على إيمانه بأن الأديب المؤثر حقا هو الأديب الذي يتميز ، إلى جانب عمق مشاعره وصدق إحساسه ، بحرصه على التواصل مع قرائه ، والوصول إلى أوسع دائرة من المتلقين، غير ناس انه ينتسب إلى مجتمعات تغلب عليها ، بل تتزايد الأمية. ولذلك ظل نافرا مما رأى فيه تعقيدا مسرفا في الرمزية أو السريالية ، مؤثرا الوضوح "الأبولوني "على الغموض أو الجنون "الديونيسي" (13) ، فكان أميل إلى حجازي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش في مواجهة أدونيس وغيره " (14). وقد كان رجاء النقاش مؤمنا إيمانا عميقا بأهمية الوضوح فمارسه وظل ينافح عنه، يقول : " الأدب العظيم أدب واضح، والأدب المؤثر أدب واضح ،والوضوح نفسه لا يتناقض مع العمق و الأصالة وقوة الإبداع، وتصوير أعمق الصراعات والخيالات المضطربة في النفس الإنسانية ." ( 15) والواقع أن من يقرأ دراسات "النقاش" وكتبه ينجذب إلى جمال أسلوبها ووضوح عباراتها، وسهولة تعبيرها وعمق مضامينها.هنا نموذجان للتمثيل: "هناك ولا شك نفوس يصعب جرحها ، لأنها نفوس قوية ، وهناك نفوس بليدة لا تتأثر بما يحدث لها، ولا تبالي بمن يريدون أن يؤلموها أو يجرحوها . ولكن نفوسا أخرى على العكس من ذلك، أي أنها نفوس شديدة الحساسية، بحيث تنزف سريعا كلما أصابتها أشواك الحياة. وعلى رأس أصحاب النفوس الحساسة، في هذه الدنيا، ذلك الكائن الجميل الذي نسميه باسم الفنان، خاصة إذا كان هذا الفنان حقيقيا وموهوبا وصاحب قلب كبير. لكن الفنان الذي فيه هذه الصفات هو من أكثر القادرين على أن يرتفع فوق جراحه، لأنه يستطيع التعبير عن هذه الجراح بألحان أو كلمات أو ألوان. والتعبير الجميل عن الجراح الإنسانية ، يجعل هذه الجراح ترتد إلى صدر الذين صنعوها ، وأرادوا بها إيذاء الناس " (16 ) . "إن يحيى حقي هو واحد من كبار أصحاب "الرسالات" في أدبه وفنه. فقد كان صاحب قلب كبير حساس ، وصاحب ضمير حي ، وكان شديد الاهتمام بالإنسان ، وبما يتعرض له في نفسه أو في حياته الواقعية من مصاعب وتعقيدات ، وكان يحمل عطفا غير محدود على الذين " لا حيلة لهم " في مواجهة بحر الحياة بأمواجه العالية و العاتية . وهذا العطف الذي يملأ قلب يحيى حقي ينعكس في أدبه بصورة قوية متدفقة بالرحمة والحنان " (17) . مميزات أسلوب النقاش واضحة في هذين المثالين : سلاسة اللغة ، جمالية التعبير، وضوح المقصد، عمق الفكر، الفهم الصحيح لرسالة الفنان ... وكلها عناصر لا يجد أي قارئ عادي صعوبة في استيعابها واستساغتها والتفاعل معها. 3-الشرح والتوضيح: الخاصية البيداغوجية الثانية التي كان النقاش يتوسل بها ، كأي مرب مهموم بالتواصل الإيجابي مع متلقيه، أثناء تحليل النصوص الأدبية هي الشرح والتوضيح والتفسير، إن " إيضاح الصورة ، إيضاح النص، هو القصد النهائي لكل عملية نقدية "، ولأن " النقد ، إذا لم يكن عملية توضيح وتدريس ، فهو لا يعطي شيئا " (18).وكذلك لأن " الناقد،أكثر من أي فنان، أكثر من أي مبدع، يتوجه بكلامه إلى القارئ،يفسر له ما غمض، ويحلل له ما يحتاج إلى تحليل" (19). وفي هذه الحالة، يرتدي النقاش جبة الوسيط بين النص والقارئ، ويجتهد بكل اقتدار وحرفية، في نقل ما اكتشفه في النص من جمال وقيم إلى المتلقي حريصا على أن يكون النقل أمينا، وفي أحسن صورة وأمتعها، وسيلته في ذلك، كما ذكرنا، تحليل مكونات النص، وتوضيح تلميحاته ورموزه الفنية، وتفسير أبعاده ومراميه، ليغنم الجميع، مبدعا وناقدا ومتلقيا، في نهاية المطاف بأطيب اللقي، وأجمل الدرر. ولعل وظيفة تفسير النص الأدبي تكون أهم وظائف النقد، خصوصا حين يتوجه الناقد إلى جمهور عريض عبر الملاحق الثقافية للجرائد أو عبر المجلات الأدبية. ولذلك جعل النقاش " دور الناقد أشبه بدور الوسيط الذي يجمع بين طرفين يحبهما، النص الأدبي والقارئ، مؤكدا هذا البعد بنقده التطبيقي الذي يسعى إلى إيصال معنى النص إلى القارئ، في بساطة آسرة،بعيدا عن التقعر أو التقعيد أو التنظير المتعالي أو التقليد الساذج لنقد آخر" (20). ولإعطاء فكرة عن حرص النقاش على وظيفة التفسير نقدم المثال التالي: فبعد عرض مقطع من قصيدة "عاشق من فلسطين" لمحمود درويش: عيونكِ شوكة في القلب توجعني، وأعبدها وأحميها من الريح واغمدها وراء الليل و الأوجاع. أغمدها فيشعل جرحها ضوء المصابيح ويجعل حاضري غدها أعز علي من روحي وأنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعين بأنا مرة كنا، وراء الباب اثنين. بعد تقديم المقطع، يشرح : "هنا حديث عن الحب، وهو حب محزون ومجروح، شأن كل حب في أي وطن محزون ومجروح، فالعيون في مثل هذا الحب تتحول إلى شوكة في القلب " توجعني وأعبدها" وهي صورة رائعة، ولكنها لا تخطر على بال عاشق رومانسي خالي البال (...) إنه هنا عاشق يرى في عيون حبيبته ما يذكره بحرمانه، وبهمه الكبير، ومسؤوليته العظيمة. إنه " عاشق من فلسطين" (...) ولكن هذا الحديث العاطفي عن الحبيبة سرعان ما يختفي لنحس أن وراءه شيئا. فهذه الحبيبة ليست فتاة عادية، وإنما هي فلسطين، أو قد تكون، في الأصل، فتاة عادية، ثم تتحول في عينيه، الممتلئتين برؤيا بلاده، إلى فلسطين نفسها" (21 ). وقد يعمد الناقد في حرصه على التوضيح والشرح إلى الوقوف عند الكلمات / المفاتيح، في النص الذي يتصدى لنقده، وذلك كما فعل ، مثلا، وهو يحلل رواية " الحرافيش" لنجيب محفوظ، مع ألفاظ: الحرافيش والحارة والفتوة والتكية والخلاء. بخصوص الحرافيش مثلا يقول: " أما كلمة " الحرافيش" فهي كلمة " مصرية "، معناها المواطنون العاديون أو أبناء الشعب البسطاء (...) وقد استخدمها نجيب محفوظ بمعنى محدد في مقابل كلمة "الشعب". فالحرافيش عنده هم الشعب بأفراده وجماعاته المختلفة .والحرافيش عنده ليسوا هم الحكام والقادة والزعماء، بل هم الجمهور المحكومون والذين يتصارع الكبار للسيطرة عليهم". ويقول بخصوص الحارة: " أما كلمة "الحارة" فهي الشارع الصغير في معناها المباشر. ولكن نجيب محفوظ يستخدم هذه الكلمة بمعنى رمزي . فهي في بعض الروايات تعني " المجتمع" ( زقاق المدق)... وفي بعض الروايات الأخرى، فإن " الحارة " ترمز " للعالم " كله كما نجد في رواية " أولاد حارتنا" ففي هذه الرواية حديث عن الإنسانية كلها في هذه الدنيا التي نعيش فيها. و " الحارة " في " الحرافيش" ليست هي " المجتمع المصري" وليست هي الدنيا منذ بدء الخليقة إلى الآن، ولكنها ترمز بالتحديد إلى "المجتمع الإنساني" ( 22 ). وهكذا مع بقية الكلمات الأخرى حيث يقتلها شرحا ويوضح ما ترمز إليه في الرواية. وفي معرض حديثه عن المنهج النقدي الأيديولوجي لمحمد مندور، يقول : " كلمة "أيديولوجيا " تعني المنهج النظري أو الاتجاه، كما تقول المعاجم : إن الأيديولوجية " فن البحث في الأفكار والتصورات "... إن معنى كلمة "أيديولوجيا" يدور حول تلك الألفاظ العربية جميعا،وإن لم يكن هناك لفظ واحد يدل عليها بدقة" (23) . هاجس الناقد في التواصل مع المتلقي، يجعله إذن يولي اهتماما كبيرا للشرح والتوضيح.
4-الإلحاح والتكرار: ويعمد رجاء النقاش في حرصه على إفادة المتلقي، وعلى ضمان فهمه ومشاركته الوجدانية والعقلية، إلى آلية بيداغوجية أخرى، مدعمة للشرح، هي التكرار، تكرار مفردات بعينها،أو جمل أو آراء وأفكار، بلفظها أو بصيغ مختلفة. ففي الفقرة القصيرة السابقة، مثلا، التي أتينا بها كمثال على وظيفة التفسير، نجد النقاش يكرر: " الحرافيش " ثلاث مرات، و " الشعب " ثلاث مرات ( + الجمهور والمحكومون) و"عنده" مرتين؛ وأورد ثلاثة مرادفات للحاكمين ( الحكام – القادة – الزعماء – الكبار). كأن النقاش يريد، وبكل إلحاح، حين يقدم كل ما توصل إليه وفهمه وتذوقه، بحدس الناقد الخبير، ومعرفته وثقافته وعمق تحليله، يريد، وبشتى الوسائل، أن يتوصل القارئ إلى نفس النتائج، ويشاركه نفس المتعة والفائدة والمعرفة. هنا نموذج آخر لوسيلة التكرار في المنهج النقدي البيداغوجي عند النقاش ( والمربون يدركون جيدا أهمية الإلحاح والتكرار في التثبيت والتركيز والاحتفاظ بانتباه المخاطَبين)، وقد جاء ( المثال) في دراسة عن ديوان" سرير الغريبة" لدرويش : "محمود درويش يقدم لنا أحدث دواوينه (سنة 2000)، وهو ديوان « سرير الغريبة"، فنجد فيه نغمة أساسية، محزنة ورائعة هي نغمة المنفى والاغتراب". وبعد الحديث عن جذور تلك النغمة يقول الناقد: "هذه هي الجذور التي جعلت الشاعر الكبير يشعر بأنه منفي ومغترب (...) فرحلته ، منذ أن كان في السابعة من عمره هي رحلة المنفى والاغتراب"، ثم يقول "إنه كان ولايزال دائم الشعور بالاغتراب والنفي. وهذا الإحساس بالنفي والاغتراب هو الذي يقبض بيد قوية على قصائد ديوان درويش الأخير "سرير الغريبة "، فلا تكاد قصيدة من قصائده التسع والعشرين تخلو من كلمة " الاغتراب" أو كلمة "النفي" (...) فكل فلسطيني يحس تماما أنه مغترب ومنفي " في فلسطين أو في الشتات (24). 5-التمثيل والبرهنة: وننتقل إلى آلية نقدية أخرى مرتبطة بوظيفة التفسير ( كما التكرار) ومكملة لها ، ألا وهي تقديم الأمثلة وعرض البراهين والقرائن للتدليل على الظواهر المثارة وإقناع المتلقي بآراء الناقد ومواقفه. المثال في المجال البيداغوجي ، كما هو معلوم، يعاضد الشرح والتوضيح، ويساهم في إلقاء المزيد من الضوء على القضية المدروسة، ويساعد بالتالي، على الفهم وإدراك كنه الأشياء. و نفس الشيء بالنسبة للنقد الذي يستهدف شريحة عريضة من المتلقين، كما هو الشأن في جل كتابات النقاش النقدية. فقد كانت دراساته " تنطوي على وجهة نظر يدعمها النقاش بأدلة وأسانيد وحجج قوية، شكلت الأفق العام الذي تحركت فيه معظم كتابات النقاش على مدى رحلته الأدبية والفكرية والسياسية " ( 25). تقديم الأمثلة والأسانيد من شأنه إذن، أن يساعد القارئ على الاستيعاب، كما من شأنه أن يقنعه بمواقف وآراء الناقد. ففي دراسة عن ثقافة الشاعر، يقول النقاش: " لن يصل الشاعر إلى المستوى الإنساني العالي إلا عندما تكون ثقافته شاملة، ونظرته للحياة عميقة... و انعدام الثقافة يمكن أن يقتل الموهبة مهما كانت قيمة هذه الموهبة " ثم ينطلق الناقد في التدليل على فكرته، مستشهدا بالعديد من الأمثلة من الشعر العالمي والعربي (شكسبير و إليوت والمتنبي والمعري) . يقول مثلا: " ترى لو اقتصر شكسبير على مواهبه ، واعتمد عليها فقط، ولم يكلف نفسه قراءة التاريخ وفهمه ومعرفة البيئات الطبيعية والأنظمة الاجتماعية في العصور المختلفة (... ) لو لم يفعل شكسبير هذه الأشياء التي جعلت منه مثقفا كبيرا، فهل كان باستطاعته أن يقدم للإنسانية هذه الصور الفنية الرائعة ( في مسرحه الشعري )؟ " ويقول عن أبي العلاء " ابتعد عن الحياة السياسية والاجتماعية بعدا كاملا، ولكنه عكف، في عزلته الطويلة، بقريته الصغيرة، على الثقافة، فكان يقرأ قراءة رائعة في العلوم العلمية والفلسفية والدينية واللغوية والأدبية، حتى أصبح أكبر مثقف عربي في عصره، ولذلك فشعره يمتاز بنظرة إنسانية عميقة". (26) وهكذا يتتبع الناقد تجربة الشعراء الذين قدمهم كأمثلة، فيبرز صور ثقافتهم وتأثيرها على إبداعهم، مما يسهم في إقناع القارئ بوجهة نظره. و في دراسة عن علاقة عبد الناصر بالمثقفين، يصل الناقد إلى أن الرئيس " لم يكن عدوا لهم، حتى لو انتقدوه، وحتى لو كان نقدهم له ولعصره عنيفا قاسيا " (27). وقبل هذا يقدم الأدلة على ذلك: - الشاعر صلاح عبد الصبور كتب قصيدة: " هل عاد ذو الوجه الكئيب؟" ، وفيها هجوم عنيف على عبد الناصر، ولم يحدث له شيء. - والشاعر محمد الفيتوري نظم قصيدة :" مات غدا" وفيها أيضا هجوم على عبد الناصر " ومع ذلك لم يحدث شيء للفيتوري" ، وكان يقيم في مصر. - وكتب نجيب محفوظ قصة "الخوف" وفيها نقد واضح لجمال عبد الناصر. "واستمر موقف نجيب محفوظ النقدي من عبد الناصر وعصره في كثير من قصصه " ، ولم يحدث له شيء. - ونشر نزار قباني قصيدته الشهيرة: " هوامش على دفتر النكسة"، بعد هزيمة 1967. وكان الشاعر ينتقد الرئيس بوضوح: " يا سيدي السلطان لقد خسرت الحرب مرتين لأن نصف شعبنا ... ليس له لسان". فتصدت أجهزة الأمن للشاعر وقصيدته وحتى أغانيه. ولما وصل الخبر إلى عبد الناصر أمر: "يسمح بدخول قصيدة نزار إلى القاهرة، ويسمح بدخول كل أعماله الأخرى، ولا اعتراض على شخص نزار أو فنه في مصر"، مع أن العديد من قصائده كان فيها نقد لاذع مثل قصيدتي "الممثلون" و"الاستجواب". - وكتب توفيق الحكيم "السلطان الحائر" و"بنك القلق" وعبد الرحمن الشرقاوي مسرحية "الفتى مهران". - ويوسف إدريس قصصا كثيرة... وفي كل هذه الأعمال نقد بين لعبد الناصر وعصره. ومع ذلك، لم يحدث شيء لمؤلفيها. أما المثقفون الذين تعرضوا لبعض المصاعب في عهده، فإن ذلك لم يكن " بسبب كتاباتهم أو آرائهم الفكرية"، وإنما لأنهم " دخلوا ضده في صراع سياسي مباشر" عنيف (28). وفي دراسة للنقاش عن الشاعر العراقي المغترب : أحمد مطر، يرى أن قصائده تقدم لنا " شاعرا سياسيا بامتياز"، باعتراف أحمد مطر نفسه : " فأنا الفن وأهل الفن ساسة فلماذا أنا عبد والسياسيون أصحاب قداسة ؟ " ثم يقدم أمثلة لشعراء " سياسيين" من عوالم مختلفة : المتنبي ودرويش والقاسم و"ماياكوفسكي" و"والت ويتمان" و"بابلو نيرودا" وناظم حكمت و أراكون. (29 6-التوسع وتداعي المعاني: إن الرغبة في تقديم أكبر خدمة وأغزر معرفة للقارئ تدفع ناقدنا، أحيانا، مثلما يحدث للمربي، إلى تخطي القضايا التي يعالجها ويحللها، إلى قضايا أخرى متجاورة أو ذات صلة ( قريبة أو بعيدة ) ، ثم العودة إلى القضية الأصل، في ما يعرف بالاستطراد أو تداعي المعاني. والاستطراد، عند النقاش، لا يأتي في إطار استعراض العضلات الثقافية والمعرفية، أو التباهي بالموسوعية وكثرة الاطلاع، بقدر ما يأتي ، كما ذكرنا، من حرص الناقد على أن يخرج القارئ من التجربة ، تجربة مصاحبة الناقد، بأوفر مغنم وأغنى معرفة وأحسن متعة. الاستطراد عند النقاش، وسيلة للتوسع في الموضوع وللمقارنة وإلقاء المزيد من الضوء على النص الأدبي، أو الظاهرة الثقافية، من جميع جوانبهما وارتباطاتهما، الظاهرة والخفية... فبمناسبة كتابة النقاش، مثلا ، عن ديوان " شخص غير مرغوب فيه " لسميح القاسم ، جاء الحديث عن صداقة درويش والقاسم، فانطلق الناقد يقول : " العلاقة بين سميح ودرويش هي نموذج رفيع للصداقات بين الأدباء (...) وبالمناسبة فالصداقات بين الأدباء العرب في الوقت الراهن ( ثمانينيات القرن العشرين ) ، قليلة جدا، ومن النادر أن توجد هذه الصداقات الآن ، على عكس ما كان عليه الأمر في الجيل الماضي وقبله، فقد كانت هناك صداقات كبيرة مثل صداقة حافظ وشوقي، والعقاد والمازني، وطه حسين والحكيم، وجبران وميخائيل نعيمة، والزيات وأحمد أمين،والرافعي وسعيد العريان، لقد انتهى هذا العصر، ولعله يعود يوما" (30). وبمناسبة حديث الناقد عن قصيدة "عن اللائي يكتبن روايات مشهورة" لسعدي يوسف، وما أثير حولها بخصوص الروائية الجزائرية، أحلام مستغانمي وروايتها:"ذاكرة الجسد"(31)، يقول النقاش عن مقطع القصيدة: قد ينكر " س" أنك فرجينيا وولف ... من الواضح أن حرف " س " يشير إلى سعدي يوسف نفسه، حيث يبدأ اسمه بحرف "س" .أم"ا فيرجينيا وولف"، فهي الكاتبة الروائية الانجليزية العالمية المعروفة والتي ولدت سنة 1882 ، وانتحرت سنة1941، خوفا من " الجنون "، حيث كان لديها هاجس قوي بأنها سوف تصاب بانهيار عقلي . وهي روائية مهمة جدا في الأدب الإنجليزي والأدب العالمي، لأنها كانت جريئة في تجديدها للفن الروائي، وفي استخدامها لأسلوب " تيار الوعي " أو " المونولوج الداخلي " كما تسميه المصطلحات النقدية الحديثة، وخاصة في روايتها " الأمواج " التي قدمت فيها ست شخصيات، تحدثت عن حياة كل منها وتجاربها، من خلال مشاعرها الداخلية، وحوارها مع نفسها" (32). الاستطراد إذن ، رغم بعده عن صلب الموضوع ، فإنه يسهم في وضع القارئ في الصورة في شموليتها، كما يسهم في تغذية عقله بزاد معرفي يغني ثقافته ويوسع اطلاعه على الجوانب المختلفة للظاهرة المدروسة. وقد يكون استطراد الناقد، عن قصد وسبق إصرار، فيذكر أنه يستطرد، وعيا منه بأن في استطراده خدمة للقارئ.فمثلا، خلال الدراسة التي سبق ذكرها،عن موقف عبد الناصر من المثقفين، وتقديم الأدلة على أنه لم يكن عدوا لهم، يقول النقاش: " ويخطر على بالي أن أستطرد قليلا فأقول: إن بعض الذين هاجموا نزار قباني أعنف الهجوم وطالبوا بمصادرة أدبه ومنعه من دخول القاهرة بتهمة نقده لعبد الناصر ( عقب ضجة قصيدة " هوامش على دفتر النكسة " ) ... بعض هؤلاء المهاجمين لنزار تحول إلى صف المهاجمين لعبد الناصر بعد وفاته، أما نزار، فتحول بعد وفاة عبد الناصر إلى واحد من أكبر المدافعين عنه وعن ذكراه ( ... ) وهذا الموقف يذكرنا بمسرحية " الملك لير " لشكسبير... " (33). وفي معرض حديثه عن ثقافة الشاعر الإنجليزي إليوت ، من خلال قصيدته الشهيرة : " الأرض الخراب " يقول : " وليسمح لي القارئ بالاستطراد قليلا في مقال إليوت ..." (34) ، ثم ينتقل إلى قصيدة أخرى للشاعر، فيقارن بين إحدى شخصياتها وشخصية "هاملت " لشكسبير في مسرحيته المعروفة، وهكذا... وفي أثناء تطرقه لعالمية شعر عبد الوهاب البياتي، في دراسة أخرى، يستطرد الكاتب، ويطيل الحديث عما فعلته تقلبات الزمن والسياسات البشرية بالبياتي، ثم يقول: " ونترك هذه الاستطرادات كلها (...) إلى موضوعنا الأصلي، وهو عالمية البياتي والإقبال الذي لا مثيل له بالنسبة لشاعر عربي معاصر آخر، على ترجمة أشعاره إلى لغات العالم المختلفة، وإعجاب جماهير الشعر والأدب في العالم كله بهذه القصائد" (35). وهكذا، فسواء جاء الاستطراد عفوَ الخاطر، أو كان متعمدا، فإن الهدف منه، يكون دائما إضاءة النص أو القضية، وبالتالي إفادة القارئ. 7-إعلاء القيم الإنسانية: كل آليات النقد السالفة : الشرح والتوضيح، وتقديم الأمثلة، والإلحاح على الآراء والأفكار وتكراراها، وتعزيزها بالتوسع والاستطراد والوقوف عند الامتدادات والترابطات ... في لغة سلسة وأسلوب جميل، كل ذلك يتوخى ، أدبيا وبيداغوجيا، الكشف عن القيم الإنسانية النبيلة، والتبشير بها، ودعوة القارئ والمبدع معا إلى الاحتفال والابتهاج بها وإشاعتها في دنيا البشر ( ما يعرف في المناهج التربوية، بالتربية على القيم ) . يقول الناقد صلاح فضل: " جعل (النقاش) من النقد منبرا لتأكيد القيم العظمى في الوطنية والحق والخير والجمال، الأمر الذي جعل من كتاباته منبعا ثريا للمتعة الراقية، ونموذجا بديعا للتواصل الجماعي الخلاق مع قرائه ومريديه." (36) ويشير الشاعر عبد المعطي حجازي إلى انحياز النقاش إلى قيم الخير: " لأنه كاتب حقيقي ملتزم ، لا يستطيع أن يكون لا مباليا، ولا يستطيع أن يكون محايدا في الصراع الدائم القائم بين الخير والشر ، أو بين العدل والظلم ، أو بين الجمال و القبح أو بين الحرية والعبودية..." ( 37 ) والنقاش ينحاز أيضا إلى قيم التطور والتقدم إلى الأمام. وكان له جولاته ضد التقليد والتزمت والماضوية، إذ "كان يضع قلمه دائما في صف التقدم والتطوير والتجديد و روح العصر (... ) واستطاع، بجدارة، أن يلعب دورا تنويريا في هذه المراحل من تاريخنا الحديث" (38 ). الجمال الفني الذي ينقب النقاش عنه في النصوص الأدبية، هو ذلك الجمال الذي يكشف عن قيم إنسانية رفيعة ، تغني الروح البشرية وتعطي لوجودها معنى، فمنهجه إذن، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، "هو المنهج الذي يبحث وراء الجمال الأدبي عن قيم إنسانية تضيف إلى الحياة شيئا، وتترك فيها أثرا من الآثار، وهذا المنهج، وإن كان يحرص أشد الحرص على الجمال الأدبي، فهو يحرص أشد الحرص على الوظيفة الإنسانية للأدب" (39). وكان في معظم تحليلاته، يحرص على كشف القيم وإبرازها وتقديمها في حلة قشيبة إلى المتلقي: - فالقيمة الأساسية التي كشف عنها الناقد عند معالجة رواية " الحرافيش" لنجيب محفوظ، مثلا، هي: العدالة الاجتماعية. - وفي ديوان " أعراس " لمحمود درويش: قيم الحرية والإرادة وحب الحياة. - وفي ديوان الشابي قيم المدينة الفاضلة. - وفي أدب يحيى حقي : قيمة الإعلاء من شأن الإرادة. - وفي أدب طاغور، الشاعر الهندي الكبير، قيمة الإيمان بالإنسان. - وفي بعض أشعار المتنبي، قيمة الكرامة ( ولذلك كتب: " ليس مغرورا، ولكنه صاحب كرامة" )... وبوصلة النقاش في تنقيبه عن الدرر الأدبية والقيم الإنسانية هو صفاء سريرته، ونقاء ضميره"؛ يقول عبد الحليم عيد: " إن إنسانيته وشرفه يعصمانه. ومجموعة مقالاته، كل منها تحمل فكرة في الأدب وفكرة في المجتمع، وفكرة في الخلق، ويجمع هذه الأفكار كلها أن السلطان الوحيد عليها هو... الضمير." (41 ) وضمير النقاش الذي يقوده في طريق الكشف عن النفائس الأدبية والقيم الاجتماعية والإنسانية ، هو نفسه الضمير الذي يهديه في سلوكه الحياتي وتعامله مع الناس، يشهد على ذلك كل من عاشره أو عمل معه (يشهد على تطابق الفكر والسلوك، والكتابة والتصرف الحياتي) ، في هذا الصدد يقول الناقد جهاد فاضل : "رجاء النقاش ليس هذا الأديب الكبير وحسب، وإنما هو أيضا الإنسان الرقيق العذب الجميل النفس الطيب السريرة، الذي تنطوي نفسه على فضائل لا تختلف عن فضائل القديسين ... " (42 ) وسنتوقف بعض الشيء، عند فضيلتين فقط، من فضائل هذا الناقد الكبير، هما فضيلتا / قيمتا: التواضع واحترام الاختلاف. - بالنسبة لقيمة التواضع، نترك النقاش يتحدث بنفسه: " هذه أول مرة ( سنة 2003 ) ، أتشرف فيها بالكتابة في "وجهات نظر" وليعذرني القارئ الكريم إذا قلت إنني أشعر بالهيبة الشديدة من هذه الخطوة الجديدة . فأنا هنا أشبه بمدرس ابتدائي يجد نفسه فجأة، وهو يلقي محاضرة في الجامعة. ولا بد أن يشعر مثل هذا المدرس بالرهبة مما هو مقبل عليه. " (43 ) إن الذي يقول هذا الكلام، ليس أديبا ناشئا، أو صحافيا في مقتبل العمر.وإنما ناقد كبير وراءه سجالات ومعارك ودراسات نقدية، وكتابات عن ظواهر ثقافية عدة، وعشرات الكتب والمقالات ، وما يقرب من خمسة عقود من التأليف والعمل في الصحافة الأدبية. وإلى قيمة التواضع في شخصية النقاش، يشير مجدي الدقاق، الرئيس الحالي لتحرير مجلة "الهلال": "عندما فكرت في إصدار العدد الخاص عنه، رفض بتواضعه الشديد، وقال: ( ... ) من أكون أنا لكي تصدر "الهلال" عددا خاصا عني؟ ولكنني لم أستسلم" (44). وشهادة أخرى عن تواضع النقاش من الشاعر حسن توفيق: "إن التكريم الذي حظي به ( النقاش ) ، في مناسبات عديدة، لم يدفعه أبدا إلى الغرور، لأن التكريم لم يكن يزيده إلا تواضعا فوق تواضعه. " (45) أما بخصوص قيمة الاختلاف بطريقة حضارية، فإنها تتجلى في أنبل معانيها لدى النقاش. فمهما بلغ الاختلاف ، وحتى الخصام، مع غيره فإنه يناقش ذلك الغير بموضوعية ونزاهة ، بعيدا عن القدح أو الشتم أو التجريح، .ففي إحدى الدراسات يقول : " لا تشنقوا الشاعر ... بل ناقشوه، فالحوار في الفكر والفن أجدى من طلقات الرصاص (...) فعلاج الخطأ ( حين يكون هناك خطأ ) ، ليس هو قتل صاحبه ، وإنما العلاج الصحيح هو المناقشة والحوار ومواجهة الحجة بالحجة ، والاستعانة بالعقل في الرد على الأفكار والآراء المختلفة . أما استخدام العنف ( المادي أو المعنوي ) ، فهو قد يؤذي صاحب الفكرة ، ولكنه لا يؤذي الفكرة نفسها . لأن الأفكار لا تموت أبدا عن طريق العنف في مواجهتها ( ... ) إن الحوار أفضل من إطلاق الرصاص ، إن معالجة الاختلافات الفكرية لا تتم إلا بالأخذ والرد وتبادل وجهات النظر، في جو حضاري سليم. " (46) هذا الجو الحضاري السليم الذي يدعو إليه النقاش، هو نفسه الذي كان يحرص على أن يخلقه عندما يختلف مع أديب أو مفكر أو مثقف... في قضية من القضايا . فحين صدور كتاب الدكتور لويس عوض "مقدمة في فقه اللغة العربية" مثلا، كتب النقاش يقول: " إن محاربة الأفكار لا تكون إلا بأفكار أخرى ... وخير ما يواجه العقول إنما هي عقول مشابهة، ترد وتناقش وتحاور وتجادل بالتي هي أحسن (...) إنني واحد من أشد المعارضين والمعترضين على كتاب الدكتور لويس عوض ( الذي يشكك في أصالة الحضارة العربية ) ، وعلى آرائه التي يطرحها في هذا الكتاب عن اللغة العربية ، ولكنني لا أفهم ولا أوافق أبدا على مصادرة الكتاب" (47)، بل إن النقاش قد سعى إلى نشره. ومعروف أن ناقدنا كان من أشد المخالفين لأدونيس والمعترضين على الكثير من آرائه وشعره. وهو الذي قال فيه قولته الشهيرة: " أيها الشاعر الكبير، إني أرفضك"! ومع ذلك، فقد كان يناقشه بموضوعية وهدوء، ويكن له التقدير والاحترام. يقول عنه إنه شاعر كبير و" إنسان مهذب، متحضر، مثقف، شديد الذكاء والحساسية.وهو إنسان غير متشنج، بل هادئ وديع ، فيه نبوغ ونجابة وموهبة لا شك فيها" (48). والنقاش يمارس الأسلوب الحضاري نفسه حين يختلف مع مضامين إنتاجات المبدعين . ونسوق هنا مثالا من دراسة للنقاش يحلل فيها قصيدة للشاعرة الكويتية سعاد الصباح ، هي قصيدة : " أسئلة ديمقراطية في زمن غير ديمقراطي " ،حيث يرى " أنها قصيدة جميلة وجريئة وفيها حياة وروح " وعن أحد مقاطعها يعبر : " ما أجمل هذا المقطع الشعري البديع ، والذي يكشف لنا عن الموهبة الفنية الحقيقية عند سعاد الصباح " ، ولكن هذا لا يمنع الناقد من مناقشة الشاعرة في مضمون المقطع : إننا ، " بعد سكرة الإعجاب الفني ، نتوقف لنقول إن شبح " التذكير " عند المرأة العربية الثائرة ، ونموذجها سعاد الصباح ، هو شبح موجود في خيالها ، وليس له وجود في الواقع الفعلي " (49). بهذه الروح المقدرة لمواهب الناس وإنجازاتهم، يمارس رجاء النقاش اختلافه، مع الذين يختلف معهم. وبنفس هذه الروح يناقش كتاب " الإعجاز العددي للقرآن الكريم " لمؤلفه عبد الرزاق نوفل، ويعلن عن رفضه لمنهجه. ومما قاله فيه: " إن المعنى الأساسي الذي نخرج به من كتاب الإعجاز العددي هو أن القرآن مجموعة من الألغاز والفوازير.وهذه فكرة خاطئة تماما عن القرآن ." ونتيجة منهج الكتاب في النظر إلى القرآن الكريم تؤدي إلى " أن يتحول القرآن – والعياذ بالله – إلى مجموعة من البهلوانيات ، أو ( ... ) إلى مجموعة من الألغاز والفوازير و "الأحجية"، وهي كلها لا يمكن نسبتها للقرآن بأي حال من الأحوال ". إن منهج الكتاب" يبتعد بنا كل البعد عن الصورة الصحيحة لجمال القرآن وإعجازه، وقدرته على التأثير الفكري والوجداني". وهذا الاختلاف مع المؤلف، لم يمنع النقاش من وصفه بالعالم الإسلامي الفاضل، كما لم يمنعه من القول: "إنني تابعت الكثير من كتابات الأستاذ عبد الرزاق نوفل قبل صدور كتابه الأخير (الإعجاز العددي... ) ، ووجدت في هذه الكتابات كثيرا من النفع والفائدة والمتعة ، وخاصة في محاولاته للتوفيق بين العلم والدين ... " ( 50 ). وقد اختلف النقاش مع عالم إسلامي آخر هو سيد قطب، واعتبر أن إنتاجه الفكري " يحتمل الاختلاف في الكثير من القضايا والأفكار وخاصة في مجال " الفكر السياسي". يقول رجاء : " أختلف مع سيد قطب في جانب أساسي من فكره السياسي، وأختلف معه خاصة في رأيه الذي نادى به في كتابه " معالم على الطريق "، وهو الرأي الذي يقول فيه ما معناه إن القومية العربية هي دعوة من دعوات التآمر على الإسلام". رغم هذا الاختلاف، فالنقاش يرى أن منهج سيد قطب في تفسير القرآن الكريم" أفضل المناهج الحديثة في النظر إلى القرآن وفهمه (...)، ويقدم أفضل ما في هذا الكاتب المفكر من إمكانيات أدبية وفكرية "، إذ أن قطب " يقدم في تفسيره للقرآن نموذجا لما يمكن أن نسميه باسم " التفسير العصري" الصحيح الناضج للقرآن" (51). ومثال أخير عن طريقة النقاش الحضارية في الاختلاف، ويتعلق الأمر برأيه في ما جاء في كتاب الدكتور محمد الدسوقي: " طه حسين يتحدث عن أعلام عصره" إذ يستنكر على المؤلف ما أورده فيه من اتهامات لطه حسين.يقول النقاش: " ليس من المعقول أبدا أن يكون الدكتور محمد الدسوقي قد عمل مع طه حسين وقريبا منه كل هذا القرب الشخصي ( كان سكرتيرا لطه حسين في مجمع اللغة العربية بالقاهرة) ... ثم يقول ... إنه لم يسمع منه، طيلة ثماني سنوات متصلة... إلا سب الناس والتشهير بهم والتشكيك فيهم وتصغير شأنهم بإلقاء مجموعة من الاتهامات الخطيرة عليهم (مثل: - د . محمد حسين هيكل ( صاحب رواية " زينب" ) لم يكن يؤلف كتبه، وإنما كان يكتبها له آخرون، ثم ينسبها لنفسه. - د . زكي مبارك كان يبيع " ذمته العلمية" بزجاجة كولونيا. - د . محمد مندور ليس له دور مهم في الحياة الثقافية، وكتابه: "النقد المنهجي عند العرب" كتاب "هايف")... وهي جميعا اتهامات لا يساندها أي دليل أو برهان " (52). ومع ذلك يصف النقاش الدسوقي بأنه "رجل جاد وعالم فاضل وشخصية تستحق التقدير والاحترام " وأنه " أستاذ معروف في الأوساط الأدبية والجامعية بالأخلاق الطيبة والاستقامة العلمية والإخلاص للثقافة والعكوف على العلم بعيدا عن الزحام والثرثرة ". (52) هذا إذن هو رجاء النقاش: ناقد منقب عن القيم الجمالية والإنسانية في النصوص الأدبية، وكاتب مبشر بقيم العدالة والحرية والديمقراطية والتقدم في الفكر والثقافة والسياسة، وقدوة ونموذج في تطبيق القيم النبيلة في السلوك والعلاقات الإنسانية. وقد اعترف له الوسط الثقافي والأدبي والسياسي بهذا الدور التنويري القيمي النموذجي، فمنحه العديد من الجوائز، وقبل وفاته بأيام معدودات، تم تكريمه وتقليده ثلاثة دروع: درع نقابة الصحافيين بمصر، ودرع حزب التجمع الوطني الوحدوي، ودرع دار الهلال. كما تم استحداث جائزة " رجاء النقاش للنقد " من قبل اتحاد كتاب مصر بتعاون مع مؤسسة " دار الشروق"... 8-الخاتمة:
رامت هذه المحاولة تتبع معالم المنهج النقدي عند رجاء النقاش والوقوف عند الآليات البيداغوجية التي يوظفها لتنفيذ ذلك المنهج، والأهداف الأساسية التي يتوخاها من وراء النقد الأدبي والثقافي. فمنهجه الجمالي /الاجتماعي / الإنساني يتكئ على آليات أسميناها آليات بيداغوجية، لأن النقاش كان يحرص على التواصل مع شريحة عريضة من المتلقين، إلى جانب المتخصصين، عبر وسائل الاتصال الجماهيري الأكثر انتشارا، الجرائد والمجلات الأسبوعية والدورية، على الخصوص، إلى جانب الكتب بطبيعة الحال. تلك الآليات هي السهولة والبساطة والأسلوب السلس الجميل، واعتماد التفسير والمثال والدليل والتكرار والاستطراد ... للكشف عن/