إن العلاقة بين المثقفين والسلطة، تظل علاقة ملتبسة وغامضة دوما، حيث لا ندري هل بإمكان الفكر والثقافة التحرر من السلطة وغوايتها وإلى أي مدى يمكنها أن تتحرر؟ يسكن هذا القلق كيان الثقافة وفكر المثقفين، بالشكل الذي يجعله، في بعض الأحيان، حاسما في رسم صورة المثقف كمنتج للأفكار والمفاهيم والأعمال الأدبية والفنية، من جهة، وصورته، من جهة أخرى، كمتدخِّل في الحقل السياسي، أي كصاحب مواقف وآراء. إن قلق العلاقة بين المثقفين والسلطة هو الذي يقود البعض منهم إلى البقاء في «برجه العاجي» أو النزول إلى الساحة، للانخراط في الشأن العام، أي إما الحفاظ على خط القسمة بين الخاص والعام أو المزج بينهما. نعلم، منذ ميشيل فوكو، أن السلطة هي، في المقام الأول، ممارسَةٌ لعلاقة، لكن إقرارها من حيث هي شرط كاف يقود، بالضرورة، إلى تحديد الثقافة كممارسة لعلاقة، لأنها هي في ذاتها، بشكل ما من الأشكال، علاقة سلطة، فعل يخلق تراتُبية تصنيفية معيَّنة، مثلا بين المثقف وغير المثقف وبين ذوي الاختصاصات المتباينة. أحيانا كثيرة، قد تكون الثقافة مادة السلطة، تماما كما قد تكون هذه الأخيرة مادة الثقافة، حيث يمكن الحديث عن ثقافة السلطة (أنماط ممارستها -الثوابت التي تنهض عليها شرعيتها -التبريرات والذرائع الخطابية الكامنة خلفها -المحتويات التي تُعطى للسيادة، دينية كانت أو علمانية، دكتاتورية، استبدادية كانت أو ديمقراطية... إلخ. ومضامينها الإيديولوجية...)، وعن سلطة الثقافة (الوضع الاعتباري للمثقف كفرد قادر على إنتاج تنظيرات لمختلف الممارسات وتفسيرها وقدرته، أيضا، على أن يكون الوعي الشقي للسياق التاريخي الذي يعيش فيه... إلخ). تستدعي السلطة المثقف كمستوى مشرعِن لممارستها، أي كمجرد فاعل إيديولوجي داخلها، تستدعيه كذات مؤسَّسَة ومؤسِّسَة داخل أجهزتها الإيديولوجية، انطلاقا من دوره كفاعل إيديولوجي محكوم بالتبعية لها، وهو ما يتجلى تحديدا في صورة المثقف الفاشي، أو الصور التي يُجسّدها «فقهاء السلطان»، مثلا، في الثقافة العربية، أو أولئك الذين ينتجون، على الجانب الآخر، خطابات مشرعنة لحركات التطرف الديني، أو النموذج الذي مثله صقور المثقفين الأمريكيين إبان حكم جورج بوش -الابن. لكن المثقف يستدعي السلطة، أيضا، كفضاء مفتوح ومتكافئ ومتناسق، يسمح له بتجسيد أفكاره حول العدالة والديمقراطية والمساواة، أي القيم التي من أجلها ناضل لسنوات، كما جسد ذلك فاكلاف هافِلْ في تشيكوسلوفاكيا، ونلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، أو سلفادور أليندي، الرئيس المغتال من طرف الطغمة العسكرية في انقلاب الشيلي سنة 1973... القصد هنا هو أن الْتباس العلاقة وغموضَها المشار إليه أعلاه لا يكون دائما سياسيا وثقافيا فقط، بل ويتلبس أحيانا طابع صراع دموي مرعب، كما حدث لمثقفين عرب كثيرين تم اغتيالهم بشراسة، كالمفكرَيْن اللبنانييْن مهدي عامل وحسين مروة والكاتب والصحافي اللبناني سمير قصير وغيرهم. يؤكد هذا على الطابع الخطر لهذه العلاقة، لأن السلطة /السلط استشعرت دائما خطورة الثقافة وشريحة المثقفين والدور الذي يمكن لأفكارهم ومواقفهم التنويرية أن تلعبه. تماما كما أن المثقفين، وخصوصا في سياقات القهر السياسي والقمع الفكري، يستشعرون جوار السلطة كنوع من المجاورة التي لا تهدد فقط أفكارهم وحريتهم في التعبير عنها، بل وتتغيى تحديدا القضاء على وجودهم المادي الملموس وإقصاءهم كمثقفين وكأجساد بيولوجية. تتشكل الشروط العادية للتبعية الإيديولوجية، هي نفسها، من طرف قوة صامتة وغائبة تمنحها قيمتها، وهي احتكار الدولة العنفَ الشرعي أو ما تسميه كذلك، كما يحدث في الأنظمة القمعية. وحين يفقد نظام المرافقة الثقافية هذه القوة، يصير هشّاً مباشرة. إن السلطة، في أغلب الأحيان، لا تطرح المثقف سوى كتابع إيديولوجي لها، منها يستمد شرعيته وأسباب وجوده، لكن النظر إلى السلطة كعلاقة أو كحُزْمَة علاقات، يقودنا، بالضرورة، إلى القول إن الثقافة نفسها، وانطلاقا من السلطة الجوانية المُشرْعِنة لوجودها، تقود المثقف، أيضا، إلى الرُّنو إلى لعب دور «وصي السلطان» أو «مستشار الأمير»، كما فعل ماكْيافيلِّي، دون أن يُفلح في ذلك... لنعد، الآن، إلى اللحظة الافتتاحية أو الحدث المُؤسِّس لهذه الصورة الحديثة جدا، التي يجسدها المثقف. لقد كان ظهورها إبان قضية دريفوس في نهاية القرن التاسع عشر، حين بزغت جماعة من المثقفين داخل الفضاء العمومي، لتصير تسميتهم كذلك في فرنسا، قدحية في البداية، قبل أن تصير عادية. لقد احتكر المثقفون وظيفتهم الثقافية، سواء كانوا منخرطين في صراعات سجالية أو، على العكس، في الدفاع عن أولئك الذين رغبوا في تبرير ولوجهم الساحةَ السياسية، كما جسدت ذلك كتاباتٌ عديدة، مثل «دفاعا عن المثقفين»، سنة 1972 لجون بول سارتر، الذي كان كتابه ردا على «أفيون المثقفين»، الصادر سنة 1955 لرايمون أردون. بعد موت سارتر (1980) وأراغون (1981)، بدا كما لو أن عصرا بأكمله قد انتهى، كما جسدت ذلك أحاديث وكتابات الكثيرين عن «موت المثقفين»... تنقسم الدراسات حول العلاقة بين المثقفين والسلطة إلى قسمين: تمثل الأولى، نوعاً ما، التاريخَ السياسي وتقدم نفسها كدراسة في مواقفهم، حسب الطلبات التي تُوجه إليهم وحسب الأحداث والأزمات السياسية. هكذا يغادر أولئك الذين يمارسون مهنة الكتابة والتفكير أو الرسم «بُرجَهم العاجيَّ» ليعيدوا إنتاج ذلك الفعل المؤسِّس الذي مثله مقال «إني أتهم»، الذي نشره إميل زولا دفاعا عن الضابط دْريفوس. أما القسم الثاني من هذه الدراسات فيتعلق بالتاريخ الاجتماعي ويدرس التوجه السياسي لمواقف المثقفين وأشكالَ التعبير عنها (العريضة، الشهادات أثناء محاكمة ما، كتابة مقال في إحدى الجرائد أو إنجاز عمل ملتزم)، ويفترض أن توجهاتهم تجد تفسيراتها، في المقام الأول، في الوضعية التي يحتلها كل مثقف على حدة داخل فضائه المهني الخاص. إن التزامات المثقفين ترتبط، نوعا ما، بطبيعة تخصصاتهم من جهة، وبالموقع الطبقي الذي يحتلونه داخل تشكيلة اجتماعية معيَّنة، من جهة أخرى، خصوصا في ظل التحولات التي تطال أوضاعهم كمثقفين معنيين. لم يعد الطلب السياسي هو الوحيد الذي يستدعيهم، انطلاقا من وضعهم الاعتباري. لقد أصبحت التزامات المثقفين مرتبطة بآفاق انتظار متعددة، تماما كما أصبحت السلطة التي يتموْقفون إزاءها، معها أو ضدها، متعددة ومتشبعة، من السلطة السياسية إلى السلطة المعرفية المتخصصة، إلى سلطة التقدم(le progrès)، إلى سلطة التقنية، إلى السلطة التدبيرية (gestionnaire)، إلى سلطة المحلل الاستراتيجي إلى سلطة الخبير (l'expert) إلخ. هنا، بالذات، لا بد من الوقوف عبد اللحظة الفوكوية بصدد العلاقة بين المثقفين والسلطة. ميَّز فوكو بين نموذجين للمثقف «الكوني»، الذي يتقمص وعي الجماعة ويتكلم باسمها، والمثقف «الخاص»، الخبير في مجال متخصص من المعرفة يذكرنا هذا التمييز بذاك الذي أنجزه غرامشي بين المثقف «التقليدي» والمثقف «العضوي»، إذ يشير الأول إلى جماعات المثقفين الكائنين، مثل «شريحة رجال الكنيسة» والمنظرين والفلاسفة، الذين يقدمون أنفسهم كفاعلين مستقلين عن الشريحة الاجتماعية المهيمنة. أما النموذج الثاني للمثقف فيضم المثقفين الذين وُجدوا بطريقة عضوية، مع بروز كل طبقة أو شريحة اجتماعية جديدة. لقد كان هدف غرامشي التنظير لدور المثقفين بالمقارنة مع المجموعات والطبقات المهيمنة أو المُهيمَن عليها، بقصد بلورة فلسفة للممارسة الخلاقة، ثم العمل، تبعا لذلك، على تطوير عملية بناء كتلة ثقافية وأخلاقية، تستطيع سياسيا، تحقيق التقدم الفكري للحشود. ويطرح هذا المشروع، ضمنيا، ضرورة وجود طليعة أو نخبة متخصصة في البلورة المفاهمية والفلسفيية للأفكار وتتوفر على موهبة التنظيم والزعامة. تبدو الكثير من أفكار ميشيل فوكو حول المثقفين، من النظرة الأولى، قريبة من غرامتشي، لكن هناك اختلافات مفاهيمية وسياسية كبيرة تفصل بينها. لا يمنح فوكو، أولا، أي دور رائد للمثقفين، لأن الأحداث بيّنت العكس، من وجهة نظره، أن الحشود لا تنقصها المعرفة، لكن المشكلة تكمن في أن هذه الأشكال المحلية والشعبية من المعرفة نُزِعتْ عنها، باستمرار، المصداقية وهُمِّشت وصارت لا شرعية، من طرف المؤسسات وتأثيرات السلطة المصاحبة لنظام الحقيقة المهيمِن، الذي يشتغل داخله المثقف الحديث. يشير ذلك، ضمنيا، إلى تحول الوظيفة الثقافية، إذ عُوِّض المثقف الكوني، الذي كان مالك الحقيقة والعدالة وضامن العقل وكاشف الحقيقة أمام أولئك العاجزين عن رؤيتها أو قولها، بالمثقف الخاص. لم يعد بإمكان المثقف، كما يقول لنا فوكو، أن يلعب دوره التقليدي ويمثل الكوني أو يجسد الحقيقة في نظر الكثيرين. إن ظهور عدد لا بأس به من الوظائف وميادين الاشتغال (مدرسيين، رجال عدالة، مساعدين اجتماعيين، تقنيين... إلخ.) الحاملة لأشكال من المعرفة والتقنية التي يستثمرها العقل العلمي، دفعت المثقفين الحديثين إلى الاشتغال داخل قطاعات محددة وفي نقاط معينة، حيث تضعهم شروط عملهم /أو شروط حياتهم، وهو ما يفسر تسمية كل منهم المثقفَ الخاص. ينجم التغيير الذي وصفه فوكو عن انتشار البنيات التقنية والعلمية داخل النظام الاقتصادي والاستراتيجي، مما سمح بظهور أشكال للعقلانية العلمية وبظهور أشكال جديدة للنشاط والوظائف الثقافية، وهو ما يشكل، في حد ذاته، سيرورة شمولية لتسييس المثقفين. إن صورة المثقف، سواء كان كونيا أو خاصا، تحتل مكانا ثانويا في تحليل فوكو، لأن المشكلة الأساس، بالنسبة إليه، هي العلاقة بين الحقيقة والسلطة والسياسة العامة أو الاقتصاد السياسي للحقيقة الذي يميز المجتمعات الغربية. ترتبط الحقيقة، في هذا النمط من المجتمعات، بالمؤسسات وبالخطاب العلمي وتخضع لمحددات اقتصادية وسياسية وتنتج تحت مراقبة أجهزة خاصة (الجامعة/الجيش/الكتابة/وسائل الاتصال/التربية..)، التي تضمن انتشارها واستهلاكها. كما أنها (الحقيقة) رهان صراعات ومجابهات ونقاشات سياسية. لقد اقترح فوكو إيلاء المثقف الحديث خصوصية ثلاثية، نظرا إلى وضعه الاجتماعي (شروط العمل والحياة المرتبطة بالنشاط الثقافي) ونظرا إلى سياسة الحقيقة في المجتمعات الغربية، وفي علاقة مع هذا العامل الأخير بالصراعات والمجابهات المحيطة بمسألة الحقيقة، وهو ما يسمح بتسييس المثقفين. لا ينفصل المثقفون عن الصراع الذي يكون رهانه الوضع الاعتباري للحقيقة والدور الاقتصادي والسياسي الذي تلعبه. أما الاختيار الذي يتبناه المثقفون الراديكاليون فلن يكون تحرير الحقيقة من السلطة، لأن الأمر سيكون مجرد حلم، ما دامت الحقيقة نفسها سلطة، بل فقط فصل سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية، التي داخلها تشتغل. لقد كان همّ فوكو تحليل سياسة الحقيقة تحليلا نقديا يفترض الوجود الضمني لأشكال الهيمنة الحديثة، ولم ينشغل بإيضاح أوجه الاختلاف بين مختلف أنماط النشاط الثقافي ولا بإيلاء المثقف الحديث دورا تمثيليا خاصا أو وصف طبقة عضوية ما. لنقف الآن، قليلا، عند السلطة التدبيرية (gestionnaire) للمثقف أو الخبير (l'expert)، الذي تكسرت صورته مع التطور المطرد لتقسيم العمل الثقافي. يقترح الخبير، كصورة حديثة للمثقف، تحليلا يقوم على كفاءة مضمونه داخل مجال معين، عكس المثقف الكوني، الذي يتدخل على الجبهات كلها، مسلَّحاً برأسماله الرمزي الذي امتاحه من تخصصه. توافَق هذا التطور مع انتشار العلوم الإنسانية والاجتماعية وظهور مراكز الفكر للخبرة إلى أصحاب القرار، بقصد بلورة السياسات العمومية. ترجع صورة الخبير هذه إلى القرن التاسع عشر في ميادين الطب النفسي أو الطب عموما، لكنها لم تتمأْسس إلا في الولاياتالمتحدة في النصف الأول من القرن العشرين. إن تصور فوكو للمثقف الخاص، الذي يعيد تحديد الوظيفة النقدية للمثقف، من خلال تحديدها بمجال تخصصه، يمكن قراءته (التصور) كرد فعل على الاعتراف الاجتماعي التي حظيت به بصورة الخبير. تجلى هذا الاعتراف في التدخل المتزايد للعلماء والمختصين في الفضاء العام منذ أواسط الستينيات، عبر تحليل شبه بيولوجي تقريبا للظواهر الاجتماعية. إن انتشار صورة المثقف، كخبير متخصص، تؤكد التداول العالمي للأفكار والأنماط التحليلية وتأثيرها في أشكال انخراط المثقفين. يطرح هذا، أيضا، مسألة الوسطاء والدور الذي يُعزي إليهم. يمكن، في هذا السياق، الإشارة إلى دور الوسطاء المترجمين في تغيير المعنى السياسي لعمل أو أعمال فكرية معينة، كما تجسد ذلك في تلقي نظريات جون راولز، الفيلسوف الأمريكي، في فرنسا، حيث صار تصوره للإنصاف مؤشرا على سياسة اليمين الفرنسي العام. أما الاقتصادي رتياسين فقد تم استثماره من طرف المثقفين اليساريين، وهو يكشف طبيعة الرهانات السياسية التي تحكمت، ضمنيا، في استيراد نظريات العدالة والإنصاف في فرنسا، والوضعيات المختلفة للوسطاء، سواء كخبرة دولة بالنسبة إلى راولز، أو كنقد اجتماعي، في ما يخص سين. تكشف طبيعة هذه المقارنة بين تلقي نظريات راولز ونظريات سين الاختلافاتِ المتعددةَ في المعنى التي تطال نظرياتٍ وأفكاراً تهاجر من منبتها النظري إلى سياق ثقافي وسياسي مُغايِر. إن المقارَبة المقارِنة لا تعفي، في هذا السياق، من ضرورة القيام بدراسة متقاطعة لهجرة الأفكار والنظريات من بلد إلى آخر. لقد تلقى مثقفون وقراء فرنسيون فلسفة هيغل، في النصف الأول من القرن العشرين، انطلاقا من وجهة نظر سياسية محافظة، باعتباره فيلسوفَ دولة، بينما تلقاه آخرون، قرؤوا فقط جدل العبد والسيد لديه، كفيلسوف قابل للاستثمار من طرف اليسار.