هل الحديث عن الإقصاء في الوسط الثقافي المغربي حقيقة أم هو مجرد وهم؟ وإذا كان الجبل الطافي من الإقصاء يتمظهر في ممارسات مسجلة ومشهود بها في المحفل الثقافي العام، فإن الكثير من المثقفين مسكونون بإحساس «تاريخي» بالاضطهاد يختلط فيه الواقعي بالمتخيل والنسبي بالعام، من قبيل علاقة المركز الثقافي أو علاقة مثقف السلطة بالمثقف المنبوذ أو الإمكانات التي تتيحها ثقافة ما في إطار النظرة التفضيلية المبنية على قيم أخرى غير ثقافية، مثل الوضعية الاعتبارية للأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية في مقابل الأدب المغربي المكتوب باللغة العربية. نحن، اليوم، أمام ظاهرة ثقافية ربما رسمت وحددت بدقة مواطن الصراع الثقافي ووضعت الخريطة الثقافية على رقع وجماعات وفئات ومصالح فيها الذين حالفهم الحظ والمغضوب عليهم، المقربون والمبعدون، الضالعون في صناعة المشهد والمتحكمون في صياغته ومن هم في هامش الهامش. من يقصي الآخر؟ وهل المثقف المغربي حين ينسحب من المركز القلق إلى الهامش المنسي يكون قد صرف موقفا واضحا من طريقة تدبير الشأن الثقافي، ومن النظرة التي تسير بها الدولة هذا المجال الحيوي المتحكم في إنتاج القيم الثقافية والسياسية والاجتماعية، مستفردة به، مؤكدة أنها الوحيدة التي تملك أحقية تدبير «الثقافي» وحق امتلاك المثقف. هناك، اليوم، أيضا خطوط غير واضحة المعالم بين مثقف السلطة ومثقف المعارضة، لقد ضاعت الخطوط والفواصل بعد أن نجحت الدولة في استقطاب الخطاب البديل ودجنته أو تبنته في شبه ضربة استباقية لأعشاش الخطاب المعارض. يدعو الأمر إلى تأمل رصين، فالتاريخ الثقافي المغربي الحديث عامر بالمآسي غير الثقافية وبالجرائم «النظيفة» التي ارتكبت بعناية فائقة من أجل ردم أسماء والإجهاز على حلقات الفكر التنويري في الثقافة المغربية. يمكن في هذا الإطار تذكر المآسي التي تمت في هذا الشأن، سواء بحسن نية أو بسوئها، بالترصد أو بصدفة الأشياء. تحتاج الثقافة المغربية إلى متسامحين وإلى أناس قادرين على إدارة دفة الصراع بشرف، تحتاج إلى لاعبين حقيقيين لا إلى كومبارس، تحتاج إلى مهجوسين بقضايا الثقافة المغربية لا إلى مجرد مرتزقة، وتحتاج إلى حاملين لمشعل الفكر الحر لا إلى عسس ومخبرين وكتاب تقارير وعلماء في فن الدسيسة. الظل والواجهة يعتقد الناقد المغربي صدوق نور الدين أن فكرة ظاهرة الإقصاء هي في الجوهر مسألة ذات امتدادات نفسية، ويحلل الأمر كالتالي: «الحديث عن فكرة الإقصاء، وهي -في الجوهر- نفسية، بحكم الإيهام بتوافر سلطة رمزية تمارس في الخفاء، لتفعل في العلن، يقتضي في تصوري تأسيس القول من ثلاث مسائل هي التالية: 1 - مسألة الكفاءة العلمية والمعرفية: فالمبدع حالة حيازة كفاءة، يصرفها حسب مقامات القول وإنتاج الكلام.. بمعنى أن كفاءته هي ما يفرض شخصه ويدعم شخصيته.. إنه يملك ثقة الذات.. وبالتالي فسواء أتيح له إمكان الانخراط والمشاركة في ما يمثل فضاءا معرفيا، أو لم يثبت، فذلك في اعتقادي لن يؤثر في وعلى هذه الكفاءة.. ثم إن حقول التداول متوافرة اليوم وبكم واسع، وله أن يمارس ليؤكد ذاته ويفرض مستوى ونوعية كفاءته.. فالمبدع في أي حقل، يجدر أن يمنح شخصيته «قداستها»، بعيدا عن سفاسف الوهم هذه. 2 - مسألة الحرية : ينبغي للمبدع، وهو يمارس فعل الإبداع، أن يعرف بأن السلطة في هذا المحفل لاغية.. فلقد انتهى زمن محاكم التفتيش.. ومن ثم حتى الاعتقاد بأن الإقصاء أو وهمه موجود، آل إلى متحف السياسات «التقدمية» التي أسست لهذه الأوهام، وبخاصة لما يكون الهدف والقصد غير معرفي وعلمي، وليته، وإنما البحث عن التدرج في مناصب، أو تبادل المواقع، أو تأكيد مكانة متوهمة في غياب الوضع الاعتباري، أو ترسيم حدود سياحة ثقافية.. فإن كان المبدع يرفض من يطول حريته بالانتهاك، فإن عليه الترفع عن مثل هذه السقطات، وإلا فمن يمارس سلطة الإقصاء، وضد من، وما التعليل، ولأي غاية ومصلحة؟ 3 - مسألة المجايلة: إني أعتقد بأن درس الزمن والتاريخ، وحدهما الكفيلان بتأكيد الاستحقاق.. وبناء عليه، فإن من عبر أمس، وأبدع، يمتلك حضورا في الزمن وعبر التاريخ. لا أحد يكون الدائم على امتداد تاريخ الأدب، فالجيل يمحو الجيل، والاسم العلم يمحو الاسم العلم، لا ليلغيه أو يقصيه، وإنما ليمتد هذا التاريخ في سياق الخلق والتخليق وفي نوع من الامتداد الزمني.. إنها قطيعة الاستمرار، وليس الإلغاء والإقصاء. ومن هنا تفهم دورة الإبداع.. تبقى الفكرة قائمة خارج الشرط المعرفي والعلمي، وبالتالي فإن الممارسة الفاعلة المنتجة، بغض النظر عن القيمة الإضافية، بحكم تنوع المرجعيات واختلاف منهجيات وطرق التعامل ومسالك التأويل، هي ما يفرض القوة الإبداعية.. يحضرني ختاما قول للشاعر العراقي المتفرد «سعدي يوسف»: «إنني أعيش في الظل، وأنشر في الواجهة». حقيقة بمذاق مر يذهب الناقد المغربي عبد الرحيم العلام إلى أن موضوع الإقصاء الثقافي يرتبط، في حيز منه، بجوهر العلاقة بين المثقف والسلطة، وأن تلك العلاقة السلبية أو الإيجابية هي التي تصوغ مداراتها وما يتلوها. يقول العلام: «الإقصاء الثقافي» ظاهرة طبيعية وتاريخية، منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو مجرد أوهام. أما ما يتعلق بجانبها الحقيقي، فقد بدا، على امتداد التاريخ، أن هذه الظاهرة كانت مرتبطة بطبيعة العلاقة المتوترة، القائمة بين المثقف والسلطة. أما اليوم، وقد توارى هذا التوتر، إلى حدود كبيرة، نتيجة تداخل مجموعة من العوامل المعروفة، ساهمت كلها في التقليل من حجم هذه الظاهرة، فقد تحول الإقصاء الثقافي، للأسف، من هوى السلطة إلى هوى المؤسسات من ناحية، وهوى الأفراد (المثقفون أنفسهم، وفي ما بينهم) من ناحية ثانية، والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة. أما ما يتعلق بجانبها التوهمي، فيبدو أن الإقصاء الثقافي مافتئ يتغلغل في لاوعي الكثير من مثقفينا، إما لكونهم يتوهمونه فقط، من قبيل ما يفترضه بعضهم من إقصاء في حقهم وفي حق خصوصيتهم الثقافية واللغوية، أو لكون آخرين يسخرون الإقصاء الثقافي لصالحهم، خدمة لتوجهاتهم ومصالحهم أو لأغراض في نفوسهم، مما يظهرهم، في أعين الغير، وخصوصا الأجنبي، في صورة مثقفين مرفوضين، ومظلومين، بل ومضطهدين في وطنهم. وكمثال حي على الإقصاء الثقافي الممنهج، الذي مازال يمارس اليوم، أشير إلى ما تعرضت له مؤخرا من إقصاء من قبل بعض الأفراد في إطار جائزة المغرب للكتاب، فأقصوا أسماء وكتبا، وكرسوا أخرى، إعمالا لمبدأ الزبونية والإقصاء والمحسوبية... والخلاصة المؤلمة هي أن حالات الإقصاء الثقافي عندنا باتت حقيقة مُرة. لكن المثقفين الحقيقيين سيظلون يقاومون في صبر واستماتة، من أجل سمو الفكر وشرف الإبداع. فما ينفع الناس سيمكث في الأرض، أما الزبد فسيذهب جفاء. والمهم الآن، بالنسبة إلي، هو أن «الرسالة» قد وصلت واضحة إلى من يعنيه الأمر، حيث تنبهت الوزارة الوصية على شأننا الثقافي، بعد صيحتنا المدوية، لتشرف على تغيير قانون جائزة المغرب للكتاب، موازاة مع تفكيرها في الرفع من قيمتها المالية. فعسى أن تكون هذه الخطوة فرصة مواتية لتحصين هذه الجائزة من تسلل المتهافتين وأتباعهم. جدل لا نهائي القاص المغربي سعيد بوكرامي يرى أن موضوع الإقصاء الثقافي يكتنفه جدل لا ينتهي، يقول موضحا وجهة نظره: «أعتقد أن مسألة الإقصاء وبالتحديد إقصاء المثقف كانت وماتزال قضية شائكة وملتبسة لأن صراع المثقف مع مؤسسات السلطة واقع صدامي لا مفر منه. ويبقى تأججه راجعا إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعيشها كل مجتمع على حدة. والنتيجة أنه كلما ازداد صراع المثقفين مع السلطة ازداد إقصاء المثقفين وتهميش الثقافة. هذه حقيقة ينبغي أن نعترف بها، فحتى الدول المتقدمة، التي تدعي الديمقراطية والانفتاح الثقافي، تمارس الإقصاء على عدد من مثقفيها، بل إنها تحاصرهم بدهاء كبير كي يتخلوا عن قناعاتهم ومبادئهم، وخذ مثالا على ذلك الولاياتالمتحدة وما تمارسه من اضطهاد إعلامي على عدد من المثقفين المعارضين لغزوها وحروبها المدمرة بدءا بحرب الفيتنام وانتهاء بحرب أفغانستان والعراق. فما بالك بسلطنا العربية البطريركية التي ترى في مطالبة المثقف بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية واستنهاض الثقافة الحداثية مسا مباشرا بأمنها يستدعي العقاب والسجن. إن الاقصاء الثقافي واقع يتيح للمثقف العضوي هامشا ضيقا للحراك والاختراق، لكنه في النهاية يضمن له حرية التفكير بمنأى عن وحل السياسة وقذارة التاريخ الرسمي». عدالة الأنترنيت يكتب الشاعر نبيل منصر عن الموضوع من وجهة نظر أخرى يسوقها كالتالي: كل ثقافة تنشد الديمقراطية تنظر بعين الجد إلى قضية التداول الثقافي ومدى استفادة الأفراد من نصيبهم العادل في الثروة الرمزية، على مستوى المشاركة والاقتراح والنشر والدراسة والترجمة والسفر وإبداء الرأي. وفي اللحظة الراهنة، إذا نظرنا إلى الثقافة المغربية، من هذه الزاوية، نجد أنها بعيدة عن تحقيق عدالة تناسب كفاءة الأفراد وطاقتهم، ولو في حدودها الدنيا. لا يصدر هذا الرأي عن تمثل مثالي للشأن الثقافي، وإنما عن وجهة نظر لا تنظر إلى الحق في الثقافة خارج أبعاد الصراع، لكن بكل تأكيد الصراع المؤسس على قواعد الديمقراطية. وهو الأمر المفتقد للأسف، الذي يجعل الصراع غير متكافئ، بحكم أنه لا يمكن جميع الفاعلين، في النهاية، من وسائل التعبير على قدر المساواة، وهو ما يترتب عنه إقصاء لفئات عريضة تكتفي بنظرة شزراء أو وديعة إلى المشهد، مصحوبة، دونما شك، بإحساس بالمرارة في الروح والوجدان. الكتاب لا يُنشَر، وإذا نُشر لا يوزع، وإذا وزع لا يقرأ، وإذا قُرئ لا ينصف بالمعنى الذي يجعل منه منطلَقا لمقربات وتشييدات موضوعية تنأى به عن قيم المدح والهجاء. هذا للأسف هو واقع الكِتاب الذي يجعل أغلب المؤلفين يلتصقون بأمكنتهم، بحيث لا يسافرون لا في الأرض ولا في الوجدان، مادامت الحواجز كثيرة، والمثبطات كثيرة، تحول دون وصولهم إلى القراء سالمين، كما تحول دون وصولهم إلى قضاءات الخصب والثراء الرمزي في العالم. إنه واقع يهدد بنضوب الخيال، وتلاشي الرغبة وبتحويل الكاتب الجدي إلى «مشروع مؤلف فاشل بالرغم من أنفه». هناك اليوم أداة ثقافية سحرية اسمها الأنترنيت، وهي وإن كانت تضفي على العالم مسحة من العدالة التعبيرية التي بدأت تظهر بعض فوائدها، فإنها لم تتمكن بعد، في بلادنا على الأقل، من تحريك المشهد الثقافي وتمكين الأصوات الإبداعية الجادة والواعدة من فرص الاختراق. لذلك فعوض أن تُشيع هذه الأداة جوا من الديمقراطية الحقيقية على الممارسة الثقافية، فقد حوَّلت جماعة من المؤلفين إلى «غزاة فضائيين» ينكلون بالقيمة الإبداعية، ويحولونها، عن قصد وسبق إصرار، إلى ممارسة دعائية الغرض منها إنتاج قيم المدح والهجاء. لذلك كثيرا ما نجد على صفحات الأنترنيت تبادلا لرسائل «الغرام» أو «التباغض» الثقافي الذي يحول المسرح إلى فضاء للعب والتسلية المجانية. وظيفة سهلة حقيقة، يُخشى ألا تؤثر إيجابيا في صورة المشهد.