في تجربتها الثقافية الكثير من التقاطعات، تكتب نصها القصصي والروائي وتمارس تأملها في المشغل النقدي، وتحضر في الفضاء الجامعي، وتؤسسس لحوار عربي عربي، تصدر لها بتزامن مع معرض الكتاب مجموعة قصصية وكتاب نقدي وتستعد لتنظيم ندوة وطنية بكلية الآداب حول الرواية المغربية وإشكالية الجنس الروائي باللغتين العربية والفرنسية في شهر مارس المقبل، مشرفة في حضورها الثقافي، تشفي الجرح وتبرئ القروح، ندية، فيها أخلاق الكاتبة، تلك هي زهور كرام صاحبة الرواية الشائقة «قلادة وقرنفل»، حول قضايا أسئلة الثقافة المغربية كان معها هذا الحوار. - في تجربتك الإبداعية تزاوجين بين الاشتغال النقدي والإنتاج الإبداعي وتحضرين في أكثر من مناسبة ومن موقع ثقافي، كيف تنظمين هذه الانشغالات داخلك؟ < عندما نتعامل مع الثقافة بصدق ونقاء، أعني بالنقاء ألا تكون الثقافة مجرد معبر لشيء آخر، فإن هذه الثقافة تدرّبنا على تدبير الزمن، وتعلمنا سلوك المعاملات، وتربي فينا أناقة التواصل مع الذات والآخر، والمجتمع والمعرفة. وإلاّ ما معنى أن نظل نعلن أفكارنا، ونجهر بها أمام الآخرين، أي الجمهور أو القراء، ونحن لا نحسن التصرف مع ذاتنا. الثقافة علمتني أسلوب التعامل، لأنني صرت أنجز معاملاتي بالمعرفة. أضف إلى هذا أنني لا أحمل أوهاما ولا إغراءات، ولهذا فالثقافة عندي سامية جدا. أشتغل على سؤالها لكي أتحرر من خلالها وأساهم في تحرير بعض الأفكار. عندما أفكر في النص الأدبي من خلال النقد فإني أستعمل منهجية في التفكير، وأوظف أدوات في التصرف في اللغة الإبداعية. لهذا فالنقد يدربني على التصميم والمنهجية والابتعاد عن العبث. عندما أكتب الإبداع أكتبه بعشق وبأناقة في التعامل مع متخيلي، فالإبداع أيضا لا أذهب إليه طمعا في تحقيق نجومية وهمية، وإنما أكتب برغبة جمال مع اللحظة فتأتيني الكتابة تشخيصا لحالة الوعي الذي أكونه زمن الكتابة. أنا طموحة بطبعي وأعلن دائما أن الكتابة هي أجمل انتماء لي في زمن اختلاط الأوراق. على الأقل، الكتابة لا تطالبني بالامتثال، ولا بتزييف الوجدان، و إنما تربي فيّ عزة النفس والكرامة. - أنت قوية الحضور في فضاء الثقافة العربية، بينما تراجع حضورك في الفضاء المحلي، هل هذا راجع إلى تهلهل المشهد الثقافي المغربي أم هو حالة يأس من المؤسسة الثقافية الرسمية وأيضا من الإطارات الجمعوية، مثل اتحاد كتاب المغرب؟ < أولا، أنا لا أومن باليأس في المجال الثقافي لأن الثقافة حالة مرنة. ومادام لنا نحن كمغاربة إشعاع مهم خارج البلد، فهذا دليل على أن هناك حركة ثقافية داخل المغرب أسميها أنا: طاقات فردية تفعل من أجل تطوير السؤال الثقافي بحب وإخلاص، وأراها تتحول الآن إلى مؤسسات فردية. وهذا نلمسه في لقاءاتنا خارج المغرب إلى حد أن المغرب الآن أصبح يعد مرجعا مهما، خاصة في التفكير النقدي والفلسفي. ما تقوم به مجموعة من النقاد والمبدعين والباحثين المغاربة، خاصة مع نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، دليل على أن هناك حركية مهمة تحدث. ما يحدث فقط داخل الجامعات المغربية من خدمة الإبداع المغربي سواء عبر مجموعات أو مختبرات أو فرق بحث شيء بالغ الأهمية، لأن الاشتغال داخل الجامعة على السؤال الثقافي هو الذي ساهم في تطوير التفكير النقدي وتأمل الإبداع. - لم تفرز الثقافة المغربية سؤالها الخاص. وقياسا على المشاهد الثقافية العربية، يبدو المنجز المتحقق محليا وليد المبادرات الفردية. إلى أي مدى يمكن للجهود الفردية أن تثمر نتائج أفضل؟ < أنا أرى العكس، الثقافة المغربية تتميز بسؤالها الخاص. والتميز هنا ليس في طبيعة المواضيع المطروحة، وإنما في أسلوب طرح السؤال الثقافي. وهذا هو المهم، بل هذا هو الذي يثير الانتباه في لقاءاتنا في المشاركات العربية. مشكلتنا أننا لا ننتبه إلى ما يبدعه فكرنا وعقلنا بشكل موضوعي. انطلاقا من تجربتي الخاصة، أرى أن كل حضور مغربي في ندوة عربية يكون مثيرا ويشد الانتباه فقط من طريقة التصور وطرح الأسئلة وأسلوب التحليل. هذا شيء يجب أن نعترف به لأنه حقيقة. والفضل يعود إلى بعض المبدعين والنقاد والكتاب الأفراد الذين أصبح لهم موقع المؤسسة، ويلعبون هذا الدور إلى حد أنهم الآن عبارة عن مرجع مهم في كثير من الطروحات الثقافية العربية، والأسماء معروفة يشهد لها واقعها بذلك. - أيضا في خريطة الجوائز الثقافية العربية، هناك حضور مغربي متزايد، لكن هذا الحضور غير مدعوم بحركة نشر قوية وبسجال ثقافي يطور الممارسة وحوار الأجيال؟ < سؤالك هذا يشخص بعض حالات الجو الذي لا يسمح بإضاءة الإبداعية المغربية. المغاربة الآن لهم حضور ملفت للنظر في المحافل الثقافية والإبداعية، ولعل جائزة العويس في دورتها الأخيرة تعبر عن هذا الاهتمام بما يكتبه المبدع والناقد المغربي، وهذا التوجه نحو الثقافة المغربية التي لا شك أنها تقدم تصورات جديدة في طبيعة الاشتغال على السؤال الثقافي. لكن المشكل أننا لا نحسن الاعتراف ببعضنا، ولا الاحتفاء بمبدعينا. وأتذكر هنا أنني عندما كنت عضو لجنة التحكيم في جائزة العويس ذات دورة، كنت قد اقترحت على بعض المسؤولين عن الجائزة ضرورة الاهتمام باسم المفكر المغربي عبد الله العروي كاسم يستحق جائزة الإنجاز العلمي، وهي جائزة لا تدخل في عمل لجنة التحكيم وأذكر أن مجموعة من أعضا ء التحكيم الذين كانوا معي في تلك الدورة استحسنوا الاقتراح ودعموه، مثل الناقدة العراقية فريال جبور غزولي والمفكر السوري الطيب التزيني وآخرين، وطلبوا مني حين أعود إلى المغرب أن يكون ترشيحه من قبل مؤسسة ثقافية أو جامعة أو جهة مغربية معينة. وبالفعل، كان ذلك بعد عودتي، إذ حاولت كثيرا، لكني لم أتوصل إلى شيء. بعدها طلبوا مني، على الأقل، أن أرسل إليهم سيرته الذاتية والإبداعية، وكان ذلك ما فعلته وتأسفت. ما ينقصنا هو الدعم الحقيقي والفعال للمؤسسات والاعتراف الذي لا أعني به أن تعطي هذه المؤسسات التزكية، ولكن أن يكون لها تصور وطني، أي خدمة الوطن من خلال الثقافة والإبداع. عندما أشارك في لجن تحكيم جوائز عربية، أرى كيف تقوم دول عربية بجميع مؤسساتها بالدفع ببعض أصواتها الإبداعية من أجل نيل الجائزة، وكيف يجتهد إعلامها في الدفاع عن كتابها، أحيانا نشعر نحن بإحساس اليتم . مع العلم بأن المسألة أعتبرها جد وطنية، وهذا دور الأفراد والمؤسسات والحكومة أيضا، والإعلام. الثقافة وجه للبلد ولشكل تفكير البلد. مع الأسف، نحن لا نستثمر هذا الخطاب لكي نسوّق هذه الحركية الثقافية والإبداعية والفكرية التي نعيشها بالفعل. أكبر معيق أمام الكاتب المغربي أيضا هو النشر والتوزيع السيء هناك تناقض نعيشه في هذا الوطن: في الوقت الذي توجد فيه طاقات رائدة تحتاج إلى دعم معنوي نراها تذبل في الصمت. لا نعرف كيف نسوّق ثقافتنا، كما لا نعرف كيف نسوّق جمال بلدنا في السياحة ونعتمد على أشياء أخرى باتت تفسد الصورة. أتساءل: ألا يستحق هذا الوطن أن نحبه بصدق؟ - لو طلبت منك أن تشخصي أعطاب الثقافة المغربية، كيف تعددينها وما هي العلاجات الممكنة لتقرح الجسد الثقافي المغربي؟ < أختصرها في شيء واحد: لا بد أن نحب هذا الوطن بصدق. لأن الحب بصدق هو الذي يجعلنا نخدمه بتصور واضح واستراتيجية تجعله شمسا في عيون أبنائه قبل الآخرين. الساحة الثقافية واسعة ومفتوحة أمام الكل، وكل واحد بإمكانه أن يقدم الشيء الكثير لهذا الوطن. نحن في حاجة إلى التربية على المحبة والإخلاص في العمل بدون زيف أو مقامرة بالمفاهيم، بدون خدش في الوجدان المغربي. الإبداع هو خزان رؤى الشعوب، وحالة رمزية تعبر عن معنى وجود شعب ما، إذا لم نعرف أو إذا كنا لا نريد أن ننشر معنى وجودنا فذلك يعني أننا لا نستحق الانتماء إلى وجدان هذا الشعب. الثقافة وسلوكها مسؤولية حضارية وليست ورقة سياسية عابرة أو موضة نلبسها لكي ندخل بها المزاد.. إنها إرادة سياسية وتاريخية وقبل هذا وطنية. - في مقابل تراجع مساحة النصوص الكبيرة والكتاب الكبار، مثل شكري وزفزاف وخير الدين، هناك نمو «طفيف» لكتابة المرأة. ألا تخشين من انقراض أسماء المغرب الكبيرة؟ < المغرب يكبر بأبنائه مهما حدث. ولا يجب أن تغطي الأسماء التي تعتبر كبيرة على شمس الأسماء الأخرى. في الإبداع ليس هناك كبير وصغير، هناك مبدع وغير مبدع. إذا كان أثر هؤلاء الكتاب مايزال في ذاكرتنا حاضرا، فذلك لكونهم كانوا بالفعل مبدعين أخلصوا للإبداع، ولم يبيعوا الكلمة. بالعكس المرأة المغربية أراها تشارك بقوة في المشهد المغربي, يجب أن نضعها داخل سياق المشهد ككل. منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، كان هناك صعود مهم للمرأة في التعبير. لكن المغيب هو إضاءة هذا التعبير وإعطاء جميع الأصوات فرصتها من حيث الإصغاء إليها بدون إقصاء نقدي..هناك أصوات وتجارب جديدة في الكتابة يجب الانتباه إليها. أنا جد متفائلة بوضع الكتابة في المغرب لأنني أشعر بأن الشباب بالأخص تخلص من عقدة رقيب المؤسسات وبات يبدع بحرية . - العروي والخطيبي وغيرهما أصبحوا غير مرئيين في المشهد الثقافي المغربي، هل يتعلق الأمر بنوع من «الانمحاء»أو «الذوبان» في بحر مغربي تتحكم فيه أمواج أخرى؟ < المشكل ليس في المفكرين عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي، فهما مايزالان يبدعان في التفكير والتأمل والإبداع ولهما حضور قوي عند من يدرك قيمتهما، وبالأخص خارج المغرب، المشكل في المؤسسات الثقافية التي لا تستغل هذه الأدمغة المفكرة وتجعلها، باستضافتها ليس موسميا، صورة حية لدى الأجيال، والمشكل أيضا في تلفزتنا وفضائياتنا التي لا تجعل المبدع المغربي وجها حاضرا مرئيا وصورة يومية تدخل البيوت عوض التفاهة التي تملأ بها عقول الشباب. انظر إلى الصورة التي تقدمها الفضائيات المغربية، صورة فولكلورية تشبه بطاقات السياحة التي تضع جمالا (بكسر الجيم) ورمالا لتقدم جمال المغرب. لهذا، لا أستغرب عندما أجد طالبا من طلبتي لا يبدي خجله، وهو يعترف بأنه لا يعرف لا العروي ولا الجابري ولا الخطيبي. لأن جيل الطلبة الآن جيل يطلب المعرفة من الوسائط المتاحة له، وبالأخص الوسائل السمعية البصرية. الإعلام المرئي لا يتذكر المثقف إلا عند الأزمة كما حدث مع الضربات الإرهابية أو عند حادث الزلازل أو الفيضانات، عندها فقط يتم طلب انطباع المثقف عن سبب الأزمة، وكأن المثقف له عصا سحرية يدرك بها الأسباب. أتساءل لماذا نتوفر على طاقات مهمة ولا يتم استثمارها في الإعلام المرئي حتى يصبح وجه المبدع معروفا ومن ثم فكره وأسئلته؟ لماذا يتم التركيز فقط على المغنين وأشباه المغنين وما شابه؟ أبهذه الطريقة يخدم الإعلام الوطن؟ هذه إعاقة أخرى أمام الثقافة المغربية. أنا أتساءل: كيف يفكر المسؤولون في قطاعات مثل الإعلام المرئي الذي له دور مهم في التأثير السريع؟ الثقافة أهم محصن من كل الشوائب. مهما صادقت الدولة على القوانين الدولية، ووقعت على المعاهدات. ومهما تم تفعيل تلك القوانين عبر التشريع المغربي، إذا لم يشتغل الثقافي على الذهنية فإن تلك القوانين ستظل حبرا على الورق. - هل مازال هناك أمل في شيء بعد حالة الاستقطاب الحاصلة في صفوف النخبة الثقافية؟ ولمصلحة من يتم هذا الاستقطاب؟ < لا يجب أن نفقد الأمل. وإن أصبح المشهد الآن يثير اشمئزازا وشيئا من السخرية، لأننا نرى البعض يهرول ويلهث وراء إغراءات الكراسي، وينسى أن خدمة السؤال الثقافي أهم. والبعض يستغل خطاب الديمقراطية ليموه به الرأي العام ويمرر أشياء ليست ذات علاقة بالوجدان المغربي. طبعا كل واحد حر في أن يعيش الحالة الثقافية كما يشتهي، المسألة ذات علاقة بالتصالح مع الذات وبدرجة الوعي وبشكل حضور الخطاب الثقافي. ما ينقصنا الآن هو الدفاع عن الثقافة كممارسة وسلوك وليس كشعارات صارت مثل شعارات أحزابنا التي نراها ماتزال في التناسل في وقت عبّر فيه الشعب عن أسفه الشديد على السياسيين والسياسة في الانتخابات التشريعية الأخيرة. الاستقطاب يعري ويفضح مسارا ثقافيا.