ننشر سلسلة حوارات مع سياسيين، ومناضلين ومفكرين واقتصاديين وباحثين منشغلين باسئلة المغرب الراهن، علي ضوء عشر سنوات من العهد الجديد. ونحن نريد بذلك حوارا مع الفاعلين ومع تحولات هذا الواقع المغربي نفسه ، الذي بدأت ابدالاته الكثيرة تطرح نفسها على الحاضر والمستقبل. في السياسة كما في الاقتصاد أو في التمثل الثقافي، جاء العهد الجديد بالكثير من المتغيرات كما أنه يحافظ على الكثير من الثوابت..وكما يحدث في كل فعل تاريخي ، يكون الجوار الزمني بين الحاضر والمستقبل موطن افرازات وانتاجات، مادية وتاريخية تستحق المساءلة والاستنطاق. اليوم مع حسن طارق ،عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي ينهي الملك محمد السادس، في الايام القليلة القادمة العشرية الأولى من حكمه، وتتزامن هذه الذكرى مع رفع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لمذكرة حول الاصلاحات السياسية والدستورية التي يراها مناسبة للدفع بمسلسل الاصلاح ، أي معنى لهذه الخطوة السياسية في نظرك؟ المعنى يخلقه كما تعلم السياق، والسياق هنا هو الاختناق الذي وصلت إليه العملية الديمقراطية بعد انتخابات 2007، وهو المآل الذي عرفته مرحلة الانفتاح بكل مسمياتها: مرحلة التوافق، مرحلة التناوب التوافقي، مرحلة الانتقال الديمقراطي... لقد بدا واضحا بعد تلك الاستحقاقات أن ثمة مرحل جديدة قد دخلها المغرب السياسي، وأن فرضية التحول الديمقراطي لم تعد قادرة على قراءة ما وقع، ومؤكد أن الفاعلين السياسيين المنتمين الى العائلة الديمقراطية قد انتبهوا الى الحاجة الماسة لتقديم أجوبة جديدة عن أسئلة هذه المرحلة والى التفكير في عناصر جديدة للخط السياسي المطابق لتحولات المرحلة. وهنالا شك أن مذكرة الاصلاحات السياسية والدستورية جزء من هذه الأجوبة، خاصة عندما نضعها داخل إطارها الطبيعي ألا وهو خلاصات المؤتمر الوطني الثامن المتعلقة بتشخيص أعطاب التحول الديمقراطي ببلادنا والحاجة الماسة الى الاصلاح. إن الاصلاح هنا لا ينطلق من تمثلات معيارية مجردة، بل من خلاصات تجريبية لمرور الحزب في قنوات التدبير الحكومي بكل إكراهاتها. ولا يتعامل مع النص الدستوري بتلك الهالة الدراماتيكية التي ظلت تطبع المسألة الدستورية ببلادنا كبؤرة للتوتر وللصراع جوهر السلطة، بل ينطلق من مقاربة وظيفية لإشكاليات التدبير العمومي الناجع والحكامة السياسية الفعالة. هل انتهى العهد الجديد الى نفس الاختناق السياسي والديموقراطي ، الذي كان قد جاء من أجل تجاوزه، لهذا أصبح لزاما دفع عجلة الاصلاح ؟ إن العنوان الاكثر تعبيرا عن هذا الاختناق الديمقراطي، هو ما أسمته أدبيات الاتحاد بأزمة السياسة، هذه الازمة التي تظهر من خلال عودة كل أشكال التدبير اللاسياسي لقضايا البلاد، والنفس الجديد الذي أخذته الاختيارات التقنقراطية، وتزايد رقعة اللامسؤولية المنظمة، وهامشية الحقل السياسي المبني على التمثيلية والتداول والمراقبة، واللاتسييس المتزايد للظاهرة الانتخابية، والهوة المتزايدة الاتساع بين نتائج الانتخابات والمترتبات السياسية المتولدة عنها، وتقلص ممكنات التنخيب عبر النافذة الحزبية، والمس باستقلالية القرار الحزبي، وتحويل الكائنات الحزبية الى مسوغ كاريكاتوري لإدماج التقنقراط في دائرة القرار العمومي، وتطوير خطاب يمجد فعالية ونجاعة التقنيين المحميين من الرقابة ويبخس مردودية وأداء المنتخبين والمتحزبين. لأجل ذلك، فمطلب الاصلاح السياسي والدستوري اليوم، هو جواب عن هذه الاشكاليات المعبرة عن أزمة السياسة، وهو وضع للأزمة السياسية، وهو وضع للأزمة في مكانها الطبيعي ضدا على الخطاب الذي أنتج وعُلب وصدر بعد انتخابات 2007، حول أزمة الاحزاب. إن الازمة هي أزمة ثقة في المؤسسات وليس فقط أزمة ثقة في الاحزاب. إن الاحزاب هي أزمة فعل سياسي وليس فقط أزمة فاعلين.ثم يجب أن نقول اليوم بصراحة: لماذا تصلح الاحزاب في ظل نظام سياسي يبخس السياسة؟ وكيف يمكن ان تعيش وتتطور الاحزاب في ظل محيط معاد للحزبية وللالتزام وللمراقبة الشعبية؟ إن مطلب الاصلاح اليوم هو إعادة وضع الازمة في مكانها الاصلي. الملاحظ أن الاتحاد الاشتراكي رفع مذكرته لوحده، وهو ما يحيل على المذكرة الثنائية التي وقعها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد والمناضل عبد الرحمان اليوسفي في بداية الاستقلال ، باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية انذاك، هل هي عودة الى لحظة التأسيس أم اعلان وفاة اطار الكتلة كفضاء لتدبير الاصلاح السياسي والدستوري في البلاد؟ السؤال يحيل بشكل مباشر على إشكالية التحالفات. وهنا كذلك لنتحدث بصراحة: الكتلة إطار ينتمي الى التاريخ. لكن هذا التشخيص وحده ليس له أي فائدة وظيفية. فالإشكالية تظل قائمة والحاجة ماسة الي تحالف سياسي واسع يعيد تشكيل المشهد الحزبي وفق سؤال التطور الديمقراطي المحجوز ويعطي معنى لتعدد مائع. يسارا مع الاسف هناك الكثير من غياب التواضع والمحافظة والتحاليل المتقادمة، وأما اتجاه العائلة الاتحادية فثمة كذلك صعوبات لتشتتها داخل تنظيمات اليسار والسؤال الاولوية هل لليسار أم لعائلة الاتحاد... أما حزب الاستقلال فالإشكالية هي من جهة هذا حزب ضروري للقوى الديمقراطية. فهو حامل لثقافة الحركة الوطنية وحزب حقيقي لكن ما هو حجم تأثير تحولاته التنظيمية الداخلية على خطه السياسي التاريخي وماهو التحليل الذي سينتصر في النهاية حول الوضع السياسي ا لعام؟ خارج هاتين الدائرتين التقليديتين للتحالف (اليسار والحركة الوطنية). هل ثمة بديل آخر؟وماذا عن العدالة والتنمية؟ المحللون يقدمون هذا التحالف «المفترض» تأثر «جانبي» لحركة الهمة وكرد فعل طبيعي ضد إرادة إعادة هيكلة فوقية للمشهد السياسي. سياسيا ثمة أسئلة غير قابلة للالتفاف هنا: ماهي الكلفة المتعلقة بالمشروع الاشتراكي الديمقراطي والحداثي للحزب؟ وماهي حدود هذا التحالف فعليا في إنضاج تصور مشترك حول الوضع السياسي وحاجته الى الاصلاح؟ إنها جزء من الاسئلة المطروحة على جميع الاتحاديين. وقبل ذلك ثمة حاجة الى التفكير في معنى التحالفات اليوم؟ وهل بالضرورة يجب ان تكون تحالفات استراتيجية؟ وماذا عن الاتفاقات الانتخابية؟ وهل بالضرورة يجب أن يكون تحالف ما بديلا عن إطار آخر للعمل المشترك؟ الا يطرح هذا ضرورة الحسم في من يقود الاصلاح في المغرب في العهد الجديد أو على الاقل من يطالب به؟ المؤكد أن هناك الكثير من التحولات التي تعرفها مسألة المطالبة بالاصلاح.لنلاحظ بأن القوى الديمقراطية لم تعد وحدها تحتكر المطالبة بالاصلاح، فإيديولوجيا الاصلاح أصبحت تقريبا ضمن المشترك العمومي داخل البلاد. والمؤسسة الملكية أصبحت كذلك حاملة لخطاب إصلاحي، وفي كثير من الحالات فمبادرات إصلاحية قوية تأتي من حيث لا ننتظر، مثل حالة قضية المرأة والتي تم من خلالها استثمار الفصل 19 من الدستور والذي تحول هنا من رمز للمحافظة الى بؤرة للتحديث. لنلاحظ كذلك ان النظام السياسي طور آليات جديدة وداخلية لخلق مطالب الاصلاح، حتى لا يظل أسيرا لمعادلة القوى الديمقراطية كمُطالبة بالاصلاح والدولة كمُطالبة (برفع الميم) بالاصلاح. وهنا مثلا نذكر حالتي: الاولى تقرير الانصاف والمصالحة والثانية تقرير الخمسينية. إن رهان الدولة هنا هو خلق مرجعيات حديثة الاصلاح ثم تكسير احتكارية اليسار لمطلب الاصلاح، ثم ثالثا ما يمكن تسميته «باختصار دورة المطالب»، وهذا ما يجعل النظام السياسي متحكما بشكل أكبر في تدبير أجندة الاصلاح تتحول شيئا فشيئا الى مسألة مجتمع وليس فقط الى قضية طبقة سياسية، وهنا فالحزب عليه ان يعي بأن دوره لم يعد الدفاع عن مطالب المجتمع نيابة عن هذا المجتمع، بل أصبح هو مواكبة ومصاحبة المجتمع في التعبير عن انتظاراته وأسئلته. وهذا مهم جدا. من المثير حقا أن تنتهي الدورة العشرية الأولى على «نوتة» توحي بالماضي اكثر ما توحي بالمستقبل وهي تاسيس حزب الاصلة والمعاصرة وما عرفه من «صعود» انتخابي، هل يمكن اختزال ما وقع خلال هذه الفترة في هذه الحالة وحدها؟ فعلا من المؤسف ان الماضي انتصر في هذه النقطة بقوة على المستقبل، إن المقارنة مع الماضي غير قابلة للالتفاف، نعم السياقات اختلفت والشروط السياسية تغيرت، لكن نشعر بأننا أمام نفس الرغبة القديمة في التحكم الفوقي في الحياة الحزبية، أمام نفس انزياح الدولة عن دورها الحيادي وتحولها الى طرف سياسي مباشرة، أمام نفس الاصرار على تحزيب المؤسسة الملكية واحتكار الحديث باسم مشروعها السياسي، أمام نفس ظاهرة خلق الاحزاب خارج كل سياق مجتمع وثائقي وسياسي طبيعي. هناك العديد من المفاهيم والايقونات الرمزية والخطابية التي هيكلت العهد الجديد، منها المفهوم الجديد لسلطة، الانتقال الديموقراطي ، المصالحة الوطنية، الملكية المواطنة... اين وصلت هذه المقولات على ضوء التطورات الحاصلة اليوم؟ إنك تشير الى العناصر التي أثثت الخطاب السياسي للعهد الجديد، ولاشك ان هذه العناصر تنتمي الى معجم سياسي حديث، حيث الى جانب اللغة العتيقة والمفردات القادمة من التاريخ، طعم الخطاب السياسي بنفس حديث، ونحتت مفردات جديدة تنتمي الى حقول دلالية حديثة، واستبطنت مفاهيم ومقولات متداولة في الساحة العمومية وأصبحت مساحة التقاطع بين لغة الدولة ولغة المجتمع المدني والسياسي أكثر اتساعا. لكن المؤكد كذلك ان هذه اللغة الى جانب وظائفها الرمزية واستعمالاتها التواصلية والتعبوية وقيمتها المعيارية، تصبح قاعدة للتقييم وللقراءة. وفي المجمل، فالسؤال مع متغير الزمن لا يصبح فقط ماهي دلالات المشروع الديمقراطي الحداثي؟ ولكن هو ما قيمة ما تحقق على مستوى تحديث ودمقرطة المغرب؟ وهل يمكن إنجاز التحديث بدون ديمقراطية؟ وهل كل المؤسسات مستعدة لأداء كلفة التحديث والدمقرطة؟ ويبقى السؤال الضمني هو ألم يحقق المغرب طفرات نوعية في الحكامة والتوجه السياسي والمجال العمومي ؟ الجواب عن هذا السؤال الضمني، في نظري يمكن ان يلخص في مفارقة تحول الشعار الذي حملته القوى الديمقراطية من الدفاع عن الانتقال الديمقراطي الى الدفاع عن السياسة. لنتذكر بأن مقولة الانتقال الديمقراطي، والتموقع تجاه هذه المقولة سلبا أو إيجابا كان مهيكلا لقوى الديمقراطية واليسار منذ نهاية التسعينيات، وبأن هذه المقولة بغض النظر عن سلامتها المنهجية كتوصيف علمي لأوضاع سياسية، شكلت نوعا من «الاستعارة البرنامجية» التي كانت تقصد بها مجموعة من الاحزاب والقوى مرحلة من التحول والانفتاح الليبرالي وتطبيع العملية السياسية والتوافق... ولنلاحظ اليوم بأن هذه المقولة لم تعد تضمن معجم التداول السياسي العمومي، ولم تعد تصلح كفرضية للتحليل أو كشبكة قراءة للوضع السياسي. إن سقف الديمقراطيين انتقل من المطالبة بتعزيز الانتقال أو بإنهاء حالة الانتقال أو بالدخول الى زمن الانتقال الى مجرد الدفاع عن السياسة وعن العمل السياسي. وهذا دليل إضافي للتراجع المسجل في العملية الديمقراطية. عرف الحقل السياسي خلال الفترة الممتدة من 1999 الى اليوم ظهور فاعلين سياسيين جدد، أهمهم الاسلاميون والاصالاتيون ، بالاضافة الي نزوع نحو هيكلة الحقل الحزبي، هل تعتقد بأن هذه بداية لتحول جدري في الجسم وفيزيونوميا الحقل السياسي المذكور؟ فيما يتعلق بالحقل الحزبي، فلابد من إبداء مجموعة من الملاحظات أولها: أن تطور هذا الحقل يربك الخطاطة النظرية التي تستعمل لقراءة الاوضاع الحزبية في ظل التحولات السياسية العامة، حيث يتم الانتقال من حقل حزبي متحكم فيه الى فورة حزبية غير مسبوقة ثم الى تطبيع الحقل الحزبي واستقرار توازناته الاساسية، ومؤكد أننا لم نعش تحقق هذه النمذجة. ثانيا: استمرارية ما كان يسمى بالاحزاب الادارية. ثالثا: تعثر مسار تبلور يمين سياسي حقيقي. رابعا: في الزمن المنظور لا يبدو أن مسلسل الفرز والتقاطب السياسي والايديولوجي سيبلور مشهدا حزبيا أكثر قابلية للمقروئية. فولوج الوافد الجديد سيحيي تقاطبا «قديما» بين الاحزاب الحقيقية وبين الاحزاب المقربة من الدولة. وهذا من شأنه ان يؤجل عملية بناء الاقطاب على أسس إيديولوجية. عرف الحقل الاعلامي فورة في الحديث عن العائلة الملكية وعن الملك، كما سلطت الاضواء على المربع الذي يدير القرابة مع ملك البلاد ، اضافة الى جزء من الحياة الشخصية للملك واذواقه وتصرفاته كيف تقرأ هذا « الانفتاح»، على ضوء العلاقة بين الدائرة الشخصية والدائرة العومية لملك البلاد؟ عندما يصف السؤال ما يقع بكونه انفتاحا، فهذا في حد ذاته أحد مداخل القراءة، حضور المؤسسة الملكية هو دليل على مساحة الحرية، ومن جهة أخرى هو حضور يريد أن يكون مطابقا لوزن وموقع المؤسسة الملكية داخل نظامنا السياسي وهذا مفهوم من الناحية الصحفية. أما عن علاقة الشخصي بالعمومي، فالتجارب التاريخية هنا تختلف باختلاف الثقافات السياسية المقارنة والنقاشات هنا هي مفتوحة في كثير من الدول القريبة من أفقنا، مغربيا نحن في مرحلة بناء الحدود بين الشخصي والعمومي، وهنا فالأمر ليس مجرد توصيفات قانونية، بل هو ثمرة تحولات ثقافية وفكرية وتاريخية.