ننشر سلسلة حوارات مع سياسيين، ومناضلين ومفكرين واقتصاديين وباحثين منشغلين باسئلة المغرب الراهن، علي ضوء عشر سنوات من العهد الجديد. ونحن نريد بذلك حوارا مع الفاعلين ومع تحولات هذا الواقع المغربي نفسه ، الذي بدأت ابدالاته الكثيرة تطرح نفسها على الحاضر والمستقبل. في السياسة كما في الاقتصاد أو في التمثل الثقافي، جاء العهد الجديد بالكثير من المتغيرات كما أنه يحافظ على الكثير من الثوابت..وكما يحدث في كل فعل تاريخي ، يكون الجوار الزمني بين الحاضر والمستقبل موطن افرازات وانتاجات، مادية وتاريخية تستحق المساءلة والاستنطاق. اليوم مع مصطفى الخلفي، مدير نشر يومية «التجديد» { بعد مرور عشر سنوات على حكم الملك محمد السادس، كيف تنظرون للمغرب اليوم؟ < لقد شهدت العشرية إطلاق أوراش عديدة وخاصة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تنامى فيها دور المؤسسة الملكية في تأطير حركية التنمية والتحديث في المستويات الثلاثة المشار إليها آنفا، وهو ما أدى لتوسيع قاعدة الموارد المستثمرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية كما ساعدت على الاحتواء الجزئي لعدد من التوترات الاجتماعية فضلا عن إطلاق دينامية قانونية وتشريعية وبرنامجية همت مجالات حيوية كالأسرة والأمازيغية والتعليم وتحرير المجال السمعي البصري والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وإصلاح الحقل الديني، لكن أثر ذلك على التحديث السياسي للبلاد كان محدودا إن لم نقل تراجعيا، حيث مازالت الشعارات التي رفعت في بداية عهد الملك محمد السادس تحتفظ براهنيتها وملحاحيتها وخاصة ما ارتبط بكسب رهان الانتقال الديموقراطي وتأسيس مفهوم جديد للسلطة وإصلاح القضاء ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان، كما أن التحديات الاجتماعية الكبرى وخاصة المرتبطة بكل من الصحة والتعليم والتنمية البشرية إجمالا لم تعرف تقدما حقيقيا على الأرض، وهو ما تدل عليه المؤشرات العملية، وذلك بالرغم من الجهد الذي استثمر لمعالجتها. لقد كان من المفروض أن تؤسس الأوراش التي أطلقت لولادة مرحلة جديدة في التاريخ المعاصر للمغرب، وهوما يجعل بلادنا في مفترق طرق مصيري يصعب أن نتجاوز بدون حل معضلة الانسجام بين الحركية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة والوضعية الديموقراطية السياسية والحقوقية للبلد، والتي تشهد على النقيض من الاولى مسارا تراجعيا يضعف بكثير مردودية الأولى. إن مغرب اليوم يشهد صراعا محتدما ومتداخلا لثلاث دوائر، دائرة الهوية والقيم، ودائرة النفوذ والسلطة ثم دائرة المال والثروة، وإذا كان العهد السابق قد تميز بالحفاظ على استقلال نسبي لكل دائرة من الدوائر كما أرسى قواعد ضبط التوازن داخل كل منها، فإن أوراش العهد الحالي أطلقت حركية متسارعة من الصراع الداخلي والبيني، وهو تداخل حمل معه آثارا سلبية حادة على دائرة الهوية والقيم بشكل أساسي وفي الوقت نفسه أفقد التطور السياسي عمقه الديموقراطي بسبب من تداخل ذلك مع حركية دائرة الصراع على الثروة. أما على الصعيد الخارجي، فإن المحصلة النهائية لتفاعل المغرب مع تحولات وتحديات محيطه تعد إيجابية، خاصة وأن العهد الحالي ورث مأزقا حادا في التدبير الأممي لقضية الصحراء كان يهدد بفرض حل معادٍ للوحدة الترابية للمغرب عليه، حيث يصعب تجاهل الحركية الإيجابية التي تولدت على طرح مشروع الحكم الذاتي، وبالرغم من نجاح مشروع تهميشه والحيلولة دون امتلاكه لدور اكثر فعالية في الساحة العربية أو الأوربية أو الإفريقية إلا أنه تمكن من احتواء الآثار السلبية لذلك، لاسيما في ظل مناخ ما بعد تفجيرات 11 شتنبر حيث تمكن نسبيا من الحفاظ على موقع متقدم في العلاقة مع الاتحاد الأوربي والولايات المتحدةالأمريكية، فضلا عن احتوائه الجزئي لضغوط التطبيع بعد إعلانه لإغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط في أكتوبر 2000 . { هل يمكن القول أن هناك تمايزا بين عهد الملك الحسن الثاني وعهد الملك محمد السادس، هل تعتبرون أن هناك حاجة لمحيط جديد ورجال حكم جدد؟ < قد يكون من التجني اعتبار العهد الحالي تعبيرا أحاديا عن قطيعة أو استمرارية للعهد السابق، فللملك محمد السادس أسلوبه الخاص والمختلف كليا في التدبير والاشتغال، كما أن التحديات التي واجهها داخليا وخارجيا وخاصة في خمس السنوات الأخيرة تحديات مختلفة كلية عن العهد السابق مما فرض تقديم أجوبة جديدة، كما أن محيطه عرف تحولات عميقة لكن تدريجية أدت لتغير وازن في منظومة العلاقة بين المؤسسة الملكية والنخب السياسية والاقتصادية، ويضاف لذلك أنه يصعب هنا أن تقديم قراءة أحادية نمطية لمجموع مرحلة عشر السنوات، وخاصة عند مقارنة مرحلة ما قبل شتنبر 2002 بمرحلة ما بعد 16 ماي 2003، ونفس الشيء بخصوص مرحلة ما بعد شتنبر 2007. في المقابل ثمة استمرارية ملحوظة ناجمة عن ثقل تحديات موروثة وعن طبيعة الخصاص المميزة لاشتغال النسق السياسي ككل في المغرب بما فيه المؤسسة الملكية، ومن ذلك ضرورة الحفاظ على موقعها كحكم فاعل ومتفاعل مع محيط سياسي انقسامي، أو دورها في تأطير حركية الإصلاح والتوافق مع الفاعلين حول ذلك، إلا أن اشتغالها وفق ذلك تعرض للارتباك مما أثار مدى قدرة محيطها على مواكبة التطلعات الإصلاحية التي عبر عنها الملك، ولهذا أعتبر أن المغرب في حاجة لتجديد معتبر للنموذج السياسي المؤطر لكيفية اشتغاله لاسيما بعد أن برزت مخاطر الانزلاق نحو تبني نموذج مصري قائم على فلسفة الحزب الوحيد الفعلي بموازة حياة سياسية حزبية محدودة وحريات صحفية واسعة لكن دون أثر على القرار السياسي، وغني عن الذكر أن مثل هذا النموذج غير قابل للاستنبات فضلا عن النجاح في المغرب باعتبار أن الملكية لا تعيش أزمة مشروعية أو أن موقعها محط منازعة وتنافس، والأكثر من ذلك أن المغرب يعرف تعددية سياسية فعلية متجذرة تحقق التوزان المنشود على خلاف مصر التي تنامت فيها حركة الإخوان المسلمين بما يتجاوز باقي القوى السياسية هناك، وهو الشيء الموجود في حالتنا، ولهذا ينبغي الانتباه إلى أن خطاب تبخيس الأحزاب السياسية في المغرب ظهر أن الهدف منه هو تهيئة الطريق لبديل سلطوي عنها وليس دفعها إلى الإصلاح، فضلا عن أن تحديات المحيط الجهوي والدولي لا تترك للمغرب خيار الارتداد عن المكتسبات الديموقراطية، ويكفي هنا الإشارة إلى خطر ذلك على مصداقية التبشير المغربي بمشروع حكم ذاتي موسع للصحراء المغربية في الوقت الذي يسجل فيه تراجع ديموقراطي في البلد. { بخصوص الحركة الإسلامية، كيف تقرأون لتطور موقعها في هذه العشرية؟ < تبرز هنا أربعة مؤشرات، الأول يهم مواصلة سياسة الإدماج السياسي لجزء من الحركة الإسلامية من خلال صيغة حزب العدالة والتنمية والذي يمثل شريكا سياسيا لحركة التوحيد والإصلاح لكن مع التحكم في مدى وسقف هذا الإدماج، والثاني نزع فتيل التوتر السياسي العام مع جماعة العدل والإحسان برفع الإقامة الجبرية على مرشد الجماعة وفي نفس الوقت مواصلة سياسة تحجيمها وضبط نموها، أما المؤشر الثالث فهو اعتماد مقاربة أمنية رفضت في الوقت نفسه اعتماد مقاربة استئصالية حادة كما ظهرت في الحالة التونسية في التعامل مع التيار السلفي الحركي بعد تفجيرات 16 ماي، لكنها خلفت ملفا حقوقيا ثقيلا تنبغي معالجته بجرأة لتحقيق مقتيات الإنصاف وجبر الضرر والمصالحة. أما المؤشر الرابع فهو إطلاق مشروع إصلاح مؤسساتي للحقل الديني مايزال يبحث عن تجديد يحقق خصاص الهوية المغربي في مضمونه. أتوقف هنا لاسجل أن سياسة الإدماج تحتاج لدفعة جديدة تضمن توسعها وتطورها وذلك في مقابل بروز مخاطر التراجع عنها لمصلحة سياسة قائمة على التهميش والإضعاف والعزل، أشير هنا أن خيار الإدماج مكن المغرب من تقوية مصداقية مشروع الانفتاح السياسي أولا، وتعزيز توازن الحياة الحزبية والسياسية مما يقوي ضمانات الاستقرار ثانيا، كما ضاعف من قدرات خيارات الاعتدال في مواجهة خيارات التطرف ثالثا، وهي ما جعل المغرب يمثل نموذجا لطريق مختلف ورائد في المنطقة المغاربية والعربية، ولعل مما ساعد على تقدم مشروع الإدماج نضج هذه التجربة التي اعتمد خيار المشاركة المحدودة والمتدرجة لكن بدءا من انتخابات 2007 فقد وصلت هذه التجربة لمداها ويجد المغرب اليوم نفسه في حاجة لتطوير هذه السياسة. { ألا تعتقدون أن المشروع السياسي لحزب الاصالة والمعاصرة حمل جوابا على ذلك، وكيف تقرؤون آثار ذلك على الحياة الحزبية ككل؟ < يبدو من الجلي أن المشروع السياسي للأصالة والمعاصرة يعمل على تسويق نفسه وبناء شرعيته السياسية بتقديم نفسه كمنقذ من التقدم السياسي لحزب العدالة والتنمية، وذلك بعد أن عجزت الأحزاب السياسية التقليدية على القيام بذلك، وأنه يمثل الملجأ الأخير لصيانة التوازن الحزبي والسياسي. والحاصل أن هذا المشروع يتجاوز ذلك، ويلعب ورقة العدالة والتنمية لخدمة مشروع تراجعي على المكتسبات الديموقراطية بالبلد، ولهذا ينبغي الانتباه إلى خطابه وممارسته تجاه الأحزاب الاخرى من غير العدالة والتنمية، والتي مارس بإمكاناته غير الطبيعية عملية تفقير ممنهج لها، من هنا لم يقدم هذا الحزب إضافة حقيقية وبقي مجرد جواب فوقي عاجز عن الفصل بين الحزب وبين شخص مؤسسه الفعلي، ولهذا أعتبر أن الحزب يبقى أداة في مشروع سلطوي يعكس المخاض الحاصل في بنية الدولة لتجاوز تناقضاتها الداخلية وفي الوقت نفسه تبييض النخب التي انتهت صلاحيتها وأصبحت أداؤه إعاقة للتطور السياسي للبلد. أما بخصوص الحركية التي تولدت عن بروز هذا المشروع في الحياة الحزبية فأبرز معالمها التقارب الذي حصل بين كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الاتحاد الاشتراكي، والذي تجلى في صمود التحالفات الانتخابية المحلية بعد انتخابات 12 يونيو الماضي إلا من استثناءات معدودة، كما برز في التقاء الخط السياسي لكلا الحزبين لمواجهة الخطر الجديد على المكتسبات الديموقراطية بالبلد بما يعكس سعيا لتجميد كل تناقض ثانوي لمصلحة مواجهة التناقض المركزي والمتمثل في تلك التراجعات الديموقراطية المسجلة، فضلا أن عن نمو التفهم المتبادل لوضعية وتحديات وإكراهات كل طرف ساعد على تجديد العمل بالتقاليد التارخية للحركة الوطنية والتي كانت تنزع نحو تنحية خلافاتها لمصلحة الأهم والأولى، مثل ما حصل في بداية السبعينيات بين كل من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، وأعتبر أن هذه المعطيات تساعد على توقع مستقبل واعد لمسار التقارب بين الطرفين.