يحل اليوم العالمي لحقوق الإنسان ومعه تبرز كل الإشكاليات الحقوقية في بلاد المسلمين على اختلاف أعراقها. وتزداد هذه الإشكاليات تعقيدا في البلاد العربية، إذ كلما صدرت أجيال جديدة من حقوق الإنسان إلا وواجهتها الدول الإسلامية/العربية بمزيد من التحفظات، كما لو البلاد وشعوبها استثناء لا تنبت فيها ثقافة وقيم حقوق الإنسان. وما يثير الانتباه هو أن المجموعتين: "منظمة المؤتمر الإسلامي"، والدول العربية الممثلة في الجامعة العربية، كل على حدة، وضعت ميثاقها/إعلانها لحقوق الإنسان: "الميثاق العربي لحقوق الإنسان" و"الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان". وبين الميثاقين فوارق جوهرية، الأمر الذي يطرح سؤالين جوهريين: ما الذي أفقد الدول العربية الحماسة للدفاع عن تصورها لمفهوم حقوق الإنسان رغم نواقصه؟ وما الغاية من وضع ميثاق عربي/إسلامي لحقوق الإنسان في ظل اتفاق أممي على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟. أكيد أن المقارنة بين الإعلان الإسلامي/العربي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان تظهر أن للمسلمين مفهوما لحقوق الإنسان يناقض الإعلان العالمي لهذه الحقوق. ومكمن التناقض أن المسلمين لا يقرّون بالحقوق خارج إطار الشريعة الإسلامية؛ وهذا الذي يجعلهم يشترطون توافق كل حق مع الشريعة كما تم التنصيص عليه في المادتين 24 و25 من الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان كالتالي: المادة الرابعة والعشرون: كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية. المادة الخامسة والعشرون: الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد الإعلان. وطالما أن المسلمين لم يغيروا زاوية نظرهم إلى الإنسان من حيث هو إنسان يستمد كرامته من ذاته وليس من عقيدته، وأن إنسانيته جوهر ثابت لا يزيد أو ينقص سواء بالارتباط بالعقائد أو بدونها، فإن حقوق الإنسان ستظل معرضة للانتهاك والمصادرة. والجدير بالذكر أن الدول الإسلامية ظلت وفية لموقفها من حقوق الإنسان كما جسدته في إعلانها إياه، وسعت جاهدة إلى رفض الإقرار بكثير من الحقوق في بُعدها الكوني بمبرر "الخصوصية"، ما جعلها أكثر دول العالم من حيث تحفظاتها على تلك الحقوق. ولم تفلح كل البرلمانات العربية/الإسلامية في وضع تشريعات تستمد روحها من حقوق الإنسان في بعدها الكوني؛ فمهما ادعت الاستقلالية والانفتاح على العصر بقيمه ومكتسباته الحضارية فإن إقرار دساتيرها بسمو الشريعة الإسلامية على المواثيق الدولية، وأنها المصدر الأساسي للتشريع، يجعل من دولها دولا دينية وليست مدنية. وهنا ينبغي التنويه بالقرار التاريخي للرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، الذي حسم الجدل لصالح مدنية الدولة التونسية، وسمو القوانين المدنية عما عداها من التشريعات؛ فكانت مصادقته والحكومة على مشروع قانون المساواة في الإرث بين الذكور والإناث. وقرار الرئيس التونسي المستند إلى الدستور يؤكد من جديد أن النهوض بأوضاع النساء وإقرار حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا لا يتأتى إلا بسمو المرجعية المدنية وتحررها من أي سلطة دينية. فكل المجامع الفقهية تقر بحد الردة ومصادرة حقوق المواطنة لغير المسلمين والتضييق على حرية التفكير والتعبير والإبداع؛ وهذه نماذج من تلكم القوانين التي تتنافى كلية مع كونية حقوق الإنسان (موريتانيا : صدور حكم بإعدام الكاتب محمد الشيخ ولد امخيطير في 21 أبريل 2016، بتهمة الردة، وذلك على خلفية مقال كتبه.. باكستان: صدور حكم بإعدام آسيا بيبى في نوفمبر 2010 لإدانتها بتهمة سب النبي محمد (ص) لفقتها لها نساء قريتها. المغرب: أصدر المجلس العلمي الأعلى فتوى بقتل المرتد عن الدين الإسلامي). وهذه الأحكام تتوافق مع المادة السادسة عشرة من إعلان المسلمين لحقوق الإنسان: لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي، أو الأدبي، أو الفني، أو التقني، وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية الناشئة عنه، على أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشريعة. من هنا يمكن الاستنتاج بأن ربط حقوق الإنسان بالشرائع الدينية يقود حتما إلى مصادرتها وانتهاكها. ولا فرق بين الشرائع الدينية في مجال التضييق على حقوق الإنسان؛ بل إن الأديان جميعها شرعنت القتل والسبي وشجعت أتباعها على ممارستهما بشكل أفظع. ولم تتطور حقوق الإنسان إلا مع العلمانية وفصل الدين عن السياسة والدولة؛ فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان مستمد من "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789 التي أسست للعلمانية وفصلت الدين عن السياسة بشكل قطعي. لذا، فما يتوفر من حقوق، على محدوديتها، في بلاد العرب والمسلمين، ليس مرده إلى كون الشريعة الإسلامية تكرّم الإنسان وتصون حقوقه كما يردد المسلمون في كل المناسبات، بل الفضل فيها إلى النظام العلماني الذي أتاح للدول الغربية إقامة أنظمة سياسية مدنية لا سلطة للكهنوت عليها. ولولا الضغوط الدولية على الدول العربية والإسلامية لاحترام حقوق الإنسان في حدودها الدنيا لظلت أسواق العبودية تملأ الساحات العمومية في كل المدن، ولظل نظام الجواري وملك اليمين ساري المفعول إلى اليوم . هكذا إذن تم القطع مع العبودية وملك اليمين بضغوط دولية خارجية، أي بقرار سياسي، وليس بتعاليم الشريعة الإسلامية. وكانت آخر الدول التي ألغت العبودية هي الدول الإسلامية: السعودية 1962 عمان 1970 موريتانيا 1981. ورغم الضغوط الدولية لجعل الدول العربية/الإسلامية تغير قوانينها بما يضمن حرية الاعتقاد ويصون حقوق النساء والأطفال، لازالت هذه الدول تعتمد قوانين وتشريعات تكرس العنف القائم على النوع وتسمح بزواج القاصرات وتجرّم تغيير العقيدة وتمنع زواج المسلمة من غير المسلم والتوارث بينهما.