في كتابه " "من أجل تنوير إسلامي" (2024) يرى محمد المصباحي أن العالم الاسلامي يمُرّ من أزمة حادة تدفعه إلى التفكير في التنوير. لا يُحدّد المصباحي مضمون هذه الأزمة، ولكنه يفترض بأنها واضحة المعالم، ماثلة للعيان، لا تحتاج لمن يكشف عنها النقاب. غير أنه يرى أيضا بأنها ليست بالأزمة الحديثة، وهو يعود بها إلى زمن ابن رشد. ولكن، حتى إذا وافقنا على اعتبار أن الأمر يتعلق بأزمة تضرب السياقين معا، سياق ابن رشد وسياقنا، يبقى من حقنا أن نسال أيضاً، ولماذا العودة بهذه الأزمة إلى زمن ابن رشد بالضبط؟ ما الذي يمنعنا من العودة بها إلى زمن الفتنة الكبرى؟ أو سقوط بغداد؟ أو سقوط الدولة الموحدية؟ اذا تركنا هذه الأسئلة جانباً، واستعمنا إلى ابن رشد وهو يحدد الأزمة – في لغة المصباحي – باعتبارها "الفوضى الدلالية التي ألمّت بمعاني الشريعة، والخروج عن مقصد الشرع"، أوفي لغته: في إفساد "الشريعة الأولى"، فهل يمكننا أن نقبل بهذا التعريف للأزمة باعتبارها تعريفاً لأزمة العالم الاسلامي اليوم؟ أو لأزمته عبر العصور؟ الجواب بالطبع لا، وذلك حتى لو كان ذلك التعريف يُغطّي بعضاً من مظاهر أزمة اليوم، وأعني الصراعات المذهبية. وبغرض الجواب عن سؤال التنوير في سياق إسلامي، يُقدّم المصباحي على ثلاث خطوات أساسية: الأولى تتمثل في تحديد ما الذي يعنيه بأزمة التنوير في السياق الإسلامي، ويستعرض في خطوة ثانية مظاهر التعارض بين التنوير الرشدي وتنوير القرن الثامن عشر، في حين يبحث، في خطوة ثالثة، إمكانية وجود تنوير رشدي. بالنسبة للخطوة الأولى فإنه لا يتأخر في تحديد أزمة التنوير في انتصار الغزالية على الرشدية أو النقل على العقل، وذلك على الرغم من أنه يعترف بوجود "أشكال متعددة وغنية من العقلانية في الإسلام قابلة للتطوير والتحديث". لا يذكر المصباحي هذه الأشكال ولا كيفية تطويرها، وما الذي يعنيه بتطويرها، لكنه بُعيد ذلك يؤكد صعوبة الحديث عن "تنوير إسلامي"، لأن غاية الإسلام، في نظره، تكمن في عبادة الله. إن أهم ما يقدمه محمد المصباحي في كتابه، هو ذلك التمييز الذي يقيمه بين مفهومين للتنوير أو بالأحرى للعقلانية: العقلانية الوسيطة والعقلانية الحديثة وهو ما يتوجب علينا أن نركّز عليه الآن. يُحدّد المصباحي عناصر ذلك التعارض في عشر نقاط أساسية: 1. اعتبار ابن رشد أن العلم اكتمل عند أرسطو، وأنه "لايحق للذين أتو بعده من الفلاسفة والعلماء أن يخرجوا عن نظرياته وتعاليمه أو يقوموا بتعديلها"، في حين يقوم التنوير على مبدأ التقدم ورفض وصاية الأموات على الأحياء. 2. الانتقال من العقل المجرد إلى الأنا أفكر أو إلى الفرد. وكما يكتب المصباحي: " التنوير، إذن، هو أن يغدو الفكر الفردي متمتعا باستقلاله الذاتي، غنيا عن أي مرجعية أخرى سوى مرجعيته هو، وليس مسؤولا أمام أية سلطة أخرى سوى ذاته". 3. الانتقال من ذات هي انعكاس للعالم ("ليست ذاته أكثر من علمه بالموجودات" ابن رشد، تهافت التهافت) إلى عالم هو انعكاس للذات. (ديكارت) 4. الانسان غاية نفسه عند التنوير، في حين تكمن غايته خارجه في العقلانية الوسيطة . (الاتصال بالعقل الفعال – السعادة الميتافيزيقة). 5.أولوية العقل العملي في التنوير على العقل النظري. يكتب المصباحي: "إذ ما كان يهمه في الدرجة الأولى ليس إثبات معقولية الطبيعة، وإنما تأكيد رشد الانسان وقدرته على التشريع الأخلاقي والديني لحياته، والبرهنة على كفاءته على قيادة مصيره بنفسه في منأى عن كل وصاية أو تسخير أو توجيه من أي سلطة خارج ذاته". عند ابن رشد كانت "الحقيقة الميتافيزيقية هي مبتغاه الأخير"، ولم يكن من حق العقل العملي حتى تدبير الحياة العملية، فتلك ستظل مهمة الشريعة. 6. جوهر التنوير الحديث هو الحرية ولا يختزل في "إثبات أن العقل هو ماهية الإنسان وصورته الجوهرية"، والحرية تعني هنا أيضا "استعمال الفرد لفكره الخاص بحرية وعلانية في الفضاء العمومي وإقدامه الجريء على التخلص من الخوف من وصاية المؤسسات والسلطات". 7. هناك علاقة عضوية تجمع عقلانية التنوير والنقد، فكل شيء بالنسبة لهذه العقلانية خاضع للنقد، ومن ذلك الدين، وليس كما الحال لدى ابن رشد، والذي لم يكن يمارس النقد إلاّ ليدافع عن الحقائق القائمة، الدينية منها والفلسفية. 8. يملك التنوير الحديث مضموناً ديمقراطياً، فهو لا يفرق بين خاصة وعامة أو بين "إيمان الخاصة" العقلي و"إيمان العامة" الذي يقوم على الظاهر. 9. انفصال الفلسفة في التنوير عن الدين، في حين يظل الفلاسفة ورثة الأنبياء في الفلسفة الوسيطة. 10. لا يرتبط الخلاص الديني بسلطة سياسية في التنوير، في حين يرى ابن رشد "أن من واجب الملك أن يتدخل في إيمان الناس لتوجيههم نحو الطريق الصحيح تجنبا للفتنة المذهبية". وبعد أن يُعدّد المصباحي الفروقات بين التنوير الرشدي والتنوير الحديث، يتساءل عن عناصر الشبه بينهما والتي يمكننا أن نجملها في الآتي: 1. كونية الخطاب الرشدي. لقد كان ابن رشد يوجه خطابه إلى الانسان باعتباره انسانا، وذلك في استقلال عن السياق التاريخي والجغرافي والثقافي. 2. أولوية العقل على النقل إذا تعارضت أحكام الشرع مع أحكام العقل. 3. كمال الانسان لا يتحقق إلا بكماله العقلي وكماله السياسي. إن ذلك يعني بأن الانسان لا يعيش بمفرده ولكنه موجود من أجل المدينة. ومع ذلك، هل يمكننا أن نتحدث عن تنوير بالمضمون الحديث للكلمة لدى ابن رشد؟ يجيب المصباحي بالنفي. ولربما قد يتساءل القارىء: اذن لماذا نعقد مثل هذه المقارنة بين العقلانية الرشدية والعقلانية التنويرية منذ البداية؟ أحد الأجوبة الممكنة على هذا السؤال يتضمنه فصل سابق في الكتاب يحمل عنوان: "الاتصال والانفصال بين الخلف والسلف: بين الجابري والعروي"، يعبر عنه المصباحي من خلال السؤال التالي: "هل يتعين على الماضي أن يظل فعالا معرفيا في الحاضر كيما نضمن مشروعية هذا الأخير، أم أن على الحاضر أن يقطع صلته بالماضي إن هو أراد أن يحقق معناه كحاضر مسؤول عن زمنه؟" يقدم الفكر العربي المعاصر استراتيجيتين للجواب على هذا السؤال: الأولى تتمثل، بلغة الجابري، في "الانتظام في التراث من أجل الانفصال عنه"، والثاني هي استراتيجية القطيعة التي دافع عنها عبد الله العروي. يكتب الجابري: "أما نحن فسيكون من الخطأ فهم الحداثة بالنسبة إلينا على أنها القطيعة مع التراث. ذلك لأننا ما زلنا في عملية النهضة التي قوامها الانتظام في التراث من أجل القفز إلى تدشين العمل في بناء تراث جديد سيكون هو الحداثة نفسها". يتحدث الجابري في السياق نفسه عن "تأهيل المفاهيم"، ويشرح المصباحي ذلك قائلاً: "فهو يعمل على تأصيل المفاهيم الحداثية في التراث، وتطوير المفاهيم التراثية ورفعها إلى مستوى المفاهيم الحداثية". ولكن ألا يصطدم مثل هذا التفكير مع تاريخية المفاهيم ونسبيتها وتبدّلها من عصر إلى عصر؟ وهل تستند المفاهيم مشروعيتها من تراث الأجداد، أم من قدرتها على مواجهة أسئلة الحاضر؟ تهدف استراتيجية القطيعة، كما يفهمها عبد الله العروي، إلى تجاوز الموقفين السلفي والتوفيقي، أو ما يسميه في "أزمة المثقفين العرب" بالثنائية. فبرأيه، وكما علق المصباحي لا يجب "أن نغتر بوجود تشابه بين المفاهيم التراثية والمفاهيم التي شكلت قوام الحداثة، وإلا سقطنا في وهم التطابق". إن هذا يعني، إذا مضينا بمثل هذا الحجاج إلى نهايته، بأن "العقل التراثي انتهت صلاحيته العلمية والأخلاقية والسياسية والحضارية"، وما يستتبع ذلك من ضرورة "تبني العقل الحداثي بكل مقتضياته وتبعاته". ولكن ما يتوجب أن نضيفه إلى كلام المصباحي هو أن هذا التبني يتوجب أن يكون نقدياً وليس اتباعياً، اذ لا يجب أن نستبدل وصاية بأخرى أو نظل حبيس منطق الاتباع، بل يتوجب علينا أن نكسر لعبة الوصاية ككل. ولهذا، ففيما يتعلق بالسلف، وكما كتب المصباحي: " فالعبرة من الاعتراف بالسلف لا تتوقف عند حفظ التراث، بل تتجاوزه إلى الانفصال عنه حتى لا يغدو السلف عائقا لتقدمنا، وحجر عثرة أمام حضورنا الفعال في العالم". وكما كتب أيضا، فإن دراسة السلف وتراثهم يمتلك أهمية قصوى بالنسبة لنا اليوم، خصوصا بالنظر للمناورات المستمرة والتي تعود إليه وتستغله من أجل الدفاع عن مواقع أيديولوجية.