يقدر عدد المساجد في ألمانيا –بمعنى مجموع المصليات التي تقام فيها الصلاة-بحوالي 2800 مسجد. وإذا ما افترضنا أن صلاة الجمعة تقام فيها كلها، إضافة إلى صلاة الجمعة التي تقام في السجون والإصلاحيات، فسنكون أمام كم هائل من الأفكار والمفاهيم الدينية التي تبث أسبوعيا باسم الإسلام، ويتلقفها أفراد الأقلية المسلمة ثم المجتمع ككل. لهذا تعتبر خطبة الجمعة أداة فعالة إما لبناء الوعي الديني الإيجابي، أو العكس. وبتعبير آخر، فإن كل خطبة جمعة لا تخرج من حيث أثرها في الناس عن ثلاث مستويات: أولا: خطبة ذات مضمون مفيد. ثانيا: خطبة ذات حمولة مضرة. ثالثا: خطبة عقيمة، لا هي مضرة ولا هي مفيدة، بمعنى أن المصلين أدوا فرض الجمعة تعبدا، ثم انصرفوا إلى حال سبيلهم من غير أن يكون لمضمون الخطبة أثر في تصوراتهم وأفكارهم الدينية والفكرية. والسؤال الضروري المتبادر إلى الذهن الآن هو: على أي أساس يمكننا تمييز الخطبة المفيدة من المضرة من العقيمة؟ ما هي المعايير التي نحكم على أساسها بأن هذه الخطبة أو تلك تصنف ضمن هذا المستوى أو ذاك؟ الجواب عن هذا السؤال على نحو مقبول لا أراه متوفرا في الوقت الراهن؛ وذلك لانعدام مقومات إيجاده. هذه المقومات تتمثل في غياب عملية التقييم والتقويم الدوري لخطب الجمعة، وهي عملية تتوقف بدورها على شروط موضوعية يأتي على رأسها توحيد المرجعية الدينية، وضبط الخطاب الديني المنفلت، وإعداد الخطباء على نحو يمكنهم من رصد مضمون خطبهم وطبيعة أثره في المتلقين، ... إلخ. هذه الشروط الموضوعية إما أنها منعدمة أو غير مفعلة على نحو إيجابي، وهو ما يعكس تشتت كثير من خطب الجمعة بين مواضيع سياسية وعقدية وإيديولوجية... إلخ، ليس لها من علاقة بالمنبر سوى أنها تزيد من تعميق الصراع المجتمي في البلدان المسلمة، وهو أمر أصبح ظاهرة في عموم بلدان العالم الإسلامي فضلا عن أوروبا المقصودة بهذه المقالة. بسبب غياب عوامل الضبط والتقييم هذه، لم يعد مستغربا في أوروبا أن يحرص بعض الخطباء من ذوي التوجه الحركي على تناول الأوضاع السياسية في المغرب أو تونس، مثلا، مزكين بعض الأحزاب ومشيطنين بعضها الآخر...إلخ. كما يحرص بعضهم الآخر من ذوي التوجه السلفي على تناول مواضيع الأضرحة وإقامة حفلات المولد في المغرب أو غيره من البلدان الإسلامية، معنفين أهلها ومتهمين إياهم بالشرك والابتداع. كما لا يتورع هؤلاء عن إثارة الخلافات المذهبية والعقدية من على المنابر، ...إلخ. ويحرص بعضهم الآخر على تناول قضايا العالم الإسلامي، حيث يرى هؤلاء مثلا أن إعلان ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، لا بد وأن يكون موضوعا للخطبة من غير تأخير، ...إلخ. وحيث إن قضايا العالم الإسلامي ومشاكله متعددة، فإن هذا النوع من الخطباء لا يكاد ينتهي من قضية حتى ينتقل إلى غيرها، محللا ومنتقدا، وفق سذاجة معرفية وعاطفية دينية. إلى غير ما هنالك من المحاور التي تذهب بخطب الجمعة أقصى اليمين وأقصى اليسار. والنتيجة أن جميع هذه الخطب خارجة عن السياق الأوروبي تماما، وليست لها علاقة به، وآثارها السلبية على أفراد الأقلية المسلمة واضحة؛ منها أنها تشعرهم بالغربة عن المجتمع الذي يكونون على صلة به طيلة الأسبوع، فإذا ما دخلوا يوم الجمعة المسجد لملء قلوبهم بشحنات إيمانية ربانية، وجدوا أنفسهم قد فُصلوا ذهنيا وشعوريا عن هذا المجتمع، وأُلقي بهم ضمن أزمة من أزمات بعض البلدان الإسلامية. وحيث إن هذه الأزمات أعقد من أن يجد الخطباء لها حلولا؛ فإن ما يحصل عليه هؤلاء هو الانكسار النفسي، وبالتالي انتشار الإحساس بالمظلومية والمؤامرة، والقبول بلعب دور الضحية ...إلخ، وهو إحساس نفسي قاتل. إن بإمكان خطبة الجمعة أن ترفع من الوعي الديني والفكري لأفراد الأقلية المسلمة في ألمانيا وفي أوروبا ككل، بما يجعل تدينهم منسجما مع هذه المجتمعات التي تعرف تجمعات دينية أخرى، غير أنها لا تبدو في صورة النشاز كما هو حال الأقلية المسلمة التي تعرضت لموجات من المفاهيم الدينية المشرقية أربكتها في تدينها، ودفعتها في كثير من الحالات إلى الصدام مع المجتمع. إن بإمكان خطبة الجمعة أن تساهم في إعادة بناء علاقات المسلمين البينية، وتتجاوز الخطاب العقدي المذهبي الذي أنهك–إلى جوانب عوامل أخرى-المجتمعات العربية. إن بإمكان خطبة الجمعة أن تساهم في بناء الثقة بين الأقلية المسلمة وغالبية المجتمع، وأن تحد من شبح الإسلاموفوبيا الذي يجد مبرراته في عوامل كثيرة؛ منها خطابنا الديني. إن بإمكان خطبة الجمعة أن تكون شكلا ومضمونا نابعة من البيئة الألمانية والأوروبية عموما، داعمة للسلم الاجتماعي، وللقيم الإنسانية ...إلخ. تحقيق هذه الإمكانات يحتاج إلى صناعة جديدة لمضمون الخطبة، هذه الصناعة لن تتحقق في رأيي ما لم يتحرر الخطباء في أوروبا من المؤثرات التالية: *استحضار مشاكل العالم الإسلامي السياسية والاجتماعية ...إلخ؛ فالتركيز على هذا الأمر يجعل الخطيب ينسلخ ذهنيا وشعوريا عن محيطه الأوروبي، وهو شعور ينقله بدوره إلى المتلقين. *ضغط بعض المصلين الذين يلحون على الخطيب أن يتناول بعض هذه المشاكل، وهم في الواقع أفراد معدودون، لكن جرأتهم في الطلب قد يظن معها الخطيب أنهم يمثلون رأي الأغلبية، خاصة إذا ما كان هذا الخطيب في نفسه ميالا إلى هذه المواضيع، فيكون طلب هؤلاء عبارة عن دفعة خفيفة تجلعه ينغمس فيها ويركز عليها. *القوالب التعبيرية الجاهزة، التي يحفظها بعض الخطباء ويرددونها دون الانتباه لقوة ألفاظها غير المنسجمة مع طبيعة اللغة والقيم التي استقرت عليها المجتمعات الأوروبية، خاصة في سياق العلاقة بالآخر. ويدخل هنا على سبيل المثال حصر دعوات الخير للمسلمين، أو لمسلمين وفق مذهب عقدي معين، وفي المقابل تعميم دعوات الهلاك والخسران على غير المسلمين عامة، وغير المسلم هذا هو بالضرورة جار لهذا المسلم، بل هو جار لهذا الخطيب أيضا. *غياب البعد الإنساني الذي يفترض أن تتأسس عليه الخطبة؛ إذ تظهر مثلا عبارات التعاطف مع مسملين ضربهم زلزال في بلد إسلامي ما، دون أن تكون هناك العبارات نفسها لأناس ضربهم الزلزال في بلد غير مسلم، وقد يكون البلد أوروبا كإيطاليا مثلا ...إلخ. أعتقد أن التخلص من هذه المؤثرات وأشباهها سيساعد في صناعة، بل وإبداع مضمون جديد لخطب الجمعة في أوروبا. [email protected]