يؤكد الأستاذ عبد الحي عمور، رئيس المجلس العلمي المحلي لفاس العالمة، أن الحداثة بمفهوم الحرية الشخصية المطلقة لا يمكن القبول بها في المجال الديني في الإسلام لوجود ثوابت قطعية إلهية لا تخضع للعقل البشري. ويلفت عبد الحي عمور الانتباه إلى أن الهيكلة الجديدة للمجالس العلمية، كما خطط لها جلالة الملك في خطاب أبريل المنصرم تحتاج إلى استراتيجية منظمة محليا ووطنيا تنشر الثقافة الإسلامية الأصيلة الإيجابية الكفيلة بصد الحملات الإعلامية على العلم الشرعي والخطباء والفقهاء، على منوال إيقاد شمعة بدل سب الظلام، وفي الحوار قضايا أخرى نتعرف عليها تهم فصل الدين عن الدولة ولباس المسلمة ، وغير ذلك. مرحبا بالأستاذ عبد الحي عمور على صفحات التجديد، دشن جلالة الملك في 30 أبريل الماضي الانطلاقة الجديدة للمجالس العلمية، ما هي في نظركم الأدوار الموكولة إلى هذه المجالس في الوقت الراهن؟ بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، المهام الجديدة الموكولة للمجالس العلمية المحلية على مستوى المملكة هي مهام عديدة ومتنوعة، وفيها وظائف ومهام جديدة، وفي مجموعها تهدف إلى غاية كبرى أساسية وهي الحفاظ على الأمن الروحي للمغرب وحماية عقيدة المواطنين كما ورد في الخطاب الملكي وعقولهم من الضالين المضلين، ثم صيانة الحقل الديني من التطاول عليه من بعض الخوارج عن الإطار المؤسسي الشرعي. ولتحقيق هذه الغايات الكبرى، حدد الظهير الشريف، الذي يصدر عنه عمل المجلس العلمي لفاس، جملة من المهام تهدف إلى تحقيق تلك الغابات الكبرى ومنها: الإشراف على كراسي الوعظ والإرشاد والثقافة الإسلامية، هذا الإشراف الذي لا يعني الاستمرار على ما هو واقع حاليا، ولكن نحاول أن نعمل ما يمكن معه أن تصبح هذه الكراسي مسايرة لمستجدات الحياة ومستجيبة لمشاغل واهتمامات الناس. ثم ثانيا، لا بد من إجراء دورات تكوينية أساسية في مجال العلم الشرعي والثقافة الإسلامية لمختلف القيمين الدينيين، كانوا خطباء أو وعاظا أو أئمة أو ما شابه ذلك، بما يهيئهم لأداء الوظيفة الدينية أداء كاملا، يزاوج بين متطلبات الدين بمعناه العقدي والعبادي ومتطلبات الدنيا، بمعنى أن هذه التحولات، التي يجب أن تدخل على عمل الإرشاد والوعظ والخطب المنبرية، تعالج أيضا مشاكل حياة الناس بصفة عامة، باعتبار أن الإسلام ليس عقيدة وعبادة فقط، وإن كان هذا هو المرتكز الأساسي، لكنه منهج حياة يخاطب ويوجه كل المجالات التي يعيشها الإنسان في دنياه، خاصة ما كان لهذه المجالات حكم شرعي أو اجتهاد فقهي يحدد آفاق العمل والتعامل. وهذا يعني أننا نريد أن نخرج في إطار الوعظ وخطابنا الديني بصفة عامة مما صار عليه عقودا من السنين في محاولة ضبط المشاعر الدينية، مثل العبادات وما يتصل بها، إلى مختلف جوانب حياة الإنسان، ونريد بذلك إقامة نوع من المصالحة بين المسلم ودينه بمفهومه الشمولي، حتى يعلم أن الدين ليس هو أن يأتي المسلم بجملة من الشعائر الدينية فقط، ولكن أن تخرج هذه الشعائر من إطارها التعبدي إلى وطيفتها التي تنعكس على سلوك الفرد وحياته وعلى كل ما يأتيه من أعمال. ومن المهام أيضا أن يقوم كل مجلس على المستوى الوطني، مع استحضار أن المرأة نصف المجتمع، ولا بد لها أن تساهم بأدوار فعالة في تنمية المجتمع على مختلف الواجهات، بأن تكون عندنا لجان متخصصة لتوعية المرأة وتوجيهها الديني والدنيوي، وتقوم هذه اللجان المكونة من أعضاء المجلس وفعاليات خارج المجلس من مختلف الكفاءات العلمية والثقافية، سواء كن عالمات أو أستاذات بالجامعات أو ما يعرف بالمجتمع المدني، لتأطير وتنظيم حلقات ولقاءات وندوات للمرأة وإظهار الوجه الحقيقي للدين الإسلامي، زوجة وبنت وطالبة ومتعلمة، وهذا مما يبشر الآن بأن المرأة المغربية، صاحبة الثقافة الشرعية والثقافة الإسلامية بصفة عامة، أصبحت تساهم بقسط وافر في توعية القطاع النسوي. ونحن في المجلس العلمي بفاس قمنا منذ البداية باقتحام بعض المجالات لتبليغ هذه الثقافة الإسلامية، وذلك بعقد لقاءات وندوات مع مؤسسات تعليمية خاصة بالإناث، مما أصبح معه للمرأة كمؤطرة دور فعال في مجال التوعية الدينية. وسنقوم بحول الله بوضع برنامج متماسك الحلقات لقيام المرأة بهذا الدور المنوط بها، والذي حدده الظهير الشريف المنظم للمجالس العلمية. ومن المهام أيضا العمل على تنظيم ندوات وموائد علمية لدراسة قضايا الفكر الإسلامي المعاصر والإسهام في نشر الإسلام الصحيح، وفي هذه الفترة القصيرة للمجلس نظمنا محاضرتين الأولى ألقاها رئيس المجلس في موضوع شرعية الاجتهاد ومشروعية الاختلاف، لأنه من المعروف الآن أن من التهم الموجهة لديننا أنه لا يقبل الرأي الآخر ولا يقبل الخلاف، لكن المحاضرة ومن خلال النصوص الشرعية واستحضار تاريخ الثقافة الإسلامية بينت أن الفكر الإسلامي هو فكر يقبل الاختلاف والتنوع، لكن في إطار نوع من التماسك الذي لا يضر بوحدة الأمة الإسلامية. والثانية ألقاها أحد العلماء الأجلاء، وهو الدكتور محمد التاويل في موضوع خصائص المذهب المالكي الذي أوضح فيه أن المذهب المالكي، وما يمتاز به خصائص ومميزات، جعلت المغاربة بصفة خاصة يتمسكون به، لا عن تقليد كما يظن، ولكن عن إدراك للخصوصيات المستجيبة لطبيعة الفطرة المغربية وطبيعة الحياة التي يعيشها الإنسان المسلم في هذا البلد، مما جعلهم يتمسكون به في إطاره الشامل، الذي هو نفسه يقبل الخلاف والتنوع. وبدأنا بذلك نباشر جملة من الأنشطة العلمية مما يمكن معه القول إن المجلس بدأ يمارس مهامه النظرية في إطار من العمل المنظم، والذي سنحقق به وجودنا، كمجلس علمي بحول الله، هو البرنامج النظري والعملي الذي خططنا له، وسنعمل على تفعيله في الدخول العلمي الشرعي الإسلامي في بداية شتنبر المقبل. ذكرتم مشاركة العالمة في أنشطة المجلس، وجاء القرار الملكي بإضافة 36 عالمة، لكن البعض يرى أن هذه الإضافة هي مجرد تأثيث للمشهد العلمي بالمغرب؟ يشتمل المجلس العلمي بفاس الآن على عضوين، وهما أستاذتان جامعيتان، ومن خلال العمل الذي قامتا به لحد الساعة، يتبين أن المجلس، والمجالس العلمية عامة، ومع وجود جوانب ثقافية مهمة في حياة المرأة المسلمة، في حاجة لعمل العالمة في تبليغ التوجيه العام، الذي كنا نحب أن يصل إلى المرأة. ومن خلال المعاينة التي أشرفت عليها وتتبعتها، لاحظت أن المرأة عندما تكون هي المنشطة والمحاضرة ورئيسة الندوة يكون الإقبال كبيرا جدا على هذه الحلقات العلمية والندوات الثقافية، ويكون هناك استعداد من لدن الحاضرات لطرح القضايا المهمة التي لم تكن تطرح من قبل. ومن هنا يمكن أن نؤكد أن حضور المرأة في إطار المجالس العلمية ومشاركتها في العمل العام، الذي حدده الظهير الشريف لهذه المجالس ليس تأثيثا وليس مظهرا من المظاهر التي يقال إن المرأة حشرت فيها، ولكن الحقيقة، وخلال ما توصلت به من تقارير ومشاهدات، أن عمل المرأة في هذا المجال كان واجبا وهو إضافة فعالة، وأصبحت هذه الأنشطة بدورها كعضوة وعضوتين تستقطب فعاليات ثقافية وكفاءات علمية كون المجلس منها خلية تنشط في مختلف حقول المعرفة التي تخص القطاع النسائي في المنتديات والمجمعات الشبابية، مما يمكن التشديد معه أن حضورها عمل موفق. احتفظ المغاربة لرسالة المنبر بدور كبير في الحفاظ على ثوابت الأمة الحضارية ما هي الرسالة الجديدة للمنبر في إطار المتغيرات المستجدة؟ يمكن أن أشير هنا إلى أن خطابنا الإسلامي، الذي عرفته الخطب المنبرية وكراسي الوعظ والإرشاد، كان يغلب عليه التوجه الديني المحدود في إطار العقدي والعبادي، وكل ما يتصل بهما، وفي الاجتماع الذي عقدناه مع الخطباء والوعاظ، حاولنا أن نقدم لهم أن خطابنا الديني الآن ينبغي أن يتجدد في إطار الشريعة ومقاصدها تجديدا على مستوى المضامين والمحتويات والتناول ولغة التواصل، وذلك بغرض اقتحام آفاق جديدة تتألف منها خطبنا المنبرية وكراسينا الوعظية. وتجنبا لما أصبح يقال بأن خطابنا الوعظي ظل مقتصرا على جوانب خاصة من حياة المسلم، نحب الآن من هذا الخطاب أن يواكب اهتمامات المواطنين وانشغالاتهم وما يستأثر باهتمامهم ليتولى السادة الخطباء الوعظ وتناول هذه الموضوعات من منظور جديد وبلغة ميسرة وباستعمال وسائل تواصل أكثر تأثيرا وفاعلية في المستمع. بمعنى أننا نريد للخطاب الديني أن يقتحم آفاق جديدة تمس حياة الناس وعيشهم مما للشريعة فيه رأي أو للاجتهاد فيه فقه، فاقتصار عمل الخطيب أو الواعظ على كل ما هو عقدي وعبادي فقط جعل الشباب يبحث عن أجوبة لأسئلته المعاصرة في مجالات أخرى، بينما لدينا في خطابنا الديني ما يمكن من الإجابة عن هذه الأسئلة المستجدة، وإذا لم توجد فتح باب الاجتهاد لعرضها على ديننا وعقلنا لاستنباط أحكام اجتهادية تتغيى المقاصد ولا تخرج عنها لأن الإسلام فيه متسع لكل ذلك. لكن المجالس العلمية تضع خطوطا حمراء للخطباء لا يجب عليهم تجاوزها؟ في الواقع ليست لدينا توجيهات معينة يمكن أن نسميها خطوطا حمراء للخطيب أو الواعظ والقيم الديني بصفة عامة، فإذا كان الخطيب ذا ثقافة علمية شرعية، وله إحساس وإلمام بما يعيشه المواطن، ويعيش الأجواء التي تعيشها الأمة الإسلامية بصفة عامة والمغرب بصفة خاصة، يستطيع بذكائه وفطنته وثقافته أن يعالج كثيرا من المشاكل دون أن تكون هناك خطوط حمراء يقف عندها، ما دام ينطلق في معالجته وفي تناوله من الشريعة الإسلامية، ولا يتقيد أو يركن إلى بعض من الأقوال الفقهية الشاذة والمتطرفة، التي من الممكن أن تخلق له صعوبات وأن تضعه أمام ما يسمى بالخطوط الحمراء. مع حلول فصل الصيف انتشرت ظاهرة التخفف من اللباس، وانطلقت آراء تقول إن الستر يرتبط بالتخلف في مقابل أن مسايرة الموضة هو نوع من الحداثة والتقدم، كيف تقرؤون هذه الثنائية؟ الواقع أن المرأة المسلمة بصفة عامة من كثرة ما عايشت التطورات، التي عرفتها المرأة الأوروبية، قامت فقلدتها في كثير من سلوكات حياتها بما في ذلك اللباس، ومن كثرة ممارستها ومعايشتها لهذا النوع من اللباس والحياة، بدأت تعتقد أن هذا عمل شخصي ذاتي، لا دخل فيه للشريعة ولا للدين ولا يحده قانون ولا ضوابط. وهذا المفهوم، الذي غلب على بعض النساء المسلمات، ليس صحيحا، ذلك أن اللباس في الإسلام له ضوابط تنطلق من النصوص الشرعية الثابتة والأحاديث النبوية الشريفة، منها قوله تعالى: ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر، فلم يترك لها أن تتخذ لباسا حسب هواها، ولكن جعل للباسها ضوابط، تتميز به شخصيتها، وتتفرد به كمسلمة عن غيرها، يتناسب مع دينها ومع عقيدتها وعبادتها، والإسلام لم يترك للرجل وللمرأة أن يتزيى بالزي الذي لا يتفق مع الحشمة والوقار والتدين. ومحاولة ادعاء أن الإسلام لا دخل له في حياة الإنسان، ذكرا كان أو أنثى، في ما يتعلق باللباس ومختلف مجالات حياته، وأن الإسلام هو قضية شخصية وهو صلة بين العبد وربه هو مفهوم ليس صحيحا، وهو سعي لإيجاد انفصام بين الدين وحياة المسلم، ونعلم أن هذا الانفصام عرفته أوروبا في ظروفها الخاصة، وهو ما يعرف بالعلمانية في التفريق بين سلوك الإنسان وحياته اليومية ودينه، لكنه في الإسلام غير وارد. فالإسلام لا يفصل بين ما هو ديني مقدس وزمني مكاني في حدود ما وردت فيه النصوص الدينية القاطعة، كما أن هناك في الإسلام ما يسمى بمنطقة العفو، إذ ترك الإسلام للإنسان فيها أن يختار ما يتناسب مع زمانه ومكانه ومع مستقبله، لكن ما وردت فيه نصوص قطعية الثبوت، صريحة الدلالة، يجب أن نتقيد به. وفي هذا السياق نطرح سترة الرأس، التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في فرنسا، بينما هي واردة في ديننا، وهي تميز المرأة المسلمة عن غيرها من النساء بما يحفظ لها كرامتها وزينتها وشرفها، لكن هناك من يرى أن من مثل هذه الأشياء لا دخل للدين والشريعة فيها، والشرع خلاف ذلك. ولكن اللباس أصبحت له فلسفة تقيسه بالتخلف والحداثة؟ بخصوص الحداثة، فنحن مع الحداثة في كل ما يتصل بالجانب العلمي والتقني، أي مما يمكن أن يطور حياة الفرد ويدخل عليها تحسينات وتلوينات تجعله أكثر سعادة وأكثر رفاهية وأكثر راحة، لكن عندما نعرض للحداثة في الجانب الديني، فإننا نجد في المعاجم الأوروبية أنها تعني انحسار الإيمان وانكفاء الدين لفائدة العقل والعلم، وهذا المفهوم للحداثة لا يمكننا، كمسلمين، القبول به، لأنه يعني إيقاف كل ما هو ديني ومقدس وإلهي لفائدة ما أنتجه العقل البشري. فصعب جدا أن نقبل في ما هو ثابت بالحداثة والنسبية والمفاهيم الجديدة، التي علينا أن نحتاط كثيرا في تمريرها في خطابنا الديني. هناك آراء تقول إن عدم تمسككم بهذه الحداثة هو رديف التخلف، كيف تنظرون إلى هذه الآراء؟ ليس، الأمر كذلك، الذي يقول إن تمسكنا بهذه المفاهيم، وأؤكد على المفاهيم الواردة بنصوص قطعية الثبوت وصريحة الدلالة وبالأحاديث النبوية المتواترة، هو تخلف، فإننا نعتبره جزء من مكونات وحدة الأمة الإسلامية. فهناك مبادئء عامة لا يمكن أن نقبل فيها نقدا تختل معه الموازين ويهدد كيان الأمة، فهذا ليس تخلفا وليس تقليدا، ولكنه تمسك بثوابت الأمة ومقوماتها. والفرق بيننا وبين الغربيين، أن هؤلاء جعلوا كل ما هو مقدس أمرا شخصيا لا دخل له في شؤون حياتهم، وعرضوا كل ما تعرفه الكنيسة للنقد والعقل وانتهوا إلى وجود اختلالات وكلام لا أساس شرعي ولا عقلي له، وتركوا ذلك لما أنتجه عقلهم البشري، آما في الإسلام فالأمر خلاف ذلك. وهنا تتصادم الحداثة مع الجانب الديني، ونحن مع الحداثة في كثير من الجوانب التي يمكن أن تعود على الإنسان في حياته بالنفع، ولكن تطبيق الحداثة، في الجانب الديني يجب أن يتوقف، ولا يمكن أن نسايره بالمفهوم المتداول عند بعض الناس، لأن مسايرتها يعني التخلص من كل ما هو تراثي وديني ولو كان وحيا إلهيا أو حديثا نبويا. من هنا ينبغي أن نميز في خطابنا الديني بين ما هو قابل لفهمه فهما جديدا وبين ما هو ثابت لا مجال فيه لأي تحديث أو تغيير، لأننا إذا قبلنا مبدأ الحداثة في الخطاب الديني يمكن أن نقبل نظرية التطور والنسبية، فالنسبية التي يرددونها في الغرب، هي مناسبة لواقعهم ولزمانهم وظروف حياتهم، لا يمكن قبولها لدينا، وهذا المنظور للنسبية يعم حياة وفكر الغرب، وهو مقبول عندهم، لعدم وجود مرجعية دينية لهم، ولكن بالنسبة لنا لا يمكن قبولها لوجود ثوابت كلها حقائق بدء ونهاية. (مقاطعا) هل من مثل لهذه الحقائق؟ مثلا هناك جانب الغيبيات، ولدينا في القرآن الكريم (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) أي لا شك أن ما ورد في الكتاب لا يقبل النسبية، لأنه قطعي وحتمي بدء ونهاية، والنسبية يمكن أن تكون في الخطاب الفكري البشري، أما الخطاب الإلهي أو الخطاب القرآني والبلاغ النبوي مما هو صحيح فلا نسبية في ذلك، ومثل هذا مثل مصطلح الحداثة. وعلى هذا ينبغي على مثقفينا، وخاصة أصحاب الثقافة الغربية قبل أن يبدؤوا في إخضاع فكرنا الديني الإسلامي إلى مثل هذه المفاهيم والمنظورات، لا بد أن يعرفوا حقيقة الثقافة الشرعية الإسلامية، لأن فيها جوانب لا يمكن القول فيها بالنسبية ولا بالحداثة، وهي تقبل في الفكر الإسلامي البشري، لأنه عندنا في ديننا كتاب ما يزال قائما، ولله الحمد، لا يمكن بحال من الأحوال تركه للمفاهيم العقلية الجديدة، وليس هذا من قبيل التخلف، بل هي جملة مرتكزات يجب المحافظة عليه ما دمنا نتمسك بدين ونقول عن أنفسنا إننا أمة مسلمة لها شريعة تحفظ وجودها وذاتيتها. وهل الكنيسة المسيحية منسحبة من الشأن المدني والدنيوي؟ بعد الثورة التي عرفتها أوروبا وبعد عصور التنوير الغربي، انفصلت الكنيسة عن حياة الناس في مجال السياسة والاقتصاد والتربية وساندت الاستبداد، لكن الإنسان الأوروبي حاليا بدأ يسترجع نوعا من الوعي بضرورة حضور ثقافته الدينية، وهذا ما جعل بعض المؤسسات في أوروبا، وخاصة الأنجلوساكسونية تطالب بجعل الدين وحضوره في بعض القطاعات الحياتية ضروريا، ويمكن بعد مرور عقود من السنين للكنيسة استرجاع دورها، وقد تبين لها أن الإنسان الغربي شعر بنوع من الفراغ والخواء الروحي، لأن الإنسان لا يمكنه بحال من الأحوال أن يعيش بدون عقيدة، وإذا زاد الشعور بهذا الاختلال في حياته في جانبها المادي والروحي، واعتبارا لكونه ثنائي التكوين، إن لم يكن ثلاثي التكوين: مادة وروح وعقل، فغياب الروح، جعلت الإنسان الغربي يتقدم في مختلف حياته الدنيوية ويحقق لنفسه نوعا من الرفاه المادي، ولكنه يشعر الآن بنوع من الخواء الروحي، ولعل الكنيسة تحاول الآن أن تملأ هذا الفراغ، الذي بدأ الإسلام في أوروبا يحاول أن يجيب عن كثير من الأسئلة عنه، وقيامها بهذا الدور، ربما أنها شعرت أن الإسلام المنتشر بأوروبا، وبخصوصيته التي لا تحتاج إلى دعاية للانتشار، بدأت تعمل لاستيعاب الإنسان الأوروبي حتى لا يعتنق الإسلام. ونحن نلاحظ أنه عندما يكون معرض للكتاب بأوروبا اليوم، فإن الكتب الإسلامية هي الأكثر بيعا، لأن الإنسان الأوروبي العاقل يجد فيها بعضا من الإجابات لذلك الفراغ العقدي والروحي في نفسه. هناك من يستثمر المنابر الإعلامية للدفع بفصل الدين عن السياسة، كيف تنظرون إلى هذه الدعوات؟ هذه المقولة، التي سميت في كثير من الكتابات الحديثة بالمقولة الإبليسية، هي نظرية ثقافية اجتماعية غربية أنتجها الفكر الغربي، وكانت نتيجة طبيعية لما عاناه العقل الغربي من ظلم الكنيسة وحدها لطموحاته العلمية واستعماله للعقل، بالإضافة إلى أنها أعانت الاستبداد السياسي في أوروبا، فحصلت الثورة عليها، بالإضافة إلى أن المثقفين بالغرب درسوا التوراة والأناجيل، وتبين لهم أنها محرفة وفيها كثير من التضليل، لكن عندنا في الإسلام ليس هناك صراع بين الدين والعلم، أو بين الدين والعقل كما حصل في أوروبا، بل عندنا حرمة واحترام للعقل، لأنه الوسيلة التي استعملها علماؤنا وفقهاؤنا في الاجتهاد الذي كان خصبا وثراء للثقافة الإسلامية، وإذا عرفنا كل هذا، علمنا أن السياسة ومختلف مجالات الحياة هي في صلب حياة المسلم لا تنفصل عن دينه ودنياه، أما وكيف تكون هذه السياسة وتكون الشورى، فهذا يدخل في كل ما يخضع لتطور الزمان والمكان والبيئة. والقول بهذا الانفصال ليس من حقيقة الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال من جملة ما قال: >كان أنبياء بني إسرائيل يسوسون شعوبهم< ونحن لم نعرف خصاما بين السياسة والدين في ثقافتنا إلا بعد مرحلة الاستعمار، فيجب أن نضع هذه النظريات في إطارها الصحيح، فليس هناك قطيعة بين الدين الإسلامي في حقيقته وجوهره وبين السياسة كتدبير لشؤون الأمة. تصدرالمجالس العلمية بعض المذكرات التوجيهية للقيمين الدينيين لتوجيههم، ما هي حقيقة هذه المذكرات؟ وهل هي حد لحريات الوعاظ والخطباء أم شيء آخر؟ نحن في المجلس العلمي المحلي لمدينة فاس، لم نلجأ بعد إلى أسلوب المذكرات والنشرات لتضمينها نوعا من التوجيه للخطاب الديني والمحتويات والمضامين، التي على الخطباء أو الوعظ والمرشدين أن يجعلوها موضوعات لخطابهم الديني، لكن الذي نفكر فيه، وربما يكون عمليا أكثر هو إعداد دراسات علمية اجتماعية عن احتياجات المواطنين ومشاغلهم واهتماماتهم الدينية والدنيوية، وسنتخذ من هذه الموضوعات برنامجا لإعداد دورات تكوينية للخطباء، وتكون لقاءات تواصلية يؤطرها أعضاء من المجلس العلمي وكفاءات علمية وثقافية من أصحاب العلم الشرعي من القرويين خاصة، يكون محورها القرآن والسنة وتكون منطلقا للإجابة عن انشغالات الناس، والتعامل مع الثقافة المعاصرة، لا من حيث مضامينها، بل أيضا بالاعتماد على أساليب تواصلها وتقنيات التعامل مع الآخرين. ونحن نتوفر على خطباء لهم دراية بهذه الاحتياجات كلها، وقد أصبح البعض منهم يمارس هذا النوع من التثقيف الذاتي، لكن نحب تعميمه على الخطب المنبرية. وأومن شخصيا، ومن خلال تجربتي في العمل التربوي، أن أسلوب الحوار والتواصل بين الخطباء والمرشدين والسادة المؤطرين يكون له أبلغ الأثر ويكون أكثر إيجابية من توجيه مذكرات ونشرات، إذ هناك من يقرؤها وهناك من لا يقرؤها، وإذا قرأها البعض لا يعمل بها، وعلى هذا أرى أن أحسن وسيلة يمكن تطوير الخطبة بها هي الحوار وإعادة التكوين والنقد الذاتي للخطاب وسيوفرالمجلس لإنجاح ذلك بعض الإضافات التي يحتاج إليه مستقبلا. طالب الخطاب الملكي بألا تكون المجالس العلمية جزرا مهجورة ما هي الخطة التي تعتمدونها لاستيعاب العلماء غير المنضوين في المجالس؟ حقيقة الخطاب الملكي السامي حول إعادة هيكلة الحقل الديني وتدبيره، الذي وجهه صاحب الجلالة إلى المجالس العلمية يوم 30 أبريل، أشار فيه جلالته، أنه لا ينبغي أن تكون هذه المجالس جزرا مهجورة من لدن العلماء غير الأعضاء بها، بل يجب أن تكون ملتقى للعلماء المتنورين، ونحن في المجلس العلمي لفاس أحببنا أن نجعل حقا من مجلسنا العلمي ملتقى لكل الفعاليات الثقافية والكفاءات العلمية بمختلف مشاربها وتعدد ثقافتها، وعملنا منذ البداية على استقطاب عدد من العلماء والدكاترة الجامعيين في اللجان المختلفة التي تم تكوينها (الثقافية، التكوين الأساسي، توعية المرأة، تزكية الخطباء والمرشدين، تحفيظ القرآن وتجويده...) فظهرت مشاركاتهم الثقافية والعلمية في الأنشطة التي نظمها المجلس واضحة، وتجلى هذا بخاصة في ما قمنا به من محاضرات ولقاءات، حيث إننا فوجئنا على قصر عمر المجلس بحضور هذه الكفاءات العلمية، وجاءت إلينا، خاصة بعدما بلغها أن نشاطنا الثقافي مفتوح ومتنوع، كفاءات محلية تريد المشاركة في النشاط الثقافي العام. أما على مستوى علماء جامعة القرويين بخاصة،التي نوليها اهتماما كبيرا، فإن أغلب العلماء، ولله الحمد، يشاركون معنا في الاهتمام بثقافتنا الإسلامية، ونعمل على تطوير برامجها ومناهجها ونحن الآن نضع مخططا مضبوطا نحاول من خلاله أن نستوعب مختلف الكفاءات العلمية، وهذا سيظهر في الدخول العلمي المقبل في عمل المجلس، ولا تستغرب أن المحاضرات التي تنظم بالمجلس يحضرها جمهور غفير من المثقفين لوجود ما يلبي طموحهم، وقد أخذوا يقدمون لنا مشاريعهم ومشاركتهم العلمية والثقافية، وهذا سيتبلور مستقبلا إن شاء الله، وسنكون عند حسن ظن أمير المؤمنين عندما نحقق هذه الرغبة الأكيدة، لأنه طموح علمي وديني واجتماعي وحضاري، وسنكون في الواقع قد حولنا هذه المجالس لتصبح منتديات للعلماء. هناك حملة إعلامية استطاعت التأليب على بعض الخطباء والعلماء، ما هي استراتيجية المجلس للتعامل مع مثل هذه الحملات؟ نحن، في المجلس العلمي بفاس، نرى أن تعامل بعض أفراد المجتمع مع بعض السلوكات والمعاملات جاء نتيجة الثقافات المنتشرة في المجتمع، وأعتقدوا أنها سليمة ويمكن أن يعايشوها، لكن بعض هذه الممارسات غير سليمة في جانبها الشرعي، ونرى أن معالجة هذه القضايا هو أن نحاول التذكير ونشر الثقافة الشرعية الإسلامية الصحيحة وإظهار جوانب كانت غائبة عن المجتمع، وإذا تم التذكير بها، ونشرناها وأصبحت من حياة المسلم وثقافته الدينية والاجتماعية نكون قد عملنا بالمثل القائل: لئن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام، بمعنى أن الاستراتيجية التي ينبغي سلوكها هي التذكير واستحضار القيم والأخلاق الإسلامية ونشرها بشكل منظم ومدروس وعبر أولويات في المجتمع المغربي. وإذا تم نشر هذه الإيجابيات وحققنا كل هذه الآمال، التي نخطط لها وتشبع بها المواطن المغربي، سوف يبدأ هو بنفسه بتقويم ما يتعرض له العلم الشرعي والعلماء والخطباء والمثقفون بصفة خاصة من حملات التي تريد صد الناس عن طريق دينهم الصحيح، وسوف يعرفون أن ما يقوم به العلماء والفقهاء ورجال الثقافة الشرعية هو الذي سيبلور حقيقة الإسلام. وإذا استطعنا مستقبلا السير في هذه الاستراتيجية وأن تصبح القيم والأخلاق جزء من ثقافة المسلم، بحيث لا يستطيع الاستغناء عنها، إذ ذاك ستكون كل الحملات التي توجه ضد العلم الشرعي وضد الخطباء أو كراسي الوعظ والإرشاد لا أثر لها في نفسية المواطن الذي يكون قد تشبع بثقافة شرعية أصيلة متجددة تربط التراث بالثقافة المعاصرة، وإذا حققنا هذا الطموح فستضمحل هذه الحملات بذاتها، وحتى إذا استمرت لن تكون لها الآثار التي يرجو لها أصحابها. فعلينا أن نفكر بجد في وضع استراتيجية منظمة لتثقيف المواطن المغربي المسلم بالثقافة الإسلامية الصحيحة التي تمكنه من التمييز بين ما هو في حاجة إلى تقويم وبين ما هو مجرد ادعاءات وكلام يقصد به التأثير على الرأي العام الوطني أو الديني خاصة. كلمة أخيرة: من خلال ما وقفت عليه في النصوص المنظمة للمجالس العلمية ومن خلال قراءتي المتعددة لخطاب الملكي والندوات التي عقدها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وكذلك محاضرات الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى يتبين أن الرهان على الوظائف التي أنيطت بالمجالس العلمية هي عظيمة إذا استطعنا التخطيط لها وفق استراتيجية منظمة محليا ووطنيا، وسنحقق لهذا البلد نقلة نوعية في ثقافتنا الإسلامية وللعلم الشرعي، الذي يجب أن يحضر في المجتمع وثقافته، كما نريد أن نصالح المغربي مع دينه ودنياه ويكون الدين الإسلامي موجها له، لا في سلوكه الديني فحسب، ولكن في سلوكه الدنيوي، كما كان من قبل، وبهذه الاستراتيجية سوف نسترجع للعلماء والفقهاء والخطباء حرمتهم وهيبتهم ووقارهم، لأن كل هذا مرهون بطبيعة الثقافة التي ننشرها في المجتمع المغربي وتصبح أداة مؤثرة لا في مسجده فحسب، بل في عقله وشعوره وفي كلما يتصل بحياته، ونكون قد استجبنا لما خطط له صاحب الجلالة نصره الله في الحقل الديني وأعطينا لهذا الحقل المفهوم الصحيح الذي يجب أن يكون له. وشكرا لكم. حاوره : عبدلاوي لخلافة