صلاة الجمعة فريضة نص عليها القرآن الكريم الذي يقول: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله و ذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون». ولهذا تكتظ المساجد بالمصلين يوم الجمعية، وتمتلئ في حالات كثيرة حتى أفنيتها وجنباتها. ومن شروط صلاة الجمعة الاستماع إلى خطبة يلقيها الخطيب. إنه شيء جميل أن يستمع المصلون، بخشوع وتدبر، إلى خطبة كلها وعظ وتوجيه وحمد لله وصلاة على سوله. لكن هل هذا هو مضمون خطب الجمعة؟ ليس من الضروري حضور كل خطب الجمعة التي تلقى بمساجد المملكة بالمغرب، للجزم أن مجموعة من هذه الخطب تبتعد كثيرا عن المضمون الديني والروحي المفترض في خطبة الجمعة، لتتحول إلى خطابات تمارس السياسة الصغرى، وأقصد بها السياسية التي تفرّق وتباعد، تسبّ وتهجو، تحرّم وتمنع، تكفّر وتلعن، تهدد وتتوعّد، تحرّض وتهيّج، تنشر الكراهية والضغينة والتطرف، تختار العسر وتغفل اليسر، تزرع الفزع والخوف، تعارض الحداثة وأسباب التقدم، تسفّه الديموقراطية وتعادي حقوق الإنسان، تصفّي الحسابات الشخصية وتخلق الأعداء الوهميين... في حين أن المطلوب، ما دام لا يمكن دائما فصل الدين عن السياسة كما في المغرب، أن تكون خطبة الجمعة مناسبة لممارسة السياسة الكبرى، أي تلك عكس السياسة الصغرى التي تجمع وتوّحد، تصالح وتقارب، تزرع الأمن والسكينة، تهدّئ النفوس وتطمئن القلوب، تيسّر ولا تعسّر، تسهّل ولا تصعّب، تدعو إلى الودّ والمحبة، تنشر الرحمة والسلام والتسامح، تناصر حقوق الإنسان وتدافع عن قيم الحداثة والديموقراطية والتقدم... فهناك بعض أقول بعض الخطباء لا يتورعون عن التحريض على من يخالفهم الرأي، فيجعلون من مهاجمته والتأليب ضده موضوع خطبهم، كما فعلوا عندما سبّوا الأستاذ عصيد على منابر الجمعة، أو كما يفعل آخرون عندما يهاجمون الأمازيغية ويصفون المدافعين عنها بأنهم أصحاب "دعوى ضالة"، كما قال أحد هؤلاء الخطباء في أحد مساجد الناظور منذ ثلاث سنوات. وهناك مفاهيم وألفاظ تتردد لدى بعض الخطباء بشكل متكرر، مثل "الجهاد"، الكفار"، "المشركون"، "أعداء الإسلام"... كأننا لا نزال في بداية ظهور الإسلام بمكة في عهد الرسول (صلعم)، حيث كان الكفّار والمشركون وأعداء الإسلام يحاربون الدعوة المحمدية. ففي غياب شجاعة حقيقية في تناول موضوعات حقيقية تهم المسلم المغربي، يُظهر هذا البعض من الخطباء شجاعة فائقة في التنديد ب"المشركين" الوهميين، و"الكفّار" المتخيلين، و"أعداء الإسلام" غير الحقيقيين. أقول "أعداء الإسلام" غير الحقيقيين، لأن الحقيقيين منهم موجودون ومعروفون، لكن هذا البعض من الخطباء يتجنبون الحديث عنهم، أو الإشارة إليهم، أو التنديد بهم كما يفعلون بأعداء الإسلام غير الحقيقيين. فمن هم أعداء الإسلام الحقيقيون اليوم في المغرب؟ أليس ناهبوا المال العام هم أعداء للإسلام، الذي يحرّم هذا النهب، وأعداء للوطن والمواطنين ضحايا هذا النهب؟ فلماذا لا يتحدث هذا البعض من الخطباء عن ناهبي المال العام، ويبيّنوا ما أعد الله لهم من عذاب، ويدعوا إلى فضحهم والتنديد بهم؟ هؤلاء هم "أعداء الإسلام" الحقيقيون الذين يهمّ المسلمَ المغربيَّ الكشفُ عنهم والتشهير بهم، وليس "الولاياتالمتحدة" ولا "الغرب" الذي يصفه هذا البعض من الخطباء بأنه "عدو الله"، مع أن بفضل تكنولوجية هذا الغرب وجد ذلك الخطيب جهاز مكبر الصوت، الذي يستعمله لسبّ هذا الغرب بشكل مسموع على بعد عشرات الأمتار. وكم يطنب هذا البعض من الخطباء في الكلام عن "الانحلال الخلقي" الذي يعيشه الغرب، حسب زعمهم، والذي يسميه هذا الغرب، كما يشرح هؤلاء الخطباء، "الحرية" و"العلمانية" و"حقوق الإنسان"، مستشهدين بإباحة الشذوذ الجنسي، وسفور المرأة وحقها في التصرف في جسدها بكل حرية، ومشاهدة الأفلام الخليعة...، متباهين أن الله يحمي المسلمين من هذا "الانحلال الخلقي" المدمّر الهدّام. لنفرض، مسايرة لهؤلاء الخطباء مع أن ذلك غير صحيح قطعا ، أن هذا "الانحلال الخلقي" غير موجود بدول إسلامية مثل المغرب. لكن ما الأكثر انحلالا في الأخلاق، بالنظر إلى آثاره الفتّاكة على المجتمع والاقتصاد والحكامة والدولة، الشذوذ الجنسي وسفور المرأة ومشاهدة الأفلام الخليعة، أم تزوير الانتخابات، واختلاس أموال الشعب، وتعاطي الرشوة والفساد، وممارسة الظلم والاستبداد، واحتكار السلطة والثروة، واعتماد الديكتاتورية والحكم الفردي اللاديموقراطي منهجا للحكامة وتسيير الشؤون العامة...؟ ما هو الشذوذ الجنسي الأكثر خطورة على الدولة والمجتمع والهوية والدين والأخلاق؟ الشذوذ الجنسي للأفراد أم الشذوذ الجنسي لدولة بكاملها غيّرت جنسها الأمازيغي الإفريقي بجنس عربي أسيوي؟ هذا هو الانحلال الخلقي الأكبر، المنتشر، ليس ببلدان الغرب، بل في بلدنا المغرب. لكن هذا النوع من الخطباء يتجنبون، كعادتهم، الكلام عن هذا الانحلال الخلقي الأكبر الذي يخص الدولة والحكم، ليركزوا على الانحلال الخلقي الأصغر، الذي يخص الأفراد والأشخاص، وهو شيء موجود ومنتشر عندنا أيضا. هذا البعض من الخطباء لا يفعلون أكثر من ترديد تلك الأفكار العامّية والخاطئة، المنتشرة عن الغرب الذي "لا أخلاق له ولا دين". لكن عندما تحلل واقع بلدنا، وخصوصا فيما له علاقة بما هو عمومي يخص الشعب والهوية والمجتمع والدولة والحكامة والمال العام، نجد أن الابتعاد عن مقاصد الدين وانتهاك الأخلاق حاضران لدينا، كانحلال خلقي سياسي وشذوذ جنسي هوياتي، أكثر من حضورهما بدول الغرب التي اختفى بها هذا الانحلال الخلقي الأكبر. ولأن هؤلاء الخطباء لا يجرؤون على إثارة الانحلال الخلقي الأكبر، فإنهم يخصصون خطبهم للكلام في الهوامش والتوافه والصغائر، أي في الانحلال الخلقي الأصغر، المتفرع عن السياسة الصغرى التي تدور حولها خطبهم، مع تعليق كل الشرور على سفور المرأة وعدم التزامها بالحشمة والحجاب، وهو الموضوع الذي لا تكاد تخلو منه أية خطبة لدى هذا البعض من الخطباء. وعلى ذكر موضوع المرأة في علاقته بخطب الجمعة، أشير إلى ما جاء في خطبة يوم الجمعة الأخير من رمضان الماضي (2013) بأحد مساجد سلوان (تبعد عن الناظور ب12 كلم)، حيث نعت الخطيب النساء اللواتي يتعطّرن عندما يخرجن من منازلهن ب"الزانيات"، موردا الحديث الذي يقول: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية»، ثم استفاض في شرح الحديث، مؤكدا أنه حديث صحيح، وموضحا أن صفة "الزانية" للمرأة التي تستعمل العطر، حكم ملازم لها ولا يمكن تغييره لأنه حكم للنبي (صلعم). لا شك أن كثيرا من المصلين شعروا، مثلي، أن الخطيب يسبّهم ويمسّهم في أعراضهم وكرامتهم، لأنه قد يستحيل أن يوجد مصلّ بذلك المسجد ليست له أمّ أو زوجة أو أخت أو بنت سبق لها أن استعملت عطرا وهي تغادر البيت. فهل كان من الضروري أن يثير الخطيب موضوع تعطّر المرأة، وبهذا الشكل المباشر، الفظ الغليظ، والمحرج للمصلين والمصليات اللواتي وضعت العديد منهم الطيب أو العطر عند خروجهن من البيت إجلالا لقدسية المسجد ولصلاة الجمعة، دون أن يخطر ببالهن أن الخطيب سيجعل منهن زانيات وعاهرات؟ أليس هذا خطْبا (بتسكين الطاء) وليس خطبة؟ وعلى فرض أن هذا حديث صحيح، كما قال الخطيب، فهل لا بد من التطبيق الحرفي لمضمونه لتبقى صفة "الزانية" مرادفة للمرأة المتعطّرة خارج بيتها، لأنه كلام النبي (صلعم) كما جاء في تعليق الخطيب؟ وماذا يقول هذا الخطيب عن الحدود الشرعية التي قررها القرآن الكريم للسارق والزاني؟ هل تطبق هذه الحدود بالمغرب؟ طبعا لا. فلماذا ألغي تطبيقها بالمغرب رغم أنها أحكام إلهية قرآنية يقينية ({وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا...}، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ})، وليست مجرد كلام للنبي (صلعم) اختلف الكثيرون في صحة نسبته إليه؟ إذا كان المغرب لا يلتزم بالحدود الشرعية التي أوجبها القرآن، دون أن يجعل منه ذلك بلدا غير مسلم، فلماذا تصبح المرأة زانية لمجرد أنها خالفت قولا للرسول (صلعم) فيه نقاش ونظر؟ إذا كانت هذه المرأة "زانية"، بمنطق هذا الخطيب، فعليه إذن، حتى يكون موقفه منسجما وغير متناقض، أن يعلن، ومن أعلى المنبر الذي يتهجم فيه على المرأة بسبب قطرة عطر، أن المغرب دولة كافرة لأنها لا تلتزم بشرع الله الذي غيّرته بشرع البشر، أي بالعقوبات الوضعية المطبقة على السارق والزاني. نعرف أن غالبية ربات البيوت يقضين الجزء الأكبر من وقتهن داخل المطبخ، الذي هو مكان لتجمّع مختلف الأدخنة والأبخرة والروائح، ومنها ما هو كريه لا يزول بسرعة وسهولة، مثل الرائحة التي تنتج عن تنظيف الدجاج أو الأسماك. ولهذا تلجأ هؤلاء النساء، عندما يخرجن من بيوتهم لقضاء بعض الأغراض، إلى استعمال العطر لإخفاء روائح المطبخ غير المرغوب فيها، أو فقط لمقاومة رائحة العرَق في فصل الصيف، وما تسببه من إحراج للمرأة، وحتى للرجال. فأين هو الزنا في هذا الاستعمال للعطر؟ إن هذه الحالة، التي اختار فيها الخطيب حديثا منسوبا للرسول (صلعم) يحكم على المرأة المتعطرة بالزانية، مع شرح حرفي لا "تفاوض" فيه، هي نموذج لاستعمال الدين لأغراض السياسة الصغرى، وهي المتمثلة هنا، كما سبق شرح ذلك، في توعّد المرأة المتعطّرة وترويعها والتشهير بها كزانية، وفي إبراز الإسلام كدين حظر ومنع وتشدد... وسبق لنفس الخطيب، وكما يفعل الكثيرون غيره، أن أثار مرارا موضوع الحجاب، شارحا أنه فريضة على النساء المسلمات، وأن المرأة السافرة هي امرأة لا تصون عرضها، تعصي أمر الله، وتثير الفتنة والرغبة في الحرام، ويستعملها الشيطان للغواية والضلال. عندما نسمع هذا النوع من الخطب من أعلى منابر الجمعة، وفي بلد يحكمه أمير المؤمنين، يلتبس علينا الأمر ونحتار ولا نعرف ما نختار. لماذا؟ لأن هذا الخطيب، بعد أن يكيل للمرأة التي لا تضع حجابا كل أنواع الذم الذي يربطها بالضلال والغواية والشيطان، والفتنة والرغبة في الحرام، يختم كل ذلك بالدعاء لأمير المؤمنين حامي الملة والدين. فما هذا التناقض وما هذا النفاق؟ لماذا أعتبر ذلك تناقضا ونفاقا؟ لأن أمير المؤمنين، الذي يدعو له الخطيب ويعتلي المنبر باسمه، له زوجة وأخوات لا يضعن حجابا على رؤوسهن. فهل هناك من هو أحرص على حماية الدين وصون الأعراض والتزام حدود الله من أمير المؤمنين، وبشهادة الخطيب الذي يدعو له؟ فلو كان يرى في سفور الأميرات أمرا معارضا للدين وللأخلاق، لفرض الحجاب عليهن. فمن نصدّق ومن نتّبع؟ هل نصدّق ونتّبع الخطيب الذي يشيطن المرأة غير المتحجبة، أم أمير المؤمنين الذي لا يرى الحجاب فريضة دينية وإلا لأوجبه على زوجته؟ فممن ستقتدي نساؤنا وبناتنا؟ بالزوجة غير المتحجبة لأمير المؤمنين، حامي الملة والدين كما يعترف بذلك كل الخطباء في دعائهم للملك، أم بالمرأة كما يريدها ويتصورها خطيب وخطاب الحجاب؟ فالمنطق يقضي أن تكون المرأة الأولى، باعتبارها السيدة الأولى للمملكة، هي القدوة والنموذج، لأنها زوجة «أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين» كما ينص على ذلك الفصل 41 من الدستور. ومن جهة أخرى، وحتى لا يكون هناك تناقض في موقف الخطباء الرافضين لسفور المرأة، إذا كان هؤلاء الخطباء مقتنعين بأن المرأة غير المتحجبة امرأة لا تصون عرضها، تعصي أمر الله، وتثير الفتنة والرغبة في الحرام، ويستعملها الشيطان للغواية والضلال كما يكررون دائما، فلماذا يدعون لملك لا ينهى عن منكر زوجته والسفور منكر كما يقول لنا هؤلاء الخطباء ليفرض عليها الحجاب باعتباره حامي حمى الملة والدين؟ بل كيف يجوز لهؤلاء الخطباء أن يدعوا لملك زوجته يستعملها الشيطان للغواية والضلال كما يقولون عن المرأة غير المتحجبة؟ هذه هي التناقضات والمآزق والإحراجات التي يقع فيها بعض الخطباء بسبب السياسة الصغرى التي يمارسونها بإثارتهم لموضوعات تافهة، فارغة وشكلية، لا تنفع ولا تجدي، مثل مسألة الحجاب. البعض الآخر من الخطباء يتخذون من المهرجانات التي تنظم في العديد من المدن في فصل الصيف، موضوعا لخطبهم التي يتهجمون فيها على هذه المهرجانات التي يصفونها بمهرجانات العهر والفجور والفاحشة والشيطان، مقدّمين، مرة أخرى، الإسلام كدين لا يقبل الفرجة والفرحة والغناء والمرح... إن ما نؤاخذه على هذا النوع من خطب الجمعة، ليس انتقادها للمهرجانات في حد ذاته، وإنما حصر هذا النقد في السياسة الصغرى التي تربط هذه المهرجانات بالعهر والفجور والفاحشة والشيطان، متغاضية عن السياسة الكبرى، التي تهم المواطنين، والتي كان يجب أن تتناول تبذير المال العام مال هؤلاء المواطنين في هذه المهرجانات، هذا المال الذي كان يفترض استعماله لخدمة ومصلحة المواطنين، مثل توفير الإنارة العمومية في الأماكن التي تحتاج إليها، أو توفير الأطر والتجهيزات الطبية بالمستشفيات العمومية، أو توفير الموارد البشرية في الإدارات التي تعاني من خصاص في هذه الموارد، أو تزفيت الطرق العمومية.. إلخ. وهذا ما تحدث عنه خطيب مسجد بدر بالناظور يوم الجمعة 23 غشت عندما قال في خطبته بأن المرضى لا يجدون أطباء ولا أدوية ولا أسرّة ولا آلات لتصفية الكلي بالمستشفى العمومي بالناظور، بسبب نقص في الأطر والأدوية والأسرّة والتجهيزات، ومع ذلك يقام مهرجان تنفق فيه أموال طائلة على الرقص والغناء بدل تخصيصها لتحسين الخدمات الطبية بالمستشفيات. والتطرق للمهرجانات، أو غيرها من الموضوعات، لكن في إطار السياسة الكبرى، لا يُخرج الخطبة عن سياقها الديني عندما يشرح فيها الخطيب الأحكام الشرعية في ما يخص تبذير المال العام في ما لا يعود بالنفع على المسلمين، وما ينتظر المسؤولين عن ذلك من حساب أمام الله. خطباء آخرون لا يجدون حرجا في التهجم، ليس على المهرجانات فحسب، بل على أجهزة التقاط البرامج التلفزيونية (البارابولات)، كما فعل خطيب بحي الداوديات بمراكش يوم الجمعة 23 غشت 2013، حسب ما نقله موقع "كود goud.ma"، والذي توعد المصلين بحساب عسير ينتظرهم أمام الله بسبب توفرهم على البارابول. أليس هذا خطْبا (بتسكين الطاء) وليس خطبة كما سبق أن قلت؟ تحدثت عن خطباء وأمثلة من مضامين خطبهم، مع التنصيص كل مرة على كلمة "بعض"، تأكيدا أن الأمر يتعلق بقلة من الخطباء. لكن الآن سأتحدث عن نوع من الخطباء دون استعمال لفظ "بعض"، لأنهم يشكّلون كثرة. هؤلاء الخطباء الكثيرون هم الذين لا ينسون الدعاء المعروف على "الأعداء": «اللهم اجعل أموالهم ونساءهم غنيمة للمسلمين». فهل تأمل هؤلاء الخطباء في دلالة هذه العبارة؟ هل حللوها ليروا هل هي مطابقة لمبادئ الإسلام وتعاليمه؟ لماذا هذه الأسئلة؟ لأن تعامل المنتصر مع نساء العدو كغنائم حرب عمل لاإنساني تجرّمه القوانين الدولية المتعلقة بأسرى الحرب، وتمنعه الأخلاق، وفيه انتهاك جسيم لحقوق الإنسان ودوس على كرامته، وقد يعرّض المسؤولين عنه للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. لهذا فإن هذا التعامل اللاإنساني مع نساء المنهزم كغنائم، هي ممارسة بدائية وهمجية لا تختلف عن أعمال قطّاع الطرق في الجاهلية، الذين كانوا يعترضون سبيل القوافل ويغيرون على الخيام لاختطاف النساء والتصرف فيهن كغنائم. فهل بهذه الصورة المخيفة والهمجية، المتخلفة واللاإنسانية، البدائية والجاهلية، التي تسوّقها عن الإسلام هذه الأدعيةُ النارية للخطباء، سيدافع هؤلاء عن هذا الإسلام؟ أليس في مثل هذه الأدعية إساءة واضحة وصارخة للإسلام الذي تقرأ هذه الأدعية الجهنمية باسمه؟ أليس هذا خطْبا (بتسكين الطاء) وليس خطبة، كما قلت؟ من حسن الحظ أن الله لا يستجيب لهذه الأدعية التي تردد في المئات من المساجد، لأن الاستجابة لها تعني استباحة نساء الغير المعتبر عدوا، والعبث بالأعراض، وانتهاك المحرمات التي نهى الله عنها. وبالمقابل نجد اليهود، المعنيين على الخصوص بهذه الأدعية، يحتلون أرض فلسطين. لكن لا يتعاملون مع النساء الفلسطينيات كغنيمة مستباحة. فبعد أزيد من نصف قرن من احتلال فلسطين لم نقرأ ولم نسمع أن جنديا إسرائيليا اغتصب فلسطينية وعبث بعرضها لأنها غنيمة حرب، علما أن ذلك لو حدث، فإن السلطات الإسرائيلية ستعاقب الجندي المعتدي طبقا للقانون، كما فعلت السلطات الأمريكية مع بعض جنودها بأفغانستان والعراق. فرغم أن إسرائيل معتدية ومحتلة وغانمة للأرض وما تحويه من خيرات، إلا أنها لم تعامل نساء هذه الأرض كغنيمة، كما يتمنى صنف من خطباء المغرب أن يفعلوا بنساء العدو، وبمساعدة من الله. ما هو المضمون الديني والروحي الذي يستفيده المواطن المسلم من دعاء يقول: «اللهم أهلك الكفرة والمشركين وأعداء الدين، اللهم فرق جموعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم خرب ديارهم، اللهم أهلك زرعهم...»؟ ألا يحرّض هذا الدعاء على كراهية الأقوام والشعوب الأخرى المختلفة في الدين واللغة والثقافة؟ ألا يزرع ثقافة العداء والتباغض والتحارب؟ ألا يخلق شروط تكفير وشيطنة كل رأي مغاير لرأي أصحاب هذا الدعاء؟ مع أن الدعاء المناسب لحالة المغرب، والذي يهم المواطن ويفهمه لأن له علاقة بما يعيشه ويعانيه ويراه، والذي كان يجب على الخطباء أن يدعوا الله الاستجابة له، هو: «اللهم أهلك ناهبي المال العام، والمرتشين الفاسدين، ومزوري الانتخابات، والظالمين المستبدّين الطغاة، وأعداء الديموقراطية وحقوق الإنسان، والمنتهكين لكرامة المواطنين، والمتسببين في غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، ومستعملي الدين لأغراض السياسة الصغرى...». وعندما نسمع الخطيب يقول: «اللهم انصر المسلمين في أفغانستان والعراق وفلسطين ومصر وسوريا...»، قد يتبادر إلى أذهانا التساؤل التالي: من هم المسلمون الذين يدعو الخطيب الله أن ينصرهم: هل المسلمون الطالبان بأفغانستان أم أعداؤهم المسلمون الموالون للرئيس حامد كرزاي؟ هل المسلمون السنة أم أعداؤهم المسلمون الشيعة بالعراق؟ هل مسلمو حماس أم أعداؤهم مسلمو فتح بفلسطين؟ هل المسلمون الموالون للرئيس المخلوع بمصر أم أعداؤهم المسلمون الموالون للجنيرال السيسي؟ هل المسلمون المشكّلون للمعارضة بسوريا أم أعداؤهم المسلمون الموالون للرئيس الأسد؟ لماذا هذه الأسئلة الثنائية؟ لأن اليوم لا يوجد مسلمون في مواجهة كفار ومشركين وأعداء لله معروفين كما كان الأمر في معركة بدر، بل يوجد مسلمون في مواجهة مسلمين، كما في أفغانستان والعراق وفلسطين ومصر وسوريا، مع إعلان كل فريق الحرب على الفريق الخصم باسم الإسلام. فمن أحق بنصر الله؟ هذا الفريق المسلم أم ذاك؟ إن خطورة خطبة الجمعة لا ترجع فقط إلى أنها موجهة إلى مئات المصلين، بل لأنها كلام معفى من أي نقاش أو حجاج أو رد. فإذا كان من الطبيعي أن لا نتفق مع كل أفكار هذه الخطبة للجمعة أو تلك، كما لا نتفق مع كل الأفكار التي استمعنا إليها في هذه المحاضرة أو تلك، إلا أن الفرق وليس بالهيّن بين الخطبة والمحاضرة هو أن الأولى لا تناقش، في حين أن الثانية يفتح فيها عادة، بعد الانتهاء من إلقائها، باب المناقشة والردود. لا أقصد بهذه المقارنة القول بأن خطبة الجمعة يجب أن تخضع هي أيضا، مثل المحاضرة، للنقاش والردود. لا، أبدا. لأن هذا غير وارد ولا ممكن ولا مناسب ولا حتى متصوَّر بالنسبة لخطبة الجمعة. وإنما ما أقصده هو تبيان خطورة خطبة الجمعة كخطاب في اتجاه واحد، من الخطيب إلى المصلي المتلقي. وهذا ما تكون له نتائج خطيرة: فإذا كانت الخطبة تضمّ أفكارا غير صحيحة، وغير سليمة، وبعيدة عن الحقيقة والصواب، فإن الكثير من المصلين، ولغياب مناقشة تكشف عما قد تتضمنه هذه الخطب من ثغرات ونواقص كما يحدث بالنسبة للمحاضرات العادية، قد يعتبرون كلام الخطيب هو الحقيقة كاملة، يرددونها ويستشهدون بها وقد يطبقونها بالقيام بأعمال "جهادية" عندما تكون تلك الخطب تدعو إلى "الجهاد". كل هذا يبيّن الخطورة الكبيرة التي تكتسيها خطبة الجمعة، مما يفرض عدم تركها في أيدي متهورين مندفعين، ومتعالمين متفيهقين، ومتعالين متعجرفين. هكذا تحوّلت بعض خطب الجمعة إلى خطْب (بتسكين الطاء) حقيقي كما لو أنها خطَب خاصة بمساجد الضرار التي أشار إليها القرآن الكريم: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ». في الحقيقة، تشكّل هذه الخطَب خطْبا (بتسكين الطاء) لأن المرجعية التي تنهل منها لا تزال هي مرجعية الأمويين، الذين جعلوا من خطبة الجمعة أداة سياسية فعالة لمواجهة خصومهم والتشهير بهم ولعنهم فوق منابر الجمعة (لعن علي وذريته). ومنذ ذلك الوقت ابتعدت خطبة الجمعة عن السياسة الكبرى، التي تهمّ كل الأمة، لتنحصر في السياسة الصغرى التي قلنا إنها تفرّق وتباعد، تسبّ وتهجو، تكفّر وتلعن، تهدد وتتوعّد...، بجانب دفاعها عن الحكام وتبرير استبدادهم وتسلطهم. منذ التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء يوم 16 ماي 2003، ونحن نسمع الحديث عن إصلاح الحقل الديني. لكن هذا الإصلاح، ما لم يحرر خطبة الجمعة من مرجعيتها الأموية، أي من السياسة الصغرى، لتعود أداة دينية وروحية لممارسة السياسة الكبرى التي تهم كل الشعب، وكل الوطن، وكل الأمة، فإن ذلك الإصلاح لن يكون إلا وجها آخر لنفس السياسة الصغرى بخصوص الاستعمال السياسي للدين. إن خطبة الجمعة تقدّم وتلخّص فهما خاصا للدين. هذا الفهم الذي يمكن أن يكون عامل تطرف وتخويف وتفرقة وبغضاء وتخلف...، أو عامل تسامح وطمأنينة ووحدة ومحبة وتنمية... نعم الدين قد يكون عاملا قويا للتنمية أو التخلف حسب فهمنا وممارستنا لهذا الدين. وكمثال على ذلك نشير إلى الدين المسيحي الذي ظل لقرون طويلة عائقا أمام نهضة أوروبا. لكن بمجرد قيام إصلاح ديني داخل المسيحية نفسها (البروتستانتية) حتى أصبحت الطريق إلى النهضة والتقدم متيسرة وسهلة. وقد بيّن السوسيولجي والاقتصادي الألماني "ماكس فيبر" Max Weber، عام 1905، في مقالته "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" (L'éthique protestante et l'esprit du capitalisme) كيف أن الفهم البروتستانتي الخاص لفكرة الخلاص في المسيحة كان وراء نشأة الرأسمالية بأوروبا، مع ما صاحبها من نهضة علمية وصناعية وديموقراطية. إذا كان الإسلام لا يمكن فصله، اليوم، عن السياسة في دولة كالمغرب، فهذا ليس مانعا ليكون عامل تنمية وتقدم، لأنه يكفي أن ننتقل به من السياسة الصغرى، ذات المرجعية الأموية كما سبقت الإشارة، إلى السياسة الكبرى التي تهم كل الشعب وكل الوطن وكل الأمة كما قلت. وكما أن خطبة الجمعة كانت هي الأداة الدينية التي أدخلت الإسلام في السياسة الصغرى منذ الأمويين، فكذلك لا يمكن أن يخرج من هذه السياسة الصغرى إلى السياسة الكبرى إلا بإصلاح جذري لخطبة الجمعة.