2/2 عندما طالت فتاوى المشايخ الرسم الكاريكاتيري باعتباره ضربا من التصوير، صاغت حكمها فيه على منوال الرؤية الفقهية التقليدية المعادية للنزعة "الأنتروبومورفية" القائمة على الرسوم التشبيهية بالإنسان، وهي نزعة يكرهها الإسلام بشدة، إذ تتنوع صيغ الفنون التشكيلية عادة بين التشخيص والتجريد، يرادفهما إسلاميا التشبيه والتنزيه، لكن هناك فتاوى فقهية لائمة ومشايخ من المتقدمين والمتأخرين مغايرة لما ذهبت إليه الرؤية التقليدية، نورد منها نموذجا ونقيضه؛ النموذج السائد المدعي امتلاكه للحقيقة المطلقة، والآخر المتعارض معه، المقصى من التداول، وذلك بما يتسع له المقام دون إخلال ولا ابتسار. في سؤال وجه للشيخ ابن باز: "ما حكم الرسم الكاريكاتيري الذي يشاهد في بعض الصحف والمجلات، ويتضمن رسم أشخاص؟". جواب الشيخ:" الرسم المذكور لا يجوز، وهو من المنكرات الشائعة التي يجب تركها لعموم الأحاديث الصحيحة، الدالة على تحريم تصوير كل ذي روح سواء بالآلة أو باليد أو غيرهما". ومن ذلك ما رواه البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة، رضي الله عنه أنه قال: "نهى النبي (ص) عن ثمن الكلب، وثمن الدم، ونهى عن الواشمة والموشومة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور". إلى آخر ما جاء في جواب الشيخ المعزز بأحاديث من الصحيحين وآية قرآنية كما تضم ذلك: "مجموعة فتاوى الشخ ابن باز" (343 28). كما ورد في فتوى أخرى بعنوان: "حكم التصوير في الإسلام" للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء التي يرأسها الشيخ ابن باز، والمنشورة بموقع "ملتقى أهل الحديث" على النت ما يلي: "الأصل في تصوير كل ما فيه روح من الإنسان وسائر الحيوان أنه حرام، سواء كانت الصورة مجسمة، أو رسوما على ورقة أو قماش أو جدران ونحوها"، أو كانت صورا شمسية، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من النهي عن ذلك، وتوعد فاعله بالعذاب الأليم، ولأنها عهد في جنسها أنه ذريعة إلى الشك بالله بالمثول أمامها والخنوع لها والتقرب إليها وإعظامها إعظاما لا يليق إلا بالله تعالى، ولما فيها من مضاهاة خلق الله، ولما في بعضها من الفتن كصور الممثلات والنساء العاريات وأشباه ذلك"، إلى آخر هذه الفتوى الساردة لعدد من المرويات التي رواها أصحابها عن النبي، وهم بالتتالي: ابن عمر، البخاري، مسلم، أبو هريرة، عائشة، ابن عباس، ومنها الحديث الشهير لابن مسعود: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون". إلى آخر فتوى أوردتها لجنة الشيخ ابن باز القائلة: "فدل عموم هذه الأحاديث على تحريم تصوير كل ما فيه روح مطلقا، أما ما لا روح فيه من الشجر والبحار أو الجبال أو نحوها فيجوز تصويرها"( أه ."1/663 665 رقم 2036). أما الرؤية المختلفة عما ورد في فتوى ابن باز والمتعارضة مع فتوى اللجنة التي يرأسها، فتضمنتها فتوى شهيرة للشيخ محمد عبده (مفتي الديار المصرية سابقا) القائلة: "إن الذين قالوا بمنع التصاوير وقفوا جامدين في قوله (ص): "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون"، وفات هؤلاء أن الحديث ينصرف إلى ذلك التصوير الذي شاع في الوثنية، والذي كان القصد فيه تأليه بعض الشخصيات. أما ما جاء لغير ذلك من تصاوير قصد بها إلى المتعة والجمال فلا يحمل قول الرسول عليه" :( تاريخ الشيخ محمد عبده لرشيد رضا. م.ج.2 ص :498 501. م: "المنار"). كما يقول محمد عبده في فتوى أخرى نشرت بمعظم الصحف العربية مستهل عشرينيات القرن الماضي بعنوان: "الصورة والتماثيل وفوائدها وحكمها" ما يلي: "وبالجملة أنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل": (كتاب: الفنون الجميلة، ت: السيد أحمد يوسف ط:1922). كما تندرج ضمن سياق رؤية الشيخ الإمام محمد عبده فتاوى مماثلة نورد منها مثلا فتوى للشيخ رشيد رضا تقول: "ومن يقول إن علة تحريم التصوير واتخاذ الصور هو محاكاة خلق الله تعالى يلزمه تحريم تصوير الشجر والجبال والأنهار والأراضي والشمس، والقمر والنجوم، والآلات والأدوات والدوائر والخطوط.. ولم يحرموه وكله من خلق الله"، وتضيف الفتوى ذاتها: "لم تبق مع هذا حاجة إلى النهي عن اتخاذ الصور والتماثيل، وإنما نهى عنها النبي قبل نزول جميع القرآن ووصوله إلى الناس لقرب عهدهم بالوثنية، ولو كان اتخاذ الصور والتصوير الذي هو ذريعة من المحرم لذاته على الإطلاق أو لضرر فيه لا ينفك عنه مطلقا لكان محرما على ألسنة جميع الأنبياء" (رشيد رضا، مجلة "المنار" 30 ذي الحجة سنة 1330 ه). أما بالنسبة لشيخ من المتقدمين هو الفقيه القرطبي، صاحب تفسير " الجامع لأحكام القرآن"، فيرى أن القرآن لا يمنع التعامل مع أي نوع من الإبداع ما لم يجعل لله أندادا، مستندا في ذلك على ما ورد في القرآن، كالآية "13" من سورة "سبأ" القائلة: "ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب". إذا كانت المرجعية الأساس للعقيدة الإسلامية التي هي القرآن لا توجد بسوره آية واحدة تحرم التصوير، فهناك من دارسي الفنون ومؤرخي علاقتها بالتراث الإسلامي من يؤكد أن فكرة تحريم التصوير تسربت إلى فقهاء مسلمين من الشريعة الموسوية، عبر رجال دين من اليهود أسلموا، إذ نقرأ في "التوراة" مثلا (لا تصنع لك تمثالا، صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في السماء تحت الأرض: سفر التثنية، إصحاح 5/ 7 ) على نحو ما ورد في نصوص العهد القديم، التي تنص على تحريم التماثيل بوضوح، كما في "سفر الخروج"، إذ إن هناك من يرى أن الديانة الموسوية "لم تحرم صناعة التماثيل بل حرمت عبادتها"، كما يستدل كل من مؤرخي الفن الشهيرين "لامنس" وجيوم" على ذلك بالقول: "باحتواء بعض الأحاديث الدينية صراحة على الموقف نفسه الذي وقفته الشريعة الموسوية تجاه التصوير، على أنه اعتداء على ما الله مختص به. ولا شك في أن بعض أحبار اليهود قد دخلوا الإسلام في حياة الرسول وصاروا من صحابته ورواة حديثه، مثل عبد الله بن سلام الذي كان أستاذا لأبي هريرة، ومثل كعب الأحبار الذي تتلمذ على يديه ابن عباس" ("التصوير الإسلامي بين الحظر والإباحة" ثروت عكاشة المجلد السادس العدد 2 يوليوز غشت سبتمبر 1975 ص 271). على انه إذا كان القرآن لا يحرم التصوير، وإنما ورد ذلك فقط في بعض مرويات الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام، من المعلوم أن هناك من المراجع والأئمة وفقهاء الحديث من لا يسلمون بصحة كافة الأحاديث، مما حتم الحاجة إلى آلية الجرح والتعديل لفرز درجة الأحاديث وتصنيفها إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وموضوع، وخاص وعام، ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ ومدلس وغريب وغيرها. ولعله من الأنجع لأولئك الذين تحجرت عقولهم عند مستوى ثابت من الإدراك لا يتغير، ممن يعبدون المشايخ، ويقدسون المتون والحواشي، ويتوهمون أنهم بخاريون ومسلمون أكثر من البخاري ومسلم، التذكير بما قاله البخاري ومسلم عن نفسيهما، حيث يقول البخاري: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح" (كتاب: "مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث" ط:2 س: 1999 م.ص24). هذا مع العلم أن مجموع الأحاديث التي جمعها البخاري خلال 16 سنة تتجاوز 600 ألف حديث. وقال مسلم عن صحيحه: "صحيح مسلم": "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، يعني في كتابه الصحيح، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه" (المرجع نفسه). هناك من الدارسين المسلمين المتحرين في بحوثهم المتعلقة بفنون التراث الإسلامي، من غير الببغائيين المرددين للمستنسخ من القول. نجد مثلا الباحث المتخصص الدكتور زكي حسن إذ يوضح: "إن كراهة التصوير قد نشأت بين الفقهاء في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، والأحاديث المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام موضوعة ولا تعبر إلا عن الرأي السائد بين الفقهاء في العصر الذي جمع فيه الحديث ودون". وعن القاسم بن ابي بكر في "طبقات ابن سعد" أن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فناشد الناس أن يأتوه بها، ثم أمر بحرقها". أما أبو حنيفة النعمان (50ه 150ه) وهو أحد أئمة المذاهب السنية الأربعة، فمن المعلوم أنه قال: "لم يصدق عندي من مجموعة أحاديث النبي سوى سبعة أحاديث، أصحها عندي حديث: "لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، أو قال "فليحرقه". أنقر لقراءة الجزء الأول: العربي الصبان: الكاريكاتير وفتاوى المشايخ .. الحلال والحرام