« لقد عرفت المسلمين و لم تعرف الإسلام» طه حسين مخاطبا أندري جيد اهتمام الإسلام بالجماليات: بدأ الشاعر و الباحث الجمالي العراقي بلند الحيدري دراسته «الإسلام و تحريم التصوير» (مواقف، 1990) عن المسلمين الذين يسيئون للإسلام و الذين عرفهم التاريخ العربي الإسلامي في فترات مختلفة، فهؤلاء عانى منهم الإسلام، وسيعاني منهم، بأثر من تزمتهم « وحرصهم على تحنيطه وتأطيره في جمل مأثورة حولوها إلى أسيجة من قوانين ثابتة لا يطولها زمن جديد أو واقع جديد، وعلينا أن لا نخرج عنها و لا عليها و لا أن نسعى لإدراك أنفسنا في الذي جدّ على واقعنا في عصرنا من جديد لكي نتطور به و يتطور بنا» ( ص.9). ينطلق بلند الحيدري في بداية دراسته من فكرة جمالية مفادها أن الإسلام اهتم بالجماليات بدءا من الخط الذي كان ينتصر على ما يستعجم به الكلام، بالنقاط و الحركات ثم بحسن الخط لأن «الخط الحسن يزيد الحق وضوحا» كا قال الإمام علي. إضافة إلى ما يحقق المجانسة بين المعنى الجميل و الشكل الجميل في الكلمة المسموعة والكلمة المطبوعة. وقد كان الخط العربي ينتقل و يرتحل، وأينما انتقل وارتحل أفاد واستفاد «فكان يزيد بما وقع إليه رشاقة ورهافة، ويوم أن وصل الصين أخذ من الخط الصيني ما زاده شفافية و خفة، و قل مثل ذلك يوم أن وصل الأندلس.» ( نفسه،ص.40). و هنا نتذكر نداء النبي محمد إلى البحث عما يفيد المسلم و يطلبه «ولو في الصين». وفي حديث آخر أن «الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها»، وفي آخر أن « الله لا يحكم بالقرآن بل يحكم بالسلطان» ببعدي الكلمة في الحكم وفي السلطان بمعنى في الحجة وفي البرهان. و هذا ما أكده المؤرخ الإسباني «مانويل مورينيو» في كتابه عن الفن الإسلامي في إسبانيا «إن الحضارة العربية الإسلامية ما إن تحتضن حضارة في أول الأمر حتى يصير كل شيء عربيا بعد فترة قصيرة». التراث يتحول إلى أسوار و أسيجة: يثبت بلند الحيدري بالأقوال المأثورة وبالحجة العقلية المقارنة أن الانغلاق والتزمت لم يكن منهج ولا فكر المسلمين منذ البداية. فلو كان الإسلام دين التزمت لما انتشر كل هذا الانتشار. فها هو النبي محمد يوصي بالسؤال طريقا للمعرفة في قوله «العلم خزائن و مفتاحه السؤال», وها هو الإمام علي قد أدرك أهمية تفاوت الأزمان من جيل إلى جيل في قوله « لا تعلموا أولادكم ما تعلمتم فقد ولدوا في زمن غير زماننا». لكن المتزمتين من المسلمين فرضوا على الناس أن لا يعلّموا أولادهم إلا ما تعلموا و الويل و الثبور لكل من يخرج على ذلك. ويقف الدارس عند حالة الانكفاء التي وصل إليها المسلمون اليوم، وهذا الانكفاء جعلهم يسيئون فهم دينهم و قرآنهم. فبدأ الإسلام يستخدم كأداة للقمع، توزعتها طبقات وإرادات و مصالح، بل ودول، مختلفة ضمن رؤية سلفية حالت دون أن يتواصل المجتمع العربي حتى مع آثار علمائه. كل ذلك بسبب اجترار الماضي بنشوة قاتلة. وها هي تلفزيوناتنا وإذاعتنا والكثير من صحفنا و مجلاتنا مفتوحة على مصراعيها لمن يتنادون إلى قتل الحرية و خنق صوت المفكر الحر وأسر الكتاب المثير لأية تساؤلات. هذه بعض مآسينا. والمثير للاستغراب أن كل ذلك يجري أما أعين الفقهاء الذين من المفترض أن يعينوا الناس على قراءة تاريخهم بكل ما له و ما عليه. اليهود سبقوا المسلمين في تحريم الرسم: عانى الفن التشكيلي العربي من اضطهاد القائلين بتحريمه. و هنا يعود الدارس إلى قرون بعيدة، إلى الفن الزخرفي العربي الذي كان يعبر عن حس جمالي متأصل في النفس العربية. ويستشهد برأي للدكتور «بشر فارس» وارد في كتابه «سر الزخرفة الإسلامية» الذي يؤكد فيه على أن «خروج التصوير الإسلامي على أصول الهيئة البشرية إنما تستدعيه نية مستقرة بالطبع»، ويعود ليتفق مع الرأي القائل إن اليهود قد سبقوا المسلمين في الدعوة لتحريم الرسم، كما جاء في سفر الخروج: «لا تضع لك صورة منحوتة أو أي تشبيه لأي شيء في السماء فوقك أو لأي شيء تحتها أو في الماء الذي تحت الأرض». وقد ذهب الباحث مذهب القائلين إن بعض من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام، أستاذ أب هريرة-توفي عام 678م-، و أبي اسحاق كعب الأحبار-توفي عام 652م-، كان لهما دور في هذا التوجه نحو التحريم، و هذا ما يقول به المستشرق البلجيكي «هنري لامنس» (1862-1937). تحتوي الثقافة العربية الإسلامية على ما يكفي من المصادر التاريخية التي تدل على أن المجتمع الإسلامي الأول لم يكن معاديا للتصوير على مثل ما حدث بعد ذلك بدءا من القرن الثاني للهجرة. و يورد الحيدري أمثلة من تلك المصادر احتجّ بها، فسعد بن أبي وقّاص-توفي عام 675م- لم يمح الصور التي كانت تزين القصر الأبيض في المدائن (مجموعة مدن في جنوب العراق احتلها ابن أبي وقّاص في معركة القادسية عام 637م)، بل إنه بنى فيه مصلّى للمسلمين. النبي محمد يسمح لعائشة باقتناء الدمى: ومن ذلك أيضا أن النبي محمد سمح لعائشة بنت أبي بكر-توفيت عام 678م- أن تقتني الدمى. و يروي بعض كتّاب السير أن زوجات أحمد بن محمد الأزرقي في ما كتبه عن فتح مكة إن النبي محمد رأى صورة عيسى بن مريم و أمه و لم يطلب من أحد محوها، وغير ذلك من الحجج المصدرية التي تدل على أن التصوير لم يكن محرما إلا ما كان منه في الصفة المناوئة للإسلام. أما القرآن فلم يقل بنص صريح يمنع التصوير وما يورد في مجال الميل إلى التحريم هي خمس آيات: من سورة الحشر:» هو الله الخالق الباري المصور له الأسماء الحسنى». ومن سورة آل عمران:» هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء». ومن سورة الأعراف:» لقد خلقناكم ثم صورناكم». ومن سورة المؤمن: «الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء و صوركم فأحسن صوركم». و من سورة المائدة:» يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون». كل هذه الآيات لا تقول بتحريم واضح و صريح، لكن، يؤكد الحيدري، ما ذهب إليه الفقهاء المتزمتون كان من باب التأويل المشير إلى أن صفة «المصور» هي من صفات الله و من أسمائه الحسنى و من كانت له من الصفات لا تكون لغيره. أما المنع الوارد صراحة في سورة «المائدة» فإن المعاجم العربية لا ترى في النّصب إلا معنى الصنم، كما ينصّ على ذلك معجم «متن اللغة» للشيخ أحمد رضا، والذي هو «كل ما عبد من دونه تعالى و كانت الجاهلية تنصبه و تذبح عنده فيحمر بالدم». يرجع الباحث بلند الحيدري تهديد حرية الفنان باسم الدين إلى كون الفقهاء أولوا بشكل سيء، وحسب أمزجتهم، الأحاديث النبوية، وربما اختلقوا بعضا منها، خصوصا وأن تدوين الأحاديث لم يجر إلا بعد وفاة النبي محمد بثلاثة قرون و أن سيل الطعون بالكثير منها لم ينقطع إلى يومنا هذا. يعلق الغمام محمد عبده (1849-1905) على تأويل قول النبي:» غن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»، على أنه قرار في التحريم بأن هؤلاء قد فاتهم «أن الحديث ينصرف إلى ذلك التصوير الذي شاع في الوثنية و الذي كان القصد فيه إلى تأليه بعض الشخصيات، أما ما جاء لغير ذلك من تصاوير قصد فيها إلى المتعة و الجمال فلا يحمل قول الرسول عليه». و يضيف في مكان آخر ما يؤكد هذا المعنى في قوله:» إن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم»، وتلك آراء تتواصل مع آراء أبي علي بن أحمد الفارسي المتوفى عام 987م في قوله:» فإن قال قائل فقد جاء في الحديث-يعذب المصورون يوم القيامة، وفي بعض الحديث، فيقال لهم أحيوا ما خلقتم، قيل: يعذب المصورون يكون على من صور الله تصوير الأجسام و أما الزيادة في أخبار الآحاد التي لا توجب العلم فلا يقدح لذلك في الإجماع ما ذكرناه». حرية الفنان المسلم رهينة باجتهادات الفقهاء: ظل اسم الفنان المسلم مهملا ليس مثل ما لاقاه الخطاطون من إكرام و تبجيل. و حريته تفاعلت مع ما هو قائم من آثار الحضارات التي سبقت الإسلام إلى المنطقة. هنا ذكر الباحث ثلاثة مسارب اجتهاد رئيسية: أولا: إباحة رسم الحيوانات الخرافية بعد تجريدها من دلالاتها المعنوية و العقيدية القديمة العالقة بها، وقد مال إليها الفنان المسلم لعدم ارتباطها بطبيعة شيئية في مفهوم الخلق و لكون الواقع الحقيقي لا يماثل معها في شيء. ثانيا: إباحة رسم الحيوانات، التي حلل الله للإنسان صيدها و طبخها و أكلها، أو التي أبيح له استخدامها لأغراض الصيد كالطيور و الغزلان والكلاب، مؤولين ذلك بأنها خلقت أصلا من أجل الإنسان. ثالثا: إباحة رسم الحيوانات المركبة والتي تقوم على مزج بين أعضاء لكائنات مختلفة، كأن يكون الرأس رأس إنسان و الجسم جسم حصان والقدمان لغزال، وهي ما ألفتها الحضارات القديمة، وعلى مثل ما هو موجود في جدارن بابل من تنانين وثيران و طلاسم سحرية. وذلك لأنها فقدت أصولها الرمزية فاستحالت مجرد إيقاعات تزيينية لا تمت بأية صلة للواقع. في هذا الصدد يورد «جورج مارسي» في كتابه «الفن الإسلامي» مدينة «سامراء» العراقية مثالا على ذلك، فيقول:» لقد قدمت سامراء العديد من نماذج هذا التزيين الذي تشغل الصور الآدمية والحيوانية فيه مكانا هاما مما يؤيد حرية الفكر التي كان يتمتع بها سادة هذه البلاد». ويعلق بلند على ذلك بقوله:» و هو جهد في العمل يمت بنفسه إلى اجتهاد فريق من العلماء في القول بإباحة الرسم وتجسيد الأشكال. و قد برّأ هؤلاء الفنان من كل ما يوهم بأن عمله يدعو إلى الخروج على الدين و الدعوة إلى الشرك و ذلك باعتماد هؤلاء العلماء على ما ورد في الآية رقم 13 من سورة «سبأ» في الكلام عمّا يسره الله لسليمان بن داود « يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب و قدور راسيات، اعملوا آل داود شكرا و قليل من عبادي لشكور». إباحة التصوير على جدران الحمامات: ومن المثير في هذه الأمر أن العديد من القصور والبيوت ضمت رسوما حائطية عديدة، يعود الكثير منها إلى الربع الأول من القرن الثامن الميلادي، و غيرها في «سامراء» ونيسابور. والكثير من هذه الصور رسمت على جدران الغرف والحمامات. و يرى الشاعر صلاح ستيتية أن «سبب استثناء الحمام من التحريم يعود إلى أن المسلمين السلفيين يرون أن هذا الجزء من البيت من شدة الاحتقار بحيث أن التصوير لا يشكل فيه أدنى ارتياب و لا أقل خطر روحاني،ّ ولذلك صارت الحمامات الأماكن المباحة للرسامين». أما التصوير على الورق، فبالرغم من أن العرب قد عرفوا صناعة الورق منذ بداية القرن الثامن الميلادي، فلم يصلنا منها شيء على الإطلاق مما . و هي فترة تميزت بالدقة و الإتقان على يد فناني المدرسة البغدادية خلال الفترة الممتدة ما بين 1150 م و1400م. 7- الرسم وسيلة تزيينية فقط: في مثل هذه الفترات، يؤكد الحيدري، خلى الرسم الإسلامي من التعبير الذاتي، ربما كان ذلك بسبب أن الرسم لم يكن غير وسيلة تزيينية أو إيضاحية. فعلى الفنان أن يظل أسير ما أوكل إليه من قبل طبيب أو جغرافي أو فلكي أو ورّاق أو أديب، وذلك ما يشير إليه البروفسور «ت. أرنولد» بتعليقه على واحدة من هذه الصور بأنه هؤلاء « الشخوص ينظرون إلى ما حولهم بوجوه لا أثر فيها للانفعال بما يجري حولهم أو الاهتمام به، سواء أكانوا ملوكا أم سوقة، جنودا أم فلاحين، فالمحاربون في المعركة يتلقون الطعنات والجراح القاتلة و كأنهم لا يهتمون بها». فليس من الغريب عدم العثور على شيء من التصوير على الورق لهذه المرحلة من تاريخ الفن الإسلامي، بعد أن فقدت الثقافة العربية الكثير منها في الصور الجدارية. إلا أن فرضية الحيدري تقول بأن الرسم على الورق لا بد أن يكون قد سبق النماذج التي عثرنا عليها خلال القرنين التاسع و العاشر الميلاديين، ويشهد على ذلك ما أشار إليه عبد الله بن المقفع-توفي عام 759م- في ترجمته لكتاب «كليلة و دمنة» بقوله:» وينبغي للناظر في هذا الكتاب و مقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراض أحدها... والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان و الأصباغ ليكون أنسا لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزاهة في تلك الصور». خلاصة: يخلص الباحث في دراسته القيمة «الإسلام وتحريم التصوير» إلى أن نزعة التحريم قد تركت أثرا ملحوظا على تطور الزخرفة الإسلامية، و التي صارت، كما يقول شارل بودلير من «أشد الأشكال روحانية على الإطلاق»، وأنها قد كفلت للخط العربي أن يصبح من أبرز الفنون العربية، فإنه بلا شك قد حجب عنا فنّا إنسانيا مهما و لفترة واسعة من التاريخ. و قد قال «ريتشارد إيتكنهاوزن» في كتابه «فن التصوير عند العرب»، إن تصاعد « الاتجاه المعادي للتصوير في البلدان التي تتكلم العربية كان سببا في تضاؤل الاهتمام بالفن، كما كان سببه انحطاط القدرة الفنية في الأقطار العربية تحت الحكم العثماني، وأدّى الاجتماع المؤسف لهذين السببين المذكورين إلى انقراض رسم الصور انقراضا فعليا». إن الإسلام لم يحرم الرسم و لكن المسلمين هم الذين حرموه و مازال بعضهم يحرمه إلى يومنا هذا. وهؤلاء هم أشدّ عداء للإسلام من أعدائه.