تساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1500م من السبت إلى الاثنين    المديرية العامة للضرائب تعلن فتح شبابيكها السبت والأحد    "روح الأسرة" بعيدا عن "سلطوية العام" و"شكلانية القانون" و"مصلحية الاقتصاد"    مديرية الضرائب تفتح شبابيكها يومي السبت والأحد للمهتمين بتسوية وضعيتهم الجبائية من الأشخاص الذاتيين    الحكم موقوف التنفيذ لمناهضين ضد التطبيع    "منتدى الزهراء" يطالب باعتماد منهجية تشاركية في إعداد مشروع تعديل مدونة الأسرة    إياب ساخن في البطولة تبدأ أطواره وسط صراع محتدم على اللقب وتجنب الهبوط    هذا نصيب إقليم الناظور من البرنامج الاستعجالي لتعزيز البنيات التحتية بجهة الشرق    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    الدحمي خطاري – القلب النابض لفريق مستقبل المرسى    جلالة الملك محمد السادس يحل بدولة الإمارات العربية المتحدة في زيارة خاصة    رأس السنة الجديدة.. أبناك المغرب تفتح أبوابها استثنائيًا في عطلة نهاية الأسبوع    غياب الطبيب النفسي المختص بمستشفى الجديدة يصل إلى قبة البرلمان    بيت الشعر ينعى الشاعر محمد عنيبة الحمري    العام الثقافي قطر – المغرب 2024 : عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    اكتشاف جثة امرأة بأحد ملاعب كأس العالم 2030 يثير الجدل    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    تعاونيات جمع وتسويق الحليب بدكالة تدق ناقوس الخطر.. أزيد من 80 ألف لتر من الحليب في اليوم معرضة للإتلاف    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصعد رفضها لمشروع قانون الإضراب    صناعة الطيران: حوار مع مديرة صناعات الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    "ال‬حسنية" تتجنب الانتقالات الشتوية    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    حلقة هذا الأسبوع من برنامج "ديرها غا زوينة.." تبث غدا الجمعة على الساعة العاشرة    "التجديد الطلابي" تطالب برفع قيمة المنحة وتعميمها    وكالة بيت مال القدس واصلت عملها الميداني وأنجزت البرامج والمشاريع الملتزم بها رغم الصعوبات الأمنية    مقتل 14 شرطيا في كمين بسوريا نصبته قوات موالية للنظام السابق    تدابير للإقلاع عن التدخين .. فهم السلوك وبدائل النيكوتين    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    سنة 2024 .. مبادرات متجددة للنهوض بالشأن الثقافي وتكريس الإشعاع الدولي للمملكة    الممثل هيو جرانت يصاب بنوبات هلع أثناء تصوير الأفلام    الثورة السورية والحكم العطائية..    كيوسك الخميس | مشاهير العالم يتدفقون على مراكش للاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة    الإعلام الروسي: المغرب شريك استراتيجي ومرشح قوي للانضمام لمجموعة بريكس    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    الضرورات ‬القصوى ‬تقتضي ‬تحيين ‬الاستراتيجية ‬الوطنية ‬لتدبير ‬المخاطر    الصين: أعلى هيئة تشريعية بالبلاد تعقد دورتها السنوية في 5 مارس المقبل    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    اعتقال طالب آخر بتازة على خلفية احتجاجات "النقل الحضري"    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن والدين: بحث في طبيعة العلاقة
نشر في هسبريس يوم 26 - 11 - 2012

كيف هي العلاقة بين التيار الإسلامي بمن يمثله من دعاة و فقهاء و حركات إسلامية و بين أهل الفن من مخرجين و روائيين و ممثلين؟ بعيدا عن التعميم المخل، فإن ما كان يطفو على الواجهة في المغرب لسنوات هو أشبه بحالة الهدنة التي تنتهي بشكل فجائي كلما برز في الساحة منتوج فني يعكر صفو المؤمنين بالفن النظيف؛ كالإعلان عن مسابقة ملكة جمال المغرب، أو ظهور لقطة عارية في هذا الفيلم أو مشهد إباحي في تلك المسرحية. أزمات متكررة تحيي ذات الجدل حول مفهوم "الفن الهادف" ودوره في "نشر الفضيلة" و "التعبير عن قيم المجتمع وقضايا الأمة"، مقابل "حرية التعببر الفني"، ودور الفن في "تكسير طابوهات المجتمع"، و"عدم تقييد الإبداع"، و"الضرورة الفنية التي تفرض تصوير بعض المشاهد الجريئة".
في هذا المقال أتطرق للعلاقة بين الفن و الدين لأبرز أن طبيعتها من حيث المبدأ و الغايات لا تشبه العلاقة القائمة في الواقع. فعلاقة الدين بالفن ليست علاقة شرطي المرور بالمخالفين، تماما كما أن علاقة الفن بالدين ليست علاقة الابن العاق بوالديه.
يعتبر المفكرالإسلامي علي عزت بيكوفيتش1 أن الدين و الفن يشتركان في القضية نفسها، قضية الإلهام الإنساني المعبر عنها بطرق مختلفة، فالدين يؤكد على الخلود و المطلق، و تؤكد الأخلاق على الخير و الحرية، و يؤكد الفن على الإنسان و الخلق. و هي كلها في أساسها نواح مختلفة لحقيقة جوانية واحدة يتم التعبيرعنها بلغة قد تكون قاصرة في إيصال المعاني، لكنها اللغة الوحيدة المتاحة. كما يوضح أن الدين والفن يشتركان في الوحدة المبدئية لجذورهما. فالدراما ذات أصل ديني،سواء من ناحية الموضوع، أو من ناحية التاريخ. كانت المعابد هي المسارح الأولى بممثليها وملابسها ومشاهديها. وكانت أوائل المسرحيات الدرامية طقوسا ظهرت في معابد مصر القديمة منذ أربعة آلاف سنت مضت. كما بلغ المعمار- في جميع الثقافات- أعظم إلهاماته في بناء المعابد. ينطبق هذا على السواء على المعابد في الهند القديمة وكمبوديا، كما ينطبق على المساجد في أنحاء العالم الإسلامي، وعلى المعابد التي وجدت في غابات أمريكا قبل وصول كولومبوس، وكذا كنائس القرن العشرين في أنحاء أوروبا وأمريكا. أما الرسم والنحت والموسيقى، فإن ارتباطهم بالدين أوضح، فتكاد الأعمال الفنية الكبرى لعصر النهضة تقتصر في تناولها على الموضوعات الدينية بلا استثناء. وقد وجدت هذه الأعمال ترحيبا أبويا في الكنائس في جميع أنحاء أوروبا. حتى لا تكاد توجد كنيسة في إيطاليا أو في هولندا لا تعتبر متحفا في الآن نفسه. وقد أبدع أعظم مؤلفين للموسيقى في القرن العشرين و هما: "دبوسي" و"استرافنسكي" موسيقاهما في موضوعات دينية. ألف "دبوسي" القديس سباستيان الشهيد، كما ألف "استرافنسكي" سمفونية المزامير والقداس. وصور "شاجال" لوحاته الخمس عشرة الرئيسية في موضوعات دينية. إن ما يخبرنا به الفن والطريقة التي يخبرنا بها شيء يفوق قدرتنا على التصديق، كأننا بإزاء رسالة دينية. فاللوحة الفنية هي بشكل ما نوع من أنواع الشعائر مرسومة على قماش، كما أن السمفونية شعيرة لحنية.
يرتبط الفن و الدين بعلاقة عضوية لدرجة أنه لا يتصور دين بلا فن، فالحياة الدينية في كل الثقافات تغتني بالتعبيرات الفنية و الأدبية في ممارسة الشعائر، و تقديم القرابين، والاحتفالات. الدين والفن بحسب وصف الدكتور حسن الترابي يرتبطان بعلاقة حميمة نظرا لأن كليهما يتعامل مع الرمزي في الحياة، و بالتالي فكلاهما تجسيد للثقافي والتركيبي عند الإنسان، وابتعاد عن الغرائزي والطبيعي2.
الدين كما الفن، تجربة روحية يبحث فيها الإنسان عن المطلق، و ينشد فيها الخير و الحرية و المحبة والسلام، تجربة شخصية أصيلة روحانية متفردة، تتطلب الإخلاص والصدق ووهج الروح وإحساسها الجميل بالمعنى. خبرات جوانية تحتضن نبل الإنسان، أشواقه ورغباته، وتطلعه للتطهر والوصول إلى الحقيقة، محتواها النهائي هو الإنسانية الخالصة.
لم تكن الحياة الدينية الإسلامية استثناء من هذه العلاقة، فقد أخذت التعبيرات الفنية المرتبطة بالدين الإسلامي مسارات متنوعة ارتبطت بظهور وازدهاربعض الفنون، كفن الخط العربي الذي نقل الكتابة من وسيلة لنقل المعنى إلى وسيلة وغاية في الآن نفسه، فتحولت الكتابة إلى صورة اتخذت من الأبجدية و حروفها وسيلة لارتكاز اللوحة و الصورة و إبداع المعنى جماليا في ضوء الشكل. فظهرت مدارس الخط وفنونه المختلفة التي حافظت على تميز الهوية الإسلامية و نقلت إلى العين الإنسانية متعة جمالية خالصة3. و من الفنون التي صاحبت الحياة الإسلامية فن تجويد القرآن الذي يعتبر نموذجا أوليا للفنون السمعية، حيث أن التمكن من تجويده يعطي الموسيقي أسرار الموسيقى العربية، وليس من قبيل المصادفة أن نجد أساطين المغنين والموسيقيين قديما وحديثا قد حفظوا القرآن وجودوه واستفادوا من ذلك، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر من العصر الحديث قيثارة الغناء العربي السيدة أم كلثوم والشيوخ أبو العلا محمد وسيد درويش وزكريا أحمد وسيد مكاوي وغيرهم.4 ومن الفنون التي التصقت بحضارة الإسلام كذلك فنون زخرفة المساجد التي توسلت الأبجدية والأشكال الهندسية وتوزعت بانسجام على الأعمدة والأقواس، والقباب، والنوافير والجدران والمآذن، وتوزعت في أصقاع الأرض من شامية ومصرية وأندلسية وتركية وهندية، ممتصة أشكال الجمال الموروثة في العمارة في هذه البيئة أو تلك لتشكل ميراثا إنسانيا يخاطب البصر والوجدان، ولتجعل من أماكن العبادة صروحا جمالية. أضف إلى تلك الفنون التي ارتبطت بالعبادة الإسلامية الرقص الصوفي، الذي يلعب عند الدراويش المولوية دورا هاما كوسيلة من وسائل التقرب إلى الله تعالى، حيث ابتدع رقصتهم المشهورة باسم "السما" الشاعر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي.
إذا كانت هذه شواهد على اهتمام الإسلام بالتربية الجمالية و الذائقة الفنية في الإنسان ليدوم سعيه لاكتشاف ما أودعه الله من جمال في الكون و ليعيد إنتاج مظاهر الزينة في الوجود، فلماذا عرفت العلاقة بين بعض المنتسبين للتيار الإسلامي من فقهاء ودعاة و إسلاميين و بين أهل الفن كثيرا من التشنج عبر التاريخ؟ ما هو أصل الخصومة؟ ما تفسير الصراعات التي تثور بين الفينة والأخرى لمنع رواية أو هدم تمثال أو حجب مشهد سينمائي؟ ولماذا إصرار البعض على تحريم الغناء و محاربة الموسيقى و العداء لغيرهما من الفنون؟
* إشكالية الصورة:
تعتبر الفنون البصرية إشكالية كبرى تثير التساؤلات العديدة حول "خصام" المنهج الإسلامي مع فنون النحت والرسم والتصوير. بداية، يجدر التنويه إلى إن القرآن الكريم لم يتخذ من التصوير موقفا معاديا بإطلاق فما من نص قرآني يحرم الصورة في الفن، و ما من نص في السنة يحرمها قطعا، ويتأرجح موقف الفقهاء منها بين القبول والكره. وما يروى عن الصورة من الحديث يحرم تعليق الصورة أي تقديسها و تشريفها لا استخدامها.” فموقف القرآن الكريم من التصوير و التماثيل للأحياء ليس واحدا وليس عاما وليس مطلقا فحيثما تكون سبيلا للشرك بالله شركا جليا أو خفيا فهي حرام، والواجب تحطيمها، لأن معركة الإسلام الرئيسة كانت ضد الشرك، أي عبادة الأوثان...أما عندما تنتفي مظنة عبادتها و تعظيمها و الشرك بواسطتها، فهي عندئذ من نعم الله تعالى التي يجب على الإنسان أن يقصد إليها و أن يتخذ منها سبيلا لترقية حسه و تجميل حياته و تزكية القيم الطيبة و تخليدها “5. تحطيم التماثيل لم يكن أبديا، بل معللا حسب رأي الإمام محمد عبده بسياق قرب العهد بالشرك، و حيث أنه لا خوف من العودة للشرك فإنه لا مجال للتحريم.6
انحازت غالبية الفقهاء لصف تحريم فنون التشكيل حيث وقف بهم ”التقليد“ عند حرفية و ظواهر المأثورات التي منعت أو حرمت هذه الفنون و لم ينحازوا إلى المأثورات التي أباحتها، فضلا عن أنهم لم يقدموا التفسير الذي يربط المأثور بملابسات قوله، والحكم الذي يدور مع علته وجودا وعدما، حيث أن حكم التحريم كان موجها لعبادة الصورة لا للصورة ذاتها. ومع ذلك فإن التاريخ الفكري للفقه و الفقهاء لم يخل من مواقف فكرية ، بل ممارسات عملية لعدد من أعلام الفقه والأصول لهذه الفنون. فقطاع هام من المفسرين للقرآن و من الفقهاء و خاصة فقهاء المذهب المالكي قد أباحوا التصوير والنحت، إذا كانت لهما ضرورة اجتماعية و تربوية، بل إن مجتهدا من مجتهدي الفقه المالكي هو الإمام القرافي ذهب إلى أبعد من الإفتاء بإباحة فن النحت و التصوير، حيث اشتغل به وتحدث عن ممارسته لصناعة الدمى والتماثيل، فكان فقيها فنانا7.
إن الموقف العام من الفنون البصرية المتمثل في أن كراهة الصورة المطابقة للإنسان و للحيوان دون تحريم حذا بالفنان المسلم الى ابتكار مفهوم متميز للصورة، و هي الصورة الرمز التي لا تعنى بانسجام الهيئة المخلوقة بقدر ما تعنى بتجسيد الفكرة في المادة، وهكذا فإن فنون النحت و الرسم و التصوير في خبرات المسلمين استبدلت المحاكاة الإغريقية المطابقة بالترميز المشرقي، و أحلت محل التشخيص في الهيئة تجريد الصورة و ترميزها، الذي يقوى على حمل فكرة التوحيد.8
إن فكرة الصورة الرمز شكلت مخرجا فنيا لغلبة الاتجاه القائل بتحريم التصوير والنحت، غير أنها لم تصمد أمام عصر أصبحت فيه الصورة أبجدية أساسية لا غنى عنها في تبادل المعلومات، و في توصيل الأفكار والعقائد والمواقف. الشيء الذي يفرض على الفنان و الفقيه معا اختراق جدار الصورة لاستنطاق ما في الأصول من معنى و دينامية، عوض الاكتفاء بالوقوف عند حرفيتها.
* الغناء و الموسيقى:
يبرز الدكتور محمد عمارة في كتابه:”الإسلام و الفنون الجميلة “ وجود عدد من الوقائع في عصر البعثة، و في بيت النبوة، و المسجد النبوي و بيوت الصحابة تعلن عن إباحة الغناء، مما يدخل في السنة العملية والممارسة التطبيقية للمنهج النبوي. كما تفيد تلك الوقائع أن اجتهادات مخالفة حدثت أثناء هذه التطبيقات أراد أصحابها من الصحابة الأجلاء منع الغناء، لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقر الغناء و نبه أصحاب هذه الاجتهادات على خطئها وخطئهم فيها. يعود سبب خلاف الفقهاء حول موقف الإسلام من حكم الغناء إلى وجود مأثورات من الأحاديث تفيد منع الغناء و النهي عنه، وتتوعد المغنين والسامعين، إضافة إلى تفسير عدد من مفسري القرآن الكريم للمراد ” باللهو “ في الآية القرآنية الكريمة: (و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم)9 على أنه هو الغناء. ينقل الدكتور محمد عمارة جهد الإمام ابن حزم في تتبع المأثورات التي يستدل بها على التحريم و هو الخبير في نقد الرجال والروايات، الظاهري في التزامه بالسنة حيث يخلص إلى أن تلك الأحاديث جميعها معلولة نظرا افتقارها لشروط الثبوت، مما يسقط حجيتها. كما ينقل عن الإمام القرطبي صاحب (الجامع لأحكام القرآن) تطرقه لأسباب نزول الآية الكريمة: (و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، و يتخذها هزؤا. أولئك لهم عذاب مهين)، حيث يوضح أن اللهو المذموم ليس هو فن الغناء الحسن المباح ، ولا هو مطلق الغناء كفن من الفنون الجميلة و إنما هو في رأيه غناء المجون المثير و المهيج للغرائزالحيوانية الشهوانية...أو ذلك الغناء الموظف للصرف عن الإيمان بالإسلام، و الذي كان يصنعه واحد من رؤوس الشرك في مكة و هو النضر بن الحارث بن علقمة و هو من شياطين قريش، و صاحب لواء المشركين يوم بدر، ذلك أنه قد اشترى كتب الأعاجم و اشترى القيان، ليغري بأساطير الكتب، و بغناء القيان الناس عن الدخول في الإسلام و الاستماع إلى القرآن. و اتفاقا مع رؤية الإمام القرطبي الذي يقطع بأن الغناء الحسن كلاما و لحنا و صوتا و أدوات هو مما أباحه الإسلام، ومع رؤية الإمام ابن حزم، ينتهي الدكتور محمد عمارة إلى أن الغناء لا يعدو أن يكون بعضا من ألوان الجمال الذي خلقه الله. و معيار الحل و الحرمة فيه هو”وظيفته” التي يوظف فيها، و”المقصد “ الذي يقصده الناس من ورائه..فإن أسهم في ترقية السلوك الإنساني والارتقاء بعواطف الناس، وأعان على تذوق نعم الله في كونه، والكشف عن آيات الجمال في إبداعه، كان خيرا...وإلا فهو منكر بلا خلاف10.
أخيرا، و بناء على ما سقته من مقدمات و تساؤلات، أختم باقتراح جملة من الخلاصات :
* الفن حاجة إنسانية روحية لا تحتاج إلى أي تبرير أو إثبات من خارجها. الفن حاجة و ليس ترفا. يمكن أن نقول نفس الكلام عن الدين بمعنى "الإيمان". إذ لا يستغني الإنسان، أي إنسان، عن الإيمان بما هو بالنسبة إليه حقيقة. هنا يلتقي الدين كحقيقة إيمانية بالفن. الفن مكون رئيس من مكونات الذات الانسانية السوية، و ضرورة من ضرورات الوجود و الارتقاء الإنساني.
* إن الإسلام ليس له "موقف قمعي" من الفنون، فالنهي أو التحريم في النظرية و التطبيق استهدفا مظان الشرك، و رموز الوثنية، و تحطيم قدسية المخلوقات. وليس التصوير أو النحت أو الرسم أو الغناء أو الموسيقى. الفنون نعم إلهية لتنمية مشاعر الجمال الإنسانية، وتزيين الحياة بالإبداع وحسن الصنعة. الأصل في الأشياء الإباحة.
* ضرورة استحضار و تدبر المناخ و البيئة و السياق الذي قيلت فيه الأحاديث المروية في موضوعات الفنون حتى تدرك المقاصد و العلل و الأحكام و الغايات.
* إن الخصومة التاريخية بين الفقه و الفن كانت تذكيها غياب روح الاجتهاد لدى الفقهاء من جهة و توسعهم في سد الذرائع من جهة، وانحراف بعض الممارسات الفنية عن مفهوم التوحيد أو عن مقاصد حفظ الدين والعقل والنفس والمال والعرض.
* إن الصراع بين الإسلاميين و الفنانين على بعض الأعمال الفنية هو في جوهره صراع حول مفهوم الحرية وأبعادها و حدودها، بين من يؤمنون بحقهم في حماية أخلاق المجتمع عبر ضبط ما يشاهد الناس و ما يقرؤون، و بين من لا يعترفون بمعيارية المرجعية الدينية الأخلاقية و الاعتقادية داخل المجتمع. ولي تفصيل في هذا الإشكال قريبا.
****
1 الإسلام بين الشرق و الغرب. علي عزت بيكوفيتش. طبعة دار الشروق 2010 ص 149155بتصرف
2 مفاهيم الجمال: رؤية إسلامية. القاهرة:المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1996. ص19
3 إشكالية التحيز في الفن و العمارة.د عبد الوهاب المسيري. دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع و الترجمة 2008. ص23
4 مفاهيم الجمال: رؤية إسلامية. القاهرة:المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1996. ص22
5 الإسلام و الفنون الجميلة. د محمد عمارة. دار الشروق.2007. ص:112
6 محاضرة الدكتور نصر حامد أبو زيد”الفن و خطاب التحريم “المنشورة في موقع:http://www.mawred.org
7 الإسلام و الفنون الجميلة. د محمد عمارة. دار الشروق.2007. ص130- بتصرف134
8 إشكالية التحيز في الفن و العمارة.د عبد الوهاب المسيري. دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع و الترجمة2008 ص17
9 لقمان 6
10الإسلام والفنون الجميلة. د محمد عمارة. دار الشروق 2007. ص 3855 بتصرف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.