بميزة مشرف جدا، نال الشاعر والتشكيلي عزيز أزغاي شهادة الدكتوراه بشعبة اللغة العربية وآدابها، وذلك عقب مناقشة رسالته التي تمحورت حول موضوع «تطور الخطاب النقدي حول الفن التشكيلي في المغرب». الرسالة نوقشت يوم الخميس 22 دجنير 2011 بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أمام لجنة مكونة من الأساتذة: عبد الرحمان طنكول: رئيسا، حسن بحراوي: مقررا، وبعضوية سعيد يقطين، سعيد بنكراد و فريد الزاهي. فيما يلي أهم ما ورد في تقديم أزغاي لرسالته، مع الإشارة إلى أن ضرورات تقنية فرضت الاستغناء عن هوامش التقديم. جرت العادة، في مثل هذه المناسبات، أن يتقدم الطالب المترشح بمرافعة يضمنها الخطوط الرئيسة للبحث الذي قام بإنجازه. وقد ارتأيت، بعد إذن رئاسة لجنة المناقشة المحترمة، أن تكون مرافعتي في شكل مقالة تركيبية، مع الإشارة في بدايتها - باختصار - إلى التبويب الذي اعتمدته في إنجاز هذا البحث، وذلك حتى لا أسرب إلى أسماعِكم بعض الملل. ينقسم هذا البحث، الذي يحمل عنوان « تطور الخطاب النقدي حول الفن التشكيلي في المغرب: المظاهر والتحققات «، إلى مدخل عام يؤطر إشكالية البحث والإختيار المنهجي الذي اعتمدناه في الدراسة والتحليل، إلى جانب تسعة فصول، حاولت خلالها الوقوف تاريخيا عند علاقة المغرب القديم والإسلامي بالفنون عامة، قبل أن يخضع للاستعمارين الفرنسي والإسباني، ويعرف ما أسميته ببداية ظهور مرحلة المدارس الفنية. وقد استتبعت ذلك بمسح تاريخي يوضح مراحل تطور الخطاب النقدي حول الفن في جغرافيات أخرى من العالم، تمهيدا للحديث عن الإرهاصات الأولى لظهور مثل هذه الممارسة في المغرب، والتي أفرزت أنواعا مختلفة من القراءات حصرتها في أربعٍ هي: القراءات الأجنبية - لغربية، والقراءات الانطباعية الإعلامية، والقراءات الأدبية، والقراءات التنظيرية الذاتية، ثم أخيرا القراءات الجمالية التأملية. لأنهي ذلك بالحديث عن أهمية الفعل الترجمي في دعم عمليتي النقد والإبداع الفني على السواء، قبل أن أختم بخلاصة تركيبية عبارة عن أسئلة وأفكار للتأمل. وقد ارتأيت أن أستعين بملحق توضيحي في نهاية البحث، يتضمن نصوصا كاملة وظفت مقتطفاتٍ منها أثناء التحليل، إلى جانب رواق يحتوي على نماذجَ من أعمال فنانين مغاربة تصويريين، ثم في الأخير ثبت للبيبلوغرافيا المعتمدة. هذه، باختصار شديد، هي المناطق البحثية التي تحركت فيها أثناء إنجازي لهذا العمل. يكاد أغلب مؤرخي الفن ونقادِه أن يجمعوا على أن الممارسة التشكيلية في المغرب تعتبر حديثة، وذلك بالنظر إلى طبيعة هذه الممارسة في حد ذاتها، وإلى مسارها التاريخي، وما راكمته من تجارب ومن حضور فني ومن أسماء مكرسة، إن على المستوى المحلي أو العربي أو الدولي. إلا أنه لا ينبغي، في المقابل، أن يفهم من ذلك أن المغاربة لم يضطلعوا، طوال تاريخهم الموغل في القدم، بما يقترب من هذه الممارسة أو يشبهها، بهذا القدر أو ذاك، على اعتبار أن عمر الفن وتاريخ الوعي الجمالي هو من عمر الإنسان وتاريخ حياته. رغم ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الرسومات الأولى التي خطها الإنسان البدائي على جدران الكهوف والمغارات، لم تكن وليدة رغبة ناضجة في إظهار ميل نحو الجميل أو الفني، وإنما ظلت مرتبطة، لوقت طويل، بنوع من الإحساس الرهيب بضآلته أمام باقي المخلوقات التي كانت تقاسمه مجال تحركه، بسبب عدم استيعابه لأشكالها وأحجامها المختلفة عن شكله وهيئته. وفي محاولة منه للسيطرة على هذا الوضع، لجأ إلى « حيلة « رسمها أو بالأحرى « أسرها « وتثبيتها على الجدران، وهو السلوك الذي ينم عن تلك البدايات الأولى لاعتقاده بعالم الغيب والروحانيات. لذلك، لا أحد أصبح يشك اليوم في كون هذا السلوك «الفني» الروحاني اعتبر قاسما مشتركا بين إنسان تلك المراحل السحيقة من تاريخ البشرية، وحجتنا على ذلك وجود مثل هذه الرسومات البدائية المتشابهة نسبيا في مناطق متفرقة من العالم، بما يؤكد ما ذهب إليه فاسيلي كاندنسكي من أن الاختلافات الثقافية بين البشر، وتباعد الأزمنة، لا تحول دون ظهور قواسم مشتركة وثابتة بينهم، خاصة في العالم الداخلي أو الروحاني للإنسان. ولعل هذا الأمر هو ما دفع الإنسان إلى إبداع وسائط تجعله ينظم علاقاته الروحانية وتساعده على تفسير الظواهر التي تفوق قدرته الذهنية، وصولا إلى إضفاء بعض القيمة على بعض منتجاته المهارية الذهنية، المختلفة عن تلك التي تحتاج إلى قوة عضلية، وما يستتبع ذلك من تطوير حاسة استقبال هذه المنتجات، ومن ثم، بداية استيعاب قيمتها الجمالية. وفي هذا الصدد، يذهب بعض الباحثين في فلسفة الفن كما في درس التذوق الفني إلى اعتبار الجمال شكل من أشكال الفكر « المنعكس « على نشاط الذات الإنسانية، وهذا الانعكاس هو الذي جعل الإنسان بعد ذلك ينتقل إلى تشييد المصاطب والأهرامات والمعابد والكاتدرائيات والقصور، وينحت التماثيل، كما يرسم اللوحات ويؤلف الألحان والأنغام والسيمفونيات، وينظم الأشعار في مراحل متقدمة من تاريخه... مما جعل موضوع الجمال يبقى مثار تساؤل الإنسان منذ أقدم العصور، تختلف حول مصادره وموضوعه الآراء. استحضارا لكل ذلك، يكاد المغرب أو بالأحرى سكان المغرب الأقدمون - حسب كثير من الشواهد الأثرية والأركيولوجية - ، لا يشكلون استثناء بهذا الشأن، وذلك بالنظر إلى ما خلفوه من نقوش وزخارف ورسومات على جدران الكهوف والمغارات، يعود بعضها إلى العصر الحجري الأول، قبل أن تكتسي هذه الممارسة الجمالية حضورا واضحا في الحضارة المغربية القديمة، خاصة ما يرتبط منها بالرسومات والنقوش، التي كان يضفيها ملوك المغرب قديما على النقود التي كانوا يقومون بسكها، ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد. وإذا كنا نميل، بحجة واقع الأشياء، إلى الاعتقاد بأن هذه الممارسات الفنية، المرتبطة أساسا بالنحت والرسم، قد ظلت مستمرة لدى المغاربة لسنين طويلة وإن بطريق متباينة - على اعتبار أن البحث عن تذوق الجميل لا يختفي أبدا وكلية لدى أي شعب، لكن يمكن أن يحدث هناك إهمال لهذا الأمر بدرجة أولى، أو رفض له بدرجة ثانية - فإن ظروفا تاريخية، ارتبطت بوصول العرب إلى أرض المغرب، في إطار الفتوحات الإسلامية، ستحتم على المغاربة تجنب مزاولة تلك الأنشطة الفنية، لكون بعض الفقهاء كانوا يخشون في ذلك رجوعَ من أسلم حديثا إلى الجاهلية، وبالتالي عودتُه إلى عبادة الأوثان ، رغم أن فريقا آخر من علماء المسلمين يفسر هذا الأمر بكون العالم الجديد للعرب المسلمين لم يرفض التصوير لأسباب مذهبية، وإنما مخافة تورطه في نقاش شديد التعقيد لعالم يعطي للتصوير أهمية مبالغ فيها بل إن الشيخ محمد عبده في إحدى أشهر فتاواه، في موضوع النحت والرسم، اعتبر أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل . نتيجة انتشار هذه المواقف، التي أصبحت منحازة إلى تمجيد اللغة العربية، لغة القرآن، وكل ما هو مكتوب بها من علوم فقهية وشرعية ونحوية ولغوية وأشعار - مقابل رفض وتبخيس كافة التعبيرات الشفوية والفرجوية، وأيضا فنون النحت والرسم... - نتيجة لذلك، أصبحت ميولات المغاربة تنحاز إلى الزهد والتقشف، كما باتت أذواقهم تتسم بالفقر والانغلاق والتقليد والثبات أكثر من انفتاحها على آفاق أخرى تزخر بالتنوع والتجديد والمواءمة. بل صاروا أكثر تحفظا من كل ما يعتبره بعض الفقهاء مفسدة للذوق العام، ليس فقط في ما يرتبط بتداول المنحوتات والرسومات، وإنما أيضا في اختيار أنواع الزينة واللباس. فها هو القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى الأزدي المعروف بابن المناصف ) 1168 - 1223 ( في كتابه « تنبيه الحكام في الأحكام «، يعبر عن ذلك بقوله: « ومن مظاهر المنكرات في الأسواق اشتغال التجار، في غياب الوازع الديني، ببيع الآلات الموسيقية المحرمة وأواني الذهب والفضة، فإنه لا يَحِل استعمالُها وتصريفُها في غير الزينة المأذون فيها لا للرجال ولا للنساء. وكذلك بيع أثواب الحرير التي هي من شكل الرجال وتعلم أنها تشترى لذلك بما عرف من عادة أهل الموضع. وكذلك بيع التصاوير والأشكال المتخذة على هيئة الحيوان كنحو ما يستعمل لجري الماء في الحمامات والديار ونحوها على أشكال الأسد وكالتصاوير التي تستعمل للصبيان في الأعياد و المواسم «. من هنا، نفهم لماذا كان التحقيب التاريخي للثقافة والآداب والفنون في المغرب - على العموم لا يأخذ بالاعتبار إلا جوانب محددة من ثقافتنا هي ما يعتبره البعض « ثقافة عالمة «. هذه الوضعية المتسمة بالانغلاق والانكفاء، التي بات تأثيرها واضحا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية المغربية، سرعان ماستفتح المجال واسعا أمام إحياء تلك النزعة التوسعية لدى بعض القوى الغربية، خاصة إسبانيا وفرنسا، التي طالما عانت من تمنع المغرب على رغباتها في التوسع على مجموع الغرب الإسلامي. حيث شكلت هزيمة إيسلي سنة 1844، القشة التي كشفت ضعف المغرب، ودشنت لبداية مرحلة جديدة من تاريخه، سوف لن ينتهي إلا بإرغام السلطان المولى عبد الحفيظ على قبول توقيع عقد الحماية في سنة 1912. ومع هذا الوضع الجديد، لم يقتصر الفرنسيون والإسبان على استغلال واستنزاف خيرات المغرب الطبيعية والبشرية، وإنما تجاوزوا ذلك إلى تغيير رؤية ساكنته للعالم وتذوقها للأشياء، بل وتوجيه ميولاتها واختياراتها اليومية البسيطة. ومن بين - ارتباطا بموضوعنا - إعادة ترتيب علاقة المغاربة بالفن وتغيير نظرتهم إليه، رغم كون شرائح منهم كانت على تماس شبه يومي بعدد من الفنانين الغربيين، الذين كانوا يزورون المغرب أو اختاروا الإقامة به ابتداء من القرن 19. وهكذا، سيتيح التواجد الفرنسي والإسباني في المغرب، الذي أصبح أمرا واقعا، فرصة أكبر لهاتين القوتين الاستعماريتين لإعادة ترتيب البيت المغربي، وفق مصالحهما الشخصية وتطلعاتهما الاستراتيجية. ومن ذلك العمل على انتشار بعض الفنون وإحياء أخرى، لعل ما يعنينا منها في هذا السياق هو قطاع الفنون الجميلة. حيث سيقومون بتركيز اهتمامهم، في خطوة أولى، على إيلاء بعض الاهتمام للحرف والصناعات التقليدية، قبل الانتقال - تدعيما لهذا التوجه - نحو خلق مدارس متخصصة في تدريس الفنون الجميلة، لفائدة أفراد الجاليات الغربية المقيمة في المغرب، ثم لعموم أبناء المغاربة في مرحلة لاحقة. وبالرجوع إلى عائق تحريم وتبخيس ممارسة الفنون، نسجل أن هذا الوضع لم يحل دون استمرار فئات معينة داخل المجتمع المغربي من تكييف ممارستها لهذا النشاط، إن بتحايل بعضها واعتمادها على تقنيات التزويق والرقش التجريديين الهندسيين في كل ما يرتبط بالمصنوعات التقليدية أو في البناء والتزيين، أو اختيار بعضها الآخر « شق عصا العامة « والميل نحو الرسم التجسيدي على الطريقة الغربية الحديثة. ولعل هذا الفريق الثاني هو الذي نعتبر مساهمته تأسيسية لبدايات ظهور فن التصوير الصباغي الحديث في المغرب. وقد كان للوضع الاجتماعي لأغلب الفنانين المغاربة الرواد، في تقديرنا، الفضل في هذا التوجه الفني الجديد، الذي بدأت بعض ملامحه تظهر منذ مطلع القرن العشرين. حيث شاءت المصادفات أن تتفتق موهبة أغلب هؤلاء وتنشأ علاقتهم بالفن، بسبب قربهم أو اختلاطهم ببعض الفنانين الأجانب الذين كانوا مقيمين في المغرب، سواء من خلال العمل لديهم في مهن متواضعة، كما هو الشأن بالنسبة لمحمد بن علي الرباطي، الذي كان طباخا لدى الرسام الإنجليزي المستر جون لفري، أو مولاي أحمد الدريسي، الذي قاده امتهان حرفة إرشاد السياح الأجانب بمدينة مراكش إلى التعرف على الفنانة السويسرية ليلو فيو، أو محمد بن علال، الذي كان يشتغل لدى الفنان جاك أزيما Jacques Azema.... أو من خلال الاعتماد على النفس من أجل ارتياد هذا العالم المغري بالدهشة والغرابة والخيال، كما هو الشأن بالنسبة لأحمد الورديغي، الذي كان بستانيا في مدينة سلا، أو محمد الحمري، الذي اشتهر برسوماته على واجهات المقاهي والمطاعم، أو أحمد بن إدريس اليعقوبي، الذي كان من ضمن « صعاليك « طنجة، ممن رعاهم الكاتب والموسيقي الأمريكي بول بولز... وغيرهم من أبناء الفقراء الذين كانوا سباقين إلى تليين طباع المغاربة وترويض عينهم على تقبل هذه الممارسة الطارئة على تقاليدهم الموروثة. وقد ساعد هذا الواقع الفني الجديد على ظهور جيل جديد من أبناء الطبقات الميسورة والمتوسطة، ممن أقبلوا على دراسة الفن، سواء بمعهد تطوان أو بمدرسة الدارالبيضاء للفنون الجميلة، أو باختيار التوجه مباشرة لدراسة الفن بالمعاهد الأوربية الكبرى في مراحل لاحقة. وابتداء من مطلع ستينيات القرن العشرين، سيشهد المغرب بداية الانتشار النسبي لممارسة الفن، على الطريقة الغربية الحديثة، مع ما رافق ذلك من بداية الانفتاح على أكبر قدر ممكن من الجمهور، سواء بتنظيم معارض في المدن الكبرى، أو المشاركة في بعض التظاهرات الفنية إن في العالم العربي أو في أوربا. وعلى ضوء هذه الدينامية، ستشهد الساحة الثقافية المغربية، التي لم تكن في منأى عما كان يعتمل العالم من غليان سياسي وظهور أفكار وإيديولوجيات جديدة، إن في السياسة أو الثقافة أو الفن، ستشهد بروز مجموعة من النقاشات المفعمة بنفس سياسي إيديولوجي يميل إلى منظومة اليسار العالمي، على صفحات بعض المجلات الثقافية حديثة التأسيس، التي انبرى أصحابها إلى الدعوة إلى إعادة بناء المجتمع المغربي المستقل، إسوة بباقي المجتمعات حديثة الاستقلال، بما يقطع مع كل الممارسات والسلوكات والإملاءات السياسية والثقافية والفنية التي تعتبر إرثا استعماريا. نتيجة لهذا الزخم الإيديولوجي والثقافي، ستظهر بعض الكتابات النقدية المواكبة لحركية الإنتاج الفني في المغرب، والتي كان أصحابها ينتمون إلى الحقلين الإعلامي والثقافي -الأدبي. إذ سرعان ما سيتسع هامش هذه الممارسة، التي أسس لملامحها الأولى بعض الكتاب الأجانب، ليشهد نشاط النقد الفني بعد ذلك ظهور أقلام جديدة، بعضها يزاوج بين الكتابة النقدية - التنظيرية والإبداع الفني، وبعضها الآخر تبنى موقف الناقد الخبير بخصوصيات هذا المجال. ورغم انتماء أغلب هؤلاء إلى حقول معرفية متباينة، إلا أن طبيعة الخبرة التي راكموها، منهجيا وإجرائيا، وكذا مواكبتهم لما يعيشه الجسم الفني المغربي من تحولات وتنويعات، جعلهم يحوزون تجربة، تقترب - بهذا القدر أو ذاك - من موضوع بحثهم. وبذلك، يمكننا الحديث عن الممارسة النقدية الفنية في المغرب كممارسة طارئة. وبالرجوع إلى بعض الأقلام الأجنبية التي كانت سباقة إلى الكتابة عن المشهد الفني في المغرب، خاصة خلال النصف الأول من القرن العشرين، نجد أن أغلبها لم يكن ينظر إلى هذه الممارسة إلا في جانبها المرتبط بالصناعة التقليدية وما تتصل به من أنشطة أصلية أو مكملة، كمجال البناء والنقش على الجبس والجدران والزخرفة على الأواني والخشب أو صناعة الحلي والزرابي... وما يتصل بذلك: نموذج الفرنسي جورج فيدالونيك في كتابه « الفن المغربي» .. وبدرجة أكثر اقترابا من موضوع التصوير الصباغي الحديث من زاوية تأريخية وتعريفية لدى البعض الآخر: نموذج الفرنسي بيرنار سانت إيغنان في كتابه « نهضة الفن الإسلامي في المغرب». في حين حاولت قلة قليلة منهم فقط تناول موضوع الفن في المغرب من زاوية متضامنة ومشجعة، ومعترفة له بالأصالة وبالتجذر التاريخي، مادام بعض هؤلاء يرون أن الرسام المغربي لم يكن في حاجة للتعلم من الفنان الأجنبي، بقدر ما كان يتخذه كشاهد على موهبته الخاصة، ) ويحضرنا في هذا الإطار نموذج الإيطالية طوني ماريني في كتابها « كتابات عن الفن» (. أما بالنسبة للمغاربة، فقد أتاح العمل الصحافي الفرصة لبعض الإعلاميين، ممن كان لهم شغف بالفنون، لتجريب معارفهم في الكتابة عن الفن ومواكبة معارض الفنانين والإخبار بجديد مغامراتهم الإبداعية، بل وتناول الأعمال الفنية والتعريف بمسارات أصحابها من زاوية تبدو نقدية، إلا أنها كانت - في أغلب الأحيان ، تميل إلى النفس الانطباعي أكثر منه إلى مفهوم النقد الفني المتخصص. ونستحضر هنا على الخصوص تجربة الإعلاميين إدريس الخوري في كتابه « كأس حياتي « ومحمد أديب السلاوي في كتابه « التشكيل المغربي: البحث عن الذات «. وعلى عكس ذلك تقريبا، تكاد تكون كتابات الأدباء، سواء كانوا شعراء أو روائيين أو قصاصين، الأكثر هيمنة على هذا المشهد، بل والأكثر قربا، في كثير من نماذجها، من تملك ناصية المقاربة النقدية في بعدها الجمالي. وفي تقديرنا، ليس غريبا عن هذه الفئة من المبدعين توفقها في إنتاج نصوص نقدية ذات نفس فني، بالنظر إلى الخلفيات الجمالية التي تحكم مجالات إبداعهم. فالأكيد أن هؤلاء ساهموا في تجسير المسافة الفاصلة بين التشكيل وعالم الكتابة، بالاعتماد على الخلفية التخييلية والجمالية والفنية التي تعتبر شرطا لكل إبداع. ومن بين هؤلاء، نستحضر - على سبيل المثال لا الحصر - إسهامات كل من الروائي إدمون عمران المليح، التي جمع بعضها في مؤلف يحمل عنوان « مسار متحرك Un parcours mobile « ، والروائي الطاهر بنجلون، خاصة في كتابه المشترك مع الفنان المغربي محمد بناني « المضيء المعتم Clair Obscur «، والشاعر والروائي حسن نجمي، في كتابه البصري « الشاعر والتجربة «. ومن جهتها، انبرت قلة قليلة من الفنانين التشكيليين المغاربة للكتابة في موضوع تلقي الفن وتذوقه، إن بخلفية تيسير شرط استيعابه، أو للكشف عن بعض مناطقه الغميسة، سواء تعلق الأمر بتجاربهم الشخصية أو بتجارب غيرهم من الفنانين. وتحضرنا، في هذا السياق، تجربتان أساسيتان تألق صاحباها فيما نسميه ب « القراءة التنظيرية الذاتية «، وهما تجربة الفنان محمد شبعة في كتابه الجامع « الوعي البصري في المغرب « وتجربة الفنان الشاعر الراحل محمد القاسمي، خاصة مؤلفُه « Paroles nomades «. قريبا جدا من هؤلاء، ومن طريقة اشتغالهم الإجرائية والمفاهيمية، ظهر جيل جديد من نقاد الفن المغاربة تشبعت بعض نماذجه المكرسة بغير قليل من القيم الفنية والجمالية الكونية، كما أغنت رصيدها المعرفي، الذي راكمته في الدرس الفلسفي وعلم الجمال والفكر الإسلامي، بما يتيحه مجال تاريخ الفن وفلسفة الذوق الفني من إضافات، حتى أصبحت اليوم تشكل نقطة ضوء في حقل تلقي الفن التشكيلي ونقد تجاربه على الصعيدين الوطني والعربي. وهنا تحضرنا تجارب تحسب على هذا النوع من القراءة الجمالية التأملية، مثل تجربة الناقد موليم العروسي، وكتابات الناقد فريد الزاهي، ثم أيضا تجربة الفنان الناقد ابراهيم الحيسن. وفي ظننا، فإن هذه التجارب الثلاث، وقبلها تجربة الباحث المرموق الراحل عبد الكبير الخطيبي، راكم أصحابها إنتاجا نقديا جماليا مهما، يحاول - قدر الإمكان - ترسيخ شرطه المنهجي والمفاهيمي والتاريخي، بما يجعل كتابتهم النقدية تحقق قدرا من المغايرة والتجديد والخصوصية، في مقاربة الحقل الفني في المغرب. ورغم هذه الغزارة في الإبداع ومراكمة التجارب وتنويعها، ورغم الطفرة النسبية التي حققها فعل القراءة والمتابعة والتعدد النسبي في الإصدارات الفنية، إلا أننا بتنا نميل إلى الاعتقاد بأن شروطا أخرى أساسية ما تزال تنقص الممارستين معا، بما يجعلهما تضطلعان، من جهة، بدور تحفيزي في إثارة إشكالات فنية جديدة، مغايرة ومغامرة، ثم بدور تثقيفي وتحديثي في صفوف كافة فئات المجتمع المغربي من جهة ثانية. إذ تكفي الإشارة هنا إلى أن المغرب، ونحن في أراضي الألفية الثالثة، ما زال لم يخلق بعد مصالحة بنيوية وكاملة مع كل ما يستجيب لمتطلبات وجدان ساكنته الفني وذائقتها الجمالية. من هنا، نطرح السؤال عن السبيل إلى نقل علاقة المواطن المغربي البسيط بالفنون البصرية، وخاصة بالفن التشكيلي، من مرحلة التلقي المحايد أحيانا والمتبرم أحيانا أخرى، إلى مرحلة الاعتماد الكلي في تربية الذوق العام وإغناء الوجدان، خاصة في المقررات الدراسية وضمن وحدات البحث والتكوين على المستوى الجامعي. فالأكيد أننا مازلنا حتى اليوم نستغل استغلالا عشوائيا وبشعا كل ما خلفه لنا الاستعماران الإسباني والفرنسي من مؤسسات فنية نعتبرها « غنيمة حرب «، ونعني بذلك أساسا معهد الفنون الجميلة بتطوان، الذي نال وضعا اعتباريا مقبولا نسبيا، بعدما أصبح تابعا لوزارة الثقافة، ومدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء، التي بقيت خاضعة لرحمة وإملاءات المجموعة الحضرية ومزاج منتخبيها، مع ما يستتبع ذلك وما ينتج عنه من وضع اعتباري ينقصه كثير من الاعتبار. وعلى صعيد آخر، إذا كان المنجز التشكيلي قد خطا خطوات مهمة في أفق تكريس هذه الممارسة داخل البيئة المغربية، بما يتساوق مع ما وصلت إليه باقي الجغرافيات التشكيلية عبر العالم، كيف يمكننا تجاوز الإيقاع النقدي البطيء ومعالجة بعض المعيقات التي يحبل بها، من قبيل تسلط نوع معين من الكتاب والإعلاميين من عديمي المعرفة والتجربة على هذا الحقل الشائك ؟ ألا يمكن اعتبار غياب مسالك دراسية متخصصة على المستوى الجامعي، والتي من شأنها تطعيم الساحة النقدية الفنية بطاقات مكونة وذات مؤهلات وخبرة سببا في ذلك؟ ثم ما مدى تأثير قلة بل انعدام وسائط إعلامية فنية، من قبيل الأركان الخاصة في الصحف المغربية، والمجلات أو الكتب المتخصصة في تكريس هذا العطب؟ ألا يمكن اعتبار هذه الوضعية التي يطبعها الفقر والاستسهال وعدم وضوح الرؤية، وطغيان التناول السريع والمقاربات الفضفاضة مبررا للقول بأن معظم ما يكتب تحت مسمى « النقد الفني « في المغرب، مازال ينقصه كثير من الدقة والوضوح والصرامة، إن على المستوى المعرفي أو المنهجي الإجرائي؟ وهل يمكن اعتبار إيلاء مزيد من الاهتمام بإنشاء متاحف وطنية، جهوية ومحلية، وتأهيل القائم منها، وما يستتبع ذلك من تفعيل لمكاتب التوثيق الفني والمحافظة على الآثار والمنتجات التقليدية والفنية باعتبارها تراثا وطنيا، وتشجيع ترجمة عيون المؤلفات المتخصصة، من قبل الباحثين والكتاب والطلبة في أقسام التخرج، آليات وبنيات مؤسساتية أساسية ومقترحات عملية، كفيل بالرقي بمستوى الممارسة الفنية والنقدية ببلادنا ومحفزا لها على الإبداع وتنويع المقاربات ؟ هذه فقط بعض الأسئلة - المقترحات، التي أردنا لها أن تبقى مفتوحة على كل الاجتهادات الممكنة، تاركين المجال لكل باحث يفكر في الاشتغال على الموضوع بما يجب من التدقيق والعناية والتوسع، دون إهمال، بطبيعة الحال، لعدد من التجارب المضيئة والمتحمسة والمؤمنة بضرورة الاستثمار في إغناء أسئلة هذا الخطاب المتنور المؤسس لبعض شروط حداثتنا المجتمعية. على أن أملَنا يبقى كبيرا، ونحن نصل إلى نهاية هذه المرافعة، في أن تتاح لنا فرصة الاقتراب أكثر من بعض الأعطاب الأخرى الثانوية، التي لم يتسن لنا إثارتها، بالنظر إلى انشغالنا بما اعتبرناه إشكالات وأولويات بحثية مؤسسة وجوهرية. كل ذلك في أفق إعادة بعض الاعتبار لفنانينا المغاربة - خاصة الرعيل الأول المؤسس - الذي لم يتسن لأغلبهم، معاينة التحولات الفنية التي غامروا ذات « وقت صعب « بوضع أولى لبناتها « الساذجة « أو تلك كانت « منفعلة ومشككة «، في قدرة النبوغ المغربي على ارتياد عالم الفني والجميل، قبل أن تتحول أحلام كل هؤلاء إلى حقيقة، وإلى صرح فني « ناضج « وإلى ممارسة « عالمة « و « مشعة «، تؤسس لبعض من حداثتنا، ليس في الفن وحسب، وإنما في كافة مجالات ومناحي حياتنا العامة.