يعتبر المبدع شفيق الزكاري-يقول الفنان والناقد ابراهيم الحيسن- واحدا من النقاد الفنيين المتميزين بالمغرب، وذلك بالنظر إلى دقة خطابه النقدي ورصانته، إذ كثيرا ما يتقوّى بالمصادر والمراجع البصرية والضرورية التي تتأسس عليها مقارباته الجمالية. وقد تتبعتُ كتاباته النقدية منذ الثمانينات وتمثلتها باستمرار واكتشفت انتباهه المبكر لسؤال التأريخ للتجارب التشكيلية المغربية والعربية والدولية وهي ميزة نادرة لا يتوفر عليها إلا النقاد المحترفون والمتمرسون، غير أن النشاط النقدي لدى الزميل الزكاري وبالنظر إلى الكثير من الظروف وتجربة الغربة بإسبانيا- سرعان ما تقلص بشكل لافت للنظر وأتمنى أن يعود إلى الظهور بقوته المعهودة التي نحتاج إليها وهو الذي أغنى الصحف والمجلات المغربية والعربية بكثير من النصوص والمقاربات البصرية المتخصصة في النقد والتحليل التشكيلي. أما عن تجربته الصباغية، فإن اللوحات التي يبدعها الزكاري تظل تتميز بشخوص من طينة أخرى..شخوص وأشكال آدمية مصاغة بطريقة إيحائية ينصهر فيها الاستلهام داخل وحدة الموضوع..فالوجه والقناع والجسد..عناصر تعبيرية أمسى الفنان يستعملها إلى جانب أخرى تختزل في رمزيتها جدلية الحياة/ الحضور والموت/ الغياب على أسندة مادوية مشبعة بتراكبات لونية وإشارات خطية متعجنة ذات نتوءات بارزة En relief.. ومن الأشياء التي تمنح شخوص الفنان الزكاري الحيوية المفترضة، تحكمه في التقنية التعبيرية ومعرفته الجيدة بأسرار المواد والأصباغ. أضف إلى ذلك إدماجه للصور في بنية العمل الفني بأسلوب جمالي حداثي تلعب فيه الشاشة الحريرية دورا مهما ومركزيا.. مع إضافة أساسية، هي أن المبدع شفيق الزكاري يعد من أبرز الفنانين المغاربة المتخصصين في فنون الطباعة والنسخ الفني، ولاسيما الطباعة الحريرية المعروفة بالسيريغرافيا إلى جانب زميله الفنان نور الدين فاتحي. الفنان شفيق الزكاري، هل لكم أن تحدثونا عن بداية مشواركم الفني ؟ كان اهتمامي بالمجال الفني منذ السبعينات . بعد التوفر على رصيد لابأس به من الأعمال، توجهت لتنظيم معارض في عدة مدن مغربية إلى أن توفّقت في الحصول على منحة للدراسة بالمدرسة العليا للفنون الجميلة ب«ديجون» بفرنسا ، ومن هناك بدأت الرحلة الاحترافية لاكتشاف أجناس تعبيرية أخرى تدخل نسق الفنون المعاصرة من خلال التمدرس و زيارة المعارض و المتاحف الفنية بأروبا إلى أن أكملت دراستي وعدت أدراجي إلى الوطن الأم محملا بأفكار ومشاريع فنية سوف تدخل حيزالتطبيق بعد فترة من التأمل في الموروث الثقافي المغربي موازاة مع متابعة نقدية محاولا رصد كل التحولات الهامة في الساحة التشكيلية المغربية والعربية، ومن ثم قمت بأول معرض بعد عودتي من المهجر تحت عنوان ( الخيال التاريخي ) ثم ( الزمن و الأرض ) و(وادي المخازن)، وفي نفس الفترة قمت صحبة الفنان نور الدين فاتحي بإنشاء ورشة كرافيكية للطباعة الفنية، فكانت منطلقا لتأسيس أول صالون كرافيكي بالمغرب بمشاركة الفنان بوشعيب هبولي سنة 1988تلتها معا رض مختلفة ومتعددة بأرجاء المغرب وخارجه إلى أن أصدرت أول كتاب (قراءة في التشكيل المغربي الحديث) . وبعد هجرتي مرة ثانية إلى اسبانيا حيث أشتغل حاليا، نظمت معرضا آخر بمدينة ڤالينسيا ، فكان خطوة إيجابية للتعرف على عدد من التشكيليين الإسبان الذين يشغلون مناصب بالجامعة التقنية للفنون الجميلة بنفس المدرسة و من ثم بدأت رحلة من نوع آخر لتوطيد العلاقة و تبادل الأفكار .. ثمة حديث عن مدرسة تشكيلية مغربية بمواصفات عالمية، وهناك من يتحدث فحسب عن اتجاهات أو أساليب عصية على التصنيف،أين تصنفون أنفسكم،وما هو أسلوبكم في الصباغة والتشكيل؟ لاتوجد مدرسة تشكيلية مغربية بمواصفات عالمية.هذا زعمٌ ومجرد وهمٍ وافتراءٌ على التاريخ.كل ما هناك تجارب فردية تطرح قضايا عالمية،لأن التشكيل المغربي له خصوصياته.وبالنسبة لعملي،فيصعب تصنيفه لتداخل الأساليب فيه،إذْ لم أفكر قطُّ في الانتماء ل «مدرسة»معينة،إنما كنت أفجِّر طاقتي وِفق معايير شخصية تخوِّل لي تقديم عمل متوازن يستجيب للشروط الإبداعية. وقد يمكن الحديث عن أن اهتمامي توجه للتشخيصية الجديدة، احتل فيهاالجسد دورا محوريا إلى جانب أشياءَ أخرى مكمِّلة للموضوع الذي كان يعكس الحياة اليومية في بُعدها الهامشي، وذلك بإعادة صياغة وتقديم هذه الأشياء بنظرة مغايرة لإثارة الانتباه إليها كعناصرَتافهةٍ، وتحولت لعناصرَ لها أهميتُها .وبما أن التشكيلَ في هذه الفترة شهد خواءً على مستوى المضمون، حيث توجه في طرحه لما هو مفاهيمي وتقني،فكرت في أسلوب يُؤلِّف بين التقنية والموضوع لتحقيق تكافؤ وتوازن على مستوى المشاهدة والمضمون باعتبار هذا الأخير عنصرا إحساسيا يملأ فراغا روحيا في العمل التشكيلي ، ولذلك كنت غالبا ما أشتغل في أعمالي على تيمات لها علاقة بما هو وجودي، وتحيينها لتصبح مرآة للوضع الراهن في جزئياته التافهة التي اعتبرتها دائما مفتاحا لفهم و تفكيك هذا الوضع ، أي إعادة تركيب الشظايا التي تُؤثث الفكرة الرئيسيةَ في عملي بالانطلاق من الجزء للكل و ليس العكس،هذا باختصار و بإيجاز نوعية انشغالاتي الفنية . الواقع التشكيلي المغربي يترنح بين المد والجزر،أي تارة يؤكد الطفرة النوعية على مستوى الشكل والمضمون والتقنية والتصوير بوعي وخبرة فنية بشكل متطور، وتارة أخرى تنتابه الكآبة والبُهوت لظروف مرتبطة باليومي أو نقص في الإمكانيات،لاسيما حين يتعلق الأمر بمشاريع فنية احترافية هامة، ما تقييمكم؟ هذه إشكالية مركَّبة، ولهذا التأرجح دواعٍ،فكما لدينا فنانون على الوجه المطلوب والمشرِّف،لدينا أيضا أشباه الفنانين الذين همُّهم الوحيد الربح بأي ثمن وبأسرع وقت ممكن،تلبيةً لرغبات مستهلك لايثق سوى في الأعمال التقريرية..وما زاد من تأزيم الساحة التشكيلية دخول بعض السماسرة للحقل التشكيلي،ذلك أن التشكيل قطاع فني حر ولم يُقنن بعدُ، فمن الطبيعي أن يبحث السماسرة عن منفذ للربح دون أي مراجعة أو مراقبة مالية من طرف الدولة على غرار ما يجري بالغرب.فالفنان لم يطالب بعدُ بحساب لمدخوله السنوي أو لعدد المبيعات سواء مباشرة أو عن طريق الأروقة وخاصة من هم يزاولون مهنة التعليم أو مهنا أخرى بدخْل قار،لذلك يلجأ هؤلاء الفنانون للتعامل مع هؤلاء السماسرة لأن المبيعات في مصلحة كلا الطرفين في غياب المراقبة، بينما يضيع الفنان المحترف الذي لا يملك عملا قارا في خضم هذه المقايضات أو يصبح فريسة نادرة للاستغلال، نظرا للظروف القاسية التي يعيشها. ينضاف إلى هذا قلة الدعم ونُدرة القاعات الصالحة للعرض وكذا ندرة المتاحف.ولامناص -في هذا الإطار-من ضرورة تأسيس الوعي البصري والعمل على التعريف بأهمية هذا الإبداع و بقيمته الثقافية والفكرية، إسهاما في بناء جيل من المتذوقين ونهوضا بالتنمية الثقافية على المستوى المحلي والكوني.وبخصوص المزادات العلانية،فأراها ظاهرة صحية،وهي جزء من السوق الفنية، لأنها تحدد مسار الفن،وتجعل منه نموذجا تقويميا وتساهم في تحديد السومة الحقيقية للعمل شريطة احترام وزن وقيمة الفنان والعمل الفني.وأما المتحف الوطني،فلم يفتح أبوابه بعدُ للكشف عن الأسماء المعروضة به.لكن، إذا ماسُجل أي نقص، فأكيد يتحمل المسؤولون تبعات الاختيارات، وعلى أي أسس جمالية وفنية اعتمدوا في صرف الميزانية لاقتناء هذه الأعمال،لأن مشروعا بحجم المتحف الوطني هو مشروع وطني يعكس موروثا فنيا، ويجب أن يخضع لشروط حقيقية لإبراز جزء من معالم الحضارة المغربية،ونجاحه مرتهِن بنزاهة ووطنية المشرفين عليه وعلى الطاقم الذي سوف يديره. كما تعلمون،مازالت الحركة التشكيلية بالمغرب في عنفوانها بالنظر لمسارها القصير،ولكنها عرفت ثراء وزخما،هل واكب هاته الدينامية نقدٌ عالِم؟ كل الإصدارات النقدية حول التشكيل كفيلة بالرد على هذا السؤال، فجلُّ المعارض واكبتها كتابات. تبقى المسألة في تحديد نوعية هذه الكتابات، ولايجب أن نتنكَّر لها، فمنها ما هو انطباعي أو أدبي أو نقدي صِرف، مع اختلاف مناهج التحليل، وهذا دليل على وجود نقد مواكِب للحركة التشكيلية المغربية على عكس ما يدَّعي البعض،غير أن مستويات الكتابة مختلفة:يوجد من ينطلق من مرجعية كتُبِية أو مَرئية أو معا،لذلك يحصل تفاوت على مستوى التحليل والتفكيك،وثمة من يعتمد مناهجَ ديداكتيكية وأخرى أكاديمية انطلاقا من الفلسفة أو السيميائيات أو علم النفس ..وهنا لا أتحدث عن أشباه النقاد الذين يمررون خطابات متشابهة على شكل قوالب جاهزة لاعتبارات ذاتية تدخل دوامة الربح والزبونية قد تسيئ لمسار الفنان وتجعله سجين دوامة وهمية لن يتخلص من رواسبها بسهولة. وبعبارة أخرى يمكن القول إن ثمة نقادا يشتغلون بطريقة منظمة ومنتظمة،غير انه ليس كل ما يكتَب عن الفن التشكيلي نقد مختص،فأعتقد أن القليل جدا من هو مختص كناقد،يمكن أن يصنَّف عملُه ضمن تاريخ التشكيل العالمي . من منطلق اغترابكم باسبانيا..كيف ترون التجربة التشكيلية المغربية بالمهجر؟ التجربة المغربية بالمهجرغريبة عن محيطها الأصلي كانتماء، لأنها هي الأخرى تعيش مغتربة، ويمكن أن تتفاعل مع الفضاء الذي تعيش في أحضانه، فرغم أهميتها فهي في الأصل تغرف بشكل مباشر من الغرب، لذلك كانت فيما قبل عودة جل الفنانين المغاربة لبلدهم ضرورية من أجل البحث عن الهوية لصياغة أمثلة جذرية استندت لمرجعية أصلية لها علاقة بالثقافة والتراث المغربيين،هذا لاينفي تجارب أخرى لمغاربة بالخارج حافظوا على هذا الارتباط واكتسحوا الخريطة الفنية بأروبا و بمناطق أخرى في العالم، ونادرا مانلتقى بهم في المغرب، إلا إذا ما وجهت لهم دعوات بين الفينة و الأخرى في إطار مناسبات معينة، ولتقييم هذه التجارب المغتربة فإنني بصدد تهييئ كتاب جديد سوف يتم إصداره بالمغرب تحت عنوان « تجارب مغربية بالمهجر،» بعد الانتهاء من الاتصال و زيارة الأوراش بكل من اسبانيا و فرنسا لأقف على التقاطع في هذه التجارب التي لاتوحدها إلا الغربة بقدر ماتوحدها الجذور ويوحدها الانتماء ، على سبيل الذكر لا الحصر، هناك أسماء وازنة تشغل حيزا هاما في الوسط الفني بالغرب (حكيم غزالي،مصطفى بميش،المساري،محمد الرايس..). خضتم تجربة حروفية، ولا ريب أنكم وقفتم خلالها على أسرار الحرف، كيف كانت البدايات؟ومن موقعكم كممارس لهذه التجربة، هل ترون الحروفية مجرد مران على الخط والتفنن في إبداعيته أم أن الأمر يتعلق بهندسة روحية منطلقها الدين الإسلامي وروحانياته ؟ الحروفية ليست مرانا على الخط فقط،ولكن أيضا هي هندسة روحية تستدعي دراسة معمقة لفهم أسرارها ومكنوناتها،وممارسة فعلية ومستمرة على مستوى الشكل في علاقته بالمضمون.فالخط يهذب النفس ويساعد على تصحيح العين واتزانها في القبض على قياسات ملتوية وانسيابية تسمو بالروح لأعلى درجات التصوف الفني. كانت بدايتي حروفية بمفهوم كلاسيكي، حيث كنت أمارس قواعد فن الخط العربي ثم بمفهوم معاصر بعد ذلك، حيث تطورت الفكرةُ ليمسي هذا الاهتمام موازيا لاشتغالات بعض الفنانين على الحرف و إدماجه في العمل التشكيلي، وخاصة جماعة البعد الواحد العراقية، التي كان يترأسها الفنان شاكر حسن آل سعيد مع عدد آخر من أهم التشكيليين الحروفيين كضياء العزاوي ورافع الناصري ... لم يتخذ اهتمامي بالخط العربي بعدا تبعيا مرتبطا بالفترة كموضة،بل كان اهتماما مبدئيا بقواعده كخطاط أولا، ثم تحول هذا الاهتمام سنة 1984 لمحاولات أخرى دعت إليها الضرورة الموضوعية في إطار البحث والتجربة،بعيدا عن أولويات التفرغ لأن الفكرة التي تملي دائما طريقة الاشتغال تعتبر مكونا حيويا لشخصية الفنان الزئبقية التي غالبا ما لا تستقر على نمط تعبيري معين وإلا فلن يخرج عن دائرة الرتابة والتكرار،وفي هذا الإطار، أعتبر الفنان عبد الله الحريري، الأب الروحي بالمغرب لتجربة الاشتغال على الحرف بشكل جيد بموازاة مع مع جماعة البعد الواحد والمعروف على الصعيد المحلي والعربي والعالمي، ومصطفى السنوسي ومحمد بستان ومحمد قطبي،فضلا عن بعض المحاولات العابرة لكل من لطيفة التوجاني ومحمد المليحي وحكيم غزالي. ..وتبقى المقارنة بين حروفيةالمغرب وحروفيةالمشرق واردة لتزامن الاهتمام المشترك وتقارب الرؤى من حيث التفاعلُ والمعالجةُ في كل من عمل مديحة عمر ونجا المهداوي ووجيه نحلة وحسن زندرودي وجماعة البعد الواحد ببغداد.