يحاصره القلق والخوف يتسلل إلى أعماق نفسه المعذبة المكتئبة, كئيبة هي الألوان والأشكال والأسماء من حوله، وغريبة هي المباني والعمارة والبشر.. الأندلس محطته الأولى نحو العالم الجديد ..لأجل الوصول إلى هذه الديار وقع شيكا على بياض ووضع راسه على مقصلة العصر الجديد عصر لا يعترف بالضمير ولا مكان للوفاء في لغة أهله .. عاوده صوت معذبه الذي يلاحقه حيثما حل أو إرتحل عاودته ملامح أولائك الذين يفترشون أرصفة طنجة والبيضاء بوجوهم الشاحبة وعيونهم الحمراء الغائرة .. لم ينسى أن يذكر نفسه بأنه قسط لهم الموت وباع للوطن سنوات من التخلف وساهم في صنع أجيال لا ضوء ينير نفقها المظلم. "" كان يجلس على مقعد بشرفة بيت آدم بمدينة ملقا الساحرة وهو يتأمل أمواج البحر الأبيض المتوسط .. كان البيت مليئا بأصدقاء آدم من إسبان وامريكيين و الجميع يحتفل باحتساء كؤوس الجعة ويتقاسمون لحظات المجون والجنون.. نظر إلى الداخل فلمح احد الشباب الإسبان وهو شبه عاري يضع يده على رقبة أخته مريم وهو يتحسسها بشهوة عارمة فيما كانت هي غارقة في تلمس طريقها وسط هذا الواقع الجديد .. بعد أن أيقنت أنها اصبحت اكثر حاجة لآدم من أي وقت مضى فقد خسرت كل ما جمعته من أموال وبات جيب آدم هو بوابتها نحو الخلاص.. حاول نعمان التظاهر بالسرور وعمدا ابتسم وهو يفتح باب الشرفة فتلقفته رائحة الحشيش المنبعثة من الداخل فيما اقترب منه أحد المخنثين من أصدقاء آدم كان الشاب يدعى جيم وكان يراقب كل حركات نعمان منذ بداية السهرة.. سال جيم آدم بنبرة عنصرية لئيمة - لمن هذا الحصان يا آدم يبدو انه فحل من النوعية الجيدة - لا تضيع وقتك .. إنه عنيد ويمر بظروف نفسية صعبة - دعني أجرب - قلت لك لا تضيع وقتك.. - لماذا لا تصارحني هل هو لك ؟ - طبعا .. وهل عندك شك أن كل ما في هذه المملكة هو لي - آسف .. يا جلالة الملك .. أفضل ان أنسحب بهدوء - خيرا ستفعل تجاهل نعمان الحوار الذي دار على مسمعه بلغة إنجليزية واضحة كان يعلم انه في أحسن الأحوال لا يملك القدرة على الوقوف في وجه نزوات آدم خصوصا بعد أن أصبح اليوم بضاعة على رف من رفوفه .. اقترب من أخته مريم محاولا الإنزواء بها .. لم تعره أي إهتمام كانت فى حالة سكر وقد انبطحت على أريكة تلاعب أحد الشباب فيما كان آدم يستمتع بالمشهد وكله فخر بمملكة اللذة التي توجته ملكا دون منازع - مريم - نعم.. ماذا تريد ؟ - أود الحديث معك على انفراد - إننا على انفراد ألا ترى أن الجميع سكران ومع السكر تقل حاسة السمع وتستيقظ حواس أخرى.. أنا عندي فكرة اخرى .. لماذا لا تنتظر إلى الصباح ونتحدث في كل الأمور - مريم .. تعلمين جيدا أن الأمر خطير.. فسمية وإبني عبدو بين أيدي أناس في القصر الصغير وسينطلقون بهما نحو الضفة الإسبانية هذه الليلة - وماذا تريدني أن أفعل لك.. لقد نصحتك بأن تخبر زوجتك بالإنتظار .. لكن وجه النحس التي تزوجتها تفضل المجيئ على طريقة الحراكا .. فلتتحملا إذن المسؤولية - المال يا مريم .. أريد منك المال قبل أن أسافر إلى مدينة طريفا للقاء بهما .. هل تفهمين ؟ - أفهم .. أفهم .. ولكن انا الآن في عالم جميل .. جميل .. هل تفهم وأنت تريد مني أن اتذكر ما أحاول نسيانه من مصائب .. هل تفهم أن وضعي ووضعك سواء - لكن بإمكانك التحدث مع آدم في الموضوع - نعم .. وآدم أكثر ما يكره سماعه هو إسم زوجتك , إنك تعلم كم يكرهها ويتمنى موتها في أية لحظة.. إنه يحبك.. لماذا لا تجرب أنت معه - أجرب ماذا ؟ - أنت تعلم جيدا ماذا يريد منك ؟ - لكنني لا استطيع .. كانت مرة واحدة وكنت في حالة سكر ولن تتكرر - وما الفرق.. هل يمنعك الدين أم هي أخلاقك النبيلة ام بعض من مبادئك القديمة التي إستيقظت فجاة.. إسمع يا نعمان .. أنت آخر من يملك الآن أن يمانع في أي شيء - ما تقصدين - أقصد أن تتركني وشأني وألا تطير السكرة من دماغي حملت سمية بعضا من حاجياتها البسيطة ووضعت إبنها على ذراعها وتسللت من البيت بعد أن ألقت نظرة صامتة على وجه أبيها النائم .. تأملت البيت النائم ثم فتحت الباب وخرجت في اتجاه موقف سيارات الأجرة.. كانت الساعة تشارف الثانية بعد منتصف الليل .. وقفت بالقرب منها سيارة هوندا نصف نقل.. فتح السائق نافذة السيارة وصاح فيها مثل المعتوه - تحركي يا امرأة لا زال أمامنا طريق طويل - حاضر يا سيدي .. أرجوك لا داعي للصياح فالولد نائم - آسف .. لم اكن اعلم أنك تحملين رضيعا .. ولكن المعلم لم يخبرني انك سترحلين مع ابنك - اسمع يا أخي .. إبني معي أينما ذهبت - حاضر .. حاضر .. سنرى ما يقوله صاحب القارب وصلت السيارة إلى قرية القصر الصغير بعد توقفها عدة مرات , مرة لإلتقاط بعض الشباب الذين كانوا يختبأون بين الأحراش ومرات عديدة للتفاهم مع رجال الدرك الذين كانوا في انتظار قبض نصيبهم من الغنائم.. كان عدد من سيركبون القارب يتجاوز الثلاثين شخصا بينهم الطفل والكهل والمرأة .. وجوه صفر وعيون اكتسحها الخوف والقلق والفرحة والأمل .. وكل يحمل بيده ورقة كتب عليها اسمه بعد أن سلموا أوراقهم الثبوتية للرايس علال.. تقدمت سمية بخطوات ثقيلة نحو الربان وهي ترتعش خوفا بينما زاد صياح ابنها من قلق العجوز الذي لم يتوقف عن طلب إسكاته. - يا لالا .. يا سيدتي أسكتي ولدك - السلام عليكم آ الرايس - وعليكم السلام .. أين ورقتك ؟ - أنا سمية - تشرفنا .. اين ورقتك ؟ - انا زوجة المعلم نعمان - أهلا وسهلا .. فهمت .. فهمت .. لقد تحدث معي المعلم .. لا تقلقي كل شيء سيمر بخير إن شاء الله.. تفضلي إصعدي .. إجلسي هناك في المقدمة بالقرب من المحرك .. فالمكان هناك دافئ رغم أن رائحة البنزين قد تزعجك لكنه أئمن لك ولرضيعك من هواء البحر البارد - حاضر .. شكرا يا سيدي انطلق القارب يشق أمواج مضيق جبل طارق في اتجاه شعاع النور المنبعث من الأفق نحو الضفة الإسبانية .. اكتسح الظلام الدامس وجوه المسافرين .. لم تسمع غير بعض البسملات وبعض الأدعية فيما انخرط أحد الراكبين في قراءة القرآن بصوت مرتفع ..كان البحر هائجا والأمواج تتلاطم القارب الصغير... أحس الرايس علال بعد اقل من عشرين دقيقة أن شيئا ما يعرقل حركة القارب .. حاول معالجة المحرك لكن الأمر تعذر عليه .. - يا إخوان .. لا تقلقوا .. الأمر عادي .. يبدو أن الماء مرتفع هذه الليلة .. أرجو ان تتجمعوا هنا بالقرب مني .. سأحاول تشغيل المحرك كانت عباراته تحمل نبرة قلق واضح .. قلق زاده تلاطم الموج العاتي .. وفي لحظات كانت المياه تغمر القارب .. تعالى الصراخ والعويل .. وصوت الرجل وهو يقرأ القرآن ارتفع اكثر فأكثر .. ازدادت حدة الإضطراب والتوتر وفجاة بدأ القارب يتحرك من جديد ليحس الجميع ببصيص الأمل - يا إخوان الأعمار بيد الله والله وحده هو الذي قدر لكل منا ساعة ميلاده وساعة وفاته..لن يؤخرها أو يقدمها لا الحرس الإسباني ولا الموج العالي - نعم ولكن يا ريس الله لا يقبل أن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة والموت المحتوم ويقول أن الله قدر كل شيئ. إلتفت أحد الشباب من حملة الشهادات العاطلين إلى المتحدث وهو لا يكاد يصدق ما يسمعه - إسمع يا أخي .. ما الحل .. التهلكة التي تتحدث عنها هي آخر ما تبقى بين أيدينا الموت في أعماق البحار أهون من حياة الذل في المغرب .. - هذا الأمر لا علاقة له بالقضاء والقدر .. - نحن من يصنع أقدارنا .. نحن من يحدد مصير يومه وغده..وما القضاء والقدر سوى مخدر يضحكون به عليكم , يتمتعون بالعز والمال والصولجان ويلقون لكم بخطب عن القدر والمكتوب - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. هذا الشاب أكيد من جماعة الطلبة الملحدين - أنتم دائما هكذا يا أهل المغرب .. لكم من الطيبوبة الشيئ الكثير عندما يتعلق الأمر بمن يستعبدونكم .. لكنكم قساة جدا على بعضكم البعض .. تفو عليكم جنس معتوه حقود - اسمع يا متخلف .. البحر هائج والقارب يتأرجح بشكل يزعجني فلا تزدني إزعاجا .. - لا تصرخ يا ريس .. أنا مثقف - أنت مثقف .. واضح جدا مقدار ثقافتك.. مثقف لدرجة أنك بمجرد حصولك على الشهادة قنطت من رحمة الله ونكرت فضل الوطن الذي علمك بالمجان وها أنت تهاجر إلى الخارج لغسل الصحون وكنس الأرض لأناس لا يملكون ربع ما تحمله من شهادات - نعم .. ولكن لديهم نظام يدرس كل صغيرة و كبيرة وأحزاب تهمها مصلحة الناخبين .. - الأحزاب هي الشعب .. ماذا سيكون مصير المغرب إذا هجره كل أبناءه ؟ بدات الرياح تهب بشكل قوي كلما اقترب القارب من الضفة الإسبانية .. وازداد مع إرتفاعها خوف الركاب وهلعهم .. كانت الموجة الواحدة ترفع القارب أكثر من ثلاثة أمتار وبتلاطمه تفرغ بداخله سيلا من الماء.. امتزج خوف سمية على رضيعها .. بخوفها من الموت غرقا .. مدت يدها للريس تطلب منه قميص النجاة .. فلم تفلح في الفوز بواحد إذ كان الجميع يتهافت على ما توفر من قمصان قليلة .. - يا ريس أرجوك أترك لي واحد .. أنا معي رضيع - يا بنتي .. لا أستطيع .. ألا ترين لقد أخذوها كلها.. - يا أخي ارجوك .. ارجوك .. ارتفعت عبارات التكبير والحمد .. لحظات لم تدم طويلا قبل أن يرتفع القارب على ظهر موجة عاتية ويلقي بالجميع نحو الماء .. - إبني.. أرجوكم .. أين إبني .. - إبتعدي عني يا إمرأة .. لا تمسك بي - يا إلاهي .. إبني هناك .. - الله .. أشهد ألا إلا...ه .... - يا لطيف .. - الله أكبر إختلطت الأصوات بالأمواج بالرياح .. لم تتمكن سمية من اللحاق برضيعها الذي خطفه التيار مع من إلتهم من أشخاص إرتعش نعمان فجاة وهو يقضي ما تبقى من ليلته على بوابة أحد الفنادق الرخيصة بمدينة طريفا في انتظار وصول زوجته وابنه بعد أن تدبر أمر المال مع آدم يكن ولم الثمن رخيصا أبدا .. بدأ القلق يسيطر عليه فعاد إلى الغرفة للإتصال بمدينة طنجة ومعرفة مصير زوجته وابنه فأوقفه حارس الفندق وهو عجوز إسباني ممن عاشوا في المغرب فترة الحماية الإسبانية شمال المغرب.. كان الجوز مرتبكا وهو يتمتم بلكنة مغربية ممزوجة بالإسبانية - أنظرما حصل لقارب الموروس يا مغربي - أين ؟ من ؟! - قارب مليئ بالمهاجرين السريين المغاربة .. ابتلعته مياه البحر ولم ينجو منهم سوى أربعة شباب.. أنظر .. أنظر .. هاهم ينتشلونهم من الماء.. يقال أنه كان بينهم.. إسمع إسمع - إرفع الصوت يا خوان من فضلك.. يا إلاهي .. سمية سمية .. إنها زوجتي .. إنها زوجتي .. هذه المرأة .. أين ولدي .. ولدي عبدو .. - إهدا يا مغربي .. كيف عرفتها - إبتعد أرجوك.. وهل سأخطأ في وجه زوجتي.. أنا هنا في انتظارها .. - إهدأ - كيف اهدأ - لماذا لا تتصل بالشرطة .. أخبرهم عن أمر زوجتك وابنك .. ليسلموك .. - أسكت