من الأبجدية الأولى التي تتنسم رائحة الرحيل والسفر داخل رحلة ألوان مجردة من المعنى، ومن حروف التهجي الأول للقراءة الصامتة للجمل الواضحة والغامضة،ومن تعويض الكتابة بالحروف والكلمات بتسطير الأشكال البديلة عن هذه الكتابة لونيا، يتنسم حسين السخون عبق الرمل والحصى والوحل الرطب والمهمشات،ومن دفق الماء الزلال والخطو الضائع بين الخطو والمسافات و الأشياء الضائعة، يفتح إمكانات تجربته التشكيلية وهو يعفي أثر الخطو والأنامل والرؤية وكأنه يلف خواء الطرقات والمتاهات والضياع والأشياء الضائعة لمصالحة حلمه الطفولي في لوحات يكتب بها زمن هذا الخطو وكأنه يعلن عن ميلاد الانطلاق المتجدد، والرجوع الممكن من وإلى حكايات هذه الطفولة ليقرأ بها مرايا الذاكرة،و يكسر مرايا الظلام الذي لا ينكسر، والرحلة التي لا تنتهي،ويستثمر عواطفه في ألوان بها يختار لكل لون ما يناسبه من حالات ومعاناة القلق الدفين المنبعث من سيرة حياته. ************* إنه فنان تشكيلي مدمن على الصمت ، ومدمن على عشق الألوان، وعشق التردد لإخراج لوحاته من كمونها رغبة منه في جعل التشكيل ينوب عنه في الكلام ، ويحرص حرصا كبيرا على ترميم دلالات القطع المتناثرة المهملة كي يعيد لها بهاءها المضمر في كلام اللون. هذا العشق يفتح في تجربته التشكيلية إمكانات هامة لتأمل التشكيل المغربي المعاصر، وتساعد هذه التجربة على قراءة إسهاماته الجمالية والفنية بعد أن اكتملت عناصرها وتآلفت ونضجت فيها قوة التلميح الدلالي إلى الصور الرمزية الغارقة في أبعاد تشكيلية لأطياف وأشباح وأقنعة سريالية. ومقاربة هذه السيرة الذاتية في السيرة الفنية لهذا الفنان، وفهم السيرة الفنية في هذه السيرة الذاتية تعنيان معا مقاربة تجربة فنية غنية بعناصر الدهشة من زمن الميلاد إلى أن صارت كما هي في عالم التميز التشكيلي المغربي تاريخا لمعنى السفر بمعنى الطفولة،فهو يرسم لهذه الطفولة شكل بحثها عن الصور الضائعة،ويتكلم عن العصامية التي تعود إلى دهشة اللون الأول في تجربته التشكيلية ، ويكشف عن لعبة ترميم المهملات لصناعة اللوحة ،وأخيرا يبرز كيف تنامت وتطورت التجربة لتصل إلى شرعية الانتماء إلى الفن التشكيلي المغربي المعاصر. معنى الميلاد و السفر في عيون فنان محتمل التحقق كان ميلاد حسين السخون عام 1950 في بادية منعزلة عن المدن و عن مراكز الثقافة التقليدية في المغرب ،بادية تتميز بكونها فضاءات أمازيغية فنية أصيلة تتباهى بألوان الزرابي والوشم والطبيعة والأنغام المنبعثة من أوتار رومانسية يمتزج فيها الحزن بالحب، ويتآلف فيها رقص الأنفاس اللاهتة برقص الأجساد المتعبة، ويتشكل فيها الحرف العربي في الكتاتيب القرآنية،و تتخذ من امتدادات المطلق وألوانه القزحية، و من خضرة ويناعة الطبيعة ومن تدفق مائها الزلال نورا يضيء الخبايا المعتمة، يحركها حنين الذات إلى اللحظات البكر والصفاء الذي لم تلوثه صناعة الزيف بالأحجار والاسمنت والأصباغ الباهتة. بادية غارقة في عزلتها تعيش على إيقاع تشابه الأيام،والأنفاس، والحالات، تسمى «الكنزرة» قرب «وادي بهت»، حيث توجد بحيرة «آيت والال» التي خزن منها حسين السخون دفقا من لحظات طفولته في سلسلة من الصور الأولى لهذه المرجعيات، وحافظ على شكل وجود الفرنسيين وشكل عيشهم وحياتهم السعدية الخاصة التي كانوا يقضونها راحة وسياحة جبلية تنعم بما في البادية ،ويقومون بالصيد،وبالقنص، ويرسمون لوحات فنية لطبيعة المكان محصنين بوجودهم داخل الثكنة بتعاليهم وبسعيهم أحيانا إلى القرب من براءة أقرانه من أطفال القبيلة أو القبائل المجاور للمكان،أطفال يكشفون بخوف وبخجل كبيرين عن حب الاستطلاع لديهم في بادية توجد بين العاصمة الرباطمكناس تنبهر في عزلتها بحياة هذا المستعمر الذي يختلف في حياته وفي طقوسه الخاصة وفي أيامه ولياليه عمّا ألفه الناس في المجتمع المغربي المحافظ على قيمه وعلى أصالته.وفي الوقت ذاته كان هؤلاء الأطفال في البادية يتهجون مفردات العالم الذي يحيا فيه هؤلاء الفرنسيون لمحاولة فهم الفروقات المنحفرة بين وجودهم المغربي وبين وجود هؤلاء الفرنسيين . ككل الأسر والقبائل المعروفة في البادية بارتباطها الأسطوري بالأرض وبرائحتها وبعبق الصمت والكلام والشعر والغناء ونسج الزرابي ،كان الحسين السخون يتابع بأسى عميق كيف كان الناس يهجرون المكان مرغمين تحت ضغط الظروف القاسية التي ألمت بواقعهم المادي والنفسي،وكان يتأسى عن الكيفية التي كانوا يفكون بها هذا الارتباط بمغادرة المكان قسرا بحثا عن الاستقرار وتعليم الأبناء بعد ضيق أفق العيش. انتقل الطفل حسين السخون بلهفته الطفولية المجروحة، وصمته المكلوم الذي سيصحبه في رحلة عمره الإبداعي إلى مدينة سيدي سليمان الغرب بأمل الاندماج في الجماعة ، ومعرفة ما يجري بين حجرات التربية والتعليم ، فكان تعليمه الابتدائي بها ما بين عامي 1957 1964. لكن الرسم كان يشده إلى قوة الألوان ، ويلهيه لا شعوريا وبدون قصد عن اهتمامه بالدروس والمناهج التعليمية الصارمة، وسلطة المعلم، فكانت بداية الموهبة في مرحلة الدراسة عبارة عن سؤال طفولي وتلقائي حول الصباغة و الرسم والتشكيل، وقدم أول عمل له تحت إشراف معلمين فرنسيين توسموا في موهبته مستقبل عطاء فني خاص يلفه اللونان الأخضر والأبيض . وحاول نقل الأشخاص والبرطريهات إلى بياض الورق تعبيرا عن عشقه لتشكيل ملامح وقسمات الوجه بحثا عن وسائل وإمكانات تأثيث تجربة فنية تعطى له صفة التميز، فدخل مغامرة التعبير الحر بالصباغة والرسم بالفرشاة تلبية لطلب المعلمين، وعلى جدران الفصل عندما كان يعرض تلك الرسومات والأوراق المصبوغة تقليدا للطبيعة الميتة، أو رسما للوجوه الملونة بقسمات الفرح،أو رسم واجهات الأماكن ،ورسم واجهات المدرسة،والمسجد،وبانوراما المدينة، كان يشعر أن صمته ينطق بالأشكال والألوان و لا ينطق بلغة الكلام،وهو تعويض عن ضياع موضوع أو علامة أو حالات لم يفهم السبب الحقيقي لضياعها. ولظروف خارج إرادته الطفولية توقف عن متابعة الدراسة بسبب كبر سنه ،ولغياب الإمكانات التي حالت دون مواصلة الدراسة رحل إلى مدينة مكناس ليكتشف عن وجه حاضرة ليست كباقي المدن المغربية، بتراثها العمراني العربي الإسلامي، وبذخ التراث العمراني الكولونيالي، أحيانا هناك تشابه بينها وبين مدن أخرى ،وأحيانا أخرى هناك اختلاف ظاهر وخفي ، فبدأت مرحلة البحث عن مهنة أو عمل يكسب بهما رزقه، وهو بحث كانت توازيه سرية البحث عن لحظات خفية يريد بها أن يخرج من حالات الفشل الدراسي، فكان يجرب مزج الألوان بشكل اعتباطي وكأنه يسعى إلى مناجاة ذاته بها ليشكلها تشكيلا عفويا وكأنه يراهن على الوصول إلى عالمه الفني الخاص لمعانقة ظلال وعمق هذه اللحظات. في مكناس بدأ عمله ميكانيكيا في مرائب السباتا،ثم بحي سيدي سعيد، ثم بالمدينةالجديدة .ومن زمن العشق الطفولي للرسم، وتراكم الخبرة بالفضول المتزايد في هذا العشق بين رائحة المحركات، والإيقاع الصاخب للسيارات، والحركة الرتيبة للوالب، والبراغي ، والكماشات ،وشغل المفكات ،بدأت علامات اشتغاله تتبلور رويدا رويدا وكأنه بأنامله وملاحظاته الدقيقة يريد محاكاة كل الحركات التي يراها و يسمعها بإيقاع الألوان المتموجة الصاخبة. لم ينسه عمله كمكانيكي لهفته المتجددة للتشكيل كي يوازن بين إعادة الحركة إلى الآلات المعطوبة وإعادة الدلالات الجديدة إلى الخردوات والبقايا المتلاشية التي تبقى بعد إصلاح الأعطاب وكل أمله هو أن يحقق تراكمه الإنتاجي بالإصرار على توكيد عالمه التشكيلي في مكناس الذي صار صورة وجوده في هذه المدينة التي انتقل منها بفنه من المغلق إلى عرض اللوحات التجريبية في فضاءات أكثر رحابة وأكثر احتفالا بأعماله داخل وخارج المغرب. و بشكل محتشم في حجرة الدراسة، ثم في المرأب في الورشة،وفي فضاء الغرفة المسدودة بالبيت، ثم في أروقة المعرض المعهد البلدي للموسيقى والرقص بمكناس ،كان يريد إعطاء المعاني المحتملة لحركة الألوان بعد أن تنمحي معاني حركات السيارات والمحركات التي كانت عالمه الذي يوقظ فيه حاسة السمع قبل البصر، وينبه النظر إلى ما تراه الأذن قبل العين ،وكأنه في عملية كيماوية يريد بها قلب موازين العلاقات بينه وبين العالم الخارجي حين يعيد النظر في معنى الأشياء وقد جمعها في صندوق حديدي هو خزانه الاحتياطي الذي يعود إليه ليختار منه القطع التي سيبني بها المفردات اللونية التي ستكتب بها أنامله اللغة البصرية للوحة . في مكناس عام 1966 كبرت الرغبة لديه للدخول إلى عالم التشكيل والاحتراف، وصار مقتنعا يردد « أنا لا أنطلق من العدم «،وأنه في عمله» يشتغل على موضوع أو مواضيع».وبهذا تجاوز المراحل الأولى لشهوة بدايات اهتمامه بالتشكيل،فصار يرفض تصنيفه ضمن خانة محددة في إحدى المدارس والتيارات والتجارب التشكيلية المعروفة لأن التسمية والتصنيف في نظره «يقتلان الخيال ،وينقصان من حدة الانفعال». هذا النفي، وهذا التوكيد جعلاه يرسم اختلافه عن التجارب التشكيلية المغربية السائدة بشهوة المغايرة، وجعلته بهذه الشهوة يبصم ببصماته الخاصة الفن التشكيلي المغربي المعاصر بنتاجات تتدرج من البسيط إلى المركب،حين يعيد تصنيع المواد المجمعة في صندوقه العجيب في ورشة يلحم فيها المفكك، ويجمع المفرق والمتناثر منها، وينسج خيوط ما ضاعت فيه الخيوط الناظمة للأشياء،وهو العمل الذي جعله أيضا يسم بصوته الصامت، وتشكيله الناطق كل الفضاءات الفنية العربية والأوروبية.فمن سنة 1975 إلى عام 2008 شارك في المعارض الخاصة في فاسومكناس و طنجة والرباط ومراكش، و شارك في المعارض الجماعية، في المعهد الفرنسي بمكناس، والمعرض الوطني للفنون المعاصرة، ومعرض خاص بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، ومعرض خاص بمناسبة الأسبوع الثقافي السوفياتي»سابقا»، ومعرض خاص في سفارة المغرب بهولاندا، ومعرض خاص في فيينا بالنامسا، ومعرض بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان،ومعرض الشباب في سورية،وهو بالصوت الصامت،وبالتشكيل الناطق بمعاني العصامية كان يقود فنه إلى دهشة الألوان في الألوان كي يكتب سريالية الذاكرة و الطفولة و الواقع. العصامية التي تقود إلى دهشة اللون في الألوان في هذه المسيرة الفنية يكشف النتاج الفني التشكيلي لحسين السخون على تبلور تجربة ثرية محملة بكل أنواع البحث عن التميز والانفتاح على الثقافة البصرية بعصامية صبورة تتخذ من التثقيف الذاتي وسيلة لتطوير إمكانات العمل وتجويده ، وهو حين يقوم بصوغ هذا النتاج في أزمنة متباعدة ومتقاربة في فضاء القماش، فإنه يعطي الإحساس بأنه فنان تجريبي قادم من أحد المعاهد الفنية العليا،أو أنه تدرج في صفوف الأكاديميات والجامعات التي تؤهل ذوق ومعرفة وقدرات الطالب كي تدخل زمن الاختصاص بالتخصص في إحدى صنوف الدرس الفني أو الأدبي أو الفلسفي، إلا أن مسيرته الفنية تكشف أنه لم يتخصص في الفن التشكيلي في مؤسسة تعليمية ،ولم يدرس في أكاديمية متخصصة في الفنون ،أولأنه يعتبر أن مجاله الحيوي بهذه العصامية بعد ضياع فرصة الدراسة في المؤسسة التعليمية بمختلف مستوياتها هو هذا التجريد في التجريب، والتجريب بالتجريد الملتصق بالحياة وبالإمكانات التي توفرها له مجموع الأدوات واللقي التي لم تعد لها قيمة أو أهمية في الواقع،إلا أنه ينقلها من قبحها ووحشيتها وتبعثرها ليضفي عليها مسحة جمالية هي لغته التي يرى بها عمله وفنه في وحدته العضوية داخل فضاء اللوحة. وهو بهذا يمثل صورة الفنان العصامي الذي طور بأناة وصبر تجربته في التشكيل، وعمل على الحفر في اليومي والبصري لمدينة مكناس، واقترب أكثر من معالمها التاريخية ،ودرس تاريخ الفن التشكيلي المغربي والعالمي،وانبهر بأنواع وأشكال الخط المغربي الأندلسي والعربي الإسلامي، وقضى أوقاتا طويلة في تأمل لوحات الفنانين العالميين،وانبهر ب «يوجين لاكروا»، وجمّع كل ما تراكم في الورشة والبيت من قطع ملفوظة مهملة من أسلاك مبعثرة، أو شرائح معدنية لا أهمية لها بعد أن خرجت من وظيفتها الأساسية لتصبح بدون وظيفة.لكنه يعيد تركيبها بدقة متناهية مستعينا في ذلك بصبره الطويل وبيده الماهرة،وبذهنه المتبصر في أزمنة مرة وعسيرة يخصصها للبحث والنسج وكأن اللوحة منوال نسج الزرابي والأثواب والقطائف النادرة. إن مدرسته الأولى في الفن التشكيلي هي عصاميته التي أعطته إمكانات إتقان فنه التشكيلي، و وهبته كل الوسائل التي سهلت عليه اختيار المواضيع والأشكال والمساحات وأشكال التركيب التي يركب بها البنية البصرية لفضاء اللوحة، وهذا يدل على أنه اكتسب في تجربته التشكيلية مهارات فنية أساسها الاشتغال على كل ما هو بدون قيمة ليركبه تركيبا جماليا يعطيه قيمة. لقد أسرته في هذه البدايات فكرة التعبير بالألوان عما يراه في الطبيعة الخلابة، وأراد أن يكون بهذه الهواية مصورا فوتوغرافيا ينقل بشكل تأثري انطباعي ما تركته البادية في الكنزة وفي زمور وفي الخميسات على صفحات ذاكرته، وأراد أن يظل وفيا للتراث البصري الأمازيغي في الحناء والوشم وأشكال الزربية، وعمل بتوجيه من الحرفيين والمعلمين التقليديين في معامل السجادات على اتباع هذا النهج التقليدي لأنهم كانوا يريدونه أن يستكمل تخصصه في الفن التشكيلي بمعرفة أسرار الصناعة التقليدية المغربية ،وكانت لمشاركته في معرض النسج المغربي الذي أشرف عليه ا»EL khal» أكبر الأثر في توجهه، وصقل ذوقه، وتعميق قدراته وكفاءاته، هذا المعرض الذي ساهم فيه فنانون تشكيليون مغاربة أمثال:بناني بلامين القاسمي الإدريسي الشعيبية لفتوحي كوفي إضافة إلى بعض الفنانين الأوربيين. وباحتكاكه الدائم بالفنانين التشكيليين المغاربة والعالميين، وبحكم معاشرته للعمال التقليديين خزن كثيرا من العلامات والمهارات في ذاكرته ،واكتسب كثيرا من الخبرات، وكأنه ينتظر زمن التحول من الهواية إلى الاحتراف، ومن طبيعة الألوان كمواد خام إلى أشكال الألوان كمفردات للإبداع البديل لإعادة زخرفة الذاكرة الأمازيغية ،و طقوسية الفروسية و الزرابي والنسج بإعادة ترتيب مواد الزرابي .من صباغة وخيوط .و غسل الصوف وتفصيل الأحجام ،وتركيب الأشكال والألوان . وطبخ الخيوط، ووضع كل لون على حدة في مكانه المناسب، استعدادا للدخول إلى فضاء اللوحة. وإذا كانت لوحاته الأولى ذات السطح المسطح دون أبعاد تتحدث عن ميلاد الهواية العاشقة للتشكيل ،دون النظر إلى أعماق عالم هذا التشكيل، وإذا كانت لوحاته التالية لهذه البدايات تملك ناصية صناعة لعبة بصرية بتعدد أعماقها وأبعادها تتحقق إبداعيا بمهارة الفنان التشكيلي ،فهذا يعنى أنه سار بتاريخه الفني من الصورة البسيطة العفوية التلقائية، وتدرج بها كي تصل إلى الصور التي تدخلت في صناعتها مهارة الأنامل والعين والخيال. لقد كانت ميزة هذه البدايات هي الطبيعة الميتة،والمحافظة على الألوان كما هي، ثم الاحتفاء بالتشكيل القائم على اللونين الأبيض والأسود،والنور والظلال، وكأن اللوحة بطاقة تذكارية لم تكتمل بعد في رسوماته، وعلى كل الصفحات التي تحددها إطارات اللوحة يريد رسم موضوع هذه البدايات في التشكيل دون أن يغامر في التمرد على الألوان كما هي، والأشكال كما هي موجودة، أو الرؤية كما هي محددة، إلا أن زمن الانتقال من الهواية إلى الاحتراف لم يكن دفعة واحدة ،أو كان تغييرا تحقق بين عشية وضحاها، فهو عندما انتقل إلى مدينة مكناس، وأصبح عمله يدويا، وخبر عملية التفكيك ،والتركيب، وإصلاح أعطاب المحركات، انتبه إلى أن هذه المهارة يمكن أن تساعده في إتقان فن التشكيل، وتعينه على إصلاح أعطاب القطع المهملة اعتمادا على الخبرة التي راكمها يوميا كميكانيكي أولا، وكفنان أراد أن يغادر الهواية ويعانق زمن الاحتراف، وقد ساعده على ذلك مساهمته في بالتجربة التشكيلية بمدينة مكناس مع جمعية البعث للتشكيليين المغاربة رفقة كل من حسن عمارة، وحسن الزرهوني ،ومحمد العبادي، ومحمد القاسمي، وحسين موهوب،و أحمد الوافي، وغيرهم من التشكيلين الذين سبقوه بالتجربة في عالم التشكيل ،فأراد اللحاق بما حققوه من نتاجات تختلف حسب المدارس والتيارات والاختيارات،فشارك معهم في المعرض الجماعي الأول للفن التجريدي عام1971 في مندوبة الشبيبة والرياضة. بمشاركة كل من حسن الزرهوني، حسين موهوب، عبد العلي الحليمي، حسن اعمارة .الشاوي محمد . وبالمقارنة الدقيقة والموضوعية ما بين أول لوحة و بين آخر إنتاجاته التشكيلية، تنكشف هذه الأبعاد التي حققها من بداية سبعينيات القرن العشرين إلى الآن، بعد أن تمكن من إضفاء أسلوبه الخاص على أسلوب كل لوحة وعلى فضاءاتها وعلى خطوطها وألوانها ذات الظلال والتكعيبات والخطوط المتشابكة التي لا يحددها موضوع واضح، ولا يعطي لمعناها معاني تنطق بالوضوح، لأن كل لوحة تقدم غموضها الآسر،وتقدم تعقيداتها المستحبة، لجلب المتلقي إلى بهاء هذا الغموض كي يستقرئ فيه هذا المتلقي متاهات الأبعاد التي تضفي على جمالية اللوحة، أو اللوحات سحرها الفاتن،سواء أكانت تلك اللوحات صغيرة الحجم،أو كانت لوحات كبيرة الحجم يختفي فيها ترميم المهملات لتظهر صناعة المجسمات كأنها منحوتات، وكأن اللوحة مشروع عمراني فنتازي لعالم مستقبلي. ترميم المهملات لصناعية مجسمات اللوحة لقد امتلك الحسين السخون ناصية التحكم في أدواته الفنية بعدما تخلص من الهواية، ودخل زمن الاحتراف بأشكال اشتغاله على مواد غير محددة، يستعمل فيها الخيط والقماش،و يركب فيها العناصر المكوّنة من الأسلاك، وقطع حديدية ،وملفوظات وبقايا الصناعات الحديدية والخشبية، وهو في هذا التركيب يدقق في تركيب هذه الجزئيات، ويجعل عناصرها متداخلة،وعند الانتهاء من هذه المرحلة يقوم بوضع الألوان التي تضفي على فضاء اللوحة جمالية خاصة، وهي الجمالية التي تبرز دقة التركيب والتلاحم بين الأجزاء والتناسق بينها حتى أن فضاء أي اللوحة عنه يغدو سريالي الأبعاد والدلالات والرموز بعد التزاوج بين المواد الصلبة والمواد الثانوية المهملة كالخيش والكرتون،و الورق المقوى،و الحبال والحديد ، فيقوم بتذويب الصلب، وتلحيمه،بالزيادة والنقصان والتركيب، وإدراج كل ما يقع تحت البصر لإتمام متعة التركيب بالنحاس والحديد والمسامير والبراغي والأسلاك كي تتحول اللوحة إلى متعة بصرية بهذه المركبات المتنافرة والمنسجمة جماليا. إن عمله اليدوي هذا و قبل الاشتغال على الألوان يعدّ صناعة تجميع تتراكب فيها طبقات السطح الذي يشتغل عليه، وتتراكم فيه شرائح الألوان، لتتحول إلى ترصيف لتلك العناصر، فيجعل عمله اليدوي محكوما بذاكرته البصرية، ويجعل ذاكرته البصرية في المراحل الأخيرة للوحة تشكيلا بألوان قاتمة تتدرج حسب مستويات وضع اللون المركزي في اللوحة بهدف حجب دلالات تلك العناصر ووحشيتها فيجعلها تنطق بأسلوبه الخاص القائم على الانسجام بين التركيبات والألوان حيث نجد تداخلا بين النصوص ومهارة المهنة الميكانيكية و التعامل مع مواد صلبة حديد كالنحاس،و أشكال المحرك مبرزا كيف يشتغل عمله ،وكيف يثير الانتباه إلى طريقة دمج قطع الخوردة في عالم الصباغة بالشيتة،وإصراره على النفور من القواميس والأدوات الأكاديمية حين يلجأ إلى تقنية الكي كوسيلة من وسائل التعبير عن التلاحم العضوي بين العناصر المتنافرة لترك التضاريس فوق اللوحة تقول قولها في شكلها أو أشكالها.وهذا النهج هو المتبع في هذا العمل في توليد سريالية اللوحة وكأن ظلال «سالفادور دالي» ترخي بظلالها على ظلال هذا التوليد،وكأن التكعيبة حاضرة كصورة وتشكيل،لكن طريقة عمله تغير المفاهيم والأشكال وفق المراحل التالية: * تحديد مقاسات التعبير باستعمال وسائل تعبيرية مكواة النار .اللصق ، الخيوط . تأجيل الصباغة و التلوين إلى ما بعد نهاية تركيب اللوحة. * أن الأبعاد الشكلية الرمزية لهذا التركيب تظل وفية لما تمليه يقظة وأحلام حسين السخون وهم يقيسون بدقة متناهية هذه الأبعاد. * أن كل تجربة من تجارب كل مرحلة تشكيلية عنده تتميز بالحفاظ على المعطيات الشكلية السابقة لتجارب فائتة باعتماد تبادلات وتناص وتشابهات بين بعض الأشكال بتداخلات تقنية وجمالية يجد لها حسين السخون مسوغات لوجودها لإدماجها في حياة اللوحة الجديدة بمعالجة مرنة مطواعة هي أسلوبه في الخلاص من رتابة اللون الواحد والشكل الواحد و الصورة الواحدة. * رسم الخشونة بالخيوط بحثا عن جمالية تتكلم بذاكرة بصرية بعد أن تختفي أشكال لحم المهملات بعد صناعة ذاكرة اللوحة التي تغيب فيها الأجساد وتحضر الأشباح والأقنعة و الظلال في عالم موحش وغريب وغامض. إن هذه القدرة على لملمة العناصر المتنافرة في اللوحة هو اختيار قصدي لما يريد الوصول إليه هذا الفنان عن طريق اختراق صمت اللوحة قبل أن تتشكل بتلك العناصر والمواد التي فقدت وظيفتها الأولى، لكنه كالساحر البارع يدهشنا بتحويل المهمل إلى عناصر لإبداع الدهشة البصرية في التركيب، وتركيب في الدهشة بالمتنافرات. والحسين السخون أثناء تركيب كل لوحة لا يتقيد بالمقاسات المحددة فهو موزع بين اختيار الأحجام الكبيرة و المتوسطة، وهو في هذا يكتب بتلك الذاكرة زمن كل لوحة سريالية في فضاء يحمل معنى الصناعة والإبداع التشكيلي بعد أن لم يعد أسير التعامل مع الألوان فقط كما في مرحلته الأولى، أو أسير النظرة الأحادية للأشياء، لأنه بعد أن تمكن من أدواته، صارت عنده زوايا النظر إلى أبعاد اللوحة أبعادا متعددة يتزاوج فيها اللون وصناعة الأشكال وتداخلها وتناسقها برؤيته للعالم الخاص هو عالم اللوحة التي يرى من خلاله إلى العالم ، وهو في هذه الصناعة يختار وقت إبداعه ،ويختار زمن تأمله، ويعانق الصمت والغياب والعزلة في تلك الألوان ليخرج بعد ذلك بعوالم تشكيلية في لوحات كبيرة الحجم تمثل الإنجاز الحقيقي للغة اللون، أو أنه يخرج من صمته بلوحات صغيرة هي الترجمة الحقيقية لأزمنة اللون وقد توزعت ما بين لوحة وأخرى،فيها اللوحة الطبيعية للخشونة ،وفيها الشكل الجمالي الوفي لظلال هذه الخشونة بعد تقسيم اللوحة إلى فضاءات، وفيها الفضاء الذي يشبه الشكل الآخر في الشكل، لكنه في التفاصيل يختلف عن اللوحات الأخرى باللمسات الفنية التي تبقى بلا موضوع لأنها هي ذاتها موضوع الموضوع. لقد أصبح هذا الفنان بعصاميته وفنه وتميزه موضوعا لفت انتباه المهتمين بالفن التشكيلي المغربي والغربي، وقد قدمت عنه ترجمة في كتاب. who is who de media c.o. p.e،أما المصور العالمي Gérard Roundeau» الذي هيأ مصنفا خاصا بصور وبورتريهات الأدباء والمثقفين والفنانين التشكيليين في المغرب في كتاب يحمل عنوان Figures du maroc فقد قدم بورتريها خاصا بالفنان التشكيلي وهو في ورشة الميكانيكي كدليل على أن هذا الفضاء لعب دورا أساسا في بلورة وعي فني حرك في حسين السخون الرغبة كي يصلح أعطاب ما يراه مختلا في الواقع، فتحول إلى فنان تشكيلي عاشق للفن الغريب الذي بوأه مكانة خاصة في عالم التشكيل المغربي المعاصر. [email protected]