ليس هذا الكتاب تفسيرا للقرآن ينضاف إلى العشرات من كتب التفسير التي تغنى بها المكتبات في العالم، وإنما هو مجموعة خواطر عنّتْ لي بإلهام من الله سبحانه وتعالى من خلال قراءاتي المتوالية طيلة سنوات للقرآن الكريم بقلب مؤمن وفكر منفتح على فهم جديد لبعض آياته. والآيات التي شرحتها وعلقت عليها في هذا الكتاب هي التي استوقفتني عندها لاسْتخلاص ما عنَّ لي بشأنها من خواطر. أما ما لم أتوقف عنده من الآيات فهو ما لا يوجد لي عنه إضافات. (مثلا في سورة الفاتحة لم أتوقف إلا عند بعض آياتها السبع هي التي تناولتُها بالشرح والتعليق والإضافة). وأبادر إلى القول إن مداومتي على هذه القراءات فتحت لي آفاقا واسعة للمزيد من الفهم والنفوذ إلى أعماق الذكر الحكيم الذي قيل عنه بحق إنه لا تنتهي عجائبه، إلى حد أن كل آية منه تشكل في حد ذاتها معجزة، تجعل منه الكتاب الإلهي المعجز حقا وصدقا. (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (سورة الإسراء 17 الآية 88). لا أدعي ولا يجوز لي أن أتطاول وأجرؤ على القول إن الفهم الذي اهتديت إليه بخصوص بعض الآيات هو الأصح على الإطلاق. وأربأ بنفسي عن الوقوع في هذا الغرور الذي يتنافى مع تواضع ذوي العلم، وأخلاق المجتهدين، ومع سلوك أساتذتنا، الذين علموني أن أقول ما كانوا يرددونه في بداية دروسهم بجامعة القرويين : (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (البقرة 12 الآية 32)، وكانوا وهم يباشرون شرحهم للآيات يختمون بقولهم : هذا ما ظهر لي والله أعلم بمراده. إنها فقط اجتهادات علمية قد أكون فيها مصيبا يثيبني الله عليها أجرين، أو مخطئا يعطيني الله على خطأي -إن شاء- أجر المخطئ. وأود أن أنبه إلى أن اجتهاداتي ليست منقولة من كتاب مرجعي أو أني قرأتها أو سمعتها من مرجعية متضلعة في علم التفسير، وإنما هي من فهمي الخاص. لكني مطمئن وفي تواضع شديد إلى أنها لا تتنافى مع تفسيرات العلماء السابقين، وأنها مجرد قيمة مضافة إلى عطائهم السخي رحمهم الله وأُثابهم. أشكر لجريدة «التجديد» أن فسحت لي صدرها لنشر هذه الخواطر في حلقات، بل بادرت إلى مخاطبتي باقتراح نشرها عندما علمتْ بها. وأرجو أن يستفيد منها كل من يرغب في الغرْف من ينابيع القرآن الكريم. والله من وراء القصد، وهو سبحانه ولي التوفيق. بسم الله الرحمن الرحيم {آلِم (ألف لام ميم) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون}. لم يستقر مفسرو القرآن على تفسير واحد لهذه الحروف التي تتصدر في القرآن الكريم بعض السور وعددها 29. ومعظمها جاء في السور المكّية وسورتين مدنيتيْن هما سورة البقرة وسورة آل عمران. وهذه هي الحروف التي جاءت في القرآن المكي والمدني : الم، و، المص، و، الر، و، المر و، كهيعص، و، طه، و، طسم، و، طس، و، يس، و، ص، و، حَم، و، ن. وقيل في تفسير هذه الحروف إنها جاءت في القرآن لتحدي الجاحدين أن يأتوا بمثلها وتعجيزهم. وقيل إنها أسماء للسور التي جاءت فيها. وقيل إنها مُقْسَمٌ بها من الله تشريفا لقيمة الكتابة، ولتنبيه الأمّيّين إلى فوائد الكتابة. ولا أميل إلى أي واحد من هذه التفاسير. وقيل إنها رموز وإشارة إلى علم خفي انفرد الله به. وهذا ليس تفسيرا. وقيل إنها حروف مُقتضَبة من بعض أسماء الله وصفاته حيث توجد فيها هذه الحروف. وقيل إنها رموز أسماء الله وأسماء رسوله وملائكته. فالألف آت من اسم الله، واللام من اسم جبريل، والميم من محمد. وجميع هذه التعاريف قاصرة وافتراضية. وأكتفي بما ذكرته علما بأن الأقوال في هذه الحروف تعددت حتى تجاوزت العشرين. وأجدني أميل قليلا إلى القول إنها تتقدم السور لتشير إلى تأليف الكتاب من حروف إن كانت في متناول المخاطبين به، فإن الكتاب المنزل يعجز البشر أن يأتوا بمثله. لكني أبقى مفضلا القول إن هذه الحروف استأثر الله بعلمها لأن جميع التفسيرات ليست مقنعة. والله أعلم. ***** {ذلك الكتاب لا ريب فيه} وفي قراءة أخرى ذلك الكتاب لا ريب، (وقفة) هدى للناس. وعلى هذه القراءة يكون المعنى لا ريب في نزوله من الله، وفيه هدى للناس. والجار والمجرور مقدّران محذوفان استُغني عنهما لوضوح المعنى بدون ذكرهما. والآية : ذلك الكتاب إلى هدى للمتقين اختُصر فيها تعريف القرآن (أو الكتاب) بأنه لا يتطرق إليه الشك وأضيف إلى ذلك أنه هدى (ومنارة) للمؤمنين المتّقين. وجاء في سورة البقرة تقسيم مخلوقات الله إلى ثلاثة أصناف : المؤمنين المتقين، والكافرين بالله الجاحدين للرسالة النبوية، والمنافقين. وهؤلاء بين الصنف الأول والصنف الثاني، يُظهرون الإيمان ويُخفون الكفر. ***** {هدى للمتّقين} المتّقون هم المؤمنون الملتزمون بالتقوى، أي طاعة الله ومخافته. «رأس الحكمة مخافة الله». والتقوى هي الامتثال لما أمر الله به ورسوله، واجتناب ما نهى عنه الله ورسوله. وحاصل التقوى اجتنابٌ وامتثال. (كما جاء في منظومة ابن عاشر). وجاء في سورة البقرة الآية 157 : {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى}. وجاء في القرآن الكريم ذكر المتقين بأوصافهم وأعمالهم. واشتقّاق الكلمة من لفظ اتّقى. والمتّقون الملتزمون بتعاليم الله هم في درجة سامية من بين المؤمنين. ***** {يؤمنون بالغيب} الغيب كل ما لا يُدرَك بالحس، أي ما يغيب عن البصر وما لا يُلمس باليد، وما يقصر العقل عن إدراكه. ومن هنا فالعالم الدنيوي هو عالم الشهادة، والعالم الأخروي عالم الغيب. والله وحده عالِم الغيب والشهادة. والله لا تدركه الأبصار: وكل ما يخطر ببالك، فربنا مخالف لذلك. ويدخل في الإيمان بالله الإيمان بما جاء به الموحى إليهم من النبيئين والمرسلين وخاتمهم النبي الرسول محمد (عليه السلام) من عقيدة وعبادة، وما جاء في القرآن عن الآخرة والجنة والنار والخلود في الدار الآخرة. ولا تبعيض أو تجزئة لأركان الإيمان فالإيمان كل لا يتجزأ. والإيمان بالغيب هو ما يميز الإنسان عن الحيوان الذي لا يدرك إلا ما يحس به وهو قليل. أما المؤمنون المتقون فيؤمنون بالشهادة والغيب الموحى به، فيتخلقون ويتهذبون، وتطهر أبدانهم، وتسمو أرواحهم. والإنسان جسم وروح لا تكفي العناية بالجسم عن العناية بالروح. ***** {ويقيمون الصلاة} لم يقل الله سبحانه ويُصلّون. فما كل مُصلٍّ يؤدي صلاته حقا، وإنما المصلي الحق هو الذي يقيم الصلاة أي يؤديها خير أداء: يتطهر ويتوضأ قبل أدائها، ويتفكر ويتدبر ويخشع قلبه ويسمو بروحه عند أدائها. وإذا كان الحديث قال: رُبَّ صائم ليس له من صيامه غير الجوع والعطش يصبح القول قياسا : رب مُصلٍّ ليس له من صلاته إلا القيام والنزول. وقد أنذر الله بالويل بعض من هم عن صلاتهم ساهون وسماهم بالمصلين. والخشوع في الصلاة من علامات القبول. ***** {ومما رزقناهم ينفقون}. هذا وصف آخر لعباد الله المتقين الذين يزكّون ويتصدقون، وأشار إليهم بأنهم هم الذين يرزقون الناس مما رزقهم الله، فينبغي أن يعلموا أن ما يُعطون إن هو إلا من رزق الله مالك الأرزاق ومعطيها وحابسها. فليرزُقوا مما أعطاهم الله مثلما رزقهم الله لينفعوا بمالهم المحتاجين، وليشكروا بإنفاقه نعمة إرزاقه، فيزيدهم من فضله. وقد نسب الله مال العباد إليه فقال في سورة النور : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم. وجاء في القرآن أيضا أن الله هو الرزّاق، وأنه خير الرازقين. ؟وبالآخرة هم يوقنون. أعظم درجات الإيمان هي درجة الإيقان أو اليقين، أي الإيمان الثابت الجازم الذي لا تشوبه ذرة من الشك. ***** والإيمان بالآخرة وما جاء عنها في القرآن وهي عالم الغيب أعظم درجات الإيمان. ولا يكمل الإيمان بالآخرة ولا يتم إلا بوصول المؤمن إلى اليقين بها وبما جاء عنها في الكتاب والسنة. والإيمان درجات وهو يزيد وينقص. وجاء في الحديث : لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الناس لرجح. ومن أجل ذلك دُعي بالصِّدِّيق بصيغة المبالغة. وجاء في سورة الحجر الخطاب الموجه من الله إلى عبده محمد : {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. فالسعي لإدراك اليقين عملية مكابدة تُمارَس بالإخلاص في العبادة والإكثار منها وبذكر الله أي استحضاره بالقلب والفكر والبدن. وجاء في سورة الأنعام ذكر إبراهيم ووصْفُه بالموقنين : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. وقد انطلق إبراهيم من التساؤل والشك إلى اليقين وهو قمة الإيمان، وذلك عندما ظن في بداية بحثه عن معبوده أن الله هو الكوكب فالقمر فالشمس إلى أن انتهى إلى اليقين بتوحيد الله الذي خلق السماوات والأرض. {هدى من ربهم}: هذا التعبير يعلو على تعبير هم المهتدون، وهو أشد دلالة من المهتدين. فأن يكون المؤمن على هدى يعني أنه يمسك بناصية الهدى، وأنه دائم السير على طريق الهدى ومتمكن منه لوجوده في وضعية الاستعلاء التي تساعد المهتدي على أن يمسك بمطيَّة الهدى ويستقر عليها. {وأولئك هم المفلحون}: الفَلاَح هو صلاح الحاليْن، حال الدنيا وحال الآخرة. ويقال أفلح أي صار ذا خير وصلاح. واستعمال أولئك في جملة {أولئك على هدى من ربهم}، وفي جملة {وأولئك هم المفلحون}: إعلاء لشأنهم ومقامهم، وإشادة من الله بقدرهم، ودعوة إلى الاقتداء بهم، فلا يُقتدَى إلا بمن عظُم قدره، وشرُفت مرتبته، وشاد صيته، وذاع ذكره. أولئك (أي أولئك وما أدراك ما أولئك). وسورة المؤمنون تصدرتها آية : {قد أفلح المؤمنون}، وتلتها أوصافهم وخصائصهم. ***** {إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهمْ لا يومنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذابٌ عظيم}.. يتحدث الله تعالى في هذه الآيات عن الصنف الثاني من مخلوقاته. وهم الكافرون. ويقول إنهم الذين انغلقوا على اعتقاداتهم الضالة إذ ختم الله على قلوبهم وأصمّ أسماعهم، وأعمى أبصارهم، لا ينفع معهم توجيه الدعوة الإسلامية إليهم، ولا يجدي فيهم إنذار ووعيد. ومصيرهم هو العذاب العظيم. وتوجه الله بهذه الآيات إلى رسوله عليه السلام ليعرّفه بمخاطَبيه ويكشف له حقيقتهم حتى يتعامل معهم من منطلق حقيقتهم. {كفروا} : جذر الكاف والفاء والراء في جميع مشتقاته يشير إلى الستر والإخفاء وجحود الحق وإنكاره. فالكفر على ذلك جحود وإنكار وحجب للإيمان. والكافر هو الذي يعمل لإخفاء الحقيقة بدعوته إلى الباطل الذي يعتقده. والكافر يحجب نفسه عن التمتع بنعمة الإيمان، وعن الجزاء الذي وعد الله به المؤمنين. ويُجمع لفظ الكافر جمعَ المذكر السالم : قل يا أيها الكافرون وجمعَ تكسير : {إن الذين كفروا وماتوا وهم كُفَّارٌ فلن يغفر الله لهم}. ولتضمّن جذر الكاف والفاء والراء معنى الستر والإخفاء والحَجْب أطلقت كلمة الكفّار على الزّرّاع الذين يزرعون في باطن الأرض ما يظل مخفيا مستورا حتى يبرز على الأرض وقد اكتمل ينعُه ونضجه. وجاء في القرآن الكريم في سورة الحديد : {كمثل غيث أعجب الكُفَّارَ (أي الزّرّاع) نباتُه ثم يهيج فتراه مُصْفَرّا ثم يكون حُطاما}.