شهد العالم في سبعينات القرن الماضي نشوء حركات تحرر المرأة، والتي كان من نتائجها حصول المرأة على حقوق وحريات كثيرة في الثلاثة عقود التي تلت ظهور تلك الحركات، من تعليم على أعلى المستويات واختراق لكل مجالات الحياة من علم وفن وأدب وحتى حرف يدوية احتكرها الرجل عبر التاريخ، واقع الامر إن المرأة استطاعت الانقلاب على واقعها القديم ودورها الاجتماعي التقليدي بجداره منقطعة النظير. حيث تنعم المرأة المعاصرة اليوم بحريات وحقوق لم تحلم بها إمرأة أخرى في أي عصر في التاريخ، فقوة حضورها الطاغي في المجتمعات المعاصرة لا يختلف عليها إثنان. ولكن لنا أن نتساءل مع كل تلك الإنجازات ماذا عن القوه النفسية أو الداخلية لامرأة العصر وماذا عن حريتها المعنوية؟ أو كيف تنظر هذه المرأة العصرية القوية الحضور والمكتسبات الى نفسها والى المجتمع من حولها؟ ثمه من يقول أنه وعلى الرغم من كل ما انجز على صعيد المجتمع من حريات فإن المرأة العصرية لا تزال أسيرة لجمالها الخارجي. أو بتعبير أكثر دقه للمفهوم الذّكوري الشهواني للجمال. فهل هنالك حقيقة علاقة بين مفهوم الجمال السائد في عصرنا هذا وحرية المرأة؟ أو بتعبير أكثر وضوحا هل المرأة العصرية مستعبده اليوم لمفهوم الرجل للجمال؟. واقع الامر إن الموضوع يستحق البحث والتامل. ****************** وقد يكون من طرائف الأمور وغرائبها حقيقة أن يحد جمال المرأة من حريتها، وقد يبدو أمرا مثيرا للتفكه والتندر أن تقع المرأة أسيره لجمالها بعد ان استطاعت ان تحطم كل عرف وكل تقليد وكل قيد في المجتمعات المعاصرة، وأن تنعم بحقوق لم تحلم بها امرأة أخرى عبر العصور. كما قد يبدو الحديث عن المظهر الخارجي كوجه المرأة وشعرها وجسدها وملابسها من توافه الأمور بالنسبة للباحث الاجتماعي للوهلة الأولى، ولكن وفيما يبدو فإن الحضارة وحركه المجتمعات قد أنتجت مفهوما أو ربما هستيريا للجمال الأنثوي ضمن هذه المعطيات الشكلية الخارجية تستأهل البحث. حيث تشير آخر الإحصاءات الى أن اختصاصات التجميل والعمليات الجراحية التجميلية والحميات الغذائية هي أكثر الاختصاصات الطبية نموا وازدهارا في المجتمعات الحديثة، وقد تضاعفت إيراداتها مرات عديدة في السنوات الخمس الماضية، و يتصدر الفن الاباحي القائم على المرأة وجمال جسدها صناعه الأفلام السينمائية سابقا الأفلام الهادفة بمراحل. وفي دراسة كارثة أجابت 33 ألف امرأة أمريكية عندما سئلن عن أهدافهن في الحياة بأنهن يفضلن خسارة من عشره الى خمسة عشر باوند من أوزانهن عن إنجاز أي شيء آخر في الحياة. وقد أشارت دراسة أخرى خطيرة نشرت حديثا ربما تكون هي زبدة ما نريد الوصول اليه، الى أن في داخل الغالبية العظمى من النساء المتعلمات والناجحات والمقتحمات لبنيه المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية شيئا ما ينغص عليهن عيشتهن، شيء له علاقة بجمالهن الخارجي، أو في كيف ينظرن إلى أنفسهن فيزيائيا. فقد أشارت الدراسة أن داخل هذه المرأة العصرية العاملة النشيطة والجذابة نوع من فوبيا سوداوية تلازمها، هناك فزع من تقدم السن و هاجس من السمنة ومن انعدام القدرة على التحكم بالوزن، و قلق عصابي من خسارة الجاذبية والذبول وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالجمال الأنثوي و القبول في مجتمع مهووس بالمانوكانات. باختصار إن شبح الورقة الذابلة أو المحروقة يقبع داخل امرأة العصر يقض مضجع نومها ويطاردها من مكان إلى آخر. وهذه الحالة ليست غريبة على مجتمعات العصر، فواقع الأمر أن مفهوم جمال المرأة الخارجي أو قبولها جنسيا من قبل الرجل هو الموروث التقليدي الوحيد الذي ورثته المجتمعات الحديثة من المجتمعات التقليدية الأبوية، والذي بقي فارضا نفسه بقوه منذ عصر الثورة الصناعية والى يومنا هذا مقارنه بالقيم التقليدية الأخرى كالطهارة والأمومة والحياة الأسرية الكلاسيكية والخضوع للرجل وما إلى ذلك من قيم تقليدية، فهذا المفهوم و باستثناء غريب لازال يلعب دورا رئيسيا في التحكم بالمرأة العصرية و رسم مسار حياتها و تحديد طبيعة علاقتها بالرجل بشكل خاص وبنفسها والمجتمع من حولها بشكل عام و حتى هذه اللحظة الراهنة. فما هو السبب في ذلك يا ترى؟ هنالك من يقول ان هذا المفهوم الذكوري التقليدي للجمال أمر واقعي منذ بداية التاريخ والحضارات ولا مفر منه مهما تطورت المجتمعات، فللمرأة الأنوثة والفتنه وللرجل الحرب والنزاع من أجل الأنثى الحقيقية، الفاتنة له ولأقرانه، ميلودراما بشريه مملة لا يتغير إلا لبوسها الخارجي متكررة من عصر إلى عصر، وهذا الأمر ليس موضوعا له علاقة بالأعراف والثقافات السائدة، بل له علاقة بطبيعة المرأة وطبيعة الرجل البيولوجية. فالموضوع يدخل ضمن إطار الانتخاب الطبيعي وقوانين داروين للتطور وهو ليس حكرا فقط على الإنسان، ففي كل الثدييات العليا تعتبر الأنثى هي المحرضة على الجنس والاقتتال الذكوري حيث يضمن مثل هكذا نزاع و اقتتال تطور النوع وبقاء الأقوى وفناء الأضعف. فالذكر الأقوى يقتل الأضعف أو يطرده من الميدان للاستحواذ على الأنثى، حتى أن الإنسان نفسه قد استوحى من هذه الحيوانات كثيرا من سلوكيات حياته ومن ضمنها تلك الألوان الزهرية المشتعلة والنارية الملتهبة لمراكز الشهوة والتناسل عند الحيوان. واقع الأمر إن سعي المرأة الحثيث للجمال الفتان،، وافتتان الرجل بالمرأة الجميلة وهذا النهم الذكوري للأنوثة و تعدد الزوجات والخليلات والعشيقات بالنسبة له هو شأن من شؤون الطبيعة. ولكن على الجانب الآخر ثمة من يقول إن كل ما سبق هراء، حيث إن مفهوم الجمال الذكوري الشهواني هذا ليس ثابتا ولا هو جزء من النظام الطبيعي وخطة محكمة منه كما يدعي البعض، بل هو أصلا متطور ومتغير و بشكل أسرع من قوانين التطور الطبيعي وذلك ما يمكن ملاحظته بسهولة عند دراسة الثقافات والحضارات المختلفة. فثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط والتي سادت منذ 25000 سنة وحتى 700 سنة قبل الميلاد على سبيل المثال لم تعرف الرجل الغني المسن اللاهث وراء اليافعات الجميلات مياسات القد، بل كان الأمر معكوسا ، والنموذج السائد كان المرأة المتقدمة في العمر والتي كان لها أكثر من عشيق فتي، حتى أن أساطير عشتار وتموز، وفينوس واد ونيس، وسيبلي وآتيس، وإيزيس وأوزايرس تدل على ذلك، حيث لم تكن لتلك السلسلة من هؤلاء الأرباب اليافعين سوى وظيفة وحيده ألا وهي خدمة الرحم المقدس لربته الأكبر سنا والأرفع منزله. وليس هذا فقط فقد نقضت كل من إيفيلين ريد وإيلين مورجان نظريه افتتان الرجل بالمرأة الجميلة وإن تعدد الزوجات فطريا بالنسبة للذكر والاكتفاء وأحاديه الزوج فطريان بالنسبة للأنثى. فالمرأة مثلها مثل الرجل تستمتع أيضا بالجنس مع أكثر من شريك. و كانت دراسات أخرى قد أثبتت أخيرا أن كل امرأة غير حبلى تدخل في صراع دائم مع قريناتها وبنات جنسها، تماما كصراع الرجل من أجل المرأة، لتكون الأكثر جاذبيه وقبولا بالنسبة للرجل، وإن دورة الصراع هذه تستمر منذ مراهقتها و حتى نهاية حياتها. كما وجد علماء الشعوب في أدغال إفريقيا أحد القبائل النيجيرية وفيها تحتكر المرأة القوه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويقتصر دور الرجال في القبيلة على الاهتمام بمظهرهم وجمالهم لإرضاء نهم الأنثى، ويقضون في سبيل ذلك الساعات الطوال في طلاء أجسادهم والاهتمام بلباسهم. واقع الأمر إن مفهوم الجمال الشهواني السائد اليوم و وجود المرأة تبعا لذلك في هذه الزاوية الضيقة أو هذه الصدفة البلهاء كدمية هاجسها جمالها الخارجي، لتتقاذفها بعد ذلك رغبات الرجل وشهواته ولتعبث باستقرارها وحريتها النفسية في أن تكون ما تكون، ولتتحكم بمصير حياتها ليس شيئا بالطبيعة او وفق لقوانين الانتخاب ولكنه ناجم عن بنيه سلطويه اقتصادية وسياسيه واجتماعيه في المجتمعات المعاصرة صنعها الرجل، تماما كما صنع كل شي آخر في التاريخ من فن وعلم وفلسفه وحرب وسلم. إن مفهوم الجمال السائد اليوم ليس له علاقة بالمرأة أو بطبيعتها على الإطلاق، بل له علاقة بالهيمنة الذكورية على المجتمعات وتشريعاتها. وليس أدل على ذلك أن مفهوم الجمال في عصر ما قبل الثورة الصناعية كان بدوره يتناسب مع طبيعة البنية الكورية البطركية "الأبوية" التي كانت تحكم ذلك العصر، حيث كان دور المرأة حينها متمما لدور الرجل أكثر منه مستقلا عنه كما هو الحال اليوم. ومنه نجد ان مفهوم الجمال كان أقرب إلى سلوك المرأة منه إلى مظهرها الخارجي. فمثلا المرأة العذراء كانت تعتبر جميله لان العذرية تعبر عن الجهل الجنسي وانعدام المعرفة والتجربة وبالتالي مجالا أوسع للهيمنة الذكورية، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة الكبيرة في السن والتي لم تكن لتعتبر جميله لأنه وبازدياد العمر تصبح المرأة أقوى وبالتالي مجالا أقل للهيمنة. وبشكل عام قيم الرجل المرأة في ذلك العصر في حال لم تكن أرستقراطيه أو عاهرة من خلال مهاراتها اليدوية وقوة جسدها وخصوبتها وحنكتها الاقتصادية وحسن تدبيرها وكلها أمور تصب في مصلحه هيمنته على المجتمع والأسرة، ولعب المظهر الخارجي والجاذبية الجنسية دورا في ذلك الزمان، وما من شك في ذلك ولكن ليس كما نفهمه نحن اليوم. فقد لعب تطور العلوم ووسائل التصوير والاتصال دورا هاما جدا في سيادة مفهوم الرجل للجمال الخارجي وهيمنته على عقل المرأة بهذا الشكل الهستيري، حيث كان نموذج المرأة الجميلة المتاح في ذلك العصر محدودا وخيال المرأة مقتصرا على بضعه نساء خارج الكنيسة. واقع الأمر أن الجذور الأولى لهستيريا الجمال قد بدأت مع الثورة الصناعية وتطور وسائل الإنتاج، فلقد ظهر الفيلم الاباحي لأول مره عام 1840، كما بدأت المرأة الجميلة في الظهور في الإعلانات مع منتصف القرن، وظهرت أيضا في تلك الفترة البطاقات البريدية وتماثيل البورسلان الصغيرة ونسخ من الأعمال الفنية الكلاسيكية، ومن هنا وبتطور الوسائل العلمية عبر القرن الماضي بهذا الشكل الهائل وجد خيال امرأة الطبقة الوسطى نفسه ضمن طوفان من النماذج لنساء رائعات الجمال وهكذا بدأت الهستيريا. وهكذا ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا وتحت تأثير العامل الاقتصادي بالدرجة الأولى ونظريات السوق ومع وجود هذا المصنع الحربي الذي يعمل وفقا لمعادلات شديدة التقنية لإنتاج الصور والتصورات والنماذج اللا منتهية للمرأة الجميلة والجذابة والشهية تحول الموضوع إلى ما يمكن أن نسميه خرافة العصر أو هستيريا العصر، فقط ثلاثة وثلاثين مليار دولار لصناعة الرجيم والحميات الغذائية، وعشرون مليار دولار لصناعة مواد التجميل، وثلاثمائة مليون دولار للعمليات التجميلية، وسبعة مليارات من الدولارات لصناعة الأفلام الإباحية. ليس غريبا كل هذا، فقد تعلمنا من كتب التاريخ أن المجتمعات تصنع خرافاتها تماما كما يصنع الافراد خرافاتهم، ويدرك العارف إلى أي هاوية سحيقة يمكن للخرافة أن تقود الجنس البشري، هنريك أبسن يسميها أكاذيب حيويه أو ضرورية ، أما دانيال جولمان فيقول إن وراء هذه الهستيريا أو الخرافة مؤامرة على المرأة التي وصلت إلى درجه من القوه المادية باتت معها تهدد الدساتير التي إحتكر الرجل سنها عبر العصور وبالتالي يجب إضعاف المرأة نفسيا بمثل هكذا هستيريا وجعلها أسوأ حالا حتى من جدتها المستعبدة. هناك أيضا من يشبه هذا السعي الهستيري وراء الجمال الشهواني الذي لا يرضي سوى نزوات الرجل الجنسيه بالمرأة أو العذراء الحديدية للعصر، والعذراء الحديدية الأصلية هي وسيله تعذيب المانيه في القرون الوسطى كانت عبارة عن دمية كبيره خادعه بشكل فتاة جميله عذراء تغري تعساء الحظ بالاقتراب منها ومعانقتها لتطبق عليهم الخناق و ليموتون بعد ذلك إما من الجوع أو من النزيف الناتج عن الحديد المزروع في أحشائها. إن هذه الهستيريا المثيرة للسخرية تجعل المرأة تنظر بمرارة وحسره الى هذا الموديل أو تلك المانوكان أو ما يمكن ان نسميها عذراء العصر الحديدية الجديدة فيما صانعوا هذا العصر ومهندسوه الاجتماعيون يتلذذون بالنظر الى وجهها وجسدها ومفاتنها هي. حقيقة إن هناك سؤال يطرح نفسه بمرارة: لماذا يتجنب النظام الاجتماعي المعاصر المرأة الحقيقية؟ لماذا يحصر معناها ضمن هذه الصور الجمالية الذكورية التأثير والتي يتم إعادة إنتاجها بشكل مجنون وفق لمعادلات علميه غير منتهية ساعية الى الكسب المادي فقط؟ الإجابة ايضا لها مرارة العلقم، انه الاقتصاد ثم الاقتصاد ثم الاقتصاد، صحيح أن قلق الإنسان النفسي يعد سببا كافيا لانتاج الخرافات أو الأكاذيب الحيوية ولكن النظام الاقتصادي وحده هو ما يضمن هيمنة مثل هكذا خرافات على الواقع . فلقد قام النظام الاقتصادي العالمي منذ البداية على العلم، وهذا الأخير غالبا ما عبر عن نفسه كتكنولوجيا مجنونه ساعية الى الربح المادي فقط. وهذه الأخيرة بدورها قامت باكتساح كل شيء وكل قيمه وقفت أمامها منذ الثورة الصناعية. والمرأة المعاصرة هي من جملة ما طحن أو أكتسح هذا النظام، والذي نجح وبامتياز في تحويل إنسان العصر إلى مسنن في آله كبيره مقدار ما تنتجه من ضجيج هستيري أكثر بكثير مما تنتجه من بضائع وسلع استهلاكية. إن النظام الذي يعتمد على العبودية عليه ان يصور العبد بصوره لائقة حتى يتم تسويغ الدساتير التي تشرع العبودية، وهذه ليست نظريه مؤامرة، إن النظام الاقتصادي في الدول المعاصرة يعتمد على المرأة ذات الأجر المتدني المهووسة بجمالها الخارجي قبلنا ذلك ام لم نقبل ، والمجتمعات تحت تاثير الاقتصاد تحول سلوك الناس الى فضائل اجتماعيه شئنا أم أبينا، هذه هي القصة باختصار. إن هستيريا الجمال تحكم سلوك المرأة المعاصرة أردنا ذلك أم لم نرد، ومعضلتها الاساسيه أنها شأن نفسي داخلي عميق أكثر من أي شأن آخر أو قضيه اخرى واجهت المرأة عبر التاريخ كقضية المساواة مع الرجل امام القانون وحقها في التصويت وما الى ذلك من قضايا. ومن هنا لا يمكن حل مثل هكذا معضلة بقوانين وتشريعات في ظل هكذا غول اقتصادي هائج في الخارج يريد ابتلاع كل شيء، بل يكمن الحل هذه المره في أعماق المرأة وصميم تفكيرها كما اعتقد. في العام 1830 قالت لوسي ستون وهي احدى المحاربات من أجل حقوق المرأة : أن يكون لي حق الملكية اوحق التصويت وما الى ذلك لهو شأن تافه بالنسبة لي اذا لم أملك على جسدي وأستخدمه كما اريد،وما اعتقده أن المرأة المعاصره بحاجه الى وقفه مماثله مع فارق ان عليها ان تقول وبعد قرنين: إذا لم املك رؤيتي الخاصه بي كمرأه لجسدي واستخداماته و لا ان استعبد لرؤية الرجل الشهوانيه لجسدي. اعتقد ان المرأة المعاصره محتاجه أولا و قبل كل شيء لان ترى نفسها والعالم من حولها بشكل آخر