حكاية آل عمّار يقيم أحمد خيمة سيركه المخطّطة بالأحمر والأخضر، لأوّل مرة، في مدينة سطيفالجزائرية. بعد أن أدار من قبل فرجته الراقصة وعرضه للحيوانات في جلّ أرجاء منطقة القبائل. إنه صديق دوابّ وخبير أحصنة كبير. يسافر لأوّل مرّة في حياته إلى إنجلترا بغرض التجارة. وبعد عودته يقدّم فرجة» أولاد النيل»؛ بطلاتها راقصات بارعات في هزّ البطن.. ثمّ يقرّر غزو المدنية الباريزية ببهجة فرجته. إن النجاح الباهر الذي حققه أحمد حفّزه إلى الحلم بخيمة سيرك ضخمة متنقّلة تحوي الدوابّ والراقصين وصانعي الألعاب البهلوانية. وبينما كان يجوب المعارض بحثا عن الحيوانات، التقى السيّد بونيفو مدير «معرض وحوش لوزيريين» الذي استطاع أن يأسر ذئبا. قرّر أحمد أن يكسب هذا الحيوان المتوحّش ويروّضه لكي يصبح نجم عرضه الفرجوي. وكان هذا اللّقاء فاتحة خير على أحمد إذ إنه تعرّف من خلاله على ماري ؛ أخت المدير. أثمر زواج أحمد وماري ستّة ذكور اتّبع معظمهم تقاليد الأسرة في التّعميد المسيحيّ والحياة العامّة. وبعد سنوات قليلة قدّم أحمد عمّار، رفقة ثلاثة من أبنائه، عرضا أوّليّا بدون راقصات، ولكن بعرين أسد ألقى فيه أبناءه الثلاثة، أحمد عبد الله ومصطفى... كان العرض قصيرا لكنّه أسهم بشكل كبير في شهرة اسم عمّار، واستدعائه للمشاركة في مختلف معارض الفرجة المعروفة خلال سنة 1909 مثل معرض الزنجبيل الباريسي الشهير. وشيئا فشيئا أخذ النجاح يستقطب جمهور أحمد عمّار الذي تضاعف عدده في غضون سنة واحدة. بعد موت أحمد عمّار 1913 ، وتوقّف قصير خلال الحرب العالمية الثانية، تسلّمت زمام قيادة سيرك عمّار زوجته ماري بونيفو التي عرف السيرك في عهدها توسّعا كبيرا ، إذ أصبح «سيرك الأخوة عمّار» بحلول عام 1926 مشهورا خارج حدود الجمهورية الفرنسية، يمتلك شعبية كبيرة تزداد يوما بعد يوم . وهو ما شجّعه إلى القيام بجولة عالمية شملت الجزائر وتونس والمغرب ومصر واليونان وتركيا وبلغاريا وهنغاريا والنمسا وإيطاليا وبلجيكا قبل العودة إلى فرنسا متوّجّا بالنصر. الابن البكر، والمسمّى مثل والده أحمد، ظلّ لسنوات طويلة مروّض فيلة، وكانت سلطته داخل خيمة السيرك ونشاطه مثار إعجاب الجميع، وقد أسندت إليه مهمة إدارة السيرك. وعلى الرّغم من إلحاحه المفرط على الإتقان، سواء مع نفسه أو مع الآخرين، فقد استطاع أن يحافظ على عقد سيرك عمّار وسمعته خلال تولّيه الإدارة. أمّا في عهد إدارة الابن الأوسط مصطفى ، فقد حظي سيرك عمّار بشعبية عالمية منقطعة النظير. وقرّر مصطفى عمّار عبور المتوسّط في مقدّمة مائة وعشرين شاحنة محمّلة بآليات السيرك وأغراض الفرقة الكبيرة التي صارت تضمّ أرفع نجوم الفرجة العالميين. أمّا علي الذي عرف بمهارته في ترويض الدّببة فقد كان مكلّفا بالجانب الماليّ، ثم شريف أصغر الأخوة، الذي كان يعتني بالغزلان، صار بعد ذلك إداريّ المجموعة. أنشأ الأخوة عمّار عام 1929 «السيرك العملاق» بحلبته المزدوجة، ولم يتوقّفوا عند هذا الحدّ، بل قاموا بإنشاء مجموعة أخرى أطلقوا عليها» سيرك السيركات. استقرّ سيرك الأخوة في قلب باريس على بعد خطوتين من «قوس النصر». وفي هذه القاعة حرص مصطفى عمّار على تقديم العروض الأكثر إثارة، واستقدام نجوم الفرجة المدهشين، وكذا العروض الرياضيّة للمنشّط (جلبير ريشارد) الذي شرع يقدّم نمرته بداية عام 1947 تحت اسم السيد لوايال ، أصغر سيّد لوايال في العالم، لم يتجاوز عمره 18 سنة. يستمتع بالمرح ومداعبة الحضور وهو يتحدّث عن نفسه وعن مصطفى الشهير بفافا، كما يقوم بتقديم بعض نجوم (الموزيك هال) المعروفين من أمثال، فرناند راينود. ومع توقّف الأسفار، خلال الحرب العالمية الثانية، كانت باريس مسرح عروض ثلاثة سيركات: السيرك الكبير لمصطفى عمّار، والسيرك الدولي لعليّ، وسيرك باريس الجديد لأحمد وشريف.وتنتهي الحرب لتعود جولات سيرك الأخوة عمّار إلى سابق عهدها من الإبهار والإدهاش. وفي قمّة الحرب الباردة يتنقّل السيرك ما بين موسكو ونيويورك على جسر ذهبيّ. حتّى أنّ الحكومة اليابانية استضافت مصطفى في طوكيو من أجل أن ينتقي بعض عروض الفرجة الأسيويّة ليقدّمها في أوروبا. وفي عام 1960 تحرّك وارث أهمّ سيرك أوروبيّ ومديره للاحتفال بمئويّة المؤسّسة العائليّة من خلال جولة في الجزائر. قطارا خاصّا من 54 عربة غادر باريس وهو يقل مئات الفنانين ليقدّموا أكثر من عشرين فقرة استعراضية تحت خيمة عملاقة بثماني أعمدة. كان هذا آخر أعظم فصول ملحمة عمّار ، إذ إن الموت شرع يتخطّفهم واحدا بعد آخر واضعا حدّا لمسيرتهم الفرجويّة المذهلة. تلك هي قصّة سيرك الأخوة عمّار الحقيقيّة، فما هي قصّتهم المتخيّلة؟ خصوصيات التّكوين السردي تتكوّن هذه التجربة السّردية من أربعة فصول، وثمانية وثلاثين جزءا سرديّا، وستّ ملاحق فوتوغرافية، بمنزلة واحات ظليلة آمنة يلوذ بها القارئ كلّما أنهكه السّير بين مسالك سرد ملغوم يبدو (سعيد علّوش) خبيرا في توزيع فخاخه، ممّا يضفي على تكوين هذا العمل ملمحا تجريبيا تسجيليّا مخصوصا لم نعتد عليه كثيرا في الأعمال الروائية الوطنية والعربيّة، بل وحتّى الغربية، بحسب علمي، باستثناء تجارب فريدة لعلّ أحدثها ذكرا رواية»الشّعلة الغامضة للملكة لوانا« لأمبرتو إيكو التي تضمّنت رسوما عديدة من الكتب المصورة والملصقات والإعلانات ونصوص الأغاني الشعبية. والحقّ أن سعيد علوش دأب على تقديم مثل هذا النّمط من التكوين السّرديّ الذي يعتمد انتقاء شخصيات مغاربية (غير عادية) استطاعت أن تضمن لها مكانا في مصاف نجوم العصر وعظمائه مثل شخصية «تاسانو» ابن الشمس، قدّمها سعيد علوش عام 2007 في عمل روائيّ يحمل نفس الاسم، ويعرض لحياة بطل هو بحسب ما يروى»»أول مغربي تطأ قدماه فلوريدا في القرن السادس عشر»، ليعيش مغامرات لا تخلو من إثارة(...)يحكى أنّه «كان الناجي الوحيد من بين ستمائة بحار» «قضى ثماني سنوات متنقلا بين فلوريدا وتكساس والمكسيك وأريزونا،قطع 6200 كلم بحرا و10000 كلم برا ما بين 1528و1539»(تاسانو ص.2) اعتبره الهنود نصف إله. وحاز ثلاثة ألقاب: تاسانو، استيبانيكو، ابن الشمس، ولعنته القارات الثلاث،أفريقيا،آسيا، أمريكا، لتخلد فيما بعد أريزونا ذكراه بعد خمسمائة عام ويقام له بالمكسيك تمثالا برونزيّا تكفيرا عن ما لقيه من جحود.«(وقد خصّ الحبيب الدائم ربّي هذه الرواية بمقال متميّز تحت عنوان «متخيّل المتخيّل في رواية تاسانو). بيد أنّ مثل هذا الرّهان التجريبي الذي يروم استثمارا تخييليّا لظواهر تاريخية رائدة يشترط على الكاتب تغلّب مداد المتخيّل على حبر الوثيقة، وهو ما يستحيل تحقّقه في غياب وعي انتقائيّ حصيف للشّخصيات الأكثر تأثيرا، والوقائع الأشدّ توتّرا ومفارقة، والمواقف التي تعكس بدقّة عصارة التجربة التّاريخية في أعزّ لحظات توهّجها...وهذا نفس ما يعتقده سعيد علوش النّاقد حينما يعلن في أحد حواراته »إن الخطاب التاريخيّ موثّق والرّوائيّ مبدع، وهنا تبدأ المخاطرة، إنّ التّاريخ معرفة والرواية تحليل«(من حوار بموقعه الإلكترونيّ). فبأيّ أسلوب يمكن توليف مثل هذه الأكوان السرديّة؟ وبأية لغة يمكن قراءتها نقديّا؟ عتبات ساخرة نقترب من تكوين رواية «سيرك عمّار» فتستقبلنا عتباتها السّاخرة، ابتداء بعنوان الرّواية «سيرك» وما يبعثه في وجداننا من دهشة ومرح بفعل ما تختزنه أرواحنا من صور مذهلة لحيوانات ذكيّة وبهلوانات مضحكة وقردة ماكرة متنطّطة...مرورا بغلاف الرواية الذي يملأه بهلوان كئيب بشعر أشعث، ضاحك باك من فرط ما تنطلي عليه من حيل مؤلمة، يرتدي زيه الملوّن المهلهل وينتعل فردة حذاء كبير مثل دبّابة بينما يمسك بيده فردة الحذاء الأخرى مخلّفا قدمه الطويلة ذات البنان الضخمة للعراء.. وصولا إلى استهلال الرواية الذي استعاره الكاتب من مداخل «الجاحظ» يستعرض، من خلاله، محاسن الهزل ودوره في تحبيب القراءة وتهوين مسالكها الشّاقة الوعرة، انتهاء بكاريكاتور الكاتب يمضغ غليونه ويضع عويناته المستديرة ولحية ذقنه الصغيرة الفريدة... وكأنّي بالكاتب يهيء قارئ عمله لاستقبال نمط من الكتابة السردية السّاخرة، لفظا ومعنى، سوف تعلق بمتخيّل الحكيّ إلى آخر صورة سردية في هذه التجربة. فرجات معرفيّة يستند المتخيّل السّرديّ في تجربة سعيد علّوش إلى مرجعيات معرفيّة متعدّدة ومتشعّبة تنهل من ثقافات شعبية وفصيحة، مغاربيّة وعربيّة، بنفس القدر الذي تنفتح فيه على ما يفرزه واقع الثقافة والسّياسة الدّوليين من معطيات وقضايا ومواقف متوتّرة. إنّ هذه التجربة بوتقة معرفية للتراث الأدبي والفني الكوني(رواية، ومسرحا، سينما، ورياضة، مصارعة ثيران وفرجات أخرى مختلفة)،وهي أيضا استثمار مذهل لتفاصيل السّياسة والاجتماع في الماضي والحاضر (استعمار، تدجين، ديكتاتوريات، جنسيات هجينة، هجرة، حروب، عنصرية، جرائم سياسية، اغتيالات، تجارة مخدرات، حبّ، جنس، معتقدات، انتصارات،..) عندما نستخلص، مثلا، أنّ الأمثال الشّعبية والحكم والأقوال المأثورة والاقتباسات النّثرية والمجزوءات الغنائية الشعبيّة واللهجات المحلية المغاربية والشرقية والغربية، من حيث هي معطى معرفيّا، يسجّل حضورا مركزيّا في هذه التّجربة السرديّة، لا نؤكّد، في الحقيقة، إلاّ حرص السّارد، ومن ورائه الكاتب، على منح صوره التّخيلية بعدا ساخرا قادرا على خلق مواقف متفكّهة متفكّرة ناقدة للأحداث والشخصيات والوقائع المعروضة، ممحّصة في حقيقتها أو زيفها. غير أنّ استثمار عشرات الأمثال والأقوال الشعبية والفصيحة يبتدئ بأن يكون عرضا مبهجا، لكنه ينتهي إلى أن يصبح لازمة متوقّعة بعد كلّ صورة أو مقطع سردي أو وصفيّ، وهو ما يحاصر أفق تلقّي القارئ، بل وأكثر من ذلك، يصادر في بعض الأحيان حقّه في اتّخاذ موقف محدّد من الحدث المعروض أمامه. وقد أذهلتني، شخصيّا، دقّة استثمار بعض هذه الأمثال، كما استمتعت بما يختزنه بعضها من حمولة معرفيّة تمنح الصور السّردية طزاجة مخصوصة، غير أن بعضها الآخر جعلني اتّخذ منها موقفا حذرا كلّما تعمّد?ت أن تحول بيني وبين اتّخاذ موقف شخصيّ من بعض الوقائع والأحداث والتصوّرات لا أثر لتوجيه السّارد فيه. إنّ السّارد، أكثر القراء علما بدلالات كلّ صغيرة وكبيرة في هذا الكون المتخيّل، ينتظم في تقديم هذه الأمثال والأقوال إلى آخر صورة في رحلته السّردية الطّويلة (451صفحة)؛ حيث تعلن شقيّة عمّار،وهي بالمناسبة حفيدة آل عمّار المتخيّلة ووزيرة فرنسية، فخورة بالمتحف العجيب الذي تمّ تشييده في فرنسا «لسيرك آل عمّار»، وبمسارها المهني : »أنا التي خدمت الكاوريّة بأنفة دزايريّة«. سيرك عمّار سيرك حياة ثمة وجود لسمة تكوينية في هذا العمل ترتبط بحقل الأمثال والحكم وأسماء الأعلام والنّجوم والمشاهير والأمكنة والأحداث وعناوين الكتب والمدن والأقطار وغيرها مما يشكّل فرجة الملفوظ السّاخر في تجربة «سيرك عمّار»؛ الأمر يتعلّق بتحوير هذه الأمثال والأسماء والألقاب، واستحضار الغريب منها، ووضعها في سياقات سردية مفارقة، لا يتطلّب الأمر إلاّ قليلا من الصّبر ليأنس القارئ مثل هذا التّحوير ويعتاده بشكل يجعل رحلة القراءة أقلّ مشقّة وأورف ظلالا... حميمو، همّوشة العورة،حمّوصة لقرع، لولا فتي الزّهراويّة، الكحلوشة، البعلوصة، مرجان بن خربيط، شاركو البوريمي، دهموش الداهومي، دهشورة الحولا، كاهنة بني يسف،الفنّانة الهرنونية، الكايد الحلاوي، أرسلان الحديدي، قدّاف، شافي، شهلان، طوطيف، الفقيه فين فين، حمّان آل التيس وعشّاقملاّل ... وغيرها ممّا يشكّل، على ما أعتقد، نوعا من توازي الفرجة بين ما يقدّمه «سيرك عمّار» من عروض شخصيات مقنّعة وحيوانات مذهلة، وبين هذه الشخصيات الواقعيّة المتخيّلة وهي تقدّم فقراتها تحت خيمة سيرك السّياسة والأدب والفنّ العالمية... ثمّ إنّ التحوير والتعديل يتعدّى الأسماء والشخصيات ليشمل الفضاء الروائيّ وزمانه، فما أسهل في سيرك عمّار أن يجمح ذهن القارئ، بفعل التوليف اللّغوي الكرنفالي الذي تقترحه صور السارد السّاخرة، من فترة تاريخية معيّنة إلى أخرى أبعد منها بسنوات طوال بمجرّد استحضار شخصية سياسية شهيرة ارتبط اسمها بزعامة سياسية، أو جريمة دوليّة، أو إبداع إنسانيّ، أو رسالة ربّانية، أو إنجاز رياضي، أو مقاومة باسلة، أو غرور استعماريّ، أو انهيار حضاريّ ، وهو ما يجعل القارئ متحفّزا دائما لعقد المقارنات بين الفرجتين «فرجة سيرك آل عمّار» المتخيّلة وفرجة «سيرك الحياة» بمهرجاناتها الفوضويّة الماكرة. »أمّا شريف عمّار فألصق أنفا أحمر فوق أنفه بوجه طلي بالأبيض الفاقع يدور في حلبة السيرك يقلّد البيبو والكارلو يلاحق راكب درّاجة هوائية يتسلّق ظهر زرافة، يتعاركون يفتعلون السّقوط والوقوف والأطفال يلاحقون حركاتهم ضاحكين متفكّهين، والبهلونات الأخرى تناوش هذا وتختطف ذاك ليتعالى صفير الصّفارات وضرب الطبول ونفخ المزامير. تتقاطع المناداة على أسمائهم المستعارة: -كروك أيها الخنزير البرّي -تيكس أيها العجوز الخائب -هوارد يا ذاك الكسول الأصلع -بوتين الحق ببوشة -شاركو ياسارق الأضواء أينك؟ فيأخذون في ثورة عارمة يكسرون الكراسي والموائد يتراشقون بكلّ ما يقع في أيديهم إلى أن تنطلق صفّارة كبيرهم ليخطب فيهم: توقّفوا أيها السفلة عن العبث بأثاث البيت(...)فيتقافزون هاربين من أنفسهم، متخلّصين من أقنعتهم البهلوانية مصطفّين في صفّ واحد وقد وضع كلّ واحد منهم على وجهه قناع أحد رؤساء(جي8) ليقدّم كلّ واحد منهم نفسه للجمهور: أنا الرئيس بوشة أنا الرئيس كولداميير أنا الرئيس ساركومارغيزة أنا الرّئيس شراماكو أنا الرئيس بوتين أنا الرئيس هواردفين كانت الرؤوس حيوانية مضخّمة ومشوّهة، بأفواه مفتوحة وأنوف معقوفة وبطون مكوّرة وأقدام صغيرة، يرفع أحدهم لافتة مكتوب عليها : ( نحن كبار لصوص عالم نحن ما نحن وأنتم رعايانا وفئران تجاربنا) وتتعالى التصفيقات وتهتف البهلوانات بصوت واحد: (نعيش نعيش ونربّي الريش وعين السود فيها عود) يا سلامة..مة..مة«1 إنّ هذه العيّنة الكرنفالية المدهشة تمثّل الملمح الأسلوبيّ المهيمن على مجريات السّرد في هذه الرواية، قد تتبدّل الأمكنة والأزمنة وشخصياتها من دون أن يخفت صوت السّارد الذي يعلّق ويسخر ويعدّل ويحوّر، تماما كما يجدر بمنسّق فقرات السّيرك أن يواكب بصوته المدوّي مواقف حالات الضّحك والبكاء والمرح والدّهشة والخطر تحت قبّة السيرك الملوّنة. »وكان العرض المزدوج الوحيد الذي يقدّمه (سيرك الإخوة عمار) لأول مرة. صاح مصطفى عمار في النمر بينوشي يأمره بالمشي على قدميه الخلفيتين، يتبعه النمر تشافيز يرقص صامبا، أما النمرة شاكيرا فتتلوى على أنغام (الهيب هوب)«2 السّيرك، إذن، حلبة تتعايش فيها قوى الصلاح مع قوى الغواية والفساد، والسّارد لا يتدرّج، فقط في حكاية حكاية «سيرك آل عمّار» وحسب، وإنما يروي قصّة الفرجة الكونية بأبطالها المكشوفين والمقنّعين على حدّ سواء. فرجة هجرة تمثّل الهجرة في حياة آل عمّار الواقعيّة كما في متخيّلهم الروائيّ «سيرك عمّار» ملحمة تنطلق من الضفّة الأخرى، الأوروبية أو الغالية كما يسمّيها السارد، في صورة استعمار ينهب خيرات الأوطان ويحدث فيها من التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية ما يعمّق جروح التردّي ويوسّعها رقّا وتخلّفا واعتقادات فاسدة ومكرا مبيّتا لحجب الأمل المشرق في حياة خالية من الاستغلال والقهر وقلّة ذات اليد. لتنتهي هذه الهجرة مرّات أخرى إلى نفس الضفّة طمعا في الظّفر ببعض الكرامة المهدورة والرّزق المنهوب. فعندما تسنح الفرصة لحميمو بن عمّار، وهو أحمد عمّار الأب ومؤسّس السّيرك الأسطورة، لمرافقة كامي رئيسه الحالي ونسيبه المقبل إلى قريته الفرنسية، يبدّد يقينه في جدوى الرّحيل كلّ نداءات الارتباط بالتراب والجذور والانتماء: » - لماذا لا أغادر مثلهم أليست بلاد الله واسعة؟ سنوات من الذهاب والإياب وفصول وهو يدور في عروش برج بوعريريج كحمار سانية، لا يحظى من الماء الذي يستخرجه بغير شربة ولا بالخبز بغير لقمة، فلا مال ولا أعمال، لتحمله الرياح الأربع إلى حيث تشاء...ما شاءت الأقدار لا ماشاء هو فخيرنا هنا لغيرنا، فالبلاد تعطي البراني والنصراني ويظلّ البلدي يحصد الشركي وثمر الصبّار -ماذا عسى حليق الرأس ولابس البرنوص وآكل الكسكوس أن يصنعه وقد تكالبت عليه الأطماع من كلّ فجّ - رضينا بالويل والويل ما رضى بينا وداعا لعرصات الصبّار وداعا لبلاد الشيح والريح ففي الحركة بركة.«3 بيد أن الهجرة التي تتمّ قسرا أو طوعا في» سيرك عمّار» سواء مع حميمو أو مع عشّاقملال إشهاريّ السّيرك وصديقه الموتشاشو، اللّذين سوف يستقرّان في أندالوثيا بإسبانيا، هي هجرة منذورة للتألّق وحسن الاندماج، فحميمو وطأت قدمه الضفّة الأخرى أعزل إلاّ من فحولة مغاربيّة وأفاع يحسن ترويضها، فاستطاع في ظرف سنوات قليلا أن يكوّن أسرتين ناجحتين، الأولى أكسبته عزوة وحميّة(زوجته وأبناؤه)، والثانية(نجوم استعراضاته، بمن فيهم أبناؤه) فتحت له أبواب المجد حتّى أصبح»سيرك عمّار»،أحد أهمّ السّيركات في تاريخ الفرجة العالمية. وحتّى بعدما انطفأت شموع الفرجة واحدا بعد آخر، نجحت حفيدة آل عمّار أو شقيّة، كما يقدّمها لنا السّارد، الحقوقية المشاكسة، أن تظفر بمنصب وزيرة في جمهورية شاركو الأولى، على الرغم من متاريس العنصريّة والعداء لكلّ ما هو عربيّ في أروبا اليوم. وكذلك الحال مع عشّاقملال الذي انتقل طوعا رفقة زوجته الإسبانية عارضة لعبة الموت(الرّقص على الحبل) للإشراف على فرع السّيرك بأندلوسيا، فإذا به يتفاجأ بموت أحمد عمّار وإغلاق الفرع. وعلى الرغم من مشاركته في عملية تهريب مخدّرات، استطاع أن يستلّ نفسه من هذا السّبيل الموبوء، ويقنع بحياة هادئة مندمجة مع زوجته وفي ظلّ أصهاره الأندلسيين. فالهجرة التي يحتفي بها سعيد علوش، بمنزلة غزو يثأر فيه الضّعيف المنهوب من سارقه، ثأرا حضاريا لا ابتذال فيه. سؤال الشخصيّة في الرواية قليلة هي الشّخصيات التي تبقى عالقة في ذاكرة قارئ «سيرك عمار» بمن فيهم بعض أبناء أحمد عمّار الأب، على الرّغم من تفرّد شخصية كلّ واحد فيهم، ونستثني في هذا المقام أحمد عمّار الابن الموسوم بكونه زير نساء، ورجل علاقات عامّة، والمشتبه فيه في قضية اغتيال رب «سيرك الشّمس» المنافس الذي بادر بالزواج من ابنته في ظروف غامضة، و عجّل بالسفر إلى المغرب في جولة كبيرة لسيرك عمّار، غرست أعمدة خيمته في تراب تطّاون العامرة. و شقيّة عمّار بشخصيتها الحركيّة، وبرنامج يومها المكثّف دفاعا عن سكان الهامش الفرنسي، النّساء منه على وجه الخصوص، ثمّ شخصيات أخرى ارتبطت بالعمل في السّيرك مثل حمّان آل التيس الذي لا تتبلّل فولة في فمه بمجرد أن تلقمه شقفين من كيف وكوب شاي منعنع. ثمّ عشيقته، وزوجته بعد ذلك، شبشوبة الهبهوبة طبّاخة السّيرك صاحبة العجيزة المكتنزة التي كان الزّواج بفحل أمنية حياتها»فشبشوبة الهبهوبة لا تحلم بأكثر من عكّاز تتّكئ عليه ليلا لإخلاء سبيله نهارا جهارا«4 وصولا إلى شخصية عشّاقملال التي أفرد لها السّارد حيّزا ورقيّا لا بأس به أسهم في تمثّل صورتها بشكل واضح من قبل القارئ. غير أنّه في خضمّ تشكيله «لملحمة سيرك عمّار» المتخيّلة لم يكن السّارد يعبأ كثيرا بتكوين صور شخصية ذات عمق دراميّ معيّن لفرد من عائلة عمّار أو غيره من الشخصيات المرتبطة بالسّيرك، لأن الشّخصية الدّرامية التي كان يوجّه لها كلّ اهتمامه، ويحرص على أن تزهر في وجدان القارئ وفكره، هي شخصية «السّيرك» ذاته، التي ليست بفوضاها المنظّمة المقنّعة، وبأويقات بهجتها ودهشتها، ونزوعها نحو المغامرة على حبل الممكن والمستحيل...شيئا آخر غير العرض الإنسانيّ السّاخر تحت خيمة سيرك الحياة. هذه قراءة ممكنة لعرض روائيّ غير مألوف؛ يدخل في إطار اجتهاد تجريبيّ للناقد والروائيّ سعيد علّوش استهلّه برواية «حاجز الثلج»1974، مرورا ب»إيميلشيل» 1980، و»تاسانو»2007 ، وإصداره الطريّ «مدن السكّر»2010 وهو اجتهاد يصدر، ما في ذلك شكّ، عن تصوّر جماليّ وحضاريّ مخصوص سوف تزداد ملامحه وضوحا وألفة في إصدارات مقبلة. -------------------------- 1-سيرك عمّار، سعيد علّوش، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1، 2008، ص:126-127 2-نفسه،ص:242 3-نفسه،ص:57-58 4-نفسه،ص:258