بعيدا عن بلده الأم إنجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات... منذ نهاية عام 1902، بدأت أستخدم قاموسا جديدا مع السلطان، لم يستطع أحد من المقربين منه استخدامه معه من قبل، وهدفي من ذلك كان إنقاذه قبل فوات الأوان. كان يستقبلني بحفاوة ويشكرني على حديثي معه بكل حرية، لكنه رغم ذلك استمر في سلوكياته المبذرة وتقليده للأوربيين. لو أنه قام في هذه الفترة بتسريح الموظفين الأوربيين على أن يترك فقط طبيبا ومهندسا أو اثنين، وعددا من الذين كانوا في خدمة والده الراحل، وتوقف عن تضييع أمواله، لاتخذ مستقبل المغرب وجها مغايرا عما هو عليه الآن. كان مولاي عبد العزيز يفضل قضاء فترات ما بعد الظهيرة في الترفيه والتسلية عن نفسه، وغالبا ما يرافقه وزير الحرب المنهبي وبعض الموظفين الأوربيين يتنزهون في مرافق الأكدال الواسعة.. كنا نفضل التجول قرب بحيرة المنتزه، وأحيانا نركب إحدى البواخر الخاصة بالسلطان. في إحدى المرات، قرر صاحب الجلالة دعوتي ووزير الحرب إلى ركوب قاربه. وانهمك هو ووزيره في التجديف، بصراحة لم يكونا موفقين أبدا في ذلك، فتقمصت أنا دور قائد القارب. ظل السلطان يجدف في المقدمة، ورش الوزير برذاذ الماء الذي بلله عن آخره.. لم يبق الوزير مكتوف الأيدي، بل بدأ التجديف مائة مرة في الدقيقة، في حين ادخر السلطان جهده وحافظ على وتيرته البطيئة لكنهما استمتعا بتلك الرحلة البحرية القصيرة بشكل يفوق الوصف. «نحن بحاران وأنت مسافر على متن سفينة مغربية»، صرخ السلطان بحماس، ورددت على مزحته مجيبا: «أنتما أسوأ بحارين صادفتهما في حياتي، وعندما سترسو بنا الباخرة سأخبر السلطات بعدم كفاءتكما». «هل تريد فعلا القيام بهذا الأمر؟ إذن عليك أن تدفع لنا لأننا قمنا بنقلك على متن الباخرة»، رد علي مولاي عبد العزيز بنفس نبرته المازحة. وما إن أخبرته أنني أريد أن أنهي رحلتي، حتى فاجأني السلطان برشي بالماء إلى أن تبللت ملابسي تماما مثل الوزير. عندما سألته عن المقابل المالي الذي يطلب، أخبرني أنه يريد نصف بسيطة لكل واحد منهما، لأجد نفسي، لأول مرة في حياتي، أمنح هدية لسلطان ووزير حرب.. في خريف 1902، تمت دعوتي إلى مرافقة الموكب الملكي المسافر إلى فاس، عاصمة الشمال. كان من المتوقع أن ينطلق موكب السلطان، المستقر في مراكش لمدة ست سنوات، في بداية الخريف، لكن الاستعدادات تأخرت وبقيت الخيمة السلطانية منصوبة خارج أبواب المدينة، لتنطلق الرحلة أخيرا في نهاية نونبر. وفي ساعة مبكرة من الصباح، غادر مولاي عبد العزيز قصره في عاصمة الجنوب مرفوقا بحاشيته وخدمه متجهين نحو الشمال. أعتقد أنه ليس من الضروري وصف تفاصيل السفر يوما بيوم، لأن الطقوس والمراسيم الملكية لم تتغير أبدا أثناء مرورنا على العديد من المدن المغربية، وسأحاول أن أصف يوما اعتياديا أثناء تلك الرحلة التي تتكرر تفاصيلها يوميا طيلة السفر. قبل بزوغ الفجر، يستيقظ الخدم قبل ثلاث ساعات من مدفع الصباح ويجمعون الخيام ليبدؤوا في تسريج الأحصنة وربط الحمولة على الجمال استعدادا للرحيل. ما إن تبدأ أشعة الشمس الأولى في السطوع حتى يتراءى أمامك منظر أشبه بحفل بألوان خلابة. تتداخل الخيام البيضاء مع الدخان الأحمر للمعسكر الذي اختار المبيت في مرج مليء بأزهار زاهية الألوان. تظهر أطياف الرجال والحيوانات وهي تتحرك في مشهد أشبه بعرض لألعاب السحر، وتسقط الخيمة تلو الأخرى ليتبقى في نهاية المطاف جدار الخيمة الملكية المحاذية لساحة الخيل وآلاف البغال والجمال المحملة بالبضائع والأمتعة. اصطف الفرسان قرب الموكب السلطاني مشكلين حلقة مركزية يقف فيها وزراء الدولة، فيما ارتدى الحرس المرابض أمام خيمة السلطان جلابيب بيضاء وطرابيش حمراء في انتظار خروج صاحب الجلالة من الخيمة. فجأة كسر عزف على البوق صمت المكان، واخترق الجمع رجل بقامة رفيعة وتقدم بين الصفوف بخطى وئيدة وردد بصوت عال: «الله يطول في عمر سيدي»، ما إن أنهاها حتى انحنى الحاضرون في حركة موحدة. ارتفعت الشمس وأرسلت أشعتها الدافئة، لتزدان الأثواب الحريرية الحمراء للخيل وبدا المشهد أشبه بلوحة تشكيلية متعددة الألوان. اقترب أحد كبار الموظفين المحليين وممثل إحدى القبائل من السلطان وانحنى بركبتيه وجبهته على الأرض ووقف يحدث مولاي عبد العزيز في خضوع، قبل أن ينصرف فور انتهاء المقابلة. ما إن امتطى السلطان صهوة جواده، حتى ساد الهرج والمرج في المكان..