بعيدا عن بلده الأم انجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات... كنا في عز الصيف، في فترة كانت الشمس تشرق في ساعة مبكرة جدا، وقبل بزوغ الفجر، وصلنا إلى مدينة أصيلة على بعد 26 ميلا من طنجة. تناولت وجبة الغذاء مع شريف عطريش، صديق الريسوني وأحد أشهر الشخصيات في المدينة، ووعدني بأن يبذل كل ما في جهده لكي يحافظ على الاستقرار بين القبائل. وبعد فترة استراحة قصيرة، غادرت المدينة ووصلت ليلا إلى منطقة «القصر» وقد قطعت مسافة 60 ميلا، لأشد الرحال بعدها إلى وزان التي بلغتها بعد ثمان ساعات مع حلول الفجر. استقبلني شرفاء مدينة وزان الجبلية التي نادرا ما يزورها الأوروبيون لأنها أرض مقدسة. كان اليوم يوم عيد، ورغم ذلك لم يتوان الشرفاء في إرسال العديد من الرسائل تدعو إلى ضمان استتباب الأمن والاستقرار بين القبائل. بقيت في وزان حتى منتصف اليوم الموالي، لأسافر بعدها من جديد وأصل ليلا إلى «المزيرية»، وهي قرية ممتدة على السفح المطل على سهل سبو. خلدنا إلى النوم استعدادا للسفر قبل شروق الشمس، وعندها كنت متأكدا أن خبر وفاة السلطان قد انتشر مثل النار في الهشيم، وتناهت إلى أسماعنا أصوات إطلاق البنادق بشكل فوضوي وغير مفهوم، ومع تباشير الصباح الأولى، شاهدنا مجموعة من الفرسان مصطفين أسفل الوادي. بدأت حملات تصفية الحسابات، ورافقتها عمليات السرقة والاختطاف بطريقة منظمة، وحاولت أنا ورفيقي قدر الإمكان تفادي المرور من تلك الأماكن. قابلتنا قافلة جمال في الاتجاه المعاكس تحمل المؤن والبضائع يقودها ستة رجال، انسحبوا مذعورين عندما لمحونا مقبلين في اتجاههم، ليهدأ روعهم بعد أن أخبرناهم أننا مجرد عابري سبيل وأننا لن نمسهم بسوء. بعد مرور أربعة أيام على مغادرتنا مدينة طنجة، وصلنا أخيرا إلى فاس وقد قطعنا مسافة 200 ميل، وبدت الجياد منهكة من طول الرحلة. في الظهيرة، حملت معي رسائل الوزير البريطاني والخطاب الشفوي إلى مجلس السلطات المحلية الواقع ببيت الأمين عبد السلام المقري، أحد ألمع وأذكى رجال السياسة المغاربة. مكثت في فاس لعدة أسابيع، وكان وقتها مولاي عبد العزيز في طريقه عائدا من مكناس إلى فاس، بعد أن أصدر حكمه بتوقيف الوزير الأكبر ووزير الحرب وسجنهما، ليجدني السلطان الشاب بعدها في فاس. كنت أسترجع بفخر ذكريات تلك الأيام التي كنت مكلفا فيها بمهمة حساسة وتابعت عن كثب أحداثا كبرى هزت البلاد، إضافة إلى هذا كله، استقبلتني عائلة المقري بحفاوة في منزلها الكبير، وهو أحد أجمل البيوت في فاس بحدائقه الغناء ونافوراته اللامتناهية. كان الأمر يحتاج شجاعة هائلة لكي تقبل عائلة مغربية مسلمة أن تستضيف في بيتها رجلا «مسيحيا»، وأعتقد أنها كانت أول مرة تستقبل فيها عائلة مغربية أوروبيا داخل أحد أكبر البيوت في مدينة فاس. كنت أرتدي نفس الملابس التي أتيت بها من طنجة، لكنني سرعان ما استمعت بملابس تقليدية مغربية منحني إياها كل من استضافني، إذ كنت أعيش مع الابن الأكبر للعائلة ويعاملني الكل كواحد من أبنائهم. نجحت في تحقيق المهمة التي أرسلت من أجلها إلى فاس، وفي الرابع عشر من يوليوز، أرسل إلي السير ارنست ساتور خطابا يطلب مني أن أعود أدراجي إلى طنجة مثلما طلبت منه في السابق. ارتكزت مهمتي على السفر لأسابيع طويلة وقطع آلاف الأميال في فصل الصيف بلا وسائل دفاعية ووسط المخاطر المحدقة من كل جانب، وكافأتني الحكومة البريطانية على ما قمت به بشيك بمبلغ مائة جنيه استرليني، ولم أعترض أبدا على حجم المكافأة لأنه من المعتاد ألا تتم مكافأة الذين يقومون بخدمات غير رسمية. وطيلة مقامي في المغرب وأنا أقوم بالمهام التي يرسلني إليها المبعوثون البريطانيون، كنت أدفع بنفسي المصاريف دون أن أطلب أي مقابل من السلطات البريطانية. ولم أعلم بأهمية ما قمت به في أسفاري إلا بعد أن غادر السير ساتو المغرب، لأطالع مراسلاته مع الحكومة البريطانية، والتي كان يكتب فيها : لقد أخبروني أن، واطلعت من مصدر أن ... لذا كنت سعيدا أن يتم ذكر هذه الأشياء وأنا على استعداد للقيام بها مجددا، ومنذ عام 1912 تاريخ فرض نظام الحماية على المغرب من طرف فرنسا، تخلت بريطانيا عن كل أهدافها السياسية حول هذا البلد وظلت مساندة لحليفتها فرنسا، مما جعل المعلومات التي كنت أقدمها للسلطات الصديقة مهمة جدا، ورافقت العديد من البعثات الفرنسية واطلعت على مجموعة من الأسرار..